جديد الموقع

 
 
 
 

عنوان الصفحة:

مجلة «الجديد»: سينما المرأة العربية (ملف خاص)

 
 
 

مجلة «الجديد»:

سينما المرأة العربية

(ملف خاص)

أعده الناقد السينمائي أمير العمري

 
 
 
غلاف عدد مارس 2018
 

 

 شارك في هذا الملف كل من أسماء الغول (فلسطين)، ندى الأزهري (سورية)، هدى جعفر (اليمن)، محرز القروي (تونس)، محمد اشويكة (المغرب)، رزان ابراهيم (الأردن)، وفاء السعيد وعماد ارنست، وناجي فوزي وياقوت الديب ونيرمين يسر (من مصر) وفي العدد القادم نستكمل الملف بدراسات لكل من ليلى أحمد (الكويت)، أمل ممدوح وجيلان صلاح (مصر)... والمجال مفتوح للناقدات والنقاد الذين يرغبون في نشر مقالات تشتبك مع ما نشر بالفعل في الملف وتناقش ما جاء فيها بروح نقدية وربما تطرح رؤى مغايرة....

نشرنا في عدد مارس 11 مقالا وسنستكمل باقي الملف في عدد ابريل بمقالات لثلاث كاتبات عربيات....

أمير العمري

 

 
 
 
 
 
 

عناوين الملف

 

 

 

 

 

سينما المرأة العربية

أمير العمري

“سينما المرأة” أم “السينما التي تصنعها المرأة“

نرمين يسر

نافذة مُشرعة على جدار إسمنتي

هدى جعفر

سينما المخرجات بالمغرب

محمد اشويكة

نظرة ذكورية أم سينما نسوية.. السينما التونسية وقضايا المرأة

محرز القروي

سينما المرأة العربية.. التاريخ، المصطلح، القضية

ياقوت الديب

رسائل إلى الكاميرا الأنثى.. نظرات في الثيمة

عماد أرنست

مظلومة ولكن متمردة

ندى الأزهري

سينما المرأة في مصر.. بين المصطلح وواقع الإنتاج

ناجي فوزي

صرخة أنا حُرَة.. تحيّزات الخطاب الذكوري المُستبطَن

وفاء السعيد

سينما المرأة الفلسطينية.. طريق نحو الاحتراف

أسماء الغول

مسارات وتحولات.. صورة المرأة في السينما المصرية

رزان إبراهيم

   
 
 
 
 
 
     
 

أمير العمري

ناقد سينمائي من مصر مقيم في لندن

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المرأة العربية

 
 

كانت المرأة دائما حاضرة بقوة في السينما العربية، سواء كشخصية رئيسية في الأفلام كما تجسّدها الممثلة، أو وراء الكاميرا كسينمائية: مخرجة، مصورة، مونتيرة، مهندسة ديكور.. إلخ.

وعادة ما يشار إلى دور المرأة في السينما العربية على وجه الخصوص، بنوع من المبالغة، ومع إضفاء قدر من التقدير المصطنع والإشادة المفتعلة التي تصدر عادة عن “ذكور السينما” بما يوحي بنوع من الوصاية التي ربما لا تكون مقصودة لكنها تبرز في ثنايا الحديث الذي لا تكف وسائل الإعلام عن ترديده حول “دور المرأة في السينما” أو “المرأة هي الرائدة في صناعة السينما”. وعلى النقيض من هذه الهالة المصنعة التي يقصد بها التغطية على ما هو قائم بالفعل من مشاكل تتعرض لها المرأة، سواء في السينما أو في المجتمع عموما، يميل البعض أيضا إلى التقليل من حضور المرأة، والانتقاص من محاولاتها بناء صورة مستقلة لها من خلال الأفلام التي تصنعها أو تشارك في صنعها. ولكن هل أصبحت المرأة تمتلك أصلا “وسائل الإنتاج” السينمائي لكي يمكن الحديث عن “سينما المرأة”؟ وما معنى هذا المصطلح، وهل هو مصطلح علمي أو يرقى إلى مستوى مصطلحات أخرى أصبحت مستقرة في الدراسات السينمائية الأكاديمية مثل “سينما المؤلف” و”الفيلم نوار” و”السينما الثالثة”.. وغير ذلك؟ أم أنها صرخة تتردد منذ سنوات طويلة دون أي صدى حقيقي لها، أي دون أن يكون لها مردود عملي وتأثير مباشر على الصناعة نفسها إن وجدت بالطبع؟

قبل أكثر من ربع قرن أجريت حوارا مطولا مع المخرجة اللبنانية-المصرية الراحلة نبيهة لطفي التي كانت قد أسست لتوها ما أطلقت عليه “جمعية سينما المرأة” في مصر، وكنا نحضر في ذلك الوقت مؤتمرا لمناقشة “سينما المرأة” أقيم على هامش مهرجان قرطاج السينمائي في تونس. وقد سألتها حينئذ عن تصوّرها لمفهوم “سينما المرأة”. خاصة أن الكثيرين يعتقدون أن السينما هي سينما فقط ، سواء أكانت من صنع الرجل أم المرأة، فما معنى التفرقة بين السينما التي يصنعها الرجل وتلك التي تصنعها المرأة؟

كان رأي نبيهة لطفي الشخصي، وهو رأي طرحته في الندوة الموسعة التي ضمّت عددا كبيرا من السينمائيين والنقاد، أن مجرد طرح هذه التفرقة للمناقشة، معناه أن هناك احتياجا ما، أو أن هناك شيئا ما يوجد في الحياة الثقافية أو حتى الاجتماعية، يفرض هذه التفرقة أو هذا الفرز. وأضافت أنه لا شك في وجود دور للمرأة تاريخيا، بحكم أنها لم تكن تعامل على نفس القدم من المساواة مع الرجل. وبما أن السينما ليست سوى انعكاس للحياة الاجتماعية، فقد كان من الطبيعي أن تطالب السينمائيات النساء بنوع من المساواة في الحصول على فرص لصنع أفلام تعبّر عنهن. هناك مشاكل كثيرة مطروحة في مجتمعاتنا تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، فإذا استطاعت المرأة أن تسمع صوتها في هذه المشاكل، فهي تساهم بالتالي في رفع عبء كبير عن كاهل المجتمع. وسينما المرأة إذن، هي سينما مطلوب أن تثبت من خلالها المرأة وجودها كمبدعة وفنانة، وأن تحصل على حقها في الحديث عن مشاكلها الخاصة.

خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة ظهرت جمعيات كثيرة في مصر والعالم العربي والعالم الخارجي باسم “جمعيات سينما المرأة”، كما أقيمت مهرجانات كثيرة هنا وهناك، باسم سينما المرأة، وبرزت على الساحة ناقدات بل ونقاد يروّجون لسينما المرأة، وأفلام ترفع شعار الانتماء لسينما المرأة.. فما هي سينما المرأة؟ وهل أصبح المصطلح اليوم أكثر واقعية بحكم تحقق الكثير من الشعارات وتحولها إلى واقع فعلي؟ أم أننا مازلنا أبعد ما نكون عن الوصول إلى صيغة محددة لهذا المصطلح النقدي الذي أصبح أيضا تعبيرا يتردد بقوة في الإعلام؟

لكي نبحث في العلاقة بين السينما العربية والسينما، وبين صناعة الفيلم وقضايا المرأة، وننظر فيما إذا كانت المخرجات النساء قد نجحن في التعبير بشكل مختلف عن السينمائيين الرجال، عن قضايا المرأة في أفلامهن، ولكي نرصد سلبيات وإيجابيات النظرة “الخاصة” إلى المرأة التي من الممكن أن نحصرها في “غيتو” ثقافي منعزل، رأينا أن من المناسب، ونحن في شهر المرأة، أن نفتح هذا الملف الذي حرصنا على أن ندعو إلى المشاركة للكتابة فيه، عددا من الكاتبات والناقدات يفوق كثيرا عدد المشاركين من النقاد والباحثين الرجال.

لدينا في هذا الملف مساهمات لكاتبات وكتاب من اليمن ومصر والكويت والمغرب وتونس وسوريا وفلسطين. وقد حرصنا على تنويع المواد لكي تشمل الدراسات التي تبحث في المنتج السينمائي نفسه، إلى جانب المقالات والدراسات الأخرى التي تبحث في الظاهرة بأبعادها المختلفة من وجهات نظر متعددة.

ليس من الممكن اعتبار هذا الملف خاتمة البحث في الطريق موضوع سينما المرأة، بل نعد بنشر ما لم نتمكن من نشره في هذا العدد لأسباب تتعلق بضيق الوقت المتاح، في أعداد أخرى قادمة، لكننا نأمل بالدرجة الأساسية، في أن نتلقى ردود الفعل والتعليقات والكتابات المضادة، ممن يمكنهن ويمكنهم، المساهمة في إثراء النقاش حول هذا الموضوع الهام وبالأخص، على ما طرح من أفكار في المقالات التي يتضمنها هذا الملف، والاشتباك النقدي معها بحيث نثري العملية النقدية، وربما نساهم أيضا في التوصل إلى أساس علمي ننطلق منه في دراساتنا المستقبلية وتعاملنا النقدي مع “سينما المرأة”.

     
     
 
 
 
     
 

نيرمين يسر

ناقدة من مصر

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المرأة” أم “السينما التي تصنعها المرأة

 
 

تعدّدت أشكال وأنماط النساء المختلفة التي قدمتها السينما المصرية، والتي تغيّرت ملامحها وتبدّلت بمرور الوقت طبقا للقضايا المثارة في الفترة الزمنية.

لم نعد في الوقت الحالي نجد هذا النوع من الأفلام التي مازالت تدور في منزل “السيد عبدالجواد” في الأفلام المأخوذة من ثلاثية نجيب محفوظ، أو الأم الطيّبة والزوجة الخاضعة والحبيبة الخجولة، بل ظهر نوع آخر من نساء السينما المصرية أكثر إصرارا ونجاحا وفخرا بأنفسهن، خاصة عندما ازدهرت فترة مناقشة قضايا المرأة الاجتماعية والتي تصدّرت قائمتها الفنانة فاتن حمامة من خلال مناقشة قضايا عمل المرأة في فيلم “الأستاذة فاطمة”-1952 من إخراج فطين عبدالوهاب، ومناقشة قضايا الشرف في فيلم “دعاء الكروان”-1959 عن رواية طه حسين وإخراج هنري بركات.

حدثت أيضا تعديلات على بنود عتيقة وردت في قوانين الأحوال الشخصية في مصر بعد ظهور فيلم “أريد حلا”- 1975 للمخرج سعيد مرزوق وبطولة فاتن حمامة، الذي يتناول قضية بيت الطاعة والطلاق الذي يملك الزوج قراره فقط، وهو أحد تلك الأفلام التي ناقشت عدة قضايا كان من شأنها أن تصنع تغييرا حقيقيا في القوانين القضائية والأعراف الاجتماعية. وبمناسبة تلك الأفلام التي بسببها تغيّرت قوانين عاتية وظالمة لا بد أن نذكر فيلم “عفوا أيها القانون”- 1985 من إخراج إيناس الدغيدي الذي يثير قضية تتعلق بسماح القانون بعدم تدخل الزوجة في حال شاهدت زوجها متلبسا بخيانتها، ففي الفيلم تطلق نجلاء فتحي الرصاص على محمود عبدالعزيز فتقتله، بعد أن شاهدته في الفراش مع صديقتها، لتقضي 15 عاما في السجن، في حين يبيح القانون للزوج مقاضاة زوجته في حال ضبطها متلبّسة بخيانته لكي تسجن، إلا إذا صفح عن خيانتها وسمح لها بالاستمرار في الحياة بعد طلاقها منه دون المحاكمة.

أشرنا فقط إلى عدة أفلام بطلتها امرأة قوية تدافع عن حقها في المساواة، وامرأة أخرى مقهورة تحاول الانتقام لشرف شقيقتها، وفيلم عن الحقوق القانونية للمرأة، وهناك أيضا الكثير من الأفلام الهامة والمميّزة التي رفّعت من شأن المرأة والدفاع عن أحقيتها في العمل القيادي مثل فيلم “مراتي مدير عام”- 1966 بطولة شادية وإخراج فطين عبدالوهاب.

واختلفت صورة المرأة القوية في السينما وظهرت أفلام رديئة تسيء إليها وتنتقص من كيانها وأهميتها في الحياة، تلك التي اقتصرت على إبراز جسد المرأة المثير في أدوار الإغراء، خاصة خلال فترة أفلام المقاولات وهي كثيرة بالمقارنة مع أفلام جيدة تحافظ على الصورة الجيدة، لتعود الصورة السلبية السطحية في أفلام تناقش مثلا قضية التحرش الجنسي المستجدة على مجتمعنا من خلال فيلم “678”- 2010 إخراج محمد دياب.

ولا يمكن أن نتجاهل ما يعرف بـ”أفلام العشوائيات” بكل ما تحمله نساؤها ذوات النفوس المشوّهة جراء الفقر والاحتياج اللذين يدفعانهن للتنازلات مثل أفلام “حين ميسرة”- 2007 للمخرج خالد يوسف، الذي ناقش من خلاله موضوع أطفال الشوارع نتيجة الحمل سفاحا، والنساء اللائي قررن تقديم التنازلات لكسب جنيهات قليلة لا تستحق المعاناة.

ومنذ ما يقرب من عشر سنوات تم إطلاق تصنيف جديد على نوع من الأفلام السينمائية يعرف باسم “سينما المرأة”، وهو تعبير له تفسيرات متعددة يتفق معها صناع السينما خاصة من المخرجات وإن كن يختلفن في آرائهن التي تتعلق بهوّية سينما المرأة كما أوضحت المخرجة أمل رمسيس، مؤسسة ورئيسة مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة. فهي تقول إن سينما المرأة هي تلك السينما التي تصنع أفلامها المخرجات- النساء، لأن المخرج هو صاحب الرؤية الكاملة للفيلم في النهاية، وليست فقط الأفلام التي تطرح وتناقش قضايا المرأة في مختلف البلدان العربية والأوروبية.

وتدلل أمل على ما تقوله بأمثلة عديدة عن مهرجانات عالمية تقام في عدة دول تحمل الاسم والمبدأ نفسه أي المهرجانات التي تعرض (الأفلام التي تصنعها النساء) مثل مهرجانات المرأة في فرنسا وهي الأقدم بالفعل تليها مهرجانات ألمانية، وهكذا، فيقومون بوصف سينما المرأة بأنها الأفلام التي تصنع من قبل المرأة كفاعل وليست أفلام المخرجين الرجال عن المرأة باعتبارها مفعولا بها، لأن المخرجين الرجال يناقشون قضايا المرأة من وجهة نظرهم التي تختلف كلية عن وجهة نظر النساء.

وتضيف أمل رمسيس أن هناك مخرجين رجال صنعوا أفلاما تتناول هذه القضايا وغيرها أيضا، فلم تقتصر المخرجات على تقديم لون واحد من الأفلام التي تركّز على قضايا المرأة ومشكلاتها في حين أن المخرجين الرجال يستطيعون تقديم قضايا عدة مختلفة عن المرأة وغيرها، وعندما قررت أمل رمسيس تأسيس مهرجان لسينما للمرأة في عام 2008 كان المهرجان مخصصا لسينما المرأة العربية واللاتينية، ثم اتسعت الدائرة وأصبح المهرجان يتلقى أكثر من 50 فيلما من مختلف دول العالم من صنع مخرجات لا يخشين تعنّت أو اضطهاد مجتمعاتهن.

أما المخرجة الشابة روجينا بسالي التي تصنع أفلاما تسجيلية وقصيرة فترى أنه لا يوجد تعريف محدد لسينما المرأة ولكن هناك تصنيف للعمل الفني بأن يكون متكاملا أو غير متكامل، بغض النظر عن جنس صانعه حيث ترفض تماما فكرة التصنيف تلك باعتبارها فكرة عنصرية تعتمد على أن المخرجات بطلات قوميات من حقهن نيل شهادات التكريم لأنهن اخترن التحدي، ولذا يجب قبولهن في الوسط السينمائي بنوع من التقدير المبالغ فيه، في معظم الأحيان، باعتبارهن قد اخترن الخوض في العمل الأصعب. ولكن في حقيقة الأمر ترى روجينا أن هذه المعاملة مرفوضة لعدم تعرض أولئك النساء للتهديد أو الإرغام على العمل، بل إنهن يتمتعن بالقوة بما يكفي لاجتياز الصعوبات التي يتعرضن لها.

