حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنياأرشيف الموقع 

رؤيا الخلاص

في الرّؤية السينمائيّة الوليدة لفيلم "وهلأ لوين؟"

لؤي زيتوني* / خاص بـ"سينماتك"

 

 

كثيرةٌ هي التّجارب السّينمائيّة التي تطالعنا في العالم العربيّ، إلى جانب ما يفدنا من أفلامٍ غربيّةٍ أو حتّى شرقيّة... غير أنّ القليل منها يمكنه أن يثير الانتباه من الناحيتين: الرّؤيويّة والفنّيّة، لأنّ امتلاك هاتين الناحيتين معاً بشكلٍ عضويٍّ يعطي عملاً سينمائيّاً يمكن أن نطلق عليه إنتاجاً إبداعيّاً بامتياز... وقد جذب الانتباه مؤخّراً عمل سينمائيّ مميّز أخرجته الفنّانة الشّابّة نادين لبكي، بإنتاجٍ فرنسيٍّ، حمل عنوان: "وهلأ لوين؟". وقد أثار الكثير من الاستحسان في قلوب المشاهدين وعقولهم، لما طرحه من قضيّةٍ حسّاسةٍ وشديدة التّأثير في لبنان خصوصاً، وكذلك في العالم عموماً، لا سيّما بعد أطروحات "صراع الحضارات"، وأحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر؛ إلى جانب الأسلوب المبدع المبتكَر الذي طُرِحَت فيه. فما هي الاشكاليّة التي يتمحور حولها الفيلم؟ وما الآليّة التي أفادت منها صاحبة العمل لإيصال رسالتها إلى المتلقّين؟

1.   سيمائيّة السّؤال المفتوح:

أولى الإشارات الدّلاليّة في هذا العمل تأتي من العنوان الذي ورد على شكل استفهامٍ يثير بحدّ ذاته تساؤلاتٍ كثيرةً متضاربة، إذ أنّ السّؤال: "وهلأ لوين؟" يحمل في طيّاته مساراتٍ عدّة تتّخذ لنفسها أبعاداً احتماليّةً في الغاية منه.

هذا السّؤال، يرتبط بداءةً بالحيرة أو الجهل، وبمعنى أوضح، يشير إلى نقطةٍ جديدةٍ يريد السّائل أن تُحدَّد له حتّى يتوجّه إليها، وهي لذلك عمليّة قد تكون ممهّدةً لمرحلةٍ جديدةٍ وللتّخطيط وصولاً إلى بلوغ تلك المرحلة.

تُضاف إلى هذا، ملاحظة الواو التي تبدأ بها العبارة، وهي ليست بطبيعة الحال حرفاً عاطفاً، بل تشير إلى كلامٍ سابقٍ مخبوء، قد يكون للمرسِل غرض في إخفائه، وقد يكون كلاماً كثيراً لكن يريد الإضاءة عليه، ربّما لأنّه يسعى إلى تجاوزه أو نسيانه. وينسحب ذلك بالتّالي على مضمون هذا الكلام، فقد يكون موضوعاً مملاًّ، أو خطيراً، أو غير ذلك... ومن هذا المنطلق أتت الرّغبة ربّما في تجاهله والإعراض عنه.

ولعلّ هذا ما يثير فينا السّؤال حول حقيقة هذا الاستفهام الغامض المرتبط بمرحلتين سابقةٍ عليه وناتجةٍ عنه.

2.   حركة التّنامي السّياقيّ:

يبتدئ العمل مستفيداً من الإرث الشّعبيّ في تقنية قص الحكايات على الأطفال بشكلٍ خاصّ، لتدخلنا في أجواء قريةٍ لبنانيّةٍ تقع على إحدى التّلال ولا ترتبط بعالمه الخارجيّ إلاّ بجسرٍ ضيّقٍ بدا مهدّماً وقديم البناء، واثنان فقط من أبناء القرية يتّصلان بخارجها. بينما يقوم أهل القرية بأعمالٍ اعتياديّةٍ، ويظهر بينهم تنوّع في الانتماء الطّائفيّ بين مسلمين ومسيحيّين، في حين تظهر علاقة حبٍّ خجولةٍ بين اثنين من الطّائفتين.

على أنّ الحدث الذي يخرج عن الإطار الطّبيعيّ، نجده مع دخول القرية عتبة التّطوّر المتمثّل بجلب الصّحن اللاقط والاطّلاع من خلاله على الفضائيّات، وهو ما اعتُبر "حدثاً تاريخيّاً". وهو الحدث الذي جعل الأهالي يستمعون إلى أخبارٍ كانوا بعيدين عنها، متعلّقةٍ بإشكالٍ طائفيٍّ جرى في إحدى المناطق. وهذا ما تحاول نساء القرية إخفاءه عن الرّجال بإثارة جلباتٍ مفتعلةٍ بينهنّ لإلهائهم عن الاستماع.

بعدها تدور إشكالات مؤجّجة للاحتقان بين الطّائفتين. إذ أنّ أحد الأشخاص، حينما كان يتفقّد تجهيزات الصّوت في الكنيسة لإصلاحها، يوشك على الوقوع، فيتعلّق بالصّليب الخشبيّ الذي ينكسر. كذلك تدخل بعض المواشي إلى المسجد وتعبث به، بينما يتّم اكتشاف أنّ جرن التّرميد في الكنيسة قد مُلئ بالدّماء. وأيضاً تتمّ سرقة أحذية المصلّين من أمام باب الجامع.

هذه الحوادث تجعل رجال الطّائفتين يفكّرون بالاستعداد للقيام بردّ الفعل ضدّ الطرف الآخر، وتتمّ تهيئة السّلاح لهذا الغرض. في حين أنّ النّساء يأخذن بالتّفكير في كيفيّة تجنيب القرية التّذابح، وعدم تكرار ذكرياتٍ مؤلمةٍ لهنّ، حيث أنّ كلاًّ منهنّ قد فقدت عزيزاً في أحداثٍ مشابهة. فيجلبن أوكرانيّات بغية إلهائهم عبر التّفكير بغريزتهم، فينجحن على نحوٍ محدود، لتعود الأمور إلى سابق مسيرها.

في هذه الأثناء يعود  أحد اللذين يهتمّان بشؤون التّواصل مع العالم الخارجيّ إلى أمّه مقتولاً برصاصةٍ طائشة، فتخبّئه في البئر كي لا تفسد جثّته، حتّى تمنع أخاه من القيام بعمل انتقاميٍّ يودي بحياته هو الآخر.

بعد ذلك تأتي فكرة النّساء الجهنّميّة، إذ يضعن المخدّرات ومهدّئات الأعصاب في الأطعمة والحلويّات، ويجعلن رجلي الدّين يدعوان إلى اجتماعٍ عامٍّ وضروريٍّ لبحث الاشكالات في القرية. وعند بلوغ الرّجال حال الضّياع الكامل بمساعدة الرّاقصات الأوكرانيّات، تقوم النّساء بنبش الأسلحة في القرية ودفنها في مكانٍ بعيد. وحين يصحو الرّجال في اليوم التّالي يتفاجؤون بأنّ نساءهم قد قلبن انتماءهنّ الطّائفيّ إلى الطّائفة الأخرى، بينما يقوم رجال الدّين بالرّحيل عن القرية مع الأوكرانيّات. ثمّ يتوجّه الجميع لدفن الفتى القتيل، حيث يحمله رجال من الطّائفتين؛ وعند الوصول إلى المقبرة، يحتارون في أيّ جهةٍ سيدفنونه، ويطرحون السّؤال: "وهلأ لوين؟" الذي ينهي الفيلم.

3.   دلاليّة الفضاء، زمنيّاً ومكانيّاً:

تدور الأحداث في قريةٍ شبه معزولةٍ مختلطةٍ بين طائفتين، وتحوي جامعاً وكنيسةً، ما يعني أنّها تضمّ بين أبنائها منتمين إلى الطّائفتين... وقد ذكرنا سابقاً أنّها لا ترتبط بالعالم الخارجيّ إلاّ بجسرٍ قديم، مهدَّم الطّرفين بحيث صار ضيّقاً جدّاً؛ وهي إضافةً إلى ذلك، تقع على التّلّة.

يعطي هذا المكان خصوصيّةً لطبيعة الأحداث وللأجواء المحيطة بالصّراع والشّخصيّات. فنلاحظ أوّلاً وقوع هذه القرية فوق تلّة، ما يععني أنّها على علوٍّ معيّن، لكنّه ارتفاع غير كافٍ ليجعل منها على قمّة جبل. وقد يكون في ذلك إشارة إلى تأرجحٍ ما بين الارتقاء وبين السّقوط في الهاوية. وكذلك يمكن أن نستشفّ دلالاتٍ غير مباشرةٍ على المكان الوسطيّ الواقع بين السّماء، أي الإطار المقدَّس، وبين الجحيم، أي النّموذج الفاسد.

في الإطار نفسه، نجد أنّ الرّابط الوحيد بالعالم الخارجيّ هو الجسر القديم الذي هُدّم جانباه فبات شديد الضّيق. وبما أنّه بهذه المواصفات، فهذا يعني أنّ القرية تكاد تكون منعزلة، خصوصاً أنّ القادرين عل التّواصل مع الخارج لا يستطيعون المرور إلاّ بعربةٍ صغيرةٍ بحيث يبدو من غير الممكن إحضار ما هو غير أساسيّ إلى القرية، وبالتّالي فإنّ حياتهم تقتصر على الأساسيّات، ولا يأتيهم من خارجها إلاّ القليل جدّاً من الكماليّات. وهذا ما يدلّ على أنّ أهالي القرية مكتفون بهذه الحياة، لا سيّما أنّهم محاطون من باقي الجهات بالألغام.

