حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنياأرشيف الموقع 

سينماتك في مهرجان الخليج السينمائي الخامس

"إدفيج" لمنية مدور و"أغنية المطر" لأيغول باكانوفا

فيلمان جميلان ومخرجتان

أبوظبي ـ محسن الهذيلي / خاص بـ"سينماتك"

"إدفيج" و"أغنية المطر" اللذان عرضا ضمن برنامج تقاطعات في مهرجان الخليج السينمائي هما فيلمان جميلان من إخراج إمرأتين وبطلتيهما إمرأتان أيضا، والفيلمان يطرحان قضايا تتعلق بعالم الوحدة وغياب الرجل في حياة المرأة، فهما -أي الفيلمان- يتشابهان كثيرا في قضيتهما وهناك تقارب في طريقة وأماكن تصويرهما. فالفيلمان يُصَوَّران ثنتاهما بعيدا عن المدينة وإن ارتبطا بها من خلال الحكايات أو شخصياتها أو بعض إشكالاتها.

قلنا أن الفيلمان متشابهان في أماكن تصويرهما وهي مواقع ليست كثيرة في عددها، ورغم ذلك فإن من أهم الأشياء التي ننوه بها في الفيلمين هي ثراؤهما من حيث المشاهد وتنوع الصور. فالمسألة إذن ليست مرتبطة بعدد أماكن التصوير وإنما بشروط اختيار تلك الأماكن وفن التنقل بين زوايا مشاهدتها لخلق التنوع والثراء المشهدي في الفيلم. وهذا الأمر هو مما سنتعرف عليه خلال استعراضنا للفيلمين.

 

أغنية المطر

يحكي الفيلم عن إمرأة حامل ذهب زوجها للعمل في روسيا وبقيت وحدها مع ابنتها وجدتها، ورغم أن الزوج مافتئ يرسل إليها المال لقضاء شؤونها إلا أنه انقطع عن الاتصال بها عبر هاتفها المحمول.. هذا بينما انتشرت بعض الشائعات التي تقول بأنه ارتبط بامرأة غيرها في موسكو.

يبدأ الفيلم بمشهد الزوجة وهي واقفة في مكان يشرف على البحر، ونراها وهي ترفع يدها إلى السماء مثل راقصة للبالي تحرك بلطف محمولها لعلها تلتقط اتصالا هاتفيا من زوجها، هذا المشهد تشارك فيه فتاة صغيرة لعلها ابنتها ونرى في المكان مقعدا طويلا من الخشب كانت الزوجة الحامل تصعد عليه لتتقرب أكثر بيدها نحو الفضاء، هذا المشهد في أثاثه وأسلوب أداء الممثلة له يذكرنا بأجواء الأعمال المسرحية. وفي تصويرها لهذا المشهد أخذت الكاميرا مواقع عدة كشفت لنا من خلالها عن جماليات المكان وذواته. بعدها انتقلت بنا الكاميرا إلى زاوية ثانية فرأينا البيت القريب ببابه وجدرانه الفاتحة، يتميز هذا المكان سينمائيا زيادة عن ألوانه الباردة بغياب الحوار فيه، فهو ليس مكانا للكلام وإنما هو مكان للطبيعة وأفقها. عند مدخل البيت نبدأ ندخل إلى عالم الناس ونبدأ نسمع أصواتهم وركز خطواتهم.

الفضاء الثاني المهم في الفيلم هو البيت ذو الديكور المتميز، وفيه نلتقي بالشخصية ربما الأهم أو الثانية من حيث قوة حضورها السينمائي وهي الجدة. داخل البيت، ولأننا في الداخل، تخفت الأضواء الطبيعية وتتبدل نوعية الألوان والأصوات وتأخذ الحوارات أهمية كبيرة في ظل حضور ذلك العدد الهائل من الشخوص، في هذا الفضاء تعتمد المخرجة في الغالب لقطات متوسطة كي تصور جلسة النساء مكتملة.

أهم وأجمل مشاهد الداخل هو إذن مشهد الاحتفال الذي جرى داخل البيت في قاعتها الجميلة التي اجتمع فيها ذاك العدد المهم من النساء. فقد كانت القاعة مأثثة أساسا بزربية تراثية معلقة على الجدار تزينها زخرفتها وألوانها الساخنة، فوق الأرض كان هناك بساط آخر وضعت عليه كثير من المآكل التي عرضت بأسلوب تقليدي محبب، فبدا المكان مثل مجلس أحد الأمراء أو الملوك.

لإعدادنا للاستمتاع بهذا المشهد الأجمل في الفيلم بدأتنا المخرجة "أيغول باكانوفا" من الخارج بألوانه الباردة التي يغلب عليها اللونين الأبيض والأزرق (لون البحر)، وقد اشتغلت "أيغول" على الألوان بحيث يكون البحر والحجارة أقل دكانة. عند مدخل البيت كان الأبيض هو الغالب وقد بدى مثل خلفية لألوان ملابس النساء الزائرات، وكان هناك ذلك المشهد الجميل الذي تمثل في طقس غسل اليدين قبل دخول البيت، كانت الزوجة الحامل تصب الماء على أيدي النساء بينما تقدم إليهن الفتاة الصغيرة منديلا يمسحن فيه، كان هذا المشهد الطقوسي يُحَضِّرُنَا لطقس أهم يجري في تلك الجلسة النسائية في الداخل، حيث أكلت النساء وشربهن الفودكا التي جاءت بها إحداهن. هذا المشهد يعتبر بمثابة "الماستر بيس" في الفيلم.

بعده مباشرة وضمن رغبة لدى المخرجة في المقارنة بين أهم مشاهد فيلمها، رأينا جلسة الرجال حيث قلة الألوان الحارة رغم الحضور الأوسع للفودكا، في هذا المشهد الذي جرى في فناء مفتوح ذو ألوان باردة، اطَّلَعْنَا على إحدى أجمل اللقطات في الفيلم، لقد لعبت المخرجة على إطار اللقطة، حيث تقدم الرجل إلى المرأة الحامل التي جاءته تستفسره عن زوجها الذي أرسل إليها معه بعض المال، كان الرجل واقفا في إطار اللقطة القريبة وفراغ بسيط عن يمينه كنا نتابع من خلاله بقية جلسة الرجال وقوارير الفودكا، في زمن من الحوار اقترب أحد الرجال الذين كانوا في الخلف ووقف قريبا عند ظهر الرجل فملأ الفراغ وأعطى تكوينة جديدة للصورة.

لقد تميز فيلم "أغنية المطر" بتنوع مشاهده وصوره رغم قلة أماكن التصوير فيه، فتركيبة الألوان حسب الأماكن والتراوح بينها، والاختلافات في الأصوات والحوارات، والتميزات في عدد الحضور من الشخوص، من مشهد إلى آخر، كل ذلك أعطى الفيلم تنوعا وتراوحا فاجئنا وأنعشنا.

على مستوى الممثلين، كان لأداء دور العجوز جمال أخاذ، أداء السيدة الحامل كان صامتا عموما وتميز بأسلوبه المسرحي الجميل. أداء الفتاة الصغيرة وحضورها كان منعشا أيضا، حضور بعض النساء في مجلس الزربية أعطاه حيوية وفكاهة، الرجلان في مشهد جلسة الرجال كان أداؤهما طبيعيا وتلقائيا.

المخرجة "أيغول باكانوفا" التي بدأت تعمل على إخراج عملها الروائي الطويل الأول، أظهرت في هذا الفيلم نضجا فنيا وسينمائيا منحاها قدرة كبيرة على تصوير بعض هواجس المدينة ومشاكلها رغم بعدنا عن ضوضائها وزحمة شوارعها.

 

إدفيج

فيلم "إدفيج" للفرنسية "منية مدّور" يشبه إلى حد ما فيلم القيرغيزستانية "أيغول باكانوفا". بطلة فيلم منية مدور بدت أقل ثرثرة من بطلة فيلم الأولى، بل إن إدفيج لم تنبس كامل الفيلم بأم شفة، وقد ذكرتنا بأدائها خلال الفيلم بأسلوب الأفلام الصامتة.

بالنسبة لمواقع التصوير فهي الأخرى شبيهة في فيلم منية مدور بالتي في فيلم أيغول باكانوفا. نحن هنا أيضا في أحضان الطبيعة بعيدا عن المدينة الكبيرة وفي موقع يشرف على البحر.

يروي فيلم "إدفيج" لمنية مدور حكاية سيدة تعيش وحدها في بيت كبير وتعمل في فندق. تتعرف "إدفيج" أثناء تنظيفها لإحدى الغرف في الفندق على زبون شاب أتى حديثا للبلدة، تساعدها الصدفة لإسداء خدمة له بمساعدته في إصلاح قميصه ورتق فتقه، من خلال هذا العمل الذي قامت به في بيتها تمضي "إدفيج" في علاقة خيالية مع الرجل الغريب تعيد لها إحساسها بذاتها وجسدها. بعد ذلك وهي تسلم إليه قميصه وتَعِدُ نفسها بلقاء شاعري معه تكتشف إدفيج أنه إنما جاء إلى تلك البلدة لمقابلة فتاة غيرها.

ينحى الفيلم في حكايته التي تمضي عبر كثير من الصدف الخيالية أسلوبا يبدو لاواقعيا، لذا ربما تكون إدفيج قد دفعت في الواقع أو في الحلم الفتاة صديقة الشاب من فوق مرتفع نحو البحر فقضت عليها، بعدها تقمصت إدفيج شخصيتها وأخذت مكانها، ليس في علاقتها بالرجل، وإنما في ارتداء ملابسها وحمل أشيائها واستعمال تسريحة شعرها وماكياجها وأحمر شفاهها. وينتهي الفيلم وإدفيج وحدها في ملابس الفتاة التي يطغى عليها اللون الأحمر القاني وهي تتجول بأشيائها عند البحر.