وأبدت المخرجة كاملة أبوذكري تأييدها لمسمى “سينما المرأة” باعتبار أن المرأة -كما تصفها- “أقلية مضطهدة” في جميع أنحاء العالم، ومن الطبيعي أن يكون هناك مصطلح مثل “سينما المرأة” تماما مثلما ظهر مسمىّ “السينما الأفريقية” أو “سينما المثليين” باعتبارهم من الأقليات المضطهدة أو المهمّشة يقابلون بنوع من الازدراء إن لم يكن الاضطهاد في بلادهم، فهؤلاء “سود البشرة” والآخرون “شواذ جنسيا”.

وترى كاملة أبوذكري أن إطلاق صفة “سينما المرأة” يعد إنصافا لها ولمشاكلها وقضاياها، ففي أنحاء العالم ينظرون إلى المرأة على أنها ذلك الكائن الضعيف المضطهد، المسلوب الإرادة، التي تضيع حقوقها وتخضع لقوانين المجتمع غير الإنسانية المفروضة عليها، في حين أنها يجب أن تعامل على قدم المساواة مع الرجل. وتضيف كاملة أبوذكري أنها تدعم أفلام المرأة وبالتالي “سينما المرأة” ولكنها لا تميل إلى ما يمكن تسميته بـ”سينما المرأة المتوحشة” أو المنتقمة والدموية، بل تفضل ذلك النوع من المخرجات اللائي يصنعن أفلاما تعكس طبيعتهن الرقيقة، ويفرضن مطالبهن وشخصياتهن من خلال التعامل مع هذه الطبيعة، بعيدا عن محاكاة شخصية الرجل العنيفة للحصول على حقوقهن.

وللمخرجة نادين صليب صانعة الفيلم التسجيلي الطويل “أم غايب” الحاصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان أبوظبي السينمائي، رأي آخر. فهي ترفض التصنيف الذي تصفه بـ”العنصري” وترى أنه يعكس نوعا من الشعور بالذنب الذي يتحكّم في تعامل الأغلبية مع الأقليات، على سبيل “تطييب الخواطر”، أي أن دعم سينما من صنع النساء يندرج تحت المسمّى العنصري أو الطائفي، كتهنئة المسلم للمسيحي في مصر، أو اعتراف الرجل الأبيض بأحقية المواطنة للرجل الأسود.

وترفض صليب ذلك التصنيف العنصري، وتفضل أن يتم تصنيف الأفلام طبقا لجودتها بغض النظر عن كون العمل السينمائي من صنع رجل أو امرأة، كما ترى أن معظم النساء اللائي يقبلن هذه التسمية يحملن رسائل معيّنة يردن توصيلها للعالم الخارجي، كصرخة استنجاد من الاضطهاد الذي يعانين العيش في ظله، فيستخدمن السينما كوسيط لنقل أحوالهن وقضاياهن للعالم.

وتعتقد نادين صليب- لهذا السبب- أنهن لا يصنعن أفلاما من أجل السينما وإثرائها، أو من منطلق عشق السينما والفن، والتعبير عن رؤية ونظرة فنية للعالم، بل يقتصر عملهن على استغلال صنع الأفلام لنقل رسائل من وجهة نظرهن. وتوضح أنه ربما تروق التسمية لنساء العرب على وجه الخصوص، لما تواجهه المرأة العربية من تحكّم وهيمنة من جانب سلطة الأب والزوج والمجتمع، مع سلب لحريتها وتعبيرها عن رأيها بموجب القانون والأعراف. وتفضل نادين صليب إطلاق تسمية مختلفة غير تسمية سينما المرأة لأن المرأة ليست هي فقط التي تطرح قضايا المرأة، بل إن المخرجين الرجال يفعلون ذلك أيضا، وهي تتفق مع المخرجة أمل رمسيس في أنه من الأفضل إطلاق تسمية “السينما التي تصنعها المرأة”.

لا شك أن عمل المرأة في السينما شيء غير مرحّب به من قبل الأسرة والمجتمع بشكل عام، حيث يجد التحاق المرأة بالعمل الفني صعوبة شديدة باعتباره عملا جريئا لا يتناسب مع العادات والتقاليد أو التعاليم الدينية والتيارات الفكرية المتشددة. ولكن الموهوبات والراغبات في إثراء الحراك الفني بإضافة موهبة جديدة يقمن بنوع من التحدي لإثبات ذواتهن في مجتمع رافض، وفي ظل نظرة ذكورية تحاول سلبهن هذا الحق.

عن هذا التحدي والنظرة الذكورية والصعوبات المهنية تقول المخرجة روجينا بسالي إنه لا يوجد حاليا من يهاجم عمل المرأة كمخرجة أو كممثلة أو أيا كان عملها في المجال الفني على الرغم من اعتراض الوالدين في البداية على عمل ابنتهما، ولكنها اكتشفت أثناء عرض فيلمها التسجيلي بعنوان “88” الذي يبرز قضية عمل المرأة في المجال الفني من خلال شهادات مجموعة من النساء الناجحات في مجالهن، بعد أن التقت مع طلبة من الذكور الذين يدرسون في كليات القمة، أن الفيلم قد حفزهم على أن إبداء ندمهم الشديد للانصياع وراء ضغط العائلة التي هدفها أن يتخرج أبناؤها مهندسين وأطباء وليس مخرجين وممثلين، وتتخذ من نفسها مثالا على ذلك، بالإضافة إلى عدة مخرجات متحققات لم يتعرضن للمنع، بل تم قبولهن ودعمهن من قبل نقاد ومخرجين كبار يؤمنون بإمكانيات المرأة في قدرتها على تحقيق أهدافها.

ونفت المخرجة أمل رمسيس فكرة أن المخرجات ينعمن بالراحة وسهولة تسيير أمورهن، بما تشتمل عليه هذه الأمور من مشكلات المرأة العاملة العادية من تنظيم وقتها وترتيب أولوياتها بين أسرتها وأبنائها وبين عملها، فما بالك بعمل قاس وشاق مثل أن تعمل المرأة مخرجة سينمائية، بالإضافة إلى صعوبة أخرى هامة تتمثل في معضلة الإنتاج، فالمنتجون يترددون كثيرا قبل اتخاذ قرار بإسناد العمل إلى مخرجة، لعدم ثقتهم في النساء بشكل عام من الناحية المالية حيث يؤمنون بأن المرأة مسرفة ويمكن أن تتسبب في تجاوز الميزانية، والمشكلة أن تميّز وجودة الأفلام التي أخرجتها مخرجات (نساء) تتخذ دليلا على الإسراف بينما يريد المنتج دائما الاقتصاد في الميزانية.

تشير أمل رمسيس إلى أن المخرجات العربيات والمصريات يواجهن صعوبات أكثر من نظرائهن في أوروبا وأميركا، ولكنها تؤكد على عدم تعرض المخرجات أو العاملات في المجال الفني والسينمائي، إلى أي نوع من الاضطهاد أو النظرة الذكورية المعتادة من رجال العالم العربي، ولا من جهة الجمهور الذي يشيد بجودة ومهنية أعمال سينما المرأة، ويعترفون بمهنيتها، بل ويتعاملون في قاعات العرض برقي شديد معها ومع أفلامها. وهم يحضرون العروض وما يليها من مناقشات حيث يظهرون احتراما استثنائيا لأعمال المرأة. وتطالب أمل رمسيس بعدم إلقاء اللوم على الجمهور وتحميله سبب فشل فيلم ما، لأن الفرق واضح بين الفيلم الجيد والفيلم الرديء، بغض النظر عما إذا كان المخرج رجلا أو امرأة.

ولا تعتقد رمسيس بأن هناك نظرة ذكورية إلى أفلام المخرجات النساء طالما يتجه الرجل من منزله إلى قاعة العرض ليشاهد أحد أعمال المخرجات. وترفض رمسيس إلقاء اللوم على الجمهور تحت شعار أن “الجمهور عايز كده”، فهي ترى أن “المنتج عايز كده” وليس الجمهور الواعي الذي يستطيع التمييز والتفرقة بين الأعمال السينمائية من حيث الجودة والرداءة.

وترى المخرجة كاملة أبوذكري أن سينما المرأة تخلو من الاضطهاد الذكوري، معللة ذلك بالقول إنه ليس شرطا أن من يصنع أفلاما في نطاق سينما المرأة أن تكون بالضرورة امرأة وتشيد كثيرا بأفلام المخرج الراحل محمد خان الذي تعتبره من أكثر المخرجين الذين تناولوا وعبّروا عن مشكلات المرأة وقضاياها في أفلامهم، كما تشير إلى أنه كان أيضا رجلا متحضرا جدا، يقدّر المرأة ويحترمها، وهو دليل على أنه كلما كان الإنسان متحضرا في نظرته وسلوكه ظهر ذلك في تعامله مع المرأة، وينطبق ذلك على كل دول العالم، فإن تحضّر الدولة يقاس بمدى احترام قوانينها للنساء.

على عكس آراء المخرجات اللواتي يؤكدن عدم مواجهة صعوبات، ترى المخرجة نادين صليب أن جميع العاملات في المجال الفني لم يتم استيعابهن وقبولهن إلا بعد مواجهة صعوبات قاسية تتمثل في النظرة الذكورية المتفشية في المجتمع، والتي تنعكس بقوة على طريقة التعامل مع المرأة العاملة في هذا المجال بالسلب. وتروي صليب معاناة شخصية كانت قد مرت بها من خلال عملها كمخرجة مساعدة في عدة أفلام سابقة، تمثلت في تعرضها للمضايقات والنظرات الذكورية، كما تعتقد نادين بأن سلوك هذا النوع من الرجال في المجتمع والمجال الفني يرجع إلى عقلية رجعية تنظر للمرأة نظرة دونية، وإلى أن الكثير من الرجال ينظرون إلى عمل المرأة في مجال الإخراج السينمائي بنوع من الشفقة والرثاء وعدم الثقة في إمكانياتها الفنية، لذلك تعتبر نادين صليب أن العاملات في الساحة الفنية بطلات قويات لكونهن مستمرات في عملهن بل وناجحات رغم كل المصاعب.

وتضيف أن من مظاهر المضايقات التي تتعرض لها المرأة في مجال السينما، الادعاء، أي ادعاء الرجال بإيمانهم بالحرية والتحضر وهم على العكس من ذلك تماما، إنما يستخدمون تلك الادعاءات ليتعرّفوا على نوعية المرأة وهل هي موهوبة بالفعل أم أنها على استعداد للتنازل الأخلاقي من أجل الوصول إلى الشهرة، “فنحن نعيش في مجتمع مزدوج يقول ما لا يفعل ولكن بالنسبة للجمهور فهو مختلف إلى حد ما. فقد فوجئت المخرجة باهتمام الجمهور من الرجال بفيلمها الأخير “أم غايب” الذي قامت ببطولته امرأة ويدور حول مشكلة نسائية تتمثل في تأخير حمل هذه المرأة والأثر النفسي السيء الذي يتركه اللقب الكريه الذي يطلقه المجتمع على النساء اللائي لم ينجبن، وهو لقب “أم غايب”.

وهكذا تعددت الرؤى واختلفت الآراء حول مفهوم “سينما المرأة”، وهل هي تلك الأفلام التي تتناول مشكلات المرأة والقضايا الاجتماعية التي تؤرق حياتها، أم هي تلك السينما التي تصنعها النساء لتقديم وجهات نظرهن في قضايا العالم ومشكلات المرأة المتعددة والمتنوعة طبقا للمنطقة الجغرافية التي يعشن فيها. هذان التعريفان يثيران تساؤلا جديدا: فإذا كان هناك ما يسمى بـ”سينما المرأة” فلماذا لا تكون هناك “سينما الرجل”، ولو حدث ذلك – افتراضا- فسوف يصبح محظورا على المخرج الرجل مناقشة مشكلات المرأة، أو أن ينسب إليها أدوارا شيطانية مسيئة!

     
     
 
 
 
     
 

هدى جعفر

ناقدة من اليمن

مارس 2018

 

 
 
 

نافذة مُشرعة على جدار إسمنتي

 
 

في 1985 نشرت فنانة الرسوم المتحركة آليسون بِكدِل إحدى حلقات سلسلتها “دايكس تو واتش آوت فور” Dykes to Watch out for وتبدو فيها الصديقتان جنجر ومو تتناقشان حول فيلم السهرة فتصرّح مو بأنّها لا تذهب لمشاهدة أي فيلم إلا إذا كان يحقق ثلاثة شروط: أن يحتوي العمل على امرأتين على الأقل، وأن تتحدثان مع بعضهما البعض، وأن يكون الموضوع بعيدا عن الرجال. بعد عدة سنوات أصبحت هذه القصة أساسا لما عُرف بأنّه اختبار بِكدِل أو اختبار بِكدِل ووالاس حسب تفضيل آليسون نفسها، والذي أصبح يُستخدم في الألفينيات لتقييم الأفلام في ما يخُصّ دعم النساء وتعزيز حضورهنّ فيها، تقول آليسون بِكدِل إنّها تدين بالفضل في وضع هذا الاختيار إلى صديقتها ليز والاس وكتابات فيرجينيا وولف. لندع آليسون بِكِدل واختبارها جانبا ونرى سينمانا العربية التي تجاوزت عامها المئة منذ عدة سنوات.

تُجمع العديد من المصادر أنّ عزيزة أمير (17 ديسمبر 1901 – 28 فبراير 1952 ) هي الأم الشرعية للسينما المصرية إذ قامت بإنتاج فيلم (ليلى) وهو أول فيلم روائي طويل في السينما العربية، وهذا الامتياز النسائي الذي تم تجاهله في عدد من الدراسات التي تناولت بدايات السينما العربيّة، قد ينطوي على القليل من التمحيص على عكس ما يبدو، وأقصد هنا السبب الذي جعل بداية السينما تقوم على أيدي النساء إن صح التعبير.

تقول السياسيّة والكاتبة اللبنانيّة منى فيّاض تعليقا على هذا الموضوع في مقالها في مجلة “العربي” لعدد نوفمبر 2005 “يمكن التساؤل هنا عن سبب بروز سيدات في بدايات عصر السينما المصرية، بينما كنّ مرفوضات في المجالات الأخرى.. أليس السبب نظرتنا إلى السينما كعالم هامشي وترفيهي يتميز بالخفّة، وبالتالي لا يمكن أن ينظر إليه بالجدية الكافية كي تتم منافسة النساء فيه وإقصائهن، وخاصة في البدايات حيث المغامرة والمخاطر أكبر بكثير من المكاسب؟”.

بعيدا عن هذا الرأي أو ذاك، لا شك أنّ النساء شاركن بقوة في بدايات السينما العربية كمنتجات ومخرجات ومونتيرات مثل: بهيجة حافظ، فردوس حسن، آسيا داغر، فاطمة رشدي وأمينة محمد، ولكن ظلّت العلاقة بين المرأة العربية والسينما علاقة شائكة وملتبسة وبالغة التأثر بكل ما اعترى المنطقة العربية من ارتفاع أسعار الرغيف وحتى الصراعات المسلّحة.

سينما للنساء

ساهم الكثير من النقّاد والمحللين الاجتماعيين والنفسيين وحتى الهواة في تحليل صورة المرأة في السينما العربيّة، ومحاولة فهمها وتقييمها وإعادة شرحها من زوايا متعددة، وقد أجمعت الكثير من الدراسات والمقالات على أنّ السينما قدّمت صورا مشوهة لنماذج من النساء، منها المرأة المطلقة سيئة السمعة، والزوجة الخائنة، والسكرتيرة اللعوب، والحماة المتحكّمة، وأنّها منحت البطولة دائما للرجال بما تسبغه عليهم من صفات الحكمة والعقل والوطنيّة والشجاعة.

ولكن من وجهة نظري، أعتقد أنّ المشكلة كانت أيضا في السينما التي زعم أصحابها أنّهم يناصرون المرأة، ويشجعون حقوقها، ويُلمعون صورتها التي خدشتها العادات والتقاليد، لأنّها تعاني في الأساس من مشاكل السينما العربية بشكل عام مثل: النصوص والإنتاج وفهم الوظيفة الجوهرية للسينما، بالإضافة إلى مشاكلها الأساسية النابعة من طبيعتها باعتبارها سينما عن المرأة.

تناولت السينما “المُناصرة” قضايا المرأة بطريقة تشبه كثيرا التعامل الحكومي معها، إذ اعتمدت على توليفة جاهزة من الشخصيات والنصوص العائمة التي فقدت معناها من فرط تكرارها، فلم تُقدّم سوى نسخ من بعضها البعض، مبررة هذه المعالجة بأن هذا هو الواقع الذي يجب على السينما أن تعكسه، وجسدت هذه السينما أنماطا معينة للمرأة بصورتها الناصعة والإيجابية من وجهة نظر صُنّاعها، بينما لم تكن سوى إعادة إنتاج لشروط المرأة الصالحة حسب المجتمعات الأبوية التي تقول هذه السينما إنّها تناقضها.

صورة الأم

يُحب السينمائيون دور الأم، فهو يتيح خلق مساحة تمثيلية مضمونة ومرغوبة ورائجة، تتماشى مع المنظور الاجتماعي لأهم دور للمرأة في الحياة في المجتمعات الشرقية، إلى درجة جعلت بعض الممثلات يتخصصن في دور الأم وهو ما يصعب أن نجده في نتاجات سينمائية في دول أخرى تشاركنا ظروفنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هناك- مثلا- الممثلة فردوس محمد بصدرها الكبير، ووجهها الذي ينطق حبا ورعاية. تقول مريم فخرالدين لزاهي وهبي في إحدى حلقات برنامج “خليك بالبيت” الذي كان يُعرض في تلفزيون المستقبل إنّ أمها المجرية لم تكن تمثل لها الصورة التي ترغبها عن الأم، فلم يكن صدرها كبيرا كصدر فردوس محمد!

الأم الصالحة في السينما هي الأمّ المضحية، هي شمعة البيت وأساسه، هي من ترفض تكرار الزواج الثاني بعد الطلاق أو وفاة الزوج.

لم تكن فردوس محمّد هي الوحيدة كنموذج مفضّل للأمهات، فهناك أيضا كريمة مختار وأمينة رزق وآمال زايد بل وحتى شادية التي قدمت في فيلم “لا تسألني من أنا” (1984) دور الأم عائشة التي تبيع ابنتها للسيدة شريفة (مديحة يسري) كي تستطيع بثمنها أن تربي باقي أبنائها، وهي قصة مأساوية تضج بالألم والقسوة والابتزاز العاطفي.

هذا النموذج من الأم “الشقيانة” شجعته الحكومات العربية والسينما على حد السواء، وما عليك سوى أن تراجع شروط الفوز بجائزة الأم المثالية لتعرف أنّه كلما تعددت عذابات الأم كلما استحقت تقديرها وتثمينها.

وفي منهج مواز لما سبق، أسست السينما أيضا لصورة الأم السيئة، الأم التي لا تستحق هذا اللقب الذي لا يحمل لصاحبته سوى الشرف والرفعة، وهي هنا سيدة متأنّقة، شديدة الاهتمام بمظهرها، ثرية أو من أسرة أرستقراطية، وهي بالضرورة مدخنة لأنّها سيئة السمعة، أو موظفة لأنّها مهملة، وقد يتجاوز الأمر أن يكون لها عرق أجنبي، أو يكون لها مظهر أوروبي. في فيلم “عمارة يعقوبيان” (2006) لمروان حامد، كانت والدة الصحافيّ حاتم رشيد (خالد الصاوي) الخائنة المهملة لابنها من زوجها المصري، فرنسية الجنسية، وفي فيلم “كدبة كل يوم” (2016) مثلت شيرين رضا، بمظهرها الأوروبي الواضح، دور الأم المُطلّقة، صاحبة البيزنس، التي تظل فاسدة حتى يأتي الرجل (فاروق الفيشاوي) لإصلاح ما أفسدته.

إذن، فالمرأة والأم شيء واحد لدى صُنّاع السينما، وتعزيز مكانة المرأة يتم عبر التأكيد على أهمية كونها أمّا، وعليه يتم الحكم عليها كامرأة صالحة أو فاسدة، ونموذج الأم الصالحة هو الـ”باترون” الذي خاطوا عليه كل الأدوار التي تدعم صورة المرأة في السينما.

ولذلك لم تتطرق السينما أبدا إلى المرأة التي لا تريد خيار الأمومة إلا من باب الحكم عليها إما كسيدة مريضة أو منحلّة، فقد يغفر صنّاع السينما لعاملة الجنس والمثلية والقاتلة وغيرهنّ من النماذج التي تخرج عن الإطار القيمي للمجتمع، من وجهة نظرهم، ويقدمون لهنّ أطنانا من المبررات، لكن لا يمكن أن يتفهموا معنى أن تُفضل المرأة عدم الإنجاب، فالمرأة قد تكون أما سيئة أو صالحة، لكن لا يمكن ألا تكون أما على الإطلاق.

في فيلم “هي فوضى” (2007) للمخرجين يوسف شاهين وخالد يوسف، الذي سيتم الحديث عنه لاحقا، يقول البطل شريف (يوسف الشريف) لخطيبته سيلفيا (درّة) المعترضة على فكرة الإنجاب وهما في سيارتها المكشوفة وسيجارتها في يدها “الست ما تحسش إنّها ست إلا لمّا تخلف”، يعني لا يؤكد المشهد على تقريع سيلفيا بسبب رغبتها فحسب، بل يأتي التقريع من الرجل الذي يعرف بالضرورة مصلحتها وتفضيلات النساء أكثر منها!

إذن، أهم صورة إيجابية للمرأة هي أن تكون أما، وأما صالحة أيضا، وصلاحها يوزن حسب ما يعتقده المجتمع الأبوي بشيوخه وعلمائه ومدرسيه وفنانيه أيضا.

المرأة القوية

في معالجة تقترب من شخصية الأم، تناولت السينما أيضا المرأة القوية، ولكن ماذا تعني القوة هنا؟ وقوية بالنسبة لمن؟ قوة المال؟ قوة السلطة؟ قوة الشخصية؟ التحكم؟ والتحكم بمن؟ بأسرتها؟ بزوجها؟ هل المرأة القوية هي التي تتحكم بمجموعة من الرجال؟ (معلمة قهوة، أو تاجرة مخدرات مثلا؟).

المرأة القوية في السينما هي امرأة قوية في تنفيذ الواجبات التي أناطها بها مجتمعها، إذا كانت زوجة غاب عنها زوجها، فهي تحافظ على ماله وسمعته وشرفه، وإن كانت ابنة فهي تحرص على أن تكون الابنة التي تستحق رعاية والدها وثقة أهلها، وإن كانت خطيبة أو حبيبة فهي التي تصبر على فراقه وتنتظره مهما فعل في غيبته حتى لو كانت علاقة بامرأة أخرى، إنّها فتاة طيبة وأصيلة و”بنت ناس″.

إنّ المرأة القوية هي بالضرورة امرأة شديدة التحمّل، تحتمل أخطاء الآخرين، تحتمل حياة غير عادلة، تتمسك ببيتها رغم الصعاب ورغم غياب الزوج أو خيانته أو تخلفه عن دوره، المرأة التي تجيد باقتدار أن تلعب دور (حمار الساقية) حتى نهاية الفيلم ونزول أسماء أبطال العمل في آخره، فالقوة هنا هي قوة التحمّل، لا قوة اتخاذ القرارات وتنفيذها، أو قوّة المبادئ كالشجاعة والصراحة والأمانة.

حتى عندما قدمت السينما المرأة الطموحة، كانت بالضرورة امرأة تخوض معارك هائلة مع رجال محيطها لتحقيق ما تريد، معارك قد تكون وهمية ولا داع لها. المرأة القوية في السينما هي امرأة ذات حياة صاخبة، صعبة، حارقة، بعيدة عن السلام والهدوء والحياة الطبيعية، فإن لم تعان المرأة فهي لا تستحق النجاح، وإذا لم تعاد رجال محيطها فهي بالضرورة امرأة عادية بلا أثر.

المرأة الخارقة

المرأة هنا خليط من كل شيء، نموذج إلهي، مثير، ويدير الرؤوس، جميلة، ذكية، وأم حانية، وزوجة ملهمة، وهي أيضا محط أنظار الرجال ولكنّها مخلصة، موظفة قديرة.. إنّها امرأة خارقة، هي نسخة من الرجل بصورته الإيجابية كما صورتها السينما، مضافة إليها خصالها الأنثوية التي لا غنى عنها، بالإضافة إلى جمال الروح، وجمال الروح أحد المصطلحات التي تم ابتذالها للغاية فهو تعبير لا يُذكر إلا عند الحديث عن جمال النساء دون الرجال. كانت المرأة في سينما السبعينات تبدو وكأنّها خارجة لتوها من صالون التجميل، وهي الآن تخرج من صالون الكوافير وبنفس الوقت بعقل خرج لتوه من وكالة ناسا، هل من كمال أكثر من ذلك؟

إنّ التسويق لهذا النموذج الذي يؤكد على فكرة أنّ المرأة أكثر مهارات من الرجل، يُرضي النساء ، فهو مهم، وقد يكون واقعيا، ولكنّه يُحمّل المرأة ما هو فوق طاقتها، ويزيد من مهامها وواجباتها الصعبة أصلا. قد يكون الحصول على نموذج المرأة الخارقة حلما جاذبا للنساء، ولكنّه فخ خطير بقدر جاذبيته وجدّته، وهو أيضا يوجه الاتهام للمرأة التي لا تستطيع أن تحقق هذه المثالية بأنّها امرأة ناقصة وعاجزة، وهي المسؤولة بالضرورة عن مشاكلها التي تحدث مع الرجل/ الزوج/ الأب/ الابن، لأنها لم تحصل على شروط هذه المرأة الخارقة، التي تستطيع المرأة، أي امرأة، الاشتمال عليها لمجرد أنّها امرأة.

عدسة مُكبّرة

تميزت ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته بظهور ممثلات بعينهنّ، يحملن أفلاما كاملة بما عليها من ميزانية وسيناريو وقصة و”رجال”، وأقصد هنا تحديدا الممثلتين نادية الجندي ونبيلة عبيد، مما دفع بالبعض إلى أن يُلقب الأولى بنجمة الجماهير والثانية بنجمة مصر الأولى، ولكن ماذا حملت هاتان النجمتان في أفلامهما؟

قدمت نادية الجندي في معظم أفلامها التي تصدّرت شباك التذاكر، دور المرأة الداهية، شديدة الإغواء، التي تقاتل الرجال في عقر دارهم بلا هوادة، أو المتحكمة بمصائر الرجال من حولها حتى من أفراد عائلتها، وهناك قائمة طويلة من الأفلام التي تعكس هذه الصورة مثل: شهد الملكة (1985)، المدبح (1985)، وكالة البلح (1982)، الخادمة (1982) وصاحب الإدارة بواب العمارة (1985).. وقد شارك نادية الجندي مجموعة من نجوم تلك الفترة: محمود ياسين، أحمد زكي، فاروق الفيشاوي، فريد شوقي، حاتم ذو الفقار، صلاح قابيل، مصطفى فهمي وعادل أدهم، وقد يشاركها أكثر من نجم الفيلم نفسه، مع غياب شبه تام للبطولات النسائية الأخرى. وبمراجعة تلك الأدوار نخلُص إلى أنّ الشخصيات التي قدمتها الجندي لم تكن سوى معادلات أنثوية للشخصيات الرجالية السلبيّة، لم تكن نساء نادية الجندي سوى نموذج للمرأة التي تتقاسم مع الرجل الفساد المالي والإداري، وتتنافس معه على ترويج المخدرات وقوادة الدعارة وكل الممارسات المُحرّمة قانونا وعرفا وشرعا. إنّها امرأة يجرها الفساد إلى عالم الرجال الفاسدين، وتعجز عن الاستمرار فيه بعد أن يقتلها أحد رجالها/ أزواجها في أغلب الأحيان.

وفي المقابل مثّلت نبيلة عبيد دور المرأة الجميلة المحاطة بالذئاب على الدوام، سواء كانت عاملة فقيرة في “شادر السمك” (1986) أو راقصة مغوية بجانب السياسي في “الراقصة والسياسي” (1990)، أو امرأة تحمل جمالها كالصليب على ظهرها حسب توصيف الناقد رفيق الصبّان (17 أغسطس 1931 – 17 أغسطس 2013) لدورها في “حارة برجوان” (1989) التي لم تخرج فيه عن هذا المربّع، المرأة الجميلة الضحية، قليلة الحيلة، ومهما تنوّعت شخصيات نبيلة عبيد في أبعادها الأخرى فهي شخصيات نسائية مستسلمة تماما لطاحون المنظومة الذكورية الاجتماعية التي لا ترحم، في انسيابية قدرية دون مقاومة تُذكر. إنها شخصيات تحمل بذور ضعفها، كنساء، في تكوينها، فلا بد أن تُفنى حضورا أو معنى أو كليهما مع نهاية الفيلم. ورغم الاختلاف الظاهري بين شخصيات الجندي وعبيد إلا أنّ الهزيمة والموت والانزواء هي النهاية الحتمية للشخصيات النسائية اللاتي لعبنها.

**

في التسعينات تدهور الإنتاج السينمائي نظرا لحرب الخليج الثانية وما لحق ذلك من هزال واضح في سوق التلقي، وبالتالي اضطرار بعض المخرجين لتنفيذ بعض الأفلام في أسبوعين فقط لضمان استمرار عجلة الإنتاج. وتميزت التسعينات أيضا ببروز اسم المخرجة إيناس الدغيدي (1953) كمدافعة شرسة عن النساء كما تقول عن نفسها دائما، وقلّما يخلو فيلم من قضية تخص حقوق المرأة كما تقول أيضا، ولكن يبدو أنّ الدغيدي كانت تخلط بشدة بين الأدوار النسائية وبين القضايا النسويّة، فكانت نموذجا جليا للمخرجة التي استهلكت جسد المرأة وقضاياها لتصدّر أعلى المبيعات وعناوين الصحافة.

قدّمت الدغيدي جُملة من أسوأ المعالجات الدرامية التي لا تختلف عن الأعمال التي يُقدّمها أسوأ المخرجين الذكور، ليس فقط على مستوى المحتوى بخصوص تعزيز حقوق النساء بل على المستوى الفنّي كسيناريو وتصوير وإخراج وعلى مستوى الفكرة أيضا. في فيلم “امرأة واحدة لا تكفي” (1990) تستعرض الدغيدي كيف أنّ الرجل لا تكفيه امرأة واحدة، من خلال تعاط دراميّ يبرر أكثر مما يفكك المنظومة الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي تُهيئ للرجل الشرقي هذه الميزة. وفي “كلام الليل” (1998) هناك سيدة تدير شقة للدعارة وتستعين بصديقتها التي تقوم بتصوير الرجال لابتزازهم لاحقا.

وفي “القاتلة” (1991) لدينا سيدة تتعرض للاغتصاب في طفولتها تتحول إلى عاملة جنس تقتل زبائنها وينتهي بها الأمر بملابس الإعدام الحمراء. إنّها أفلام تبدو كأنها مشاهد مصورة لتفاصيل الجرائم المنشورة في صفحات الحوادث أكثر من كونها أفلاما تناقش قضايا النساء وأوضاعهنّ القانونية وروابطهنّ مع من حولهنّ بصورة فنية تعكس ذاتية الدغيدي وموقفها من الحريّة والحقوق.

الملفت للنظر أنّ إيناس الدغيدي صنعت في بداية مسيرتها فيلما بديعا هو “عفوا أيها القانون” (1985) الذي يتناول موضوع التفرقة بين المرأة والرجل في القانون الذي يخص جرائم الشرف، ولكن يبدو أن حسابات الشهرة والرصيد لها رأي آخر بالنسبة للدغيدي.

في مطلع الألفية انتبهنا لأول مرة لاسم المخرج خالد يوسف الذي اقترن اسمه بالمخرج الراحل يوسف شاهين الذي تتلمذ على يديه ويعتبره الأب الروحي في مهنة الإخراج السينمائيّ. خالد يوسف أيضا يُقدم نفسه كمدافع عن المرأة، ويُقر بفضلها وتميّزها وأدوارها الوطنيّة الفذّة، وقد قدّم منذ 2001 وحتى 2011 أي خلال 10 سنوات تقريبا، 12 فيلما منها 6 أفلام جسّدت البطلات فيها عاملات جنس أو نساء يُقدمن خدمات جنسية مقابل المال، بالإضافة إلى أدوار الزوجة الخائنة والمرأة المغتصبة.

خالد يوسف المخرج الشهير والناجح جدا، نجاح التاجر وليس نجاح الفنان، يقيس قضايا النساء ومظلومياتهنّ العائلية والاجتماعية بالميللمتر ويحولها إلى مشاريع سينمائية تحتوي على كل ما يمكن أن يملأ شباك التذاكر بالمال، حتى لو دفعه ذلك لاستدعاء هيفاء وهبي في فيلم “دكان شحاتة” (2009) لتقف على الأرجوحة في أحد الموالد فيطير فستانها ويظهر ملبسها الداخلي السفليّ أمام مجاذيب الأولياء فيتجمدون في أماكنهم.

لقد واجه خالد يوسف الكثير من الاتهامات حول الهدف من أفلامه هذه، ودافع هو عن نفسه وعن أفلامه. أمّا أغرب ما قاله فكان في مايو 2012 حين صرّح في برنامج “ممنوع الاقتراب” على قناة “نايل لايف” بأنّه “يقدم المرأة في أفلامه سلعة بطريقة منفرة، حتى يكرِّه المشاهد في هذا الأمر فيبتعد عنه”، لافتا إلى أنه “لا يقصد إهانة جسدها، أو يتعمد أن تظهر بهذا الشكل”.

إنّه إذن يعتمد المرأة وجسدها كـ”بعبع″، لتخويف المجتمع من الانحلال والفسق ومن التسليع، يُخوّف الجماهير بجسد المرأة من جسد المرأة، إنّه وعي يختزل شرف المجتمع في أجساد نسائه: محجبة كانت أو دون حجاب، وأنّ الأخلاق هي سيدة تتعرى وتقبض الثمن فهي مومس، أو شريفة تُحافظ على الإرث الاجتماعي للشرف بمفهومه الضيق جدا فتستحق الشكر والثناء، وبالتالي لم تكن الأفلام هنا سوى إعادة إنتاج للرؤية الأخلاقية الدينية، السلفية تحديدا، التي يدّعي خالد يوسف بأنّه يحاربها ويقاومها.

صورة المرأة

لا توجد إجابة نموذجية أو ناجزة هنا، بل قد يبدو هذا سؤالا يحوي قدرا كبيرا من الاستسهال والسذاجة، لأنه يصب أساسا في المشكلة الجوهرية وهي كيف يرى الجمهور العربي دور الفنون وعلى رأسها السينما؟

يُمكن القول إنّ المجتمعات تتعلم السينما بنفس القدر الذي تتعلم السينما منها، ولكي نخفف من أشكال العنف ضد النساء وعلى المرأة الضحية علينا التوقف عن الإصرار بأنّها كذلك. قد لا يحتاج الأمر إلى ميزانية ضخمة لتصوير قصة الملكة بلقيس أو سناء محيدلي أو بنت المُستكفي أو نوال السعداوي، ولا داع لاستلهام نماذج من التاريخ الماضي البعيد أو القريب، بل يكفي أن تقدم السينما فيلما مُحكما وممتعا بشخصيات رجالية ونسائية “معقولة”، تتقاسم أدوار الخنوع والشجاعة والضحية والجلاد، ويكفي أن تظهر امرأتان تتحدثان عن أي شيء آخر غير الرجال كما تقترح البطلة الكرتونية مو، وأن تُقدم لنا السينما سيدة تدعم غيرها من النساء، وأخرى تتخذ قرارات شجاعة تخصها أو تخص النساء من حولها، ولتتوقف الأفلام الوعظية الأخلاقوية، لأنّ الوعظ، حسب المفهوم الذكوريّ، يعني امرأة خاطئة تقف مقابل امرأة شريفة، ليتوقف تحميل النساء ما لا يطقن، ولتنتهي الأفلام التي تصورهنّ إما كأمهات مقدسات أو نساء بلا رادع.

مع التأكيد على أنّ تصوّر السينما كأداة لحل القضايا الاجتماعية تصويرا قاصرا يُحمّل السينما ما لا تطيق، ويثقلها ويشوه هذا الفن العظيم. نعم ليس من الضروري أن تعكس السينما صورة الواقع، لكن من المهم للغاية هي ألا تفتري عليه.

وإذا اعتمدنا معايير اختبار الفنانة آليسون بِكِدل آنف الذكر والمكوّن من ثلاث نقاط لفحص الأفلام المُختارة في هذا المقال التي يزعم أصحابها أنّهم يدافعون فيها عن حق المرأة ستكون الإجابة: لم ينجح أحد!

     
     
 
 
 
     
 

محمد اشويكة

ناقد من المغرب

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المخرجات بالمغرب

 
 

اقترانا بتحول الرؤية للمرأة وفقا لنضالات الحركات الفكرية والحقوقية التي نشرت فكر التحرر والمساواة، استطاعت المرأة منذ السبعينات في أوروبا (فرنسا مثلا) أن تلج عالم الفن السابع كمخرجة (Réalisatrice)؛ إذ ما فتئت أعمالها، منذ ذلك الزمن، تحظى بالمتابعة من طرف المهنيين والصحافيين والنقاد والباحثين والجمهور.

فقد أخرجت أفلاما سينمائية وتلفزيونية درامية ووثائقية.. بلغ البعض منها أوج الإبداع والتتويج في كبريات المحافل السينمائية العالمية، إلا أن الأمر لا يصل إلى حدود المساواة الفعلية، فعدد المخرجات في أوروبا وآسيا وهوليوود وبوليوود وكندا لم يصل بعد إلى مطامح مهنيات هذا القطاع الحيوي لأسباب متعددة تتعلق بميزان قوى الإنتاج السينمائي ورهاناته في كل دولة؛ إلا أن الأمر في بعض المجتمعات العربية والعالمثالثية يقمع المرأة إلى حدود منعها من الظهور عارية الوجه لالتقاط صورة تذكارية في مكان عمومي!

-2-

لم تخلف المرأة المغربية موعد الالتحاق بركب النساء المبدعات في مجال الإخراج السينمائي؛ بل تجاوزت كل الإكراهات التي لا تتشابه طبعا مع مثيلاتها الغربيات. فكانت فريدة بورقية أول مخرجة وفريدة بليزيد أول منتجة. ومع تطور حركة السينما بالمغرب أصبحنا نراها تلج مجالات الكتابة السيناريستية والمونتاج والصوت والتصوير. كيف ولجت عالم الإخراج؟ ما هي مرجعياتها؟ هل استطاعت بالفعل أن تنحت لنفسها مسارا متميزا عن “سينما الرجال؟” هل هناك لمسة فنية تخص أفلامها؟ ما هي تيماتها الأثيرة؟ هل نستطيع الحديث عن “فيلم نسائي” مغربي بجرعات ومواصفات خاصة؟ هل تسربت إلى أفلامهن بعض الخطابات “النسوانية” أم أن الأمر يدخل في إطار سوسيوثقافي عام؟ ما مدى اختلاف ملامح أفلام سينما المخرجات عن أفلام المخرجين؟

-3-

بالرغم من المشاكل التي قد يحدثها تصنيف أفلام المخرجات المغربيات، إبستيمولوجيا، تحت يافطة مصطلحات من قبيل “سينما المرأة” و”السينما النسائية”، إلا أن اللجوء إلى توظيف مصطلح “سينما المخرجات” كمفهوم إجرائي قد يمكننا من الابتعاد عن السقوط في مطبات الحمولات القدحية والأيديولوجية لمثل هذه التصنيفات باعتبارها مقولات ذات خلفيات بيولوجية سيما وأن الإبداع لا يحدده الجنس (ذكر أو أنثى)، مع الإقرار بصعوبة أن أفلام المخرجات لا تكاد تخلو من نضال تجاه قضاياهن، ومن روح نسائية متأثرة بما يقع في محيطهن القريب والبعيد (الغرب مثلا)، وخصوصا لدى المغتربات منهن أو اللاتي درسن هناك، وقد يظهر ذلك أثناء تناولهن لبعض القضايا المتعلقة بالمرأة مع اختلاف ذلك من تجربة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر.

تحكم أفلام المخرجات نظرة خاصة تجعل الكاميرا تحت إدارة وتوجيه مخرجة، وذلك من خلال التسربات والرواسب العاطفية والتربوية أثناء تناول المواضيع: مثلا، تتناول فريدة بورقية قضية الطفولة بإحساس خاص يظهر من خلال إدارتها للأطفال بشكل يختلف عن أفلام أخرى. كما أن فريدة بليزيد تقدم بعض قضايا المرأة المغربية في فيلميها “باب السْمَا مفتوح” و”كيد النْسَا” بطريقة فنية مختلفة.. أما زكية الطاهري فترى علاقة الرجل بالمرأة من زاوية خاصة في فيلمها “Number one“. فالمتلقي اليقظ يحس بمرور بعض الأفكار المميزة لأسلوب تفكير كل مخرجة عبر الشخصيات والوظائف ومن خلال الإنارة واللباس والديكور.. وهي أفكار قد تنبع في بعض الأحيان من صميم “مجتمع النساء”، تتحكم فيها رؤية متأثرة بالتحولات الاجتماعية التي يعرفها المغرب أو التي يعرفها مغاربة المهجر.

تتميز كل مخرجة سينمائية مغربية بأسلوبها وبطريقتها الخاصة في توظيف اللغة السينمائية وبفرادة عوالمها رغم قلة فيلموغرافيا المخرجات المغربيات مقارنة مع الرجال؛ إلا أنهن استطعن مراكمة تجارب مهمة انفتحت على أساليب وتيارات وأنواع فيلمية متعددة، مع الإشارة إلى طغيان الدراما الاجتماعية على جل أفلامهن، وهي سمة تميز السينما المغربية كلها.

تظل سينما المخرجات بالمغرب حاملة لخصائص ترتبط ارتباطا عضويا وبنيويا بمخرجاتها، وهذا ما يجعلها تدخل في سياق “سينما المؤلف” نظرا للانزياحات الفنية والجمالية المَيَّالَة إلى تغليب الرؤية الذاتية التي تبدو جلية في منجز كل واحدة. إن هذا التعدد الفني واختلاف المدارس والخلفيات التي يمتحن منها، هو ما يجعل سينما المخرجات في المغرب لا تندمج في إطار تيار أو مدرسة أو اتجاه يميزهن عن سواهن من المخرجين بل لم تستطع إحداهن اختراق الساحة المغربية إلى ما عداها خاصة على المستوى العربي، كما فعلت ذلك إيناس الدغيدي المصرية أو مفيدة التلاتلي التونسية أو يامينة بشير الشويخ الجزائرية. ومن الممكن القول إن أهم سمات هذا التنوع ديناميكيته من حيث استثمار المواضيع وطريقة تناولها، حدة خطاباتها وعمقها، اختلاف زوايا الرؤى وتباين المواقف والخطابات. فكل مخرجة تقترح رؤيتها الإخراجية المتفردة.. إنهن يسهمن في إغناء السينما في المغرب بشكل يجعلها متجددة ومنفلتة من التكرار الموضوعاتي والتشابه الفني مع العلم أن العديد منهن لم يتجاوز بعد حاجز الفيلم الروائي الطويل الأول مع قلة منهن ننتظر أولى أفلامهن الطويلة.

لا تخرج اهتمامات المخرجات المغربيات عن مثيلاتهن في العالم، فهن يتناولن، بطريقة واعية أو لاواعية، الواقع الاجتماعي وقضايا العائلة والإشكالات الجنسانية، وهي تيمات ترتبط ارتباطا شديدا بعوالم المرأة في أعمق امتداداتها دون إغفال خصوصية الموقف من العادات وأدوار المرأة في المجتمع وعواطفها وغرائزها.. فقد يطرح كل فيلم توقعه مخرجة مغربية إشكالات مختلفة على الناقد والباحث تتعلق بتمثل المرأة لذاتها ولواقعها، وما يقترب ببعض الخصائص الجوهرية المُشَكِّلَة لهويتها.

-4-

صنعت أفلام المخرجات المغربيات، المقيمات منهن بالمغرب والمغتربات، الحَدَث في العديد من الملتقيات الوطنية والدولية سواء من حيث الإعجاب بأفلامهن أم بتلقي النقد غير المهادن لهن، فقد تناولت بعض الأفلام قضايا حساسة في الوجدان المغربي كمنحها فرصة الظهور لبعض الفئات النسائية المسكوت عن مشاكلهن (فيلم “العيون الجافة” لنرجس النجار)، والتزامها بقضايا الدفاع عن المرأة المغربية (فيلم “كيد النْسَا” لفريدة بليزيد)، وإثارتها لمشاكل ذات خصوصية نادرة كإرغام بعض المهاجرين لأبنائهم على العودة إلى البلد الأصل والمكوث به نهائيا رغم ازديادهم بالخارج (فيلم “فرنسية” لسعاد البوحاطي).

حاولت أفلام المخرجات بالمغرب أن تلامس، بطريقة ضمنية أو ظاهرة، صورة المرأة عن ذاتها وعن جسدها وتمثلها لقضايا الجنس بنوع من التحرر (فيلم “ماروك” لليلى المراكشي) أو المحافظة (فيلم “الراگد” لياسمين قصاري). أظهرت بعض الأفلام أيضا جوانب من همومها وانشغالاتها العاطفية والأسرية وما يتعلق بذلك من علاقات ترصد نظام الصِّلاَت الاجتماعية والعادات (فيلم “في بيت أبي” لفاطمة جبلي الوزاني)، وارتباطات الرجل بالمرأة (فيلم “طريق لَعْيَالاَتْ” لرحمة بورقية)، وإخفاقاتها ونكساتها (فيلم “انهض يا مغرب” لنرجس النجار)، ومشاكل التثاقف (فيلم “خوانيطا بنت طنجة” لفريدة بليزيد)، وغير ذلك من المواضيع.

سلطت المخرجات المغربيات الضوء على قضايا مهمة تدخل في نطاق الطابو غير ما مرة، كما اهتمت سينماهن بتساؤلات تقع في عمق الراهن المغربي، وقد واجهنها بكل جرأة: فأن تعري الرجل كليا في فيلم، رغم النقاش الذي يمكن أن يدور حول إلزامية ذلك، ليس بالأمر الهين في مجتمع تصدمه صورته الحقيقية حين يراها دون مساحيق على الشاشة، وهذا ما قامت به بجرأة صاخبة كل من نرجس النجار وليلى المراكشي.

-5-

يتضح من خلال جرد تاريخي لفيلموغرافيا المخرجات المغربيات أن الفيلم الروائي القصير قد شكل طفرة مهمة في الآونة الأخيرة ضمن منجزهن العام بالرغم من اختلاط الحوامل والدعامات (Les supports)، وفي ما يلي بعض البيانات عن متنهن الفيلمي:

أ- الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة:

وصل عدد الأفلام المنجزة منذ فيلم “الجمرة” (1982) للمخرجة فريدة بورقية، وصولا لفيلم “دون جنسية” (1918) للمخرجة نرجس النجار حوالي ثلاثين فيلما، منها أربعة أفلام وثائقية وآخر يمزج بين الوثائقي والدرامي (Doc fiction).

ب- الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة:

أصدر المركز السينمائي المغربي كتابين حول الفيلموغرافيا المغربية: الأول بالعربية تحت عنوان “الفيلم المغربي القصير”، والثاني بالفرنسية بعنوان “خمسون سنة من الأفلام المغربية القصيرة (1947-1997)؛ وقد شملا بين تضاعيفهما مجموعة من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة التي أنجزتها مخرجات مغربيات انطلاقا من فيلم “الطريقة العلمية” (1983) للمخرجة الرائدة إيزة جينيني إلا أن المعطيات قد تجاوزته اليوم بكثير؛ إذ تجاوز عدد الأفلام الثمانين تقريبا، كان آخرها أربعة أعمال روائية عرضها المهرجان الوطني للفيلم في دورة السنة الفارطة، وهي “لا” للمخرجة دمنة بونعيلات، و”محمد، الاسم الشخصي” لمليكة الزايري، و”خلف الجدار” لكريمة زبير، و”أمل” لعايدة السنة.

بعد هذا الجرد الذي يبين حجم الطفرة الكمية التي عرفتها سينما المخرجات بالمغرب والتي اعتمدنا في تصنيفها على ما شدناه من أفلام وما أدرجته مهرجانات مشهود لها بالمصداقية ضمن مسابقاتها أو في إطار عروض خاصة (بانوراما)، يصعب بالفعل الاعتماد في التصنيف على الأفلام من مقاس 35 ملم، كما يصعب أيضا التحقق من ذلك في ظل العروض الرقمية التي تقوم بها العديد من الملتقيات والمهرجانات بالمغرب وخارجه.. وبالتالي فما ألمحنا إليه سابقا كان بمثابة الوثائق الملموسة التي يمكن اللجوء إليها في إطار المسارات التي قد يقود إليها البحث في مثل هذا الباب.

-6-

إذا ما استندنا إلى فيلموغرافيا المخرجات المغربيات، في عمومها، نلاحظ أن الكثير منهن لم يتجاوز بعد حاجز الفيلم الطويل رغم بدايتهن المبكرة في مجال الإخراج كمريم بكير، وأخريات ولجن عالم الإخراج من باب المحافظة على مهنتهن كمنتجات في مجال التلفزيون (فاطمة الزهراء بنعدي) ومنهن من يفصل فارق زمني شاسع بين فيلمهن الأول والثاني: أنجزت رحمة بورقية فيلمها الروائي الطويل الأول سنة 1982 في حين أنجزت الثاني سنة 2007 وذلك لانشغالها بمجال الإخراج التلفزيوني كأولوية مهنية. ومنهن من لم تستطع تجاوز عتبة الفيلم الوحيد (فاطمة جبلي الوزاني) وهي سمة غالبة على جلهن. ويتميز بعضهن بالجمع- أسوة بزملائهن الرجال- بين أكثر من مهنة سينمائية كالكتابة السيناريستية والإنتاج والإخراج (فريدة بليزيد).

-7-

ولجت المخرجة السينمائية المغربية بوابة الفن السابع عبر روافد وأسلاك تكوين مختلفة، فالجيل الأول منهن جاء من باب الدراسة الأكاديمية؛ إذ حصلت فريدة بورقية على دبلوم الفن الدرامي وماجستير في الفن (تخصص الإخراج) من موسكو إبان الاتحاد السوفييتي، ونالت فريدة بليزيد دبلومها في الإخراج من معهد ESEC بفرنسا، وتابعت إيزة جنيني دراستها للغات الشرقية بجامعة السربون الفرنسية.

يممت المخرجة والموزعة إيمان المصباحي – من الجيل الثاني- وجهها صوب مصر لتعود بشهادة الميتريز في السينما من المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وأحرزت فاطمة جبلي وزاني دبلومها في الإخراج وكتابة السيناريو من أكاديمية الفيلم والتلفزيون بهولندا، ونالت ياسمين قصاري دبلومها في الإخراج من معهد “ENSAS” ببروكسيل (بلجيكا).

تابعت بعض المخرجات من الجيل الجديد دراستهن بعدة مدارس سينمائية خاصة بالمغرب كأسماء المدير وفاتن جنان محمدي اللتين درستا بمدرسة “ISCA” بالرباط، فيما جاءت ليلى التريكي وبشرى إيجورك من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي “ISADAC” بالرباط حيث حصلت الأولى على دبلوم في السينوغرافيا، واستفادت الثانية من تكوين بالجامعة الصيفية بمدرسة الـ”FEMIS” الفرنسية، ومن تكوين أشرف عليه مارتن سكورسيزي وعباس كيروستامي خلال إحدى دورات مهرجان مراكش الدولي.

يلاحظ على مستوى التكوين أن جل المخرجات السينمائيات المغربيات قد ولجن المهنة من باب التكوين الأكاديمي مع استثناءات قليلة- بخلاف المخرجين الرجال- إذ جئن إلى السينما من باب التكوين الأكاديمي على مستوى التعليم العالي المتخصص في غالبيته. وبعضهن ولجن الإخراج من ضفاف قريبة كالمسرح، فأكملن دراسة السينما أكاديميا كي يعضدن مسارهن المهني كمخرجات (ليلى التريكي وبشرى إيجورك) ومنهن من ولجن المهنة من باب التمثيل (زكية الطاهري وسناء عكرود) ومنهن من ساقتهن الخبرات والتداريب المهنية (رشيدة السعدي) أو الجوائز (سناء ورياشي) إلى مجال الإخراج، وهن قليلات.

-8-

نسجل من خلال ما سبق بعض الملاحظات؛ أهمها:

- يظهر أن أساليب المخرجات المغربيات في الإخراج تختلف من واحدة إلى أخرى كما أن توجهاتهن وزوايا رؤاهن لبعض القضايا تتمايز بين المقيمات منهن في المغرب أو المغتربات، وبين المُكَوَّنَات بالخارج والأخريات اللائي تلقين تكوينا بالمغرب، كما تتباين طريقة مقارباتهن إذا قارنا بين جيل الرائدات منهن والمتأخرات: لا يمكن مثلا أن نقارن أفلام فريدة بورقية وفريدة بليزيد بأفلام نرجس النجار وليلى المراكشي، ولا سيما حين تناولهن لبعض القضايا الخاصة بالمرأة، فقد يظهر البون شاسعا عندما نقارن أفلام الثمانينات بأفلام التسعينات وما تلاها.

- قليلات هن المخرجات (فاطمة جبلي وزاني، ليلى كيلاني…) اللواتي اخترن الفيلم الوثائقي كأسلوب تعبيري، وهذا يمكن إرجاعه إلى جاذبية الفيلم الروائي الطويل ودواليب تمويله المنتشرة والمدعمة، وكذا سبل انتشاره.

- ساهمت عوامل سوسيوثقافية متعددة في عدم امتهان المرأة المغربية للمهن السينمائية بسبب التَّمَثُّل القدحي لها، وعدم انفتاح التعليم المغربي عليها، وصعوبة احترافها، وهكذا يمكن اعتبار المخرجة فريدة بورقية رائدة من حيث تَحَدِّيهَا ودراستها بروسيا في زمن كان الذاهب إلى تلك البلدان مراقبا.

- اختلاف المرتكزات الفنية والحمولات الأيديولوجية والرمزية لدى المخرجات المغربيات، وهذه مسألة لا تتعلق بالتكوين بالخارج أو الاغتراب: نلاحظ مثلا أن أفلام كل من فاطمة جبلي وزاني وياسمين قصاري وزكية الطاهري توظف جسد المرأة بأسلوب يكاد يكون شبيها بفريدة بورقية وفريدة بليزيد.

- تأثر كل مخرجة بنوع التربية الأسرية والمدرسية وانكبابها على قضايا ثقافية تقترب من أسلوب تفكيرها في أسئلة المرأة داخل المجتمع المغربي.

     
     
 
 
 
     
 

محرز القروي

ناقد من تونس

مارس 2018

 

 
 
 

نظرة ذكورية أم سينما نسوية.. السينما التونسية وقضايا المرأة

 
 

من بين كل سينمات البلدان العربية، تكاد تكون السينما التونسية هي الأكثر احتفاءً بقضايا المرأة ووضعها ومعاناتها داخل مجتمع عربي إسلامي منغلق تحكمه أعراف ونواميس بالية توارثها جيل بعد جيل حتى باتت تقريبا لدى الكثيرين جزءا من مقوّمات الهوية الثقافية والحضارية لأي مجتمع عربي.

وهذه فكرة شائعة سادت طوال سنين لدى قسم واسع من النقاد والمتابعين للشأن السينمائي العربي سواء أكانوا عربا أم غربيين. حتى أن البعض صار لا يخفي استغرابه بل وفي بعض الأحيان امتعاضه كلما شاهد فيلما تونسيا يحاول أن ينأى بنفسه – ولو قليلا- بعيدا عن هاته الصورة النمطية شيئا ما للسينما التونسية.

وربما زاد في ترسيخ هذه النظرة ما عُرفت به تونس زمن الرئيس بورقيبة من انحياز لقضايا المرأة وحقوقها عبر إجراءات وإصلاحات رائدة -والحق يقال- في مجال قوانين الأسرة والأحوال الشخصية. وهو موقف سياسي شكل -ولا يزال- في نظر الكثيرين “ثورة” حقيقية على الموروث الديني والاجتماعي قادها باندفاع كبير الزعيم بورقيبة تحت شعار “تحرير المرأة” كجزء من محاولته “لتحديث” المجتمع التونسي.

ولكن يجوز لنا اليوم أن نتساءل عن مدى وجاهة هذا “التصنيف” الفني والتوصيف الفكري وعن مدى تطابقه من وجهة نظر سينمائية مع محتوى الأعمال السينمائية التونسية وتوجّهات مخرجيها وخياراتهم الجمالية. فإلى أي حد يمكن اعتبار السينما التونسية سينما منحازة لقضايا المرأة؟ وهل عكست صورة المرأة في الأفلام التونسية نظرة إيجابية ومُنصفة لمن نعتهم الخطاب الديني “بالقوارير”؟ وهل كانت المخرجات التونسيات أكثر قربا لعالم المرأة من نظرائهم المخرجين الرجال؟ ثم إلى أي مدى يصح اليوم الحديث عن سينما نسائية -حتى لا نقول نسوية- في تونس؟ وفضلا عن كل ذلك هل كانت المقاربة السينمائية لمشاكل المرأة وأوضاعها المعقدة نابعة من خيار فني وفكري أصيل أم كانت مجرّد استجابة وتناغم مع خطاب سياسي وأيديولوجي مهيمن صادر عن السلطة السياسية العليا في البلاد؟

عرفت الساحة السينمائية في تونس بروز تجارب فنية متنوعة ومتعدّدة غير أنها في نهاية المطاف وفي ما عدى بعض الاستثناءات القليلة، تكاد تنضوي في مجملها تحت ما عُرف في فرنسا “بسينما المؤلف”. وهو توجه لا ينكره المخرجون في تونس بل ويعدّه البعض مصدرا للفخر والاعتزاز، بل وحتى للتمايز مع مجمل السينما المصرية التي وصفت بالميلودرامية وبالتجارية ثم بسينما المقاولات. ولعل من أبرز المخرجين وأشهرهم في هذه “المدرسة” – إن صح الحديث عن مدرسة – السينمائي النوري بوزيد. فبوزيد يمكن اعتباره من المخرجين الذين اختاروا دوما التصادم مع الذهنية البالية للمجتمع التونسي. وأفلامه تحاول في الغالب طرق أبواب مُوصدة يتحصّن خلفها العرف والتقاليد والمسكوت عنه وكل ما يمكن تصنيفه في خانة “التابو”.

فكان فيلمه الأول سنة 1986 “ريح السد” عن البيدوفيلي أي التحرّش أو اغتصاب الأطفال، حيث يجد الشاب الهاشمي نفسه، بمناسبة التحضير لحفل زواجه، وجها لوجه مع ذكريات مريرة من طفولته البائسة التي وضعته في طريق “الأسطى عامر” النجار المهووس الجنسي بالأطفال فيقوم بالاعتداء عليه وعلى زميله الطفل “فرفط”.

لا يكتفي المخرج بعرض هذه القصة/ المأساة بل يتجاوزها ليرسم لنا لوحة فنية تعكس الحالة العامة لمجتمع مليء بالعقد والمركّبات النفسية. ويفرد للمرأة في هذه اللوحة مكانة رئيسية. فالمجتمع النسائي حاضر بقوة في جميع مفاصل القصة. في فناء الدار من حيث ينطلق الفيلم مصوّرا لنا الاستعدادات لإقامة العرس المرتقب للهاشمي. وهي تحضيرات تتم في عالم نسوي مغلق ينتفي فيه أي دور للرجل ولكن ليس جرّاء هيمنة أنثوية ما وإنما بسبب تقسيم للمهام والوظائف فرضته العادات والتقاليد. فصل أصيل متأصّل بين عالم الذكور وعالم الإناث. هنّ في البيت خلف الجدران وهم في ضوء الشمس الساطع يملؤون الفضاء العام.

هكذا يستدرجنا النوري بوزيد من فيلم يدور حول قضايا الذكورة والفحولة في مجتمع يعتبر الطفل المغتصب مشروعا لإنسان مثليّ الميولات إلى أغوار عالم الإناث وأسراره. لنجد البطل وسط بيت يعجّ بالنساء يحدثنه بلا حرج عن زواجه المرتقب ولا يخجلن من التلميح إلى ليلة الدخلة وما تفرضه لدى الرجل من تصميم وعزم. وتبرز من بينهن شخصيتان محوريتان في حياة الهاشمي هما والدته وأخته. حدب وحنان يتناقضان مع طبيعة وسلوك الأب الذي يخصّه بمعاملة فظّة وغليظة لا تراعي خصوصية سنّه وقد صار كهلا يوشك على الزواج وتكوين أسرة خاصة به كعلامة على بلوغه مرحلة النضج.

ثم نجد النساء وعالمهنّ ثانية من خلال بيت العجوز “شجرة” حيث يذهب الهاشمي وأصحابه لتوديع أيام العزوبية بين أحضان الغانيات. “شجرة” هي أيضا وجه من وجوه الحضور النسائي المرغوب والممنوع في آن واحد. الكل في المدينة يعرفها والجميع تقريبا قد زارها يوما ما. ولكن التقاليد والأعراف تقتضي أن ينكر الجميع وجود هذه المرأة وأمثالها. فكيف لمجتمع يدّعي النقاوة والصفاء أن يقرّ بنفاقه الاجتماعي ويعترف بازدواجية قيمه وانفصام شخصيته. غير أن كل ذلك لم يمنع أن تكون زيارة منزل “شجرة” سببا في استعادة الهاشمي لثقته بنفسه. ثقة فقدها منذ أن امتدت إليه يدي عامر صاحب ورشة النجارة ليدنّس براءة طفولته الغضّة. ويكاد الهاشمي أن يقع في حب فتاة الليل أمينة لولا أن العجوز “شجرة” نبّهته إلى واجب احترام المنظومة الاجتماعية التي لا تسمح لابن العائلة أن يحبّ بائعة الهوى.

هكذا بدا لنا “ريح السد” فيلما يدور في فلك النساء يسلّط الضوء على وجودهن الصامت في عالم تطغى عليه سطوة الذكر وهيمنة العقلية الذكورية الشرقية. فهل استطاع بوزيد مع ذلك أن يقدّم لنا المرأة من زاوية نظر مختلفة عن النظرة الذكورية؟

صحيح أنّ الفيلم يقدّم نماذج نسائية مسحوقة تبدو كضحايا تَسَيُّدِ الرجل لمناحي الحياة سواء على الصعيد الأسري الضيق أو على الصعيد العام لحياة المجتمع. غير أنّ هذه النماذج النسائية ظلت أسيرة وجهة نظر ذكورية لم يسعفها تعاطفها الصادق مع القضايا النسوية لكي تتخلّص من الموروث العربي الإسلامي المنغلق. فالأمّ امرأة بسيطة تؤمن بالشعوذة والسحر وتلجأ إليهما علّها تجد دواء لولدها الهاشمي وتصرّفاته “الغريبة” وينتهي بها الأمر إلى حالة من الانهيار تشارف فيها على الجنون وربما الانتحار.

أما الأخت فهي فتاة حالمة ورومانسية تعجز هي الأخرى عن سبر أغوار شخصية شقيقها ولا تملك القدرة للدفاع عنه في مواجهة عنف السلطة الأبوية. بقيت “شجرة” المومس العجوز التي تعيش على أطلال شباب ولّى وذوي وتحاول برغم كل شيء المحافظة على المظاهر. كذلك الأمر بخصوص المومسات اللاتي جلبتهن للاحتفاء بالهاشمي وأصحابه. فهن يظهرن كمتنفس للذة الذكر ومحفّز يساعده على اختبار فحولته قبل أن يمر بامتحان الزواج.

ما من شك في أن المخرج يحمل نظرة متعاطفة ومنحازة لكل هذه النماذج النسائية ولكنها تبقى نظرة واقعة تحت أسر قراءة ذكورية فشلت في أن تستبطن طريقة تفكير الأنثى وموقفها الحقيقي إزاء وضعها ووضع الشخصيات المحيطة بها. وقد أعاد النوري بوزيد الكرّة في جلّ أفلامه تقريبا وخصوصا في فيلم “بنت فاميليا” (1997) الذي قدّم فيه نماذج نسائية مختلفة تتمحور حول شخصية “أمينة” الزوجة الأرستقراطية الجميلة التي يعاشرها زوجها غصبا في فراش الزوجية وسط محيط اجتماعي يمنعها حتى من أن تسمّي ذلك “اغتصابا”. ورغم جرأة الموضوع وقوته فقد بقيت المقاربة تعاني من نفس الإشكالات. حيث تتحدّد كل شخصية أنثوية في الفيلم بطبيعة العلاقة التي تربطها بالرجل وكأنه في نهاية المطاف المقياس والعامل المحدّد والوحيد لفهم سيكولوجية المرأة.

وليس بوزيد وحده من قدّم صورة المرأة التونسية بهذا الشكل. فقد رأيناها قبله في أفلام عبداللطيف بن عمار: “رسائل من سجنان” (1974) الذي يروي صفحة من صفحات المقاومة الوطنية للاستعمار و”عزيزة” (1980) الذي يقدّم قصة فتاة تونسية بسيطة تصارع من أجل العيش بكرامة وسط مجتمع تهزّه التحوّلات الاقتصادية المتسارعة. وعلى الرغم من اختلاف الأسلوب بين المخرجين فإننا نلمس عند بن عمار نفس النزعة التي رأيناها في أفلام النوري بوزيد والتي تصوّر المرأة ككائن مثالي خال من النقائص تكون في غالب الأحيان ضحية لشخصيات رجالية تكاد لا تملك جانبا إيجابيا واحدا. وتقول المخرجة التونسية ناجية بن مبروك عن ذلك “لقد كانت دوما نظرة ذكورية تدّعي بأنها تكشف عالمنا الأنثوي الداخلي”.

في المقابل كانت هناك تجارب لمخرجات تونسيات قدّمن أيضا في أفلامهن موضوع المرأة. ولعل من أبرزهن المخرجة مفيدة التلاتلي من خلال فيلمها الروائي الأول “صمت القصور” (1994) الذي يعرض لقصة علياء فتاة نشأت في قصور البايات (ملوك تونس قبل إعلان الجمهورية) أمها من خدم القصر في حين أن والدها هو الأمير علي. ولكنها تكبر دون نسب لاستحالة نسبتها إلى والدها الحقيقي. في هذا الفيلم نجحت مفيدة التلاتلي بكثير من الرقة والحس الفني المرهف في أن تنقلنا إلى العالم الحميمي للمجتمع النسائي. فصمت القصور ليس فقط قصة الطفلة المرفوضة علياء (الممثلة هند صبري) وإنما مجموعة من النماذج النسائية التي يجمعها مطبخ القصر وظروف العيش الشديدة. كلّ تحمل بصمت همومها كأنثى وتعاني تهميشا مضاعفا: الأول متأت من الفقر والثاني بسبب جنسها.

تتجنّب التلاتلي هنا الكليشيهات المعتادة. فمأساة علياء تتجلّى من خلال النظرات التي تتبادلها أمها الخادمة “خديجة” مع الخادمات الأخريات في قبو القصر أو مع علياء نفسها حين تلحّ عليها بالسؤال: “شكونو بابا؟” (من هو أبي؟) ولكن أيضا حين تلتقي عيناها خلسة بعيني سيدي علي (الأمير) الذي يبدو هو أيضا تحت وطأة النواميس الاجتماعية والأسرية التي تفرض عليه الامتناع عن ملاطفة ابنته لأنه أنجبها من خادمة.

هي مأساة مركّبة ناجمة عن تعقيدات المنظومة الاجتماعية وقوانينها الصارمة وليست المرأة فيها هي الضحية الوحيدة. تدرك البنت المراهقة أنها ليست يتيمة وأن والدها هو هذا الرجل الذي ترتعد له فرائص والدتها كلما ظهر في أرجاء المطبخ. ثمة حبّ ما جمع بين والديها فهي لم تأت كثمرة لعملية اغتصاب أو استغلال السيد لخادمته. غير أن هذا الحبّ يبقى حبّا محرّما وارتباطا ممنوعا ترفضه القواعد والتقاليد والأعراف.

وعلى خطى مفيدة التلاتلي حاولت المخرجة رجاء عماري أيضا أن تغوص في أعماق سيكولوجيا المرأة. فقدّمت في فيلمها “الستار الأحمر” قصة مماثلة لفتاة شابة فقدت والدها وتعيش بمفردها مع والدتها. غير أنّ الصراع هنا مختلف. فالأم “ليليا” تحاول حماية ابنتها “سلمى” صونا لشرف العائلة ومستقبل البنت. فنقودها الأقدار إلى كاباريه حيث تقرّر أن تصبح راقصة. انقلاب مفاجئ وجذري في شخصية ليليا. غير أنه ليس سوى ردة فعل طبيعية من أرملة شابة كبلها المجتمع بقيود متنوعة: الدين والتقاليد والشرف وغيرها من القيود. إنه شدة الكبت الذي يولّد الانفجار.

والانفجار وقع عندما اصطدمت ليليا بواقع الكاباريه وعالمه الليلي الماجن. سحرها هذا العالم وجعلها تُعيد اكتشاف ذاتها من جديد. ولكن ولُوجها عالم الراقصات لم يجعلها تتخلّص من رواسب تربيتها المحافظة فواصلت التعامل مع ابنتها وفق القيم والقواعد ذاتها. تناقض حادّ في الشخصية يعكس انفصام المجتمع نفسه. وهذا ما جعل ليليا تعيش حياتها في الخفاء والخديعة للمجتمع ولكن لابنتها أيضا.

كوثر بن هنية هي أيضا إحدى المخرجات اللاتي توفّقن في إدراك هذا المستوى من المعالجة لقضية المرأة ووضعيتها داخل المجتمع. فيلمها “زينب تكره الثلج” (2015) رغم طابعه التسجيلي رصد بشكل متفرّد وجها من وجوه واقع المرأة التونسية من خلال قصة فتاة صغيرة (زينب) تفقد والدها في سن التاسعة وتقرّر والدتها الزواج من جديد مما سيُجبر الأمّ وابنتها على الانتقال للعيش في كندا. تغييرات كثيرة تحدث للطفلة زينب: اختفاء والدها، تعويضه بزوج أمّ ثم تغيير حتى البلد الذي تعيش فيه.

ولسنوات متتالية رصدت المخرجة أطوار الحياة الجديدة لزينب وأمها. حملتنا الكاميرا بسلاسة إلى قلب عالمهما الحميمي فتقاسمنا معهما أفراحهما وشكوكهما وأوهامهما وأحزانهما. رأينا كيف عانت زينب من إرثها الثقافي الذي حملته معها إلى كندا. مقاربة دينية متشدّدة تستسهل تكفير الآخرين لمجرّد أنهم مختلفون.

وآراء ومواقف لا مكان لها في بلد يقدّس الحريات الفردية. غير أنّ بن هنية تراجعت عن الكثير من هاته القدرة العجيبة على التحكّم في أدواتها الفنية حين قامت بتقديم فيلمها الروائي الطويل “على كف عفريت” (2017). فالفيلم استعاد كل المفردات الفنية للسينما التونسية المعروفة. وبالتحديد في ما يخص زاوية النظر إلى المرأة. إذ في هذا الفيلم المأخوذ عن قصة واقعية تعود شخصية المرأة لتصبح من جديد كائنا ثانويا يحوم حول شخصيات رجالية أكثر عمقا وصدقية.

ولكن هل نستطيع اليوم أن نتحدث عن سينما نسائية أو نسوية في تونس؟

ما من شك أن تونس راكمت تجارب مختلفة ومهمّة في مجال الإخراج السينمائي للمرأة. فمنذ فيلم “فاطمة 75″ لسلمى بكار توالت التجارب النسائية في السينما التونسية. فظهرت ناجية بن مبروك صاحبة فيلم “سامة” (الأثر) في سنة 1984 ثم كلثوم برناز بفيلميها “كسوة، الخيط الضائع″ و”شطر محبة”، بالإضافة إلى مجموعة من الأصوات الجديدة سواء في الروائي او التسجيلي. إلا أننا نعتقد أنه من المجازفة بمكان أن نعتبر أن أفلام المخرجات هي بالضرورة أفلام نسوية أو نسائية. كل هذه الأفلام لم تخلق سينما نسوية وإنما هناك تجارب سينمائية لنساء.

     
     
 
 
 
     
 

ياقوت الديب

ناقد من مصر

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المرأة العربية.. التاريخ، المصطلح، القضية

 
 

في عام 2010، نظمت “رئاسة منظمة المرأة العربية”، يوم 27 أكتوبر، على هامش الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان قرطاج السينمائي، ندوة حول “المرأة والسينما العربية/ الصورة والأدوار”، بمشاركة عدد من السينمائيين العرب، علق المخرج التونسي فريد بوغدير بقوله “إن المرأة حاضرة في السينما التونسية والعربية، بجميع أنواع الصور، قوية وضعيفة وعاشقة ومنتقمة وطموحة

واختيار المرأة كموضوع في الأفلام، هو أداة لمعالجة قضايا المجتمع″. وقالت المخرجة المصرية فيولا شفيق “إن الخطاب السينمائي في هذا المجال متأثر بمفهوم الحداثة، التي مثلت إطارا فكريا واسعا لطرح قضايا المرأة في الأفلام العربية”، أما المخرجة اللبنانية ديما الجندي، فهي تعتبر “أنه لا وجود لسينما المرأة، بل هناك سينما وفن وحرية للتعبير والتأليف، تشمل المرأة والرجل على حدّ السواء”، وعلقت المخرجة المغربية ياسمين قصارى بقولها “إن التفاعل بين الرجل والمرأة والمجتمع، إفراز للحياة الاجتماعية، لذلك فإن المهم في العمل السينمائي ليس الرجل أو المرأة، وإنما كيفية تصوير القضايا الاجتماعية وعرضها على الجمهور”.

بالطبع لم تنته مناقشة إشكالية، وجود ما يسمى بـ”سينما المرأة” من عدمه، إذ يظل هذا المصطلح ضحية بين مطرقة الرفض وسندان القبول، فهناك من يؤيّد المصطلح محاولا ترسيخه وفرضه على أرض الواقع، ومن يرى نسفه من الأساس على اعتبار السينما فنا -كسائر أنواع الفنون- تتجلى فيه حرية الإبداع للرجل أو للمرأة على حدّ سواء، بعيدا عن التقسيم النظري في المنتج الفيلمي، شكلا وموضوعا.

وقد يعود رأي معارضي مصطلح “سينما المرأة”، إلى الطبيعة التي صبغت صناعة الأفلام، التي احتكرها الرجل، وبنسبة كبيرة، مقارنة بدور المرأة في هذه الصناعة، على المستوى العالمي لا العربي فحسب، ففي جميع سينمات العالم، يفوز الرجل بالنصيب الأكبر في عملية صناعة الأفلام، الأمر الذي يبدو فيه الفن السينمائي “فنا ذكوريا”. وبغض النظر عن رأي الفريقين (المؤيد والرافض)، ففي الحالتين هناك تماس قويّ بين كون المرأة محور الفيلم السينمائي، كموضوع وقضية، وبين كونها صانعة العمل ذاته كمخرجة، ولا أدلّ على ذلك من وجود بعض المهرجانات الخاصة بأفلام المرأة، والتي أصبحت حقيقة ماثلة للعين. فمن هذه المهرجانات، ما يقام على مفهوم سينما المرأة المخرجة، وأخرى تقوم على الأفلام المعنية بقضايا المرأة ومشاكلها؛ بغض النظر عن جنس صنّاعها.

وبناء على ما تقدم، يرى كاتب هذه الدراسة، ضرورة فك الاشتباك، بأن يقترح التعريف التالي “سينما المرأة، هي السينما التي تُعنى بقضايا المرأة ومشاكلها، من الناحية الموضوعية (قصة الفيلم)، أو تلك التي تصنعها امرأة (كمخرجة) من الناحيتين، الموضوعية والفنية”. وعلى هذا الأساس وجدت مهرجانات تضع “سينما المرأة” عنوانا لها، سواء تعني به “الأفلام التي تصنعها المرأة، المخرجة”، أو “الأفلام التي تتناول قضايا المرأة”.

دور المرأة في صناعة السينما

المتأمل في تاريخ السينما المصرية، يدرك دون مبالغة دور المرأة في صناعة هذه السينما، حيث قدمت المرأة إسهامات بارزة في هذا الشأن، منذ عشرينات القرن العشرين، ولا أدلّ على ذلك من رصد جهود الرائدات: عزيزة أمير، آسيا داغر، بهيجة حافظ، فاطمة رشدي، وماري كوينى في هذا المجال.

يذكر عبد المنعم سعد في كتابه “موجز تاريخ اليينما المصرية” أنه يمكن اعتبار عام 1927 هو التاريخ الفعلي لنشأة السينما المصرية، بالمعنى المتعارف عليه، ويؤكد دور المرأة في إنشاء شركات إنتاج سينمائية، حيث كانت في مقدمة هؤلاء عزيزة أمير التي أنشأت “ستوديو هليوبوليس″ عام 1927، بداية من إنتاجها لفيلم “ليلي”، الذي يعدّ أول فيلم مصري روائي طويل. وبالإضافة إلى أفلام أخرى، جاءت بهيجة حافظ (ممثلة ومخرجة وكاتبة ومونتيرة ومؤلفة موسيقية)، لتشيّد شركة “فنار فيلم” وتنتج فيلم “زهرة السوق” (1947)، الذي كتبت قصته، ووضعت ألحان أغنياته والموسيقى التصويرية. وقامت الشركة كذلك بإنتاج أفلام “ليلى بنت الصحراء”، “الضحايا”. أما في مجال الإخراج، فقدمت أفلام “ليلى البدوية”، “الضحايا”، و”ليلى بنت الصحراء” (عرض في مهرجان برلين وحقق جائزة ذهبية). وفي مجال التأليف والكتابة للسينما، قدمت بهيجة حافظ أفلام: “زهرة” (تأليف كامل )، “ليلى البدوية” (سيناريو وحوار)، وفيلم “ليلى بنت الصحراء” (سيناريو وحوار). أما الفنانة فاطمة رشدي (سارة برنار الشرق)، فكانت بدايتها مع فيلم “الزواج” (إنتاجا وإخراجا)، وجاء فيلمها الثاني “بنت النيل” (بطولة وإنتاجا). ومن أبرز رائدات صناعة السينما في مصر، تأتي المنتجة والممثلة آسيا داغر، حيث كونت شركة “لوتس فيلم”، التي قدمت فيلم “غادة الصحراء”، وأتبعته بأفلام “وخز الضمير”، “عندما تحب المرأة”، “عيون ساحرة”، “شجرة الدر”، وغيرها من الأفلام. ولعل أبرز الأفلام التي قامت بإنتاجه آسيا داغر “ردّ قلبي”، “الناصر صلاح الدين”، “السمان والخريف”، “يوميات نائب في الأرياف”.

وظهرت ماري كويني، لتؤسس “ستوديو جلال”، مع زوجها المخرج أحمد جلال، وكان من أبرز الأفلام التي قامت بإنتاجها “أمير الأحلام”، “ظلموني الناس″، “ابن النيل”، “نساء بلا رجال”، “المليونير الفقير”. كما قامت بإنتاج مجموعة من الأفلام لابنها المخرج نادر جلال، ومنها “غدا يعود الحب”، أما آخر فيلم أنتجته كويني هو “أرزاق يا دنيا”.

وفي العقود الأخيرة، ظهر العديد من النساء، في مجال صناعة السينما، وجدير بالذكر أن نشير (في مجال الإنتاج) إلى ماجدة الصباحي التي قدمت عددا من الأفلام الروائية الطويلة، ومنها “أين عمري”، “جميلة”، “هجرة الرسول”، “زوجة لخمسة رجال”، “عظماء الإسلام”، “النداهة”، “العمر لحظة”، وفيلم “من أحب؟”، وهو الفيلم الوحيد الذي قامت بإخراجه الفنانة ماجدة. الفنانة مديحة يسري، قدمت كمنتجة عددا من الأفلام (الاجتماعية والفكاهية والاستعراضية والغنائية) ومنها “إني راحلة”، “قلب يحترق”، “اعترافات زوج”، “صغيرة على الحب”، “السيرك”، “دلال المصرية” (مشرفة على الإنتاج) للمخرج حسن الإمام. الفنانة مريم فخرالدين، قدمت كمنتجة أفلام “شباب اليوم”، “أنا وقلبي”، “رحلة غرامية”، “رنة الخلخال”. الفنانة إلهام شاهين، قدمت للسينما كمنتجة، فيلمين: “هز وسط البلد” و”يوم للستات”. الفنانة نجلاء فتحي، قامت بإنتاج فيلم واحد هو “سوبر ماركت”. الفنانة بوسي، شاركت زوجها الفنان الراحل نور الشريف، في تكوين شركة إنتاج سينمائي باسم N.B. Film، حيث قدمت “حبيبي دائما”، “ضربة شمس″، “قطة على نار”، “دائرة الانتقام”، “مدينة الصمت”، وفيلم “الخوف”. الفنانة إسعاد يونس، قامت بإنتاج العديد من الأفلام، منها “رسائل البحر”، “زهايمر”، “عصافير النيل”، “سهر الليالي”، “بنتين من مصر”. وفي مجال التأليف، قامت إسعاد يونس بكتابة أفلام “ليلة القبض على بكيزة وزغلول”، “المجنونة”، وفيلم “تك تك بوم”. الفنانة ليلى علوي، قامت بإنتاج أحد أهم أفلام السينما المصرية في تسعينات القرن الماضي، فيلم “يا مهلبية يا”. الفنانة يسرا، لها تجربة إنتاجية واحدة، حيث أنتجت فيلم “ضحك ولعب وجد وحب”.

ومن الملاحظ أن الكثيرات من نجمات السينما المصرية، لم تخضن تجربة الإنتاج السينمائي، على الرغم من قدراتهن المادية ومكانتهن الفنية، ولعل أشهرهن: فاتن حمامة، سعاد حسني، نادية لطفي، هند رستم، صفية العمري، هدى سلطان، زبيدة ثروت، شمس البارودي، آثار الحكيم، مديحة كامل، سهير رمزي، غادة عبدالرازق، سمية الخشاب، وغيرهن.

وفي مجال الإخراج ظهرت العديد من المخرجات، في العصر الحديث، نذكر منهن: إنعام محمد علي (من أفلامها: الطريق إلى إيلات، حكايات الغريب، صائد الأحلام، يوميات امرأة عصرية، آسفة أرفض الطلاق)، نادية حمزة (من أفلامها: النساء، نساء خلف القضبان، حقد امرأة، امرأة للأسف، المرأة والقانون)،. ناديا سالم (قدمت فيلما روائيا طويلا واحدا كمخرجة ومؤلفة، وهو “صاحب الإدارة بواب العمارة”)، أما إيناس الدغيدي، فقدمت كمخرجة حوالي 17 فيلما روائيا طويلا، (من أبرزها: عفوا أيها القانون، زمن الممنوع، التحدي، قضية سميحة بدران، امرأة واحدة لا تكفي، امرأة آيلة للسقوط، لحم رخيص، مذكرات مراهقة، الباحثات عن الحرية). المخرجة أسماء البكري، قدمت للسينما المصرية ثلاثة أفلام روائية طويلة (تأليفا وإخراجا) هي: شحاذون ونبلاء، كونشرتو درب سعادة، وفيلم العنف والسخرية. المخرجة كاملة أبوذكرى، قدمت أفلامها الروائية الطويلة: سنة أولى نصب، ملك وكتابة، عن العشق والهوى، واحد صفر، وفيلم يوم للستات. المخرجة ساندرا نشأت، من أفلامها الطويلة، نذكر: مبروك وبلبل، ليه خلتني أحبك، ملاكي إسكندرية، الرهينة، مسجون ترنزيت، رجل لكل النساء، المصلحة. المخرجة هالة خليل، قامت بتقديم أفلام: أحلى الأوقات (مؤلفة ومخرجة)، قص ولصق (مخرجة ومؤلفة)، الراهب، وفيلم نوارة (مخرجة ومؤلفة)، وبهذا تعتبر هالة خليل ضمن المخرجات اللاتي تنطبق على أفلامهن “سينما المؤلف”. المخرجة ماجي مرجان، قدمت فيلمها الروائي الطويل “عشم” (تأليفا وإخراجا). المخرجة نادين خان، قدمت حتى الآن فيلما روائيا طويلا واحدا، هو “هرج ومرج” (قصة وإخراجا).

وعن دور المرأة في مجال السينما التسجيلية والروائية القصيرة، هناك العديد من المخرجات المصريات، ممن ساهمن إلى حد كبير في إثراء هذه السينما، منذ ستينات القرن الماضي، نذكر منهن: سعدية غنيم، ماجدة زكي، فريدة عرمان، سميحة الغنيمي، فريال كامل، عطيات الأبنودي، نبيهة لطفي، منى مجاهد. ومن مخرجات الأجيال المتعاقبة بعد جيل الرائدات، نذكر: عزة الحسيني، نادية الأبحر، نيفين شلبي، روجينا بسالي، أسماء إبراهيم، دينا عبدالسلام، مشاعل يوسف، سالي أبوباشا، سارة نوفل، أمل رمسيس، ماريان رمسيس، عائدة الكاشف، جميلة السيد، ميسون المصري، وغيرهن.

ومن خلال تحليل إحصائي (للباحث)، حول مشاركة المرأة كمخرجة في السينما الروائية الطويلة، وجدنا أنه خلال الفترة منذ عام 1960 وحتى نهاية عام 1970، تم إنتاج حوالي 505 أفلام، قام مخرجون رجال بتحقيقها جميعا، أما نصيب المخرجات فكان صفرا. لكن كانت للمرأة في مجال الفيلم الوثائقي والروائي القصير، مشاركة معقولة إلى حد ما، منذ بدايات ستينات القرن الماضي.

في مجال التأليف، ظهرت العديد من الكاتبات (أديبات وسينمائيات)، نذكر منهن الكاتبات والأديبات: لطيفة الزيات (الباب المفتوح)، حُسن شاه (أريد حلا، امرأة مطلقة، الإرهاب، الغرقانة)، إقبال بركة (البنات والمجهول، بحر الأوهام)، سكينة فؤاد (ليلة القبض على فاطمة)، وغيرهن. ومن مؤلفات للسينما: هالة خليل (أحلى الأوقات، قص ولصق، الراهب، نوارة)، وسام سليمان (فتاة المصنع)، مريم ناعوم (واحد صفر)، أسماء البكري (شحاذون ونبلاء)، ناديا سالم (صاحب الإدارة بواب العمارة)، سعاد يونس (ليلة القبض على بكيزة وزغلول، المجنونة، تك تك بوم)، ماجي مرجان (عشم)، نادين خان (هرج ومرج)، وغيرهن.في مجال المونتاج، ظهرت المونتيرات: تماضر نجيب، رحمة منتصر، رشيدة عبدالسلام، سلوى بكير، عزة حليم، منى الصبان، وغيرهن.

وفيما يلي نستعرض -في عجالة- مشاركات المرأة في بعض البلاد العربية، ففي المغرب، نذكر مخرجات أفلام: “كيد النسا” إخراج فريدة بليزيد، “الدار البيضا يا الدار البيضا” لفريدة بليزيد أيضا، “جنة الفقراء” إخراج إيمان المصباحي، إلى جانب مخرجات أخريات، نذكر منهن: نهاد البوهاتي، ليلى مراكشي، نرجس النجار. في سوريا، كانت بداية مشاركة المرأة في مجال الإخراج للمخرجة أمل حنا في فيلم “المرأة”، ثم قدمت واحة الراهب فيلمها الطويل “رؤى حالمة” (تأليفا وإخراجا)، ثم قدمت فيلمها “هوى”. ومن المخرجات السوريات أيضا نذكر: ديانا الجيرودي، هالة العبدالله يعقوب، وئام بدرخان، سولاف فواخرجي (رسائل الكرز). في العراق، مقارنة مع تجارب محدودة للغاية من قبل: أنجا الإرهايم (فيلمها القصير”العودة إلى بغداد”)، المخرجة ميسون الباجه جي، والمخرجة “أنيسة مهدي” (من أفلامها: داخل مكة المكرمة، المسلمين، المواجهة). وجاءت المخرجة خيرية المنصور للسينما العراقية، حيث ذاعت شهرتها منذ تحقيقها لفيلمها “ستة على ستة” (تأليفا وإخراجا). وأتبعته بفيلم “مئة على مئة”، إضافة إلى عدد كبير من الأفلام التسجيلية. في لبنان، حيث تحفل السينما اللبنانية بالعديد من مخرجات السينما، ولعل أبرزهن: نادين لبكي التي قدمت كمخرجة ومؤلفة أفلام: سكر بنات، هللا لوين؟، ريو أنا أحبك. جوسلين صعب التي أخرجت للسينما أفلاما منها: غزل البنات، حياة معلقة، وسيدة سايجون. والمخرجات رندة الشهال، ليلى كنعان، ميرنا خياط، وغيرهن.

تجارب عربية 

* السعودية:

جاءت التجربة الأبرز في هذا البلد، عندما قدمت المخرجة السعودية هيفاء المنصور فيلمها الروائي الطويل الأول “وجدة” عام 2012، والجدير بالذكر أن هيفاء المنصور هي كاتبة سيناريو الفيلم، إلى جانب إخراجها له.

* الإمارات:

من المخرجات نذكر: نايلة الخاجة، ولعل أشهرهن المخرجة نجوم الغانم (من أفلامها الوثائقية الطويلة: المريد، أمل، حمامة، وفي مجال الفيلم الروائي القصير قدمت فيلمي: الحديقة، ومابين ضفتين.

* الأردن:

من المخرجات الأردنيات نذكر ديما عمرو، التي قدمت الفيلم الروائي الطويل “7 ساعات فرق”.

وقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن هناك اهتماما نسائيا بالأفلام التسجيلية بشكل خاص، مثل: الأردنية ميس دروزة (حبيبي بيستناني عند البحر)، والفلسطينية جنان كولتر (البحث عن ساريس)، واللبنانية ديالا قشمر (أرق)، واللبنانية سارة فرنسيس (زعران حي اللجا، وفيلم طيور)، واللبنانية زينة دكاش (يوميات شهرزاد). وهناك أفلام شهدت وقوف المرأة خلف الكاميرا ومنها: “صوت المدينة” لدليلة النادر (المغرب)، “لوبيا حمرا” لناريمان ماري بن عامر (الجزائر)، “الميدان” لجيهان نجيم (مصر)، “اللي يحب ربنا يرفع إيده لفوق” لسلمى الطرزي (مصر)، واليمنية سارة إسحاق (أب يمني وأم أسكتلاندية)، وفيلمها “بيت التوت”.

* تونس:

شهد عقد 1976-1985، أول تجربة إنتاج لفيلمين روائيين من إنجاز مخرجتين، إلا أن السلطات أعاقت إصدار أفلام كل منهما: سلمى بكار (أول مخرجة سينمائية في تونس)، التي قدمت فيلمها التسجيلي الطويل “فاطمة 75″، ونجلا بن مبروك وفيلمها “The Trace”، ثم عادت سلمى بكار بعد 17 عاما بفيلم “رقصة النار”. وعقب ذلك ظهرت مفيدة التلاتلي بفيلم “صمت القصور”، ثم “موسم الرجال”، كذلك المخرجة كلثوم بورناز، وأفلامها القصيرة مثل “تونس بنظرة النورس″، نادية الفاني “مناصفة حبي”. وإلى جانب هؤلاء جاءت: ناديا فارس، رجاء عماري، سلوى بكار، فاتن حفناوي، شيراز البوزيدي، نادية الرايس، آمنة النجار، مريم ريفيل، نور عبيشو، وغيرهن.

* الجزائر:

كان أول ظهور للمرأة في سينما الجزائر للمخرجة آسيا جبار وفيلمها الوثائقي الطويل (مخرجة وكاتبة) “نوبة نساء جبل شنوة” (1977)، ثم فيلمها “زردة.. أغاني النسيان”. وظهرت الكاتبة والروائية حفصة زين القوديل التي قدمت فيلم “المرأة الشيطان”، وقدمت المخرجة يمينة بن غيغي فيلمها “إنشالله الأحد”، على حين قدمت يمينة شويخ فيلمها “رشيدة” (كتبت له السيناريو)، ورشح لجائزة الأوسكار لعام 2002. عام 2011 قدمت فاطمة زموم فيلمها الروائي الطويل “قديش اتحبني”. وإلى جانب هؤلاء ظهرت في السينما الجزائرية العديد من الكاتبات، منهن: صفية قطو، أحلام مستاغنمي، فاطمة غالير، ومالكة المقدم. والمخرجات: جميلة الصحراوي، يمينة بن غيغي، رشيدة كريم، يمينة بشير الشويخ، نادية لعبيدي، ماليكه طنفيش، وفجرية دليبة، وأخريات.

* فلسطين:

كانت البدايات الأولى للسينما الفلسطينية في عام 1968 حين كلفت سلافة سليم، بتشكيل قسم التصوير(الذي أصبح اسمه فيما بعد أفلام فلسطين)، ومن السينمائيات اللائي كان لهن دور بارز، في إقامة السينما الفلسطينية، نذكر: جنتن ألبينا، هند جوهرية، آسيا زنتون، جنين توفيق، خديجة أبوعلي، وغيرهن.

ومن أعمال المخرجات الفلسطينيات في البدايات نذكر أفلام: “الجذور لن تموت” للمخرجة لبيبة لطفي. ويبرز اسم هيام عباس، كواحدة من أشهر السينمائيات الفلسطينيات في العصر الحديث، فهي ممثلة وكاتبة ومخرجة ومصورة، قامت بإخراج الفيلم الروائي الطويل “ميراث” (Inheritance)، كما أنتجت فيلم “الخبز″. ويضاف إلى ما سبق ذكره من أسماء المخرجات: ليانا بدر “زيتونات”. نجوى النجار “جوهر السلوان”، وفيلم “ولد اسمه محمد”. سهى عراف “صباح الخير يا قدس″، و”فيلا توما”. ماري جاسر “كأننا عشرون مستحيلا”. بثينة كنعان “نساء في صراع″. ناهد عواد “5 دقائق عن بيتي”. ساهرة درباس “لم يكن في جعبتي حينها سوى 138 جنيها فلسطينيا”، إلى جانب العديد من المخرجات. وفي مجال الفيلم الروائي الطويل قدمت المخرجات: ماري جاسر فيلمها “ملح هذا البحر”، ساهرة درباس فيلمها “عروس القدس″. واللافت للنظر أن السينما الفلسطينية تعد من أغنى السينمات العربية في عدد المخرجات، سواء من قمن بإخراج الأفلام القصيرة أو الوثائقية الطويلة.

السينما وقضايا المرأة العربية

عندما تتناول السينما قضايا المرأة، فليس شرطا أن تكون من إخراج رجل أو امرأة، على الرغم من اعتبار المخرجات هن الأكثر إحساسا وشعورا وتعاطفا وحماسا لإخراج مثل هذه النوعية من الأفلام. ولا شك أن مشاكل المرأة وقضاياها في مجتمعاتنا العربية، يمكن أن تواجهها المرأة والرجل على حدّ سواء. ونظرا إلى العلاقة الجدلية بينهما، ودراية كل منهما بالآخر، في داخله وسلوكياته، فمن هنا لا نستطيع التفرقة، بين كيفية تصدي المخرجات والمخرجين، لإنجاز عمل سينمائي ما (روائي طويل أو قصير أو تسجيلي)، أو طريقة السرد السينمائي لدى كل منهما. هناك أفلام صنعتها مخرجات مثل: آسفة أرفض الطلاق (إنعام محمد علي)، يوم للستات (كاملة أبوذكري، نوارة (هالة خليل)، صمت القصور، موسم الرجال (مفيدة التلاتلي)، توبة نساء جبل شنوة (آسيا جبار)، قديش اتحبني (فاطمة زموم)، وجدة (هيفاء المنصور)، عروس القدس (ساهرة دربس)، كيد النسا (فريدة باليزيد)، رؤى حالمة (واحة الراهب)، وفيلم سكر بنات (نادين لبكي)، وغيرها من الأفلام.

وفي الجانب المقابل، هناك أفلام صنعها مخرجون (رجال) تتناول قضايا نسائية، مثل: أريد حلا (سعيد مرزوق)، الحرام (هنري بركات)، شباب امرأة (صلاح أبوسيف)، أحلام هند وكاميليا (محمد خان)، لا تسألني من أنا (أشرف فهمي)، الليلة الموعودة (يحيى العلمي)، 678 (محمد دياب)، ثوب الشمس (محمد سالمين المري)، النداهة (حسين كمال)، مأساة بنت شرقية (محمد شاهين)، عرس عراقي (محمد شكري جميل)، توت توت (عاطف سالم)، الطوق والأسورة (خيري بشارة)، أسماء (عمرو سلامة)، النخيل الجريح (عبد اللطيف بن عمار)، بيجاسوس (محمد مفتكر)، وغيرها.

مهرجانات سينما المرأة

* مهرجان القاهرة الدولي لأفلام المرأةتقتصر الأفلام المشاركة فيه، على تلك التي تلعب فيها المرأة دور المخرجة، بغض النظر عن موضوع الفيلم، فلا يشترط أن يكون قاصرا على تناول قضايا المرأة تحديدا، ومن أمثلة الأفلام التي شاركت في دوراته: لي قبور في هذه الأرض إخراج رين متري (لبنان)، رحلة في الرحيل إخراج هند شوفاني (فلسطين)، سكون إخراج لواء بارجي (سوريا).

* مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأةلا يشترط أن تكون الأفلام المشاركة في فعالياته من صنع مخرجات، الشرط فيه أن يتناول الفيلم قضايا المرأة، بغض النظر عن جنس مخرجه؛ رجلا كان أو امرأة، ومن أفلامه نذكر: In Wonderland إخراج جيهان بحر (المغرب)، Crack إخراج معتز سلوم (لبنان)، Kingdom of Ants إخراج عدنان عتمان (العراق)، Wedding of Thorns إخراج ميرفت كمون (تونس).

* مهرجان بغداد السينمائي الدولي، المسابقة الرسمية للمخرجات العربياتوتأتي ضمن فعالياته الرسمية، مسابقة أفلام المخرجات العربيات، ومن بين الأفلام المشاركة في هذه المسابقة: هذه ليلتي إخراج آلاء شاكر (الإمارات)، ذاكرة الضمير إخراج زينب محروس (العراق)، ألف رحمة ونور إخراج دينا عبدالسلام (مصر)، دبلة الخطوبة إخراج تغريد الفرة (فلسطين)، جمعة مباركة إخراج أسماء المدير (المغرب).

* مهرجان أفلام بعيون النساءيعقد هذا المهرجان بمدينة غزة في فلسطين، وتقتصر الأفلام المشاركة فيه، على أفلام المخرجات الفلسطينيات، ومن بين أفلامه: لجوء آخر إخراج عبلة مبروك، سحجة وترويدة إخراج عايدة الرواغ، سياج إخراج اعتماد وشح، الفنجان إخراج نهيل السلطان، بقعة حمراء إخراج ريما أبوصحة.

* مهرجان سلا الدولي لسينما المرأة

* مهرجان سينما المرأة العربية (مالمو – السويد).

* مهرجان دورتموند كولونيا الدولي لسينما المرأة.

يبقى أن نشير إلى أن ما يعرف بـ”سينما المرأة” سيظل في طور الجدل والنقاش، بين المعنيين بشؤون السينما، ومنظريها، إلى أن يستقر المصطلح، كما هو الحال مع سائر المصطلحات، وقضاياها، وعلينا أن ننتظر، ما هو قادم من مناقشات وتحليلات ووجهات نظر، تأتي من هنا أو من هناك.

     
     
 
 
 
     
 

عماد ارنست

مخرج سينمائي من مصر

مارس 2018

 

 
 
 

رسائل إلى الكاميرا الأنثى.. نظرات في الثيمة

 
 

عزيزتي الأنثى، تحية خالصة؛ لم يحفزني لكتابة هذه الرسائل سوى جملة تتردد معي كبوصلة دائمة “ليس في وسعك انتظار الحب أو الشغف في كامل طاقتهما أو نقائهما من إنسان مقموع″. أولا؛ أنا لا أعلم هل ستكون تلك أولى رسائلي السينمائية لكِ من ضمن رسائل نوعية ومتخصصة متتالية، أم ستقف عند هذا الحد؟ فالقاعدة الأكيدة المتفق عليها هي أن لا شيء مضمونا في هذا العالم الذي نحياه في تجاور. وثانيا، لا رغبة لهذه الرسالة، أو الرسائل التالية، سوى الرؤية والإنصات الصادقين لخطابك البصري/ السمعي “الخالص” في شأن يخصك، أو شأن ما أثارك في العالم. وهي لا تهتم بكون المُرسَل لها ماكسيماليستية (الراغبات عبر تبديل السرد نحو سعادات قصوى في العالم)، أو راديكالية (الساعيات نحو تغييرات جذرية ومنهجية للعالم)، أو إصلاحية (تلك المتمنيات لتهذيبات أكثر ليبرالية لسردية النظام)، أو حتى الترفيهية التجارية (تلك المسليات الحاضنات والمرضعات لسرده المكرور). ولا يثيرها، في أي شكل كان، النوع المهتم بها، هل هن من حاصدات الجوائز أم لا، عالمية كانت تلك الجوائز أو إقليمية أو محلية.

في تلخيص؛ هي رسالة أرجو أن تجد مكانها منذ بدايتها، وإلى نهايتها، في ذاكرة عينك وأذنك وعقلك لأنها تخرج في إخلاص من ذات الأماكن المتجاورة في آن واحد داخلي. وفي الأخير؛ قد تكون رسالة مثيرة للانتباه لي أيضا، أنا المتوطن على الجانب الآخر من عملات القاموس اللغوي في خطابات الحياة، في زمن ندر فيه الانتباه لأمر مثير يخص “الموطن”.

بداية؛ في ظني لم يخرج للوجود أمر ما يسترعي الانتباه محدثا إزاحة وخلخلة بسيطة وإيجابية للسائد، إلا من معين التجريب المرح والحر والجاد مع العالم. وبما أن الفن في المبتدأ والأخير هو فن الحكاية، وأنه، وفي التأكيد، لكل منا حكاية يراها في لحظة ما جديرة بالحكي، لذا دعيني أسر لكِ حكاية من طفولتي، أظنها مرحة، ولعلها تثير انتباهِكِ نحو مسار رسالتنا السينمائية الأولى.

كنت في طفولتي مرسال غرام بين الابن الأكبر لمنجد الحارة والابنة الصغرى لبائع الألبان. نعم؛ كنت، ولا أزال، كاتم سر عظيم. فقط لأنها تشعرني بأني جدير بنيل شرف السر. وبأني، ومن خلاله، سأصبح جزءا من عالم خاص أقدره ويقدرني. وتوافقت تلك الصفة مع محبتي للأشياء النائية عن العين والتي بها قدر، ولو ضئيل، من الإثارة. المهم عزيزتي؛ فلنعد إلى ذلك الطفل الذي يتأمل كثيرا في الأمور التافهة المهيبة.

حملت الرسالة الأولى في حماس مشهود وقمت بأداء مهمة ليلة غراميات المسافة في نجاح ووفق كل تنبيه. فحلق ابن المنجد وابنة بائع الألبان في ملكوت السعادة والاطمئنان. لكني لم أكن كذلك؛ فقد لفت انتباهي أن الفتاة الفارهة استلقفت مني الرسالة خلف الباب الموارب والعتيق والضخم وخبأتها سريعا فور سماعنا لخوار جاموسة في عمق الزريبة. لست بطفل جاحد؛ نعم حصلت على ابتسامة وقبلة عرفان سريعة ولكنها بُتِرت بغلق للباب جراء خوار جاموسة. للحظة وقفت في ظلام زقاق دامس لا يضيئه إلا فعل التخبئة وموقعه. ملعون أنا في ربكتي؛ لقد دست الشيء المهم سريعا فوق الثدي الأيسر ثم هيئته ليعود مندسا بضغطة لوضعه الطبيعي. ألا تخشى أن ينز حليب ثديها على رسالته مع تهيئتها لوضعه وضغطتها فتضيع الكلمات؟ لماذا هذا المكان تحديدا؟

سرت نحو منزل ابن المنجد لأطمئنه بإنجاز المهمة مرددا “لعل ثديها الأيسر معطوب ولا ينز لسبب أو لآخر”. كتمت دهشتي وأسئلتي وأجوبتي الحائرة بنفس قدر كتمان السر في انتظار المهمة الثانية بفارغ الصبر لعلها أخطأت الموقع وتدس رسالته الهامة التالية في مكان حميمي آخر لا يحدث عطبا في الرسالة. فتأكد الأمر ذاته فزادت الأسئلة ومعها علت الدهشة. مر صيف إجازة كامل في رحلتي ما بين القلبين إلى أن أتى الصيف التالي ولمحت أمي تُكرِر الفعل فانطلق من داخلي دون روية كل سؤال. ومع ضحكات أمي والأجوبة قطعا بُحت بسر ابن المنجد وبائعة الألبان، فلن أبقى حائرا مع ذلك الأمر الجلل. بعدها قاطعني سيد ومنال، فقد كانت أمي تلقاهما ذهابا وإيابا بنظرة “لقد عرفت سر صيفكما الماضي” أو فلنقلها سينمائيا.

لم أغفر لأمي وضعها في موقع فاضح السر إلا حين نشبت مشاجرة ضخمة وعنيفة في الصيف الثالث بين قبيلتي المنجد وبائع الألبان، منتهية بهزيمة ساحقة ومدهشة أيضا لطائفة المنجدين قاطبة. وإنها بذلك كانت تحميني، وتحمينا، من التورط في شأن عائلي معقد لا يخصنا. ومنذ ذلك الصيف تغزلت “شبكة من صلات تجاور” بين انتباهي لهذا الفعل المتكرر من الفتاة وأمي وجارتنا ونساء أخريات وبين أجسادهن وعلاقتها بأمورهن الهامة والسرية. وآخر انتباهتي في ذات الشأن كانت نحو صاحبة السعادة مالكة منزلي في الجمالية، حيث دست ثمن إيجار الشهر الفائت في ذات الموقع. لكني، وللحق، تعجبت؛ فقد دست فوقه أيضا هاتفها الكبير.

بعيدا عن البعد الاقتصادي للموقع أو عاطفيته يسيري التبرير إلا أن الشعور بـ عدم الأمان خارج نطاق الجسد هو في ظني “الغالب” على تحفيز هذا الإختيار. حيث لا شيء آمنا خارج الجسد الأنثوي؛ فكل عالمها إما مُنتَهَك وإما مقموع ومشكل بحيث يكون قابلا للإختراق في أي لحظة، تاركا لها السبيل الواعي “الأيسر” من ثنائية التفكير. أي تماهي الضحية مع الجلاد. في تحويل زمني متدرج من ثقافة الخنوع والدفاع نحو ثقافة يصبح الجسد والوعي به فيهما أداتا سيطرة وهجوم مضاد. وفي هذا الطريق تتشكل الشبكة المعقدة داخل خطاب عدم الأمان السينمائي للمرأة، بكل انحرافاته المتوسلة أو الدفاعية، في شكل أقل في خطابات سينما المرأة العالمية، وفي شكل أكثر ضراوة في خطابات سينما المرأة العربية، مبتعدة هجوميته عن النقاء والتمايز داخله، محتربا وأحيانا منتقما على أرضية شبكة مفردات وتراكيب جمل وفقرات لم يترك لها الفضاء الكافي ولا الزمن المناسب لكي تتبنى، ولو للحظة، شعورا أو مدرَكا واحدا تنطق بهما على لسانها.

وقطعا ما قلل من انحرافات تعقيدات التوسل والدفاع في خطاب سينما المرأة العالمي لا يمكن نسبه في قدر كبير وبأي حال من الأحوال للإسهامات النقدية للرجل بل إسهامات المرأة ذاتها في عملية النقد للخطاب البصري والاجتماعي السياسي الذكوري. وسأشير إلى مثالين من أشهر تلك الإسهامات الرائدة مثل الكاتبة الأميركية والمخرجة والمُعلِمة والناشطة السياسية سوزان سونتاج Susan Sontag (16 يناير 1933 – 28 ديسمبر 2004) بإسهاماتها الرئيسة في مجالات الفوتوغرافيا، وتشريحها للتفسيرات الذكورية، وتسليطها الضوء على تناحر أنواع الإرادات الراديكالية لدى الجنسين، وحرصها الذهني الدقيق في أساليب الحياة، ووضع المجاز المرضي تحت مجهر الأنثى، وكيفية النظر إلى مرض الآخرين، ثم تشريحها لفوران مفهوم الحب وشبكة تعقيدات العواطف المصاحبة له، وكذلك نقدها الجذري للمجتمع الأميركي. ومن جانب آخر من المحيط وفي القارة الأوروبية أتت المُنظِرة البريطانية العظيمة أطال الله في عمرها لورا ميلفي Laura Mulvey (15 اغسطس 1941) والتي ألقت في 1975 بحجرها العظيم في بحيرة نقد السرد السينمائي من خلال مقالها الشهير المنشور في صحيفة الشاشة البريطانية المتخصصة في دراسات الفيلم والتلفاز والمعنون بـ”السعادة البصرية وسينما السرد” Visual Pleasure and Narrative Cinema، والذي ضمنته لاحقا في كتاب مقالاتها المرجعي “البصري والسعادات الأخرى” Visual and Other Pleasures. هذا الكتاب الذي أحدث طفرة نوعية في نظرية الفيلم عبر تقاطع علم النفس الفرويدي واللاكاني مع النظرية. بحيث افتتحت به دخول علم النفس كمدخل هام وعفي في النظرية السينمائية أكثر من سابقيها من النقاد الرجال مثل جان لوي بودري وكريستيان ميتز، مستخدمة مفاهيم كل من فرويد ولاكان كأسلحة سياسية مشهرة في وجه خطابات السينما الأميركية الكلاسيكية مبتكرة أيضا لمصطلحات رائجة الآن في النقد السينمائي النسوي مثل “تحديقة الذكر” وتحويل المرأة إلى “موضوع للرغبة”، مميزة في دقة علاقة موضع الكاميرا بنظرة الرجل للمرأة داخل خطاب الفيلم الأميركي الكلاسيكي عبر اقتراحها بالتمييز داخل “تحديقة الذكر” ذاتها بين “النظرة التلصصية” نحوها كتمثيل لأنثى يتم النظر إليها و”النظرة الصنمية” نحوها كبديل عن الحرمان أو كما يتم تحليله في علم النفس كخوف كامن من الإخصاء.

وأنا شخصيا، وكمخرج، أدين بفضل عظيم، قطعا مع أخريات مثل إيريس باري وبولين كايل، في مراجعتي لتوجهي البصري نحو المرأة بإضاءاتها على سقطات حسية وذهنية في خطابي، ودفعي إلى مراجعات أكثر حذقا لتاريخ الخطاب السينمائي عامة وتاريخ الرواد وخطاباتهم خاصة.

ومع فقداننا، لأسباب عِدة، في مجال السينما العربية عامة وسينما المرأة بشكل خاص لهذا النوع التشريحي المشحوذ والمتوقد والدقيق للسطوة الذكورية في خطابات سينمانا أصبح من السهل سقوط خطاب المرأة العربية السينمائي في التوسلات والدفاعات. ولنشر إلى أشهر جملة متداولة في السنوات الماضية وهي جملة “عايزه ورد يا ابراهيم” في فيلم “أحلى الأوقات” 2004 للمخرجة المصرية هالة خليل وربط النسب القديم لها والشهير أيضا في فيلم نيازي مصطفى 1966 “صغيرة على الحب” في جملة “أنا عايزة من دا يا حزومبل” كمؤشر على نوع خطاب المرأة السينمائي في مصر كمثال للتوسلات والدفاعات والانصياع الكامن في خطاب الأنثى لخطاب الذكر، وكذلك الانصياع داخل الخطاب الأنثوي المستقل عبر التمجيد والاحتفاء بالاستثناء الذكوري، فآخر أفلام المخرجة الفلسطينية الواعدة آن ماري جاسر “واجب” 2017 يحمل ذات الانصياع.

في ظني ليس أمرا سويا التمسح ككائنات أليفة تسعى للدفء من وجود آخر هو ذاته مصدر القلق. ولا أمرا مستقيما أيضا، أن يتم ترك خطