حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنياأرشيف الموقع 

قراءة في أفلام تسجيلية فلسطينية:

كاميرا ترصد مجالات محطمة  ومُجدرنة ؟!!

محمد نعيم فرحات / خاص بـ"سينماتك"

 

-1-

كانت السينما تطوراً واستجابة، مكنت البشر من تقنية مركًبة، كي يروا أنفسهم، وينتبهوا لها، ويوثقوها، وينمذجوها، وكي تشهد عليهم وتطلب منهم أن يدركوا العالم على نحو أعمق ،كما مكنت بعض البشر من تزوير الواقع  أيضا.لقد فعلت السينما( أو بالأحرى جميع تقنيات الصورة المستحدثة) ذلك، بصورة مكثفة وغير مسبوقة  في حياة البشر. وفرضت نفسها كذاكرة قوية إلى جانب ذاكرة الناس كما تقولها أو تصونها كافة الأشكال التي اتخذتها هذه الذاكرة، سواء: كانت مكتوبة أو مَروية أو مُتخيلة أو مُصورة أو مُجسدة.

ومنذ لحظة ظهور السينما وكل أدوات الصور، كوسائل تقنية وكمخترعات، كانت هذه الوسائل تنخرط  في تأدية وظائفها المتعددة والمتباينة، لذلك قليلاً ما يشار إلى  السينما مثلاً، بما هي تقنية وبما هي اختراع، لأن معناها ذاك مُضمن في دلالتها ووظيفتها كفن، فن يقدم مقاربته للعالم الذي يتناوله ويجد مكانه اللائق في سياق منظومة الفنون الأساسية "الفن السابع" . والفن الحقيقي مشغول "بالتغلغل حتى (يصل) إلى الجوهر القائم خلف الظواهر". 

على أن كل فن - أي فن - أصيل ، سواء كان نصاً أو صورة أو أي شكل قد يتخذه ، لهو معني بتحقيق "امتلاك معرفي وجمالي" للواقع الذي يصوره أو يتمثله أو يصدر عنه. كما أنه استجابة من نوع خاص لخيال موجود في رأس شخص أو شخوص من جهة. أو محاولة للإجابة عن سؤال ما، يطرحه الواقع على وعى الناس.

ويرتبط الأمر هنا بالصورة، لأن السينما هي صورة تقول بقوة وبكثافة. والصورة هي اللعبة الحاسمة التي تحكم علاقة البشر مع الوجود وما فيه، سواء الصورة كما تراها العين ويحولها الوعي إلى نص بدلالات تتموضع في الذاكرة  تتحول بدورها كمكون للوعي والمواقف والرؤى وإعادة إنتاج العالم. أو الصورة كما يبنيها مخيال الناس، وما يترتب عن كل ذلك من عمليات تدامج الصور وتوالدها وتداخلها وتدفقها وتواليها وترادفها وتناقضها أيضا!

      إن هذا ما يمنح المقاربة السينمائية قدرة وحيوية خاصة، لأنها نشأت وتصعدت في حقل الصورة. الصورة المتحولة من فورها إلى نصوص وعلامات، أو النصوص التي تتحول إلى صور داله. لذلك تمتعت السينما الأصيلة عموماً، بالقدرة على تقديم معرفة محمولة على رشاقة الإبداع وانزلاقاته المثيرة، وقدرته على التخفي الفاضح!!! ولذلك(أيضا) ظل الرهان على المقاربة السينمائية للعالم، محكوم بقدرة الصورة على تمثيل الواقع وتمثله ونمذجته، رغم أن الصورة ذات بعد واحد والواقع متعدد ومركًب ولا متناهي الأبعاد، ولكن إزاء تعدد الواقع، ليس لدينا سوى الصورة والنص أو كليهما، كي نراه ونفهمه وندركه ونعيشه في تحولاته المختلفة. ومن هنا فإن قيمة العمل السينمائي الحقيقي، تكمن فيما يخلفه من صور تخصنا وإن كانت ليست لنا بالضرورة. صور تبقى في الوعي والذاكرة والمخيال بما تمثله من قراءة واستبطان مكثف لجوهر الواقع الذي تتناوله.