وقد يكون ذلك إيحاءً رمزيّاً إلى الواقع اللّبنانيّ، إذ أنّ الحيّز الصّغير الذي تشغله بوصفها قرية يوحي بصغر لبنان من حيث المساحة، وقد تكون الألغام المحيطة هي الواقع العربيّ المحفوف بـ"ألغامٍ" كثيرةٍ أوّلها الصّراع ضدّ الكيان الصّهيونيّ، وليس آخرها الأزمات الحاليّة. أمّا الممرّ الضيّق فقد يشير إلى المغترب الذي يشكّل رافداً اقتصاديّاً قد يبدو كبيراً بالنّسبة للقرية، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر ضئيل وينطوي على شيءٍ من الخطر، إن كان في اجتياز الجسر أو في ما خلفه؛ وهو ما تثبته عودة أحد أبناء القرية، ويدعى نسيم، مقتولاً بالخطأ في أحد الإشكاليّات الطّائفيّة.

من ناحيةٍ أخرى، نلاحظ حضور أمكنةٍ فرعيّةٍ تحمل أبعاداً دلاليّةً قد تصبّ في الإطار نفسه. ومن خلال ذلك، نجد المركزين الدّينيّين البارزين في القرية: الكنيسة والجامع، مشيرَين إلى الانقسام العموديّ لأهلها بين طائفتين، وهو ما يدلّ بشكلٍ غير مباشرٍ على البيئة الاجتماعيّة في لبنان، وهي البيئة التي أنتجت نزاعاتٍ متكرّرةً... كما أنّها تنمّ عن وهن البيئة العامّة لهذا المجتمع وانكشافه على تهديداتٍ مستقبليّة.

يبقى أن نذكر حيّزاً محدوداً كان مجالاً للقاء جميع أبناء القرية، وهو "مقهى السّتّ أمال"، إذ أنّ هذا الحيّز كان يشكّل مشهداً جامعاً من الطّائفتين. وفي هذا السّياق يأتي طرد شباب الطّائفتين من المقهى حينما استعرت الخلافات بينهم، من قبل "أمال" نفسها، ليكون تأكيداً على أنّ هذا المكان ليس للانقسام بل للوحدة.

يواكب ذاك الجانب، عنصر الزّمن الذي، وإن كانت الإشارة إليه خجولةً، يملك حضوراً دلاليّاً واضحاً في الأحداث. فعدم ذكره بشكلٍ واضحٍ لا يمنعنا من رصد الإشارات التي تبيّنه، ومنها إشارتان أساسيّتان: تمثّلت الأولى في إدخال تقنية التقاط البثّ الفضائيّ إلى القرية وهو ما اعتُبر إنجازاً، ما يعني أنّ الأحداث تمرّ في تاريخٍ معاصر. أمّا الإشارة الثّانية، فتتمّ انطلاقاً من الأولى، حيث تقام حفلة يجتمع فيها أهل القرية ليشاهد القنوات الفضائيّة عبر جهاز التّلفاز الوحيد فيها، وهنا يتقدّم مختار القرية ليلقي خطاباً في المناسبة مشيراً إلى أنّ الحصول على هذه التّقنية جعل القرية تعبر "من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين"، ما يعني أنّ الأحداث يُفترَض أن تكون معاصرة.

على أنّ جعل الأحداث معاصرةً يمتلك بعداً خاصّاً، فلماذا لا يتمّ الرّجوع بالأحداث إلى زمنٍ كان فيه التّأجّج الطّائفيّ أكثر بروزاً؟ ولماذا تجري في هذه المرحلة التي يبدو فيها التّهديد موجوداً لكنّه قابل للظّهور في أيّ وقت؟ في الواقع، يمكن استنتاج أنّ رسالة الفيلم تشير من خلال ذلك إلى أنّ المسألة التي يطرحها ليست فقط معاصرةً، بل تنطبق على أيّ زمنٍ سابقٍ، وربّما لاحق. وقد يكون في هذه الإشارة الزّمنيّة رمزيّةً شديدةً تخضع للواقع الذي يعيشه العالم في هذا العصر، لا سيّما في الدّفع نحو انقسامٍ عامٍّ أساسه التّطرّف والتّطرّف المضادّ، والفرز على أساسٍ دينيّ. ومن هنا تأتي حادثة موت أحد أبناء القرية عندما كان بعيداً برصاصةٍ خاطئة، تأكيداً على أنّ الانقسام في الخارج قد يكون أقوى وأشدّ ضرراً. وهو الأمر الذي يُبرزه حوار الرّاقصات الأوكرانيّات مع المسؤول عنهنّ؛ فحين رأى أنّ الوضع قد تأزّم في القرية، أراد الرّحيل بهنّ عن القرية، فسارعت إحداهنّ لتبيّن أنّ الوضع في الخارج ليس أكثر أمناً.

تجدر الإشارة كذلك إلى علامةٍ رمزيّةٍ زمنيّاً ارتبطت بواحدٍ من الأحداث. فعودة الفتى مقتولاً إلى أمّه كان ليلاً، أو عند السَّحَر، وقد كابرت الأمّ على جرحها وكتمت الخبر حتّى لا يتفاقم وتحصل مذبحة في القرية. وهذا ما يثير توتّراً في الأحداث، وتمهيداً لما سيتبع، فيظهر في ذهن المتلقّي التّساؤل: هل ستكون هذه العلامة الزّمنيّة إيذاناً باستمرار التّدهور أم فداءً لحياةٍ أفضل؟ ولعلّ هذا المشهد، وإنزال الفتى من البئر، بوصفه استحضاراً خفيّاً لموروثٍ دينيٍّ مسيحيٍّ يتأرجح بين قصّة يوسف وبين صلب يسوع، كان بمثابة إنذارٍ لانقلاب الوضع في ما بعد، فظلام اللّيل وظلمة البئر كانت تسبق ضوء فجرٍ ما.

