حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنياأرشيف الموقع 

"الأعراض الجانبية" (2013) لسودربيرغ :

استنساخ عصري آخاذ  لنمط "هيتشكوك " التشويقي !

مهند النابلسي * / خاص بـ"سينماتك"

       

 

أبدع  المخرج الأمريكي الشهير ستيفن سوديربيرغ باخراج تحفة سينمائية تستعيد مجد هيتشكوك السينمائي الكلاسيكي  ، ولكن ضمن خصائص عصرية لافتة مثل صراعات شركات العقاقير والأدوية ، وسطوة الاعلام العصري ، الرغبة الجامحة بالثراء والاستمتاع بمباهج الحياة ، العلاقات المثلية السافرة "العصرية" بين النساء ، كما دهاليز وخفايا الطب النفسي ...ونكاد نعاين اسلوب هيتشكوك المتميز في معظم مفاصل الفيلم وباسلوب الاخراج اللافت ،  ويمكن تأمل بصماته الصريحة متمثلة في لقطتين معبرتين : الاولى عندما طعنت اميلي  زوجها  بعدة طعنات عشوائية ، فور قدومه من السفر  واقترابه منها وهي تقطع الخضروات بسكين مطبخ حادة ...بحجة انها غير واعية وتسير أثناء النوم ، وجدت في اللقطة استنساخا ابداعيا للقطة القتل اثناء استحمام البطلة في الفيلم الشهير "سايكو" ، مع ملاحظة اننا نشهد هنا عملية قتل دموية سافرة بلا تموية ومواربة ، ولكنها مفاجئة تماما وبلا تمهيد وتوقع ، اما اللقطة الثانية الذكية فتتمثل بلقاء الطبيب النفسي مع المعالجة النفسية السابقة لاميلي في الشارع وبلا حوار ، حيث اللقطة تؤخذ بعيدة نسبيا من اعلى ، فيما تسترق اميلي النظر اليهما من نافذة المصحة النفسية ، متوقعة "مضمون كلامهما" : أتوقف هنا أمام مضمون هذه اللقطة واكاد اسقط شعور الفيلسوف  الوجودي الفرنسي "ألبير كامو" ، عندما علق على شخص عصبي يتحدث صارخا ومحركا يديه  عبر هاتف عمومي من وراء باب زجاجي مغلق ...حيث استنتج ان البشر يفرزون "اللابشري" ، فأصابه الاشمئزاز من جسمه وحركاته العصبية ، وكاد يشعر أن جسده قد انفصل عنه ، هكذا شعرت بان  امكانات البشر العصبية اللامحدودة لخلق سيناريوهات "المؤامرة " ضد طرف ثالث (سواء بمعرفته او بغير معرفته ) ، ولم استطع ان امنع نفسي من اسقاط هذا الشعور السلبي القاهر على تبعات وارهاصات الربيع العربي البائس ، الذي يحتقن  بالتناقض  والمؤمرات والضياع والقتل والرعب  !  الفيلم الممتع والبالغ التشويق ، والمقدم باسلوب بسيط ( وكأنه يسرد حكاية ) أقرب للنمط الوثائقي ، يميل تدريجيا  لتصعيد الأحداث بايقاع لاهث مع موسيقى تصويرية معبرة ومدهشة احيانا تكمل الحدث السينمائي ، يقدم الصورة النمطية التقليدية لأبطال هيتشكوك " المساكين " اللذين يتورطون بالصدفة  مع شخصيات اجرامية وتلتصق بهم التهم وتدمر حياتهم العملية والشخصية  ...

أن تكون "خائفا ومخيفا" في نفس الوقت !

يمكن بجدارة وصف هذا الفيلم بأنه " تشويق –حداثي –مركب" ، فهو مثير ومتداخل ويتطرق بصراحة قاسية لصراعات شركات العقاقير الكبرى ودهاليز الصحة النفسية ، ويمثل عملا نادرا للتناغم الابداعي مابين الاخراج  والسيناريو المحكم "لسكوت بيرنس" ، كما انه يجمع ومضات ابداعية من بعض طروحات هيتشكوك الشيقة في أفلام الرجل الخاطىء والدوار  ومارني  ، اما الممثلة روني مارا  فقد أبدعت تماما في تقمص شخصية مزدوجة : المريضة النفسية ظاهريا ، والمجرمة الماكرة الذكية في حقيقة الأمر ، حيث نرى ذلك جليا بطريقة  تخطيطها لقتل زوجها المسكين ومن ثم ادعاء البراءة وعدم المسؤولية بحجة انها تسير اثناء النوم ولا تعي ما تقوم به ، وقد رأينا ذلك بوضوح برصدها الدقيق (من خلال نافذة المطبخ) لقدوم زوجها ونزوله من السيارة متجها للمنزل ، وكيف تتركه بمكر مرعب لكي يقترب منها متوددا ، لتفاجئه بعدة طعنات قاتلة ، ثم لكيفية تدربها مسبقا على الصراخ المقنع ، ونرى زوجها المسكين ساقطا على الأرض ملطخا بدمائه ، يهمس بيأس طالبا الاستغاثة ، بينما تصرخ هي مستدعية الجيران بلامبالاة ...كما أنها أدت  دورا مزدوجا نادرا من حيث القدرة على ان تكون "خائفا ومخيفا" في نفس الوقت ، ونجح المخرج بادخال تاثيرات درامية تشويقية بطريقة خفية متصاعدة ، كما لو انه حقن المشاهد ببطء من خلال الوريد ، فقدم عملا حابسا للانفاس  ومليء بالقنابل الموقوتة ، وبدا وكانه خبير متخصص بالدواخل السيكلوجية لدوافع بطلاته ، وجعلنا بلا قصد نتعاطف تماما مع الزوج الضحية ومن ثم مع الطبيب النفسي جود لو كشخص بريء تم جره لكمين محكم خطط له من قبل روني مارا وصديقتها الطبيبة المثلية فيكتوريا ، وهنا نلحظ أن اكثر ما يميز هذا الفيلم عن طروحات هيتشكوك السينمائية هو ادانته السافرة "للبطلتين المجرمتين" دون تعاطف مقبول لدوافع القتل التي بدت واهية وغير مقنعة ، كالاحباط والهجران الجنسي والرغبة بنمط باذخ من الحياة ، فيما جعلنا نتعاطف تلقائيا مع الزوج الضحية المغدور والطبيب النفسي " المضحوك عليه" ، مقابل كراهية مبررة لكلا البطلتين "الشريرتين"، وربما لن يعجب هذا الفيلم انصار المرأة المتحذلقين والمتعصبين ويعتبرونه مبالغة سينمائية ، ولكني وجدته منطقيا تماما وخاصة بطريقة رسمه لتطور الأحداث ونمط الشخصيات ، وقد نجح هذا المخرج الاستثنائي "سودربيرغ" بوضعنا في جحيم سينمائي شيق واستفحل بسرد سادي قاسي ، كاشفا خفايا المجتمع الطبي المعاصر وتأثيراته الكاسحة على الكائن البشري الفاقد للقيم الخلقية ( ولعدم القدرة على السيطرة على الشر الكامن في النفوس اذا ما تضافر بحس المؤامرة ) !

هذا عمل تجريبي –ترفيهي ممتع للغاية ، وقد جمع ما بين الرومانسية والجريمة المتقنة والطب النفسي والعلاقات المثلية الآثمة ، وكانت التسمية موفقة تماما ، حتى ان تأثير "الأعراض الجانبية"قد تجاوز حدود العرض السينمائي وأصابنا نحن المشاهدين فأحدث لدينا حالة وجوم وصدمة وعي ذكية ، جعلتنا نفكر مليا في احداث الفيلم وربما احداث الحياة ذاتها ، كما انه ذكرني بمقولة الناقد السينمائي الأمريكي الراحل "روجر أيبيرت " ان الفيلم العظيم يجب ان يراه المشاهد كفيلم جديد في كل مرة يشاهده " !