ولأن المقاربة السينمائية تقوم على علاقة مباشرة وعلنية ومفضوحة مع الواقع، بأبعاده الثلاث:( الظاهر منه، والمسكوت عنه، وما يحدث بالفعل) فإنها مطالبة، أو يُتوقع منها أن تكون ذات قدرة على النفاذ في هذه الابعاد وفي ظلالها العميقة أيضاً، وأن تمتلك القدرة، ليس فقط على إثارة ، بل  على خلق واستيلاد الانتباه والتأمل، وأن تلحظ كل ما هو مثير ودال، فيما هو  استثنائي  وفيما هو  عادي كذلك. إن هذا هو التحدي الأهم للصورة السينمائية ومقياس قدرتها الأول، عوضاً عمَا تقوم به السينما  من زعزعته كبيرة لاعتيادنا على الغفلة في علاقتنا مع العالم: العالم الذي فينا أو العالم الذي هو تحت أنوفنا أو العالم الممتد في أقاصي الأرض والوجود حتى  أعالي السموات!!

وهنا يمكن أن نلحظ البعد النقدي أو المقاوم في التراث السينمائي. وقيمة الفن الذي تصنف السينما في صلبه "كقوة للاحتياج ضد كل الهيمنات". أو وظيفته  "كصمود في وجه الموت والاستبعاد وما لا يمكن اغتفاره، وبوجه العار والحاضر". بعد نقدي يمارس دوره بجمالية متعددة الأبعاد والمستويات. بل إن الجمالية في تطرق السينما لموضوعاتها وإعادة تشكيلها للعالم هي جزء  من هويتها كفن، ولا يستقيم الأمر بدونها.

-2-

وبالنسبة للفلسطينيين فإن خصوصية وضعهم وظرفهم التاريخي الممتد: في الكوارث والصدمات والعذاب والصعوبات وكل ما هو مناؤي  ومباغت على نحو مزعزع، قد انعكست في علاقتهم مع كل الأشياء في حياتهم:سواء كانت  بسيطة أو مركبة..وهذا ما نلحظه حتى  في  علاقتهم بالسينما. إذ ليس بمقدورنا الحديث عن تراث سينمائي متواصل يتطور في ظروف اعتيادية ويؤسس لمدرسة أو مدارس، إننا إزاء ارتجالات وتجارب مختلفة ومتعددة أكثر مما نحن إزاء "سينما فلسطينية" بما ينطوي عليه الوصف من توقعات.

.....لقد استخدم الفلسطينيون الكاميرا والسينما في سياق استخدامهم لكل الوسائل الممكنة والمتاحة، أو التي وقعت تحت أيديهم، أثناء تجرعهم واقعهم المعاصر الذي احكم على حياتهم بقسوة بمشقاته التي لا تطاق ،إما لتوصيف حالتهم  وإدانة الاحتلال والمنفى والظلم والقهر والاستعباد. أو تصوير صعودهم المقاوم، قبل أن يجري الانفتاح على بعد آخر مهم، هو التناول النقدي لبعض المظاهر الاجتماعية والثقافية في حياتهم. ويمكن القول بأن هذه هي أهم الحقول التي تناولتها السينما الفلسطينية.

وقد انشغلت الكاميرا الفلسطينية عموماً بالتوثيق والتسجيل، توثيق الواقع بما هو متفوق في ضراوته على أي نص يتناوله، لقد وجدت السينما الفلسطينية ومحاولاتها المتعددة نفسها  في مواجهة نص الواقع الثقيل والمترامي والمزدحم بالأزمات والضغوطات والحصارات المتراكبة والمتكاتفة والمتصاعدة. ولم يكن لديها لا المتسع ولا القدرة معاً، كي تذهب للواقع (متسلحة  بالراحة والاختيار وبالاحتراف) وتتناوله من خلال نصوص روائية إلا قليلاً  .

وهنا يتعين الانتباه لمسألة مهمة وحساسة في آن، عند تتبع علاقة الكاميرا مع الواقع المباشر كما هو، وهي أن السينما الوثائقية أو التسجيلية، لا تنشغل بتصوير العالم كما هو أو كما يندلع فقط،، ولا يجب أن تتورط في أن تعكسه في بعده المباشر. لأنها تستهدف (أو هكذا يفترض)

شيئاً ما، هو بالضبط  الدلالة الموجودة في ظل الواقع المباشر أو على سطحه، لذلك فإن التسجيلية السينمائية  الرهيفة والخلاقة والمبدعة، تتحدد  بتوفر أمرين أساسيين، الأول: نظرة السينمائي وخياله والسؤال الذي يشغله، والثاني: قدرته على اختيار اللحظة أو البعد أو الدلالة المميزة التي يُفصح من خلالها الواقع عن نفسه، وتقوم السينما بالتقاطها مباشرة أو إيحاءا. إن كل عمل تسجيلي استطاع أن يصل إلى ذلك برشاقة وقدره مستبطنة قد صنف نفسه بنفسه في مصاف الأعمال الدالة.