4.   تصادم الشّخصيّات-الرّؤية الأنثويّة:

يمكننا أن نلحظ منذ البداءة، تمحور الفيلم حول نساء القرية. فالفيلم يبدأ على شكل حكايةٍ تُروى بأسلوب الأمّهات والجدّات على لسان إحدى الشّخصيّات التي يتّضح لاحقاً أنّها "السّتّ أمال" (أو مخرجة الفيلم). ومن خلال هذا الصّوت، ندرك أنّ الفيلم يمثّل وجهة نظرٍ أنثويّة. يتبع ذلك ظهور مجموعةٍ من النّساء اللاّتي يلبسن الأسود، ويتوجّهن كتلةً واحدةً، مع اختلاف طبيعة ألبستهنّ، إلى المقبرة...ما يعني امتلاكهنّ حزناً واحداً على أعزّائهنّ، وهمّاً واحداً يكمن في حماية مَن تبقّى لهنّ. من هذا المنطلق، يمكن أن نعتبرهنّ شخصيّةً واحدةً برؤيةٍ واحدة، يعملن سويّةً بأساليب غير تقليديّةٍ لتجنيب القرية ورجالها العراك الطّائفيّ. فهنّ اللّواتي اجتمعن في المسجد من الطّائفتين لتوضيبه وتنظيفه بعد أن عاثت فيه المواشي، كما تلاقين في الكنيسة لمعرفة حقيقة امتلاء الجرن المخصّص للتّرميد بالدّماء...

ومع أنّهنّ كذلك، فإنّه يمكننا أن نميّز ثلاث شخصيّاتٍ منهنّ امتلكن حضوراً خاصّاً ومؤثّراً في السّياق العامّ للحكاية. الأولى هي أمال صاحبة المقهى، والتي تحبّ رجلاً من الطّائفة الأخرى، وتجعله يعمل في صيانة مقهاها، وتعيش حال نزاعٍ بين الخيارات المرّة المتوافرة أمامها. غير أنّ تطوّر الأحداث يمنحها دوراً جوهريّاً، إذ أنّها تلغي المذياع من المقهى حتّى لا يسمع أحد من مرتاديه بالخلافات الطّائفيّة الدّائرة خارج القرية. وعندما يحتدم الخلاف بين الشّبّان في المقهى، تقف بينهم وتصرخ في وجههم وتطردهم نهائيّاً، ومن بينهم حبيبها نفسه، معلنةً أنّ مَن أراد أن يموت فليمت أمام منزله؛ وهي بذلك تضحّي بحبّها من أجل مجتمعها. الملفت للنّظر أنّها في خضمّ هذا المشهد، أخذت تحمل فوق يدها ابنها الصّغير في رمزيّةٍ معبّرةٍ عن الأمل في المستقبل وإرادة حماية الجيل الآتي من ذلك الصّدام.

تحضر الشّخصيّة الثّانية في هذا المجال، ولكن بصورةٍ أكثر كوميديّةً، وهي عفاف الامرأة الجريئة والمرحة، والتي لا تتوانى عن التّعليقات الوقحة على الجميع. لكنّها، من ناحيةٍ أخرى، لم تتردّد في تجميع أجزاء تمثال مريم العذراء ولصقه بعد أن قام أحد الرّجال المسلمين (أبو أحمد) بتحطيمه، وذلك ضمن إطارٍ رمزيٍّ يوحي بتحمّلها مسؤوليّةً خاصّة، نظراً لكونها امرأةً مسلمةً تحاول ترميم التّمثال، مع ما يعني ذلك من تجاوزٍ للكثير من الاعتبارات الخاصّة بمعتقدها. كذلك كانت صاحبة الفكرة في الاستعانة براقصات أوكرانيّات لإلهاء الرّجال، والمشرفة على تنفيذ هذه الخطّة.

أمّا الشّخصيّة الثّالثة، فقد أثّرت على نحوٍ كبيرٍ في المشاهدين، إذ أنّها تقلا والدة عصام ونسيم، وهذا الأخير واحد من اثنين يخرجان من القرية للتّواصل مع المحيط الخارجيّ والتّبادل التّجاريّ، وقد عاد يوماً قتيلاً برصاصةٍ طائشةٍ إلى أمّه. هنا يبدأ حضورها بالبروز أكثر، إذ أنّها تقوم بغسل الجثّة وتوضيبها، ثمّ وضعها في البئر حتّى لا تفسد، وذلك دون إعلام أحدٍ، حتّى شقيقه، خوفاً من قيام مذبحةٍ بين الطّائفتين في مشهدٍ شديد الإيحاء... ولم تكتفِ بذلك، بل واجهت تمثال العذراء، وتكلّمت معه بانفعالٍ شديدٍ كون مريم لم تقم بحمايته؛ إلاّ أنّها تنهي الحوار عبر تعهّدها بأن لا تسمح لها بأخذ أولاد النّاس كما فعلت بابنها. إضافةً إلى أنّها، عندما جعلت ابنها البكر عصام يعلم بمقتل أخيه، منعته عن الخروج من البيت حتّى لا يُقتل بدوره من النّزاع الطّائفيّ الطّائش، إلى درجة أنّها أطلقت النّار على رجل ابنها حتّى تحرمه من الخروج.