جمالية الفيلم أنه يعرفنا في بعض مشاهد قليلة بالبلدة التي تجري فيها الأحداث، انفتاحها على البحر من خلال موقع مرتفع يشرف عليه، تميز عمارتها بالانخفاض، احتواؤها على حقول شاسعة، تميزها ببعض القصور والبيوت القديمة والتراثية التي منها بيت إدفيج، إحتواؤها على ميناء قديم مهجور، وهو ما يفسر خلو البلدة من الناس (لاحظنا ذلك حين مرور سيارة إدفيج من وسط المدينة أثناء رجوعها من العمل). وهذه الصور القليلة ولكن المعبرة عرفتنا بالمكان وأدخلتنا في نفس الوقت إلى عالم إدفيج الخالي من العلاقات الإنسانية. قلة الحوار في الفيلم أكد هو الآخر على هذا البعد في حياة بطلتنا.

بالنسبة لألوان الفيلم، عملت منية مدور بألوان باردة يطغى عليها الأبيض في غرفة الفندق مع إضافة اللون الأحمر حين ظهور الفتاة صديقة الشاب، في بيت إدفيج التراثي بدت الألوان أكثر دفئا. وعند تصوير تأملات وتخيلات إدفيج أثناء الليل من خلال لقطات قريبة كانت الألوان ساخنة.

بالنسبة للقطات عموما، استعملت منية مدور في الخارج اللقطات البعيدة أو البعيدة جدا، حيث اهتمت بتصوير آفاق الأماكن، وفي الداخل كانت اللقطات متوسطة أو قريبة وذلك لتصوير الوجوه والنظرات والحركات والسكنات.

اعتمدت الممثلة كلود بيرون في أداء شخصية إدفيج سواء في بيتها أو في الفندق (حين تكون مع بعض الناس) على التعبير بهذا الأسلوب التمثيلي المرهف (الحركات والنظرات) وذلك في شكل شبه استعراضي. وكنا ونحن نشاهدها نعي بعالم الشخصية وغربتها عن الواقع ونستمتع بأدائها وهي تتشمم مثلا الأشياء وتقتفي روائح الشاب على قميصه أو على غطاء فراشه الذي أخذته معها خلسة إلى بيتها.

قوة فيلم منية مدور أنه استطاع أن يصور من خلال كل شيء في الفيلم وحدة إدفيج وفراغ حياتها من رجل تحبه يعطها مبررا لوجودها فتعتني بجسدها وشكلها من أجله.

بعد ذلك وعندما ظهر هذا الرجل واعتقدت أنه يمكن أن يصبح حبيبها وأعدت نفسها وجسدها له، لم تشأ –رغم علمها بأنه مرتبط بغيرها- أن تفقد حياة الحب التي بدأتها في خيالها، تمادت إدفيج وقامت بابعاد الفتاة غريمتها وأخذت مكانها ومشت وحدها على البحر كما في عالم سريالي.

الموسيقى ذات الأسلوب الكلاسيكي والتي اعتمدت أساسا على آلة الكامنجا قوت من هذا الاحساس الحالم والسريالي وإن صورت انحسار حياة إدفيج ضمن جو فاقد للأبعاد والآفاق.

لقد نجحت منية مدور من خلال تجديد ألوان فيلمها، وتنويع صورها، ومن خلال الموسيقى التصويرية، والاختيار الجيد لأسلوب الأداء الصامت والعميق للممثلة كلود بيرون، استطاعت منية مدور من خلال كل ذلك أن تعطنا فكرة كافية عن المكان الذي تجري فيه الأحداث وعن شخصية إدفيج وعالم العزلة والغربة والحرمان العاطفي الذي تعيش فيه.

أود الآن أن أنهي مقالي هذا بذكر الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من الفيلمين الذين استعرضناهما، لقد تمكنت مخرجتا الفيلمين ضمن فيلميهما القصيرين من إعطائنا فكرة كافية عن شخصياتهما، عن هواجسهما وأحلامهما، عن المجتمعين الذين تعيشان فيهما، عن الأفكار وبعض العادات التي تحكمان ذينك المجتمعين. بحيث تعرفنا على تينك الشخصيتين فلم تعودا غريبتين علينا. هذا إلى جانب اتحافهما لنا بمشاهد وصور جميلة انطبعت في خيالاتنا وأدخلتنا عالما من الحلم الممتع.

هاذان الفيلمان الجميلان لـ"منية مدور" و"أيغول باكانوفا" يمكنهما أن يكونا درسا لبعض المخرجين الخليجيين الذين يحبذون دائما التصوير بعيدا عن المدينة وأماكنها العامة ولكن دون أن يعطونا أي فكرة كافية عن الشخصيات الرئيسية في أفلامهم ولا عن ملامح ثقافة المجتمعات التي يعيشون فيها. هذا مع عدم الاشتغال بجد على المشاهد وعلى التراوح والتنويع فيها باستعمال اللقطات والصور والألوان والأصوات والموسيقى. وفي غياب ذلك تأتي أفلامهم باهتة لا طعم فيها ولا رائحة.

سينماتك في 6 مايو 2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)