وقبل عرض مدونة الأفلام التسجيلية  التي تتناولها هذه الورقة، يتعين الإشارة إلى مسألتين هامتين وهما: إن الأعمال السينمائية التي ستجرى قراءتها هنا، هي أعمال أنجزتها نساء، وهذا يتطلب استحضار بعض  اليقظة للعثور على نقطة تركيز ما عند كل واحدة أو على الأقل، عند أعمال البعض منهن من جهة ، وقراءة دلالة استخدمهن للسينما كأداة كي يقلن من خلالها انفعالهن بالواقع الذي يعشن فيه من جهة أخرى.

  أما المسألة الثانية، فهي، إن هذه الأعمال قد أنجزتها نساء غير محترفات بالمعنى التقني والدقيق للكلمة، وبالتالي فإن الحديث هنا سيجري عن نساء كان لديهن حس سينمائي، ستكشف لنا القراءة عن مدى عمقه، وكان لديهن القليل من متطلبات الاحتراف،والكثير من الرغبة والعزم على قول شيء ما بلغة السينما، وبالتالي فإن القراءة سوف تتجه للخطاب  وللحس السينمائي  وهي ليست مشغولة بمسألة  الجوانب التقنية والحرفية حيث أنها لن تكون محل تركيز هذه الورقة.

-3-

تتناول هذه الورقة مجموعة من الأفلام التسجيلية (6) التي أنتجتها سينمائيات فلسطينيات، وهي أفلام رصدت مظاهر مختلفة في الحياة الفلسطينية، وقد جرى التعامل  مع الأفلام المشار إليها، بصفتها نص متعدد الأجزاء جرى عرضه من زوايا نظر مختلفة ،وهذا النص يمثل   (أو يفترض فيه )أن يؤشر على طبيعة الوعي الجمعي أو المشترك لمجموعة من النساء على الأقل عن الواقع الذي يعشن فيه، ونظر لوجود تماثل وشمولية هائلة في نمط الواقع الذي تناولته هذه الأفلام،  وتشابه  الضغوطات التي ينطوي عليها ، فإن جهداً تركيبياً بمقدوره أن ينظم مجموع هذه التسجيليلت ، في فيلم طويل دون حصول نشاز كبير، وهذه الإمكانية تدعم الفكرة الأنفة، أي التعامل مع مجمل الأفلام بما هي نص يحمل بين ثناياه خطابا(7) يتكون من علامات أو دلالات ممتدة داخل  تسجيليات متعددة..

وهنا كان الاحتلال هو البطل الأساسي في أفلام وثائقية طرحت نفسها ببساطة. الاحتلال الذي يُولد ضحاياه وخطاياه فورا وبالضرورة، علنا وفي الظل. إن العلاقة هنا بين الاحتلال وضحاياه هي علاقة تلازم خطي لا علاقة تبادل. لأن الاحتلال مس كل شيء في حياة الفلسطينيين ومس وعيهم  وأزمنتهم على نحو مزلزل، فأياً يكونوا: موسرين أم فقراء، يحملون جنسيات أخرى تمكنهم من خيار ثان يمكنهم من الالتفاف على الواقع، أم يحملون (وقد لا يحملون) جنسيات محلية- حيث معنى الوثيقة التي يحملها الفلسطيني تحت الاحتلال تحدد عالمه على نحو أو آخر- وسواء كان لهم ماضٍ لا يتضمن معاناة ملحوظة أم ولدوا من (وفي) صميم العذاب. وسواء كانوا  يُقيمون في الضفة الغربية أم مواطنين في دولة إسرائيل أم في بلاد بعيدة؛إن كل فئات الفلسطينيين وحيثما كانوا هم شركاء- وإن بدرجات متفاوتة- في حالة العذاب والاستبعاد والإقصاء، وممنوعون من العادي ومما هو عائد إليهم معاً. وحيثما كانوا وكيفما كانوا فإن المتاح لهم، أن يكونوا ضحايا محكومين بعقدٍ صارم مع المعاناة والوجع!!!! معاناة ليست قدرا ، بل يصنعها بشر بحق بشر بكامل الوعي والإدراك . وهذا ما يشترك في قوله الفيلم التسجيلي سواء، البسيط  أو الأكثر تركيباً معا، وسواء في "ملوخية" لاريسا صنصور أو "خمس دقائق عن بيتي" لناهد عواد. حيث نعاين كيف أطاح الاحتلال بجماليات حياة بشر من حقهم أن تتواصل، ومن حقهم أن يعيشوها،وكسر "إيقاع " حياتهم على نحو بالغ، وفتتها عبر منظومة من ممارسات الإقصاء والعزل بالمعنى الشامل للكلمة. وأصبح المجال الفلسطيني مُهيكلا بقانون المسموح والممنوع، والممكن وغير الممكن حتى عندما يتعلق الأمر برغبة شقيقة في زيارة شقيقتها، يفصل بينهما زمن بمقدار عشرة دقائق فقط. أو في  اغتيال الذكريات الجميلة وإن لم يجري اغتيال حامليها بالضرورة. أما جغرافية هذه الذكريات والإحساس بها، فمحاطة بقوة الاحتلال، كأمر واقع وبالزبالة وبالغربان وبالخراب. وإن كان هذا الترادف يحمل رمزية ما، فإن قدرة الاحتلال قد كانت فائقة في مزبلة الحياة وجعلها أمرا لا يطاق..  