عدا عن ذلك، نستطيع أن نرى حضوراً مهمّاً لرجلَي الدّين، وإن لم يكن أساسيّاً، فقد كانا حريصين على عدم جرّ البلدة إلى التّصادم. ولعلّهما بذلك يمثّلان القيم الرّوحيّة التي تبعد عن كونها محرّضاً على الانقسام، ويأتي التّأثير الهامشيّ لكلامهما في رجال القرية ليؤكّد هذه الدّلالة؛ فلا مجال لعبارات الرّحمة والتّسامح والمحبّة، ولا مجال لحضور العقل، المجال الوحيد هو للغرائز. وبالتّالي، فإنّ الاقتتال يصبح أرضيّاً بحتاً، وليس له أيّ صلة بالسّماء.

يبقى أن نصل بالكلام إلى الرّجال الذين، مع أنّهم قاموا بتأزيم الوضع من خلال المواجهات التي وقعوا فيها، أظهروا عن كونهم منساقين نحو غرائزهم، لأنّهم فقط يتصرّفون بردّات الفعل وليس بالفعل. وبعبارةٍ أوضح، فإنّهم بعيدون كلّ البعد عن إعمال العقل في شؤون حياتهم. ولذلك شكّلوا نقيضاً تامّاً للنّساء بدلاً من كونهم مكمّلاً، ما يعني قلباً للمعادلة الشّائعة القائلة بأن الرّجال أكثر عقلانيّةً من النّساء.

5.   التطوّر الدّراميّ للصّراع:

يدخلنا الفيلم منذ البداية في صراعٍ مع الألم تخوضه نساء القرية. فمشهدهنّ وهنّ ينحن عند قبور أحبائهنّ وهي منقسمة على أساسٍ دينيٍّ طائفيّ، يوحي لنا بصراعٍ مريرٍ واحدٍ يجمع بينهنّ ناتجٍ عن فقدان أعزائهنّ في ظروفٍ مشتركة... والمشهد يترك لنا المجال واسعاً لتبيان هذا الصّراع، إلاّ أنّه يعطي إشاراتٍ تجعلنا نفهم الطّبيعة التي تكوّنه، لا سيّما من خلال إظهار توزّع أبناء البلدة على طائفتين تظهران في المركزين الدّينيّين الماثلين فيها؛ كذلك نرى تلك الإشارات في علاقة الحبّ بين أمال وربيع اللّذين ينتميان إلى طائفتين مختلفتين، وفي إشكاليّة الارتباط وتعقّده بينهما...

غير أنّ الصّراع بشكلٍ جليٍّ يبدأ بالظّهور مع حدث دخول التّقنية الفضائيّة إلى القرية، الأمر الذي شكّل نقطة تحوّلٍ في الحياة اليوميّة القائمة. إذ أنّ الأخبار عن النّزاعات الدّائرة بين الطّائفتين في الخارج تأخذ بالورود عبر الفضائيّات، في حين أنّ النّساء يعملن بكلّ الوسائل لمنع إيصال هذه الأخبار إلى رجالهنّ بافتعال خلافاتٍ وهميّةٍ أثناء اجتماع الأهالي لمشاهدة القنوات الفضائيّة، وبإخفاء المذياع من المقهى.

يأخذ هذا الصّراع بالتّصاعد مع أحداثٍ مضادّةٍ تعاكس إرادة النّساء، فيُكسر صليب الكنيسة الخشبيّ أثناء قيام أحد الشّبّان بصيانة تجهيزات الصّوت، وتعثّره. ثمّ تدخل المواشي إلى الجامع وتعيث فيه، يعقب ذلك امتلاء جرن الكنيسة المخصّص للتّرميد بالدّماء، وسرقة أحذية المصلّين من أمام باب الجامع. كلّ هذه الأحداث تؤجّج حياة القرية وتؤدّي إلى توتّراتٍ تجعل الحال على شفير الهاوية، إذ يتمّ تحطيم تمثال للعذراء مريم على الملأ، والاعتداء على أطفالٍ أمام الكنيسة وبينهم طفل معوّق، والتّشاجر العنيف بين أبناء الطّائفتين في مقهى السّتّ أمال. وهذه التّطوّرات مجتمعةً تجعل الفريقين يهيّئان بكل ّ الوسائل للحرب، بوساطة نبش الأسلحة وتجهيزها.

في خضمّ هذا كلّه، تدخل النّساء في سباقٍ حثيثٍ مع مسار الحرب، فتبحثن عن السّبل التي تمنع الرّجال من الخوض في حربهم... فيخترن عمليّة حوارٍ وهميٍّ بين إحدى الشّخصيّات (إيفون) مع مريم العذراء، لاستغلال الجانب الإيمانيّ، فيفشلن، ويجلبن الأوكرانيّات لإلهائهم دون جدوى. وهذا ما جعل الصّراع يحتدم ويبدو جليّاً، فيتجلّى ظاهريّاً بين إرادتين: أولى للنّساء، وأخرى للرّجال. الأخيرة تدفع نحو الانهيار، بينما الأولى تعمل على الخروج من التّأزّم؛ وفي حين أنّ إرادة النّساء تسعى إلى ترسيخ وحدة الحياة، تحاول الإرادة الأخرى الفصل بين النّاس ووضع الحواجز بينهم، وحتّى اللّجوء إلى شريكٍ بعيدٍ بدلاً من الشّركاء في الحياة الواحدة، وهو الأمر الذي يتّضح على لسان "ربيع" برؤيته أنّه لم يعد لهم مَن يلجؤون إليه إلاّ الغرباء: "الهيئة ما عاد إلنا إلاّ الغُرب". ولعلّ هذا ما يشكّل تصويراً لواقع الحال في ظلّ النّزاعات الطّائفيّة، حيث تلجأ كلّ مجموعةٍ طائفيّةٍ إلى أطرافٍ خارجيّة تحت ذريعة "حماية" نفسها.

إلى جانب ذلك، وبالتّزامن مع هذه الأحداث جميعها، يفاجئنا رجوع "نسيم" إلى والدته مقتولاً، وهي مفاجأة أتت ضمن السّياق العامّ، ولم تكن مقحَمةً إقحاماً، إذ أنّ الحدث ارتبط بالإشكالات الطّائفيّة التي تناهت أصداؤها إلى أسماع الأهالي. غير أنّ هذا الحدث الذي كان من المُفترَض أن يدفع إلى تأزيم الصّراع، شكّل نوعاً من التّغيير في مسار حياة القرية وفي الاتجاه الذي تسير فيه. فقد تمكّن أحد طرفَي الصّراع من استيعاب هذا الحدث وتلقّفه، إذ ينتج عنه إعلان عن تغيير الواقع من حال غلبة الإرادة الذّكوريّة "المتهوّرة" إلى حالٍ أخرى "أموميّة". وهذا ما نستشفّه من خلال حديث توجّهه الأمّ المنكوبة تقلا إلى مريم العذراء يفيد: "مش رح إسمحلِك تئذي ولاد النّاس". وفي هذا الحديث دلالتان: الأولى تتجلّى في التّصريح بعدم الاستسلام لإرادة الحرب "الرّجوليّة"، وبالتّالي إحداث انقلابٍ في طبيعة الهيمنة الذّكوريّة في التّفكير. أمّا الدّلالة الثّانية، فتبرز في تحميل مريم العذراء مسؤوليّة ما جرى ويجري في القرية، وقد يكون ذلك تحميلاً للدّين نفسه بكافّة أشكاله لهذه المسؤوليّة. وهي تعلن ذلك بعد أن تكون قد غسلت جثّة ابنها ، وخبّأته في البئر انتظاراً للفرصة المناسبة، ومنعاً لأيّ تفاقمٍ في الأوضاع. وحينما يثور ابنها الأكبر عصام بعد أن عرف بمسألة أخيه، وفي نيّته الانتقام من أبناء الطّائفة الأخرى، تطلق النّار على رجله لتشلّ حركته. ولعلّ حضور هذه الأفعال التي قامت بها، إضافةً إلى ذاك الاعلان، شكّل تمهيداً لفعلٍ أكبر يكون بمثابة المقوِّض لانسياق الرّجال نحو غرائزهن.

تحتمع خيوط الأحداث السّابقة كلّها لتبلغ مع جهود النّساء ذروة العمل السّينمائيّ، فيخضع  رجلا الدّين لإرادتهنّ ويجمعان كافّة الرّجال في مقهى السّتّ أمال حيث يطعمنهم طعاماً ممزوجاً بمخدّراتٍ وبمهدّئات أعصاب، بمعاونة الأوكرانيّات، ويقمن حفلةً تضيع فيها عقول الذّكور، بينما رحنَ يدفنّ الأسلحة في موضعٍ بعيدٍ ومجهول. وعندما يصحو الرّجال في اليوم التّالي يجدون نساءهم قد غيّرن دينهن، ما يثير استهجانهم وضياعهم التّامّ؛ أمّا تقلا التي تحجّبت فتقول لابنها قبل دعوته لدفن أخيه: "صارت علتك ببيتك"، وبالتّالي إذا كان من الضّروريّ أن يحارب الطّائفة الأخرى فعليه أن يحاربها هي، وهذا أمر مستحيل.