ما اعجبني في  هذا الشريط تطويره التدريجي للقصة من دراما تشويقية  الى حبكة  بوليسية ذكية غير متوقعة وببرود سردي "هيتشكوكي الطابع" ، تاركا السيناريو  والكاميرا والموسيقى التعبيرية الملائمة لكي تقود الأحداث ، مع الحد الأدنى من الحوار ، لقد قدم سودربيرغ هنا في آخر اعماله اللافتة نمطا "كهربائيا" جديدا ، واختار أربعة أبطال بارعين في مقدمتهم الممثل البريطاني الشهير جودي لو ( الذي قدم ربما واحدا من افضل اعماله السينمائية ) والبارعة كاترين زيتا جونز التي قدمت دور المعالجة النفسية المتآمرة  ، اما روني مارا فقد ذكرتنا حقا باختيار هيتشكوك الموفق لبطلاته الشابات  واضافت للدورتقمصا وبعدا اجراميا غير مسبوق ، ولن ننسى شاتنغ تانوم الذي أبدع بتقديم دور الزوج المسكين الضحية ، الذي لم ينجح ابدا بارضاء وتحقيق رغبات زوجته !

 

ثيمة "المتهم البريء" في الفيلم الفنلندي " أضواء في الغسق " !

في الفيلم الرائع "أجواء في الغسق" (الذي ترشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان / 2006) للمخرج الفنلندي "أكي كيروسماكي " ، يراهن رجل الأعمال الشرير على سذاجة وبراءة الحارس الليلي المسكين "كويستينين" ، وانجذابه العاطفي لشقراء ماكرة لكي ينفذ جريمة سرقة كبيرة لمحل مجوهرات ، فعندما تسأله الفتاة ( المأجورة ) فيما اذا كانت ستنجو من تهمة المشاركة بالسرقة ، يجيبها بثقة لافتة :" تكمن عبقريتي بمعرفتي لشخصية الحارس المخلصة والرومانسية ، لذا فهو لن يشي بك أبدا وسيتحمل كامل المسؤولية ! " ، وهذه النقطة تحديدا التي  ترسم سينايو الحبكة السينمائية ، تغافل عنها معظم نقاد الفيلم ، وهي  باعتقادي النقطة المحورية في هذا الشريط السينمائي المميز ، لأن مسار  الأحداث كله كان سيأخذ منحى آخر  لو قام الحارس  الليلي بالوشاية وقول الحقيقة ( كما يتوقع المشاهد ) ، حتى انه لم يخبر الشرطة عندما شاهدها  (من خلال المرآة )وهي  تدس المفاتيح وعينة من المجوهرات تحت الوسادة في أريكة منزله ، وذلك امعانا في  توجيه تهمة السرقة له ! في الخلاصة فالتركيز والانصات يقودنا هنا لاكتشاف تيمة الفيلم الحقيقية ، التي  تركز على عنصري "الاخلاص وبراءة المتهم" ! فأيلا البائعة المتجولة (التي تبيع النقانق المشوية وتعاني من الوحدة والتهميش أيضا ) مخلصة في حبها الاحادي لكويستينين ، وهذا الأخير بدوره مخلص في حبه الاحادي ايضا للماكرة الشقراء ميرجا  ( بالرغم من كشفه لها ) ، وهو كذلك والفتى الافريقي البائس مخلصان في تعاطفهما مع الكلب  المشرد ( مغزى وجود الكلب كحيوان معروف  باخلاصه الشديد لصاحبه ! ) ، وقد لاقى كويستينين  الضرب والسجن لسنتين اخلاصا لحبه وسمو اخلاقه ، لقد برع بالحق  كيروسماكي بكتابة واخراج وتصوير هذا الشريط المميز ، وكاد ان  يتماهى مع  عبقرية المخرج البريطاني  الشهير الراحل ألفريد هيتشكوك ، الذي برع  بهذا النوع من السرد : عندما يدان البريء المخلص وينجو الفاعل ، بل تجاوزه برسمه لأجواء  الوحدة والعزلة والتهميش  والاقصاء التي عانى منها الحارس  الليلي ، ومع ذلك فقد شدنا بالتصوير الآخاذ والموسيقى والأغاني  الرومانسية الحزينة لكي ندخل في حياته ونتعاطف مع رغباته وكفاحه وحبه للحياة بالرغم من معاكسة القدر له وسؤ طالعه !

*كاتب وباحث وناقد سينمائي

*كاتب اردني-فلسطيني

Mmman98@hotmail.com

سينماتك في 2 مايو 2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)