أما الضحايا وإن ظهروا مدحورين ومكسورين ومستبعدين، فإن قوة البقاء مكنتهم موضوعياً من إمكانية حركة ما، في هوامش الوجود الضيقة في كل شيء. حركة داخل الخراب الفسيح الذي لف المجال والمعنى والذائقة وطعم الحياة، وآلم بالفلسطينيين على يد الاحتلال.

ورغم أن أي مساحة أو أي مسافة فاصلة لا تحيل  لإمكانية قطعها، لأن السيطرة والتحكم والمراقبة وقوة الاحتلال الحاكمة لكل التفاصيل المرئي منها أو غير المرئي تحولها إلى مشقة لا تطاق في واقع تمت جدرنته (أي زرعته بالجدران وتطويقه بها) مادياً ومعنوياً، مجازاً وفعلاً. وهذا ما حاولت أن تقوله ناهد عواد أيضا في فيلم "خمس دقائق عن بيتي" وما سوف نعثر على صداه وتداعياته في أغلب الأفلام الأخرى. حيث لدى عملية التطويق بالجدران القدرة على التداعي والامتداد والترادف بصورة مركبة، وإنتاج نفسها بحيوية ملحوظة لا تحتاج إلى جهد كي نعاينها في جميع الأنحاء والمستويات!

ويتردد صدى هذا الأمر بصورة مكثفة في فيلم"شرق وغرب" لايناس مظفر، حيث يطاول التطويق بالجدّر حياة ناعمة (على نحو ما)لأسرة تكيفت مع حصار الجدار عبر إمكانية واحدة، هي قلب حياتها رأساً على عقب، وتركها لعوالم واعيتادات وذاكرة ممتدة على مدار 27 عاماً من الألفة مع منزلها ومجالها ومعانيها بقوة إكراه الجدار.  إن ترك البيت بما هو "مركز العالم بالمعنى الوجودي" كما يقول ميرسيا إلياد. والذي تبدأ منه كل الرحلات في العالم الملموس وحتى  الرحلة إلى العالم الآخر هو مغادرة لأهم مركز في الوجود تتمحور حوله حياة  الناس. على أن الرحيل هنا، يذكر برحيل درامي سابق  عن يافا، أما الفلسطيني فيستطيع فقط أن يختزن ويراكم خبرة فريدة وخاصة  في تجرع عذابات ومهانات ترك الألفة والعادة والعوالم التي يمثلها البيت  ويجسدها في حياة ساكنيه.

إن التهديد الذي يمثله الاحتلال للبيت ومعانيه هو أهم صدى سنلاحظه ونعثر عليه في اغلب الأفلام التي تناولتها هذه الورقة.

أما فيلم  ناهد عواد "25 كيلومتر" فتعطي الفلسطيني امتيازا لا يشاركه فيه أحد في العالم على هذا النحو،امتياز يتمثل في ثقافة الحاجز وتعظيم المسافة بالمشقة والصعوبة والإكراه ، وتجرع تجربة "السياحة داخل المعاناة" وتحويل واقع الحال إلى نوع من الإدمان عليه "طالما أنك وكي تعيش ليس لك خيار ثانٍ". هنا يمكن فهم الحركة داخل المجالات المُكسرة والمُحطمة والمَسببة بقوة الاحتلال، كشكل من الفاعلية الوجودية ذات البعد المقاوم. مقاومة بالجلد والالتفاف والبحث عن ثغرة ما، أو استحضار صبر أيوب لقطع المسافات الشاقة !!