ومع أنّ هذه الذّروة كانت غريبةً، أو حتّى غير واقعيّة، وإن كانت ممكنةً من حيث المنطق؛ فإنّ الغرض منها كان رمزيّاً فنّيّاً بامتياز، إذ أنّ شعار "الغاية تبرّر الوسيلة" قد تجسّد عمليّاً بصورته النّبيلة، فبغية إنقاذ أفراد القرية كلّهم استُخدِمَت المخدّرات ومهدّئات الأعصاب. أمّا استبدال النّساء لطائفتهن، فيمتلك أبعاداً رمزيّةً شتّى، ولعلّ أكثرها بروزاً هو أنّ أبناء الطّائفة الأخرى يحملون الدّماء نفسها التي تجري في عروق الانسان، وأنّ ولادة إنسانٍ ما ضمن طائفةٍ معيّنةٍ قسراً لا يعني حمل العداء للمولودين في الطّوائف الأخرى، لأنّها مسألة اعتقاديّة فرديّة لا تحكم طبيعة الانسان في علاقته بالآخر. وقد يكون هذا الحلّ، بالنّتيجة، فرضيّة طَموحةً تهدف إلى الدّفع نحو إبداع الحلول التي يعجز الرّجال عن تحقيقها.

تبقى الرّسالة الأخيرة في العمل، وهي التي توّجت نهايته من خلال مشهد التّابوت المحمول إلى المقبرة على أكتاف رجالٍ من الطّائفتين، كما يُفترَض، وبحضور الأهالي جميعاً. فعند الوصول إلى المقابر، أو إلى منتصف الطّريق التي تفصل بين مقابر الطّائفتين يحتار حاملو النّعش في الجهة التي يجب أن يوجّهوا التّابوت إليها، ويسألون: "وهلأ لوين؟"، نظراً لكونهم لا يعرفون في أيّ طائفةٍ هو الشّابّ القتيل، ولا حتّى في أيّ طائفةٍ هم. وقد يكون في ذلك تلميح إلى الحاجة لطريقٍ ثالثة لا  تفرّق بل تجمع وتنهي هذا الانقسام العموديّ الواصل حتّى إلى الموتى. ويساند ذلك قول "راوية" الحكاية عن التّفكير في طريق جديدةٍ نتيجة الخيار الذي اتخذته النّساء.

والجدير بالذّكر هنا، هو أنّ المشهد الأخير هذا، تزامن مع رحيل رجلي الدّين برفقة الأوكرانيّات عن القرية، ما يعطي انطباعاً عن رأيٍ جريءٍ في التّعامل مع المسألة، إذ أنّه قد يكون إعلاناً بأنّ الأديان إن كانت وسيلةً للتّفرقة فلا حاجة لها، وهذا ما يمهّد للبحث عن الطّريق الثّالثة التي يجمع ما بين النّاس.

الخاتمة:

بناءً على ما تقدّم، نستنتج أنّ "وهلأ لوين؟" فيلم يحمل يحمل رسائل متنوّعة في إطارٍ فنّيٍّ مميّز. إذ أنّ مخرجة هذا العمل تقدِّم لنا مجموعةً من المؤشّرات الرّمزيّة التي تستبطن أبعاداً دلاليّةً شتّى، فنرى القرية المعزولة فوق التّلّة والتي يربطها جسر شبه متهدّم بالعالم الخارجيّ، بينما تحيط بها "الألغام" من باقي النواحي، وفيها انقسام طائفيّ يجعل من أيّ حادثٍ عابرٍ أزمةً توشك على التّحوّل إلى حرب. وفي إحالةٍ سريعةٍ إلى الفضاء المرجعيّ الذي يمثّله هذا المشهد، نلحظ الإشارة القويّة إلى الواقع اللّبنانيّ الذي يشعر بتميّزه (التّلّة)، ويرتبط بالغرب (ما وراء الجسر) بوساطة الاغتراب الذي يشكّل معاناةً في الوقت نفسه (الجسر المتهلهل)، بينما أزمات الشّرق الأوسط تحيط به من مختلف الجهات (الألغام)، في الوقت الذي ينقسم فيه المجتمع إلى طوائف (الانتماء إلى الاسلام والمسيحيّة) تؤدّي إلى أزماتٍ متكرّرةٍ في تاريخه الحديث.

انطلاقاً من ذلك، نلحظ طرحاً جديداً لمشكلةٍ قائمةٍ، ليس في لبنان وحده، بل في العالم بأسره، من خلال هذا الفيلم، لا سيّما عبر الإشارة إلى المشكلة الطّائفيّة خارج القرية والتي أودت بأحد أبنائها، وأثّرت في تعزيز الانقسام داخلها.

ولعلّ جدّة هذا الطّرح تعود إلى كونه يدمج بين المواقف الكوميديّة وبين الأخرى المأسويّة، دون الابتذال في أيٍّ من الجهتين. ففي الوقت الذي نتفاعل فيه مع الأمّ التي فقدت ابنها (تقلا)، نشعر بالفرح لولادة فكرةٍ غريبةٍ تثير فينا الضّحك والسّخريّة لحلّ الأزمة، والمتمثّلة في تخدير الرّجال وإخفاء الأسلحة.

وفي هذا السّياق، يمكن أن نُطلق على الفيلم صفة الواقعيّ، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال أنّه يقوم بنقل الوقائع كما هي، أو يقوم بتصوير الواقع هو. فأن يكون فيلماً واقعيّاً  يختلف عن كونه مرآةً لهذا الواقع، فهو يشير إلى الصّدور عن الحياة الواقعيّة والأزمات التي يعانيها الفرد والمجتمع في هذه الحياة. غير أنّ البعض قد يوجّه نقداً لهذا الجانب بالتّحديد، فمن غير المنطقيّ أن تقبل امرأة بإغراق زوجها بالتّلذّذ مع نساء أخريات، كما أنّه فمن غير المنطقيّ أيضاً إعطاء الزّوج المخدّرات لجعله يضيّع عقله، وقل الأمر نفسه في تخلّي النّساء عن ديانتهنّ واستبدال آخر به. لكنّ هذا الانتقاد لا يمكن اعتباره جدّيّاً بالمعنى الفنّيّ، فواقعيّته لا تستهدف نقل واقعٍ فاسدٍ ومرير يكرّر نفسه ومآسيه باستمرار، بل هي تسعى للإضاءة على مشكلةٍ أو بالأحرى مأساةٍ ماثلةٍ في الواقع اليوميّ للبنان، أو حتّى لدولٍ أخرى، ومحاولة تجاوزها... وبالتّالي، فإنّ المواقف الرّمزيّة ليست سوى إشاراتٍ إلى إمكانيّة إيجاد حلولٍ جديدةٍ وجذريّةٍ بعيدةٍ عن الحلول السّطحيّة الجزئيّة المطروحة في الواقع المعاش، وذلك في إطارٍ كوميدّيٍّ ناقدٍ ساخرٍ من الغارقين في تأجيج هذه المأساة. وعليه فإنّ الفيلم يشكّل رؤيةً مختلفةً لهذه الأزمة، يعبّر عنها الوجه الرّمزيّ الكوميديّ في الآن عينه.

يضاف إلى ذلك، تميّز الفيلم ضمن نطاق جانبٍ أساسيٍّ يكمن في أنّ  الحكاية تنطلق من وجهة نظرٍ أنثويّةٍ قلّما نجد نظيرها. ولعلّ هذه الوجهة هي التي توجّه الأحداث نحو مطامح تبدو غير متناسبةٍ والمنطق السّائد، وذاك نابع من كونها غير مألوفة للمتلقّين، ولهذا السّبب قد يكون الفيلم منارةً لغد المجتمع.

في المقابل، يمكننا الإشارة إلى بعض الملاحظات في مضامين هذا الفيلم، ومنها موقف رجلَي الدّين من القرية؛ فهل عنت صاحبة الفيلم أنّ رجال الدين بالمطلق غير راضين عن الوضع القائم، وعن النّزاعات الطّائفيّة المتكرّرة؟ أم أنّها كانت مجاملةً  مقصودةً لتعميم نماذج قليلة منهم، أو ربّما نادرة، على فئتهم بالكامل؟ ومن ناحيةٍ أخرى، وعندما ننظر إلى العلاقة الغراميّة بين أمال وربيع يصحّ أن نسأل: هل كان انقطاع تلك العلاقة إشارة إلى استحالة الانسجام بين الطّرفين أو التّلاقي بينهما؟ أم أنّ ترك الحديث عن هذه العلاقة كان فتحاً للمجال أمام احتمالاتٍ شتّى قد يكون من ضمنها تصحيح الوضع؟ فضلاً عن ذلك، لا بدّ من الالتفات نحو الضّحيّة الوحيدة في هذا الفيلم، وأقصد "نسيم" الذي ينتمي إلى إحدى الطّائفتين، فهل عنى ذلك أنّ هذه الطّائفة هي التي تضحّي فقط من أجل إنقاذ المجتمع؟ وإن صحّ ذلك، ألا يدلّ ذلك على نوعٍ من النّظرة الطّائفيّة؟ أمّا الملاحظة الأخيرة فتكمن في التّغيير الذي قامت به النّساء على طائفتهنّ، ألا يمكن أن يُعتَبَر هذا الفعل طائفيّاً بامتياز؟ وبالتّالي، ألا يمكن أن يقال أنّ محاولة الخروج عن هذا الإطار أوقعت في الطّائفيّة نفسها؟ أم أن ذلك يعني استحالة الخروج من "النّظام" الطّائفيّ؟

مهما يكن من أمر هذه الملاحظات، فإنّ العمل السّينمائيّ هذا يبقى متمتّعاً بقيمةٍ كبرى على مستويي الرّؤية والأسلوب لا يمكن إغفالها. إلاّ أنّه يحتاج دراسةً من نوعٍ آخر، تتعلّق بخصوصيّته بوصفه فيلماً سينمائيّاً وبالتّقنيات التي توسّلها في هذا المجال، وهو ما يخرج عن قدرتي. لكنّنا مع ذلك نستطيع أن نقول أنّ الفيلم شكّل سعياً صادقاً نحو الوصول إلى إنتاجٍ سينمائيٍّ قيّمٍ من بلادنا يندمج في قضاياها وهواجسها، ويطمح إلى حلّ أزماتها، ويؤدّي دوره الفاعل في السّينما العالمية، لا أن يكون مجرّد مقلّد... على أمل أن تصبح صناعة السّينما لدينا فعلاً من إنتاجنا نحن، دون أن نلجأ إلى الخارج لأجل هذه الغاية...

*كاتب أردني

سينماتك في 24 فبراير 2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)