وهذا ما تواصله بطريقتها لاريسا صنصور في "الأيام السعيدة"، واختلاط الحابل بالنابل داخل خطوط الهيمنة والسيطرة والإخضاع، بما هي زمرة من مرادفات معنى الاحتلال. حيث ينتج الغالب المحتل  بكامل وعيه وعقمه وبكلتا يديه، المفارقات المتعبة والشاقة، ويحكم بها حياة المغلوبين، في نفس الوقت الذي أنهت فيه  هذه المفارقات تسللها الناجح كي تحكم حيات الغالب أيضا على نحو أو آخر وبوعي منه أو بدون وعي !!!  

وتثير علياء أرصوغلي المسألة على نحو عميق ودال في فيلم "هاي مش عيشة" حيث "ثقافة المنع الشامل" تتحكم في حركة الفلسطيني وتحدد عوالمه وتمنعه من الحراك في مداره، الذي يفترض أن يكون التحرك فيه طبيعياً. سواء: نحو بيته أو مسجده أو كنيسته أو نحو  ربه. وجراء المنع يعود الفلسطيني إلى نفسه ولكن من المؤكد أنه يعود لزوايا القهر والمرارة والمذلة وما قد تثيره من مشاعر لها قدرة على التحول، بل إنها مشاعر  موجودة في الأصل كي تنتج نقيضها، وفي هذا المستوى يتجلى عقم الغالب وسياساته!!!  

وفي مواجهة المنع لا يجدي خطاب "يا ابني" التي تطلقه عجوز فلسطينية تتوسل الجندي كي يسمح لها بان تصلي لربها، توسل عفوي ينتجه الغضب على  محتل مشغول بتحويل الخوف والمنع والإقامة داخل الجدران المتعددة   إلى مصير، ومسكون بمحاصرة ضحاياه ، وهو يعرف بأن المنع العقيم الذي يمارسه ضد الفلسطينيين هو منع بلا فائدة أو وظيفة أمنية، ومن شأنه فقط أن يفاقم مخزون الغضب والكراهية!! ورغم ذلك لا يستخلص المحتل العبرة، لأن هذا –وببساطة- ليس من مزايا وعيه؟!!  

ولكن الناس يتحركون، والحركة هنا تأخذ بعد التعبير عن الذات، وتصبح شكلاً للمقاومة ضد المنع والحصار والجّدر، ولتبديد المعنى المبني للبيت كسجن، وهنا تتحول رغبة الناس البسيطة في أن يضحكوا ويبيعوا ويشتروا ويصلوا بدون حواجز ولا مستوطنين إلى أمنيات صعبة التحقيق، ولكنهم يمارسونها ضمن الظرف القائم وتأخذ في أعماقهم بعد السخرية من الوجود ومن المتحكمين فيه معا !!

وفي بُعد آخر تكشف عليا أرصوغلي عن قدرة الحزن والوجع على التغلغل إلى أبعد من أعماق القلب. إن الوجع هنا يفيض عن قدرة القلب وافق العذاب على استيعابه، لذلك يذهب لأبعد من القلب والوجدان ويتخطى كل حد.

وترصد  ارصغلي سريان الوجع المترامي جراء القتل والفتك في نابلس وبيت لحم، كأمثلة لكل مكان في فلسطين، كما تتبع بحث الأمهات عن الأمان لأطفالهن داخل زوايا البيت الذي يفترض فيه أن يكون هو الأمان بعينه لساكنيه. لقد كانت هذه التجربة من بين التجارب الدرامية التي عاشها الفلسطينيون في بيوتهم على مدار العقد الأخير على وجه التحديد. لأن كل زوايا البيوت في كل المجال الفلسطيني، كانت مفتوحة على إمكانية الموت والخطر من كل صوب.

إن الموت المتنقل بما هو الحد الأقصى للحصار الذي ينتجه الاحتلال وما يثيره من: هول وفزع ورعب في نفوس الناس، ومن سفك وتشويه لأجساد الضحايا، إلا أنه لا يستطيع أن يمنع  الناس من الحركة بثمن الموت، آو أن ينزع من وجوه ضحاياه قدرتها على بلورة دلالة الألفة والمحبة عند من يشهدون على قتلهم، وتصبح وجوه القتلى المشوهة، مألوفة وتشعرك بمحبتهم وكأنك تعرفهم، دون أن تكون قد عرفتهم فعلاً!!!!!.  

وهنا يوجه وجع الفلسطيني سؤاله القاسي إلى المحتل على صنيعه بضحاياه واستباحته لهم ووضعهم تحت النار والقهر والإقصاء والخطر المتحول إلى واقعة في كل لحظة!! وترصد ارصوغلي كيف تحاول الأمهات التحايل على الأطفال كي لا يخافوا من موت يكمن خلف الباب وفي الشرفات ، فيما تهديد الموت الذي لا تستطيع أن ترسم له توقعاً معيناً،ولكنه قائم ومحسوس ومتوقع على نحو مباغت. موت يطاول  البشر مثلما يطال الشجر حيث يجري إعدام  (حتى الزيتون) على مرأى من اليد التي تعهدته بالرعاية مثله مثل الأحفاد!!!.

وتعاين علياء أرصغلي نتائج تفلت فتية من الحصار والقهر ورجمهم الاحتلال وظلمه بحجر، ثم يعودون جثامين لذويهم ومثواهم الأخير ، بعد أن تركوا لكل المعنيين بهم، معنى الموت وبعض المقتنيات التي تستدل الأم بها فيما تستدل على ذكرى القتيل، أما المحتل "فهو يعرف عذابنا –لأنه صنعه بيديه- ولكنه بلا إحساس.. وإذا لم يكن باليد شيء (لمقاومته) فهناك رب"!!!     

وفي فيلم "القدس: قريبة وبعيدة" تتبع ليالي كيالي بعد ما هو قريب جدا،  والتحايل الخطر الذي تقوم به امرأة للالتحاق بالبيت والزوج في القدس، كشكل من أشكال المقاومة ضد الواقع ومحدداته والالتفاف من وراء ظهر الغالب، لتحقيق العادي الذي لا يجادل فيه عاقل. و تدلنا على إمكانية النفاذ داخل الحصار بما يترتب عن ذلك من إمكانيات الخطر.

وتعرض نجاح مسلم في "القدس بالألوان" كيف تتحول مدينة لا تشبه المدن إلى مجال مُحرم، وكيف أن منع الناس عن القدس يجعلها تتدفق فيهم معناً ورمزاً، وأن ارتداد الرغبة في الوصول إليها مكسورة الخاطر والقدرة معاً. يحول القدس لخيال يجد طريقه في تمثلات فنان، أو وجدان الناس. أو يحولها "لحلم لم يتحقق" عند سلام كنعان. أو يحفظها على جدار الغرفة إن كان امتلاكها صعباً في الواقع كما في فيلم "حكاية ستي" لرغدة عتمة. أو تحتل وجداناً بعيداً متاح له أن ينشغل بما لا يحصى من الاهتمامات كما في "القدس على المسنجر" لأماني سراحنة. أو الرد على بؤس الغالب بتعويض خسارة البيت عبر "بنعيش بفان" لزينب الطيبي. حيث يتحول ضيق الفان في صلب القدس نفسها لخيال فسيح يحول البيت الأكثر من قريب إلى ذاكرة حية. وتحول معناه إلى مقتنى ثمين في خيال أهله. وهذا أيضاً ما تعرضه أميرة الحموري في فلمها  "على أرض الواقع".  

وداخل المجال الفلسطيني المفتت تعقبت أفلام عدة  أبعادا مألوفة مثل "خبز" لرغدة عتمة وصباحات مدينة تستفيق على نفسها وعاداتها "القدس تستيقظ" لأميمة الحموري و"حسبة بلدنا" لنجاح مسلم، و"صلصال الخليل" لأماني سراحنة و"عسل يا خروب" لليالي كيلاني، و"نعلين في القلب" لسلام كنعان حيث القدرة على تحويل النضال المدني إلى ممارسة منتظمة ويومية وتقاليد مستحدثة في حياه نعلين: نضال متسلح بما يتسع الكف من حجر، والذراع من مدى، ولكنهما محمولان على إرادة بالغة. أو "صيف 85"لروان الفقيه، التي تكتب بطريقة خاصة سيرة ذاتية لحزن شخصي، واغتراب عن المكان والجدار والبيت، والبحث عن أثر الارتباطات الحميمة، وكذلك الأمر في "تمنيات" شيرين دعيبس. تمنيات يُكونها الفُقر والحاجة وتبلورها الحيلة من اجل الوصول إلى لحظة وفاء، رغم احباطات الطريق والتباسات الحيلة؟؟؟.  

ومرة أخرى تنقلنا علياء أرصغلي إلى أفق أعمق فيما "بعد السماء الأخيرة" حيث تتصاعد أسئلة الخروج الحادة (خروج جيل الآباء من بيوتهم وأرضهم) عند جيل الأبناء-الضحايا- ويتوتر السؤال الغاضب الذي تجنب الوعي الجمعي الفلسطيني قوله علناً وعلى رؤوس الأشهاد في حينه ولاحقا أيضا إلا قليلا . لان هذا الوعي تجرأ فقط، على قول سؤاله النقدي في الظلال وبعيداً عن إحداث مواجهة طاحنة بين الفلسطينيين ووعيهم. ولكن  غضب السؤال وما ترتب عنه في الواقع هو الذي يحمّل "ناهد"  على طرحه بحدة ، لان فعل الخروج الذي مارسه الآباء من كفر برعم عام 1948تحالف موضوعياً بدون قصد منهم  مع عملية  السبي والاكتساح التي مارسها الاحتلال للمجال. وفي ظل السؤال الصعب لناهد ثمة خيط يربط بين عجز الباء وغفلتهم، وسوء اختيارهم من جهة، ونتائج ما فعله الاحتلال في الواقع من جهة أخرى. إن العلاقة التي يمكن إقامتها هنا بين هذين العنصرين دالة وهامة وموجودة في ظلال الفيلم وكامنة بقوة في وعي "ناهد" النقدي المثقل بالأسئلة، وفي القراءة النقدية أيضا لما جرى في التاريخ!!!!.  

أما الرهان على عودة الآباء التي ستحصل غداً، فقد تحولت إلى تأبيد الإقامة في المؤقت، وتحول غدٍ ليوم يمتد عقودا لا زالت تتواصل، بلا أمل جدي في اقتراب هذا الغدٍ من دنوه!! لذلك يتواصل تحول الموطن والبيت والحق إلى حقيقة  مرئية ولكنها مصادرة من جهة، وإلى رواية وأسئلة صعبة من جهة أخرى، وبمقدور عودة المستبعدين إليها وفقا لشرط الاحتلال الذي يحكمها، أن تكون كسيرة فقط (حتى الآن). أو أن تكون لحظية؛ أو أن تكون رمزية،ولكنها لا زالت بعيدة عن أن تكون نهائية!!!!.  

-4-

ورغم استحضار الخصم لسيرته كضحية لآخرين ، إلا أنها ضحية تحولت في حياة الفلسطينيين إلى جزار بالضرورة، واحتلت حيزا ليس لها،  بثمن صفوف الضحايا اللذين يراهم  الخصم أمام عينيه.

إن نقد( بعض) المحتل لما قام به، وللالتباس الذي يجد نفسه فيه وأسفه لذلك، لا يفضي  لتغيير في الواقع ولا إلى حل عملي. لذلك فإن الشعور بعقدة الذنب هنا هو أمر مهم ولكنه بلا جدوى وبلا أفق حتى الآن، كما انه شعور  فردي وليس جماعي. والمشاعر الايجابية هنا عند(بعض) الخصم ،لا تحيل إلى إجراء مرضٍ أو إلى  تعويض أو إلى  تعديل جزئي للموقف، إن يكن تعديله الكلي أمراً غير ممكن. إنها مشاعر محبطة سلفاً من الناحية العملية.

وفي ما "بعد السماء الأخيرة" يتواجه رسوخ الإحساس بالحق مع عجز القدرة على تجسيده، وما يتولد عن ذلك من إحباط عميق وخيبة وتفاقم الطعم الحامض للإقصاء المستمر على مرمى حجر من الحق والبيت، ومن ثغرة ما في الوعي والواقع يعود المستبعدون إلى أرضهم، لحظياً ورمزياً فقط، وتتوارث أجيالهم معنى البيت وليس البيت المستعاد نفسه ، ويجري اللقاء المرير بين البشر والشجر والحجر!! ولكن الحلول مرجأة إلى المستقبل والرهان، وحتى دعوة المغلوب(ناهد) للعيش في دولة لشعبين رغم جاذبيتها كفكرة، تبقى رغبة غير قادرة على التحول إلى واقعة، لأن ذلك يتطلب تحولات ثقافية وبنيوية شاملة وجذرية عند الغالب أولاً وعاشرا وهو غير مستعد لذلك ويتجنب شروطها  بضراوة ، وإذا ما بقي متطلب ما بعد عاشرا،ً يمكن أن نسأل عندها عما هو مطلوب من الفلسطيني المغلوب !!

-5-

عند هذا الحد من التناول يمكن التوقف عند نقطة ما في قراءة هذه التسجيليات، وما أثارته من دلالات  في خطابها. وما كانت ترغب في قوله، ولكن الواقع الذي أنتجها وسينتج غيرها، لازال مستمراً في تواصله القاسي والمتعسف وتصاعده المخيف،ويبدو انه ليس بصدد التوقف عند اى نقطة تشير إلى انه بصدد تحول ما.سواء:  في طبيعته أو في ماهيته أو في رهاناته، لذلك فإن الركام الوجودي الذي خلفه هذا الواقع،  يتحول  إلى مولد  للأسئلة والإشكاليات والمعضلات والمفارقات الصعبة والشاقة كما يمكن أن يولد ديناميكيات مقاومة له بأشكال عدة وذلك كضرورة وجودية!!!!

وهذا بالضبط ما يضع  المقاربة السينما الفلسطينية للواقع وما يتصاعد منه، في خضم  حقل تجريبي خصب، يطرح عليها تحدي تطوير مقاربتها له وتجذيرها من جهة ، وبلورة موروث يؤدي لتكوين هوية سينمائية متقدمة في تطرقها لحقل مليء بالظواهر المحفزة على قراءاتها سينمائياً من جهة أخرى ، وتحويل السينما إلى شكل من إشكال المقاومة من جهة ثالثة.

 

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 إحالات وهوامش

1-هيجل نقلا عن بيير زيما: النقد الاجتماعي ،ترجمة علياء لطفي،(القاهرة،دار الكتاب للدراسات والنشر والتوزيع،1991)ص.46

2محمد كامل الخطيب:"عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي" شؤون فلسطينيه،عدد102،بيروت،(أيار 1980)ص. 106

3-بخصوص العلاقة بين النص والواقع يمكن العودة لمراجع عديدة مثل درس السيميولوجيا  لرولان بارت، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي،ط2(الدار البيضاء،دار توبقال للنشر،1986)ص.17 بالتحديد.

و جوليان فروند: سوسيولوجيات ماكس فيبر، ترجمة جورج أبي صالح(بيروت،مركز الإنماء القومي،(د.ت)) وبالتحديد ص.22

4-بول لوران أسون:مدرسة فرانكفورت،ترجمة سعاد حرب(بيروت،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،1990)ص.129

5- جيل دولوز و فيلكس غوتاري نقلا عن كاظم جهاد من عرض لكتابهما ، ما هي الفلسفة ، فصلية الكر مل،عدد41، نيقوسيا قبرص(1992)ص.191

6- تتكون مدونة الدراسة من التسجيليات التي جرى تناولها  في المتن السابق تباعا من الأفلام التالية   والتي  ترد وفق ترتيب، اسم الفلم  ومخرجته أو منتجته وسنة الإنتاج : ملوخيه، لاريسا صنصر،2006. 5 دقائق عن بيتي،ناهد عواد،2008.شرق غرب ، إيناس مظفر،2006.  25كيلومتر،ناهد عواد،2004.الأيام السعيدة، لاريسا صنصور،2006. هاي مش عيشه، علياء أرصغلي،2001 . القدس قريبه بعيده،ليالي ألكيالي،2009. القدس حلم لم يتحقق،سلام كنعان،2009. حكاية ستي،رغده عتمه،2001.  القدس على المسنجر ،أماني السر احنه 2009.  بنعيش بفان،زينب الطيبي،2009.  على ارض الواقع  ، أميمه الحموري،2009.  خبز ،رغده عتمه،2009.  القدس تستيقظ،أميمه الحموري،2009. حسبة بلدنا ،نجاح مسلم،2009.  صلصال الخليل ،أماني السراحنه،2009.   عسل يا خروب،ليالي الكيلاني،2009.  نعلين في القلب،سلام كنعان،2009.  صيف 85،روان الفقيه،2005.     بعد السماء الأخيرة،علياء أرصغلي،2007

7-بخصوص مفهوم الخطاب والنص والدلالات يمكن العودة إلى :ميشال فوكو"نظام الخطاب"فصلية الكر مل ،عدد12،نيقوسيا –قبرص(1983)ص.29

8-مرسيا الياد: المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة ، ترجمة نهاد الخياط(دمشق،العربي للطباعة والتوزيع،1987)ص163

سينماتك في 10 يناير 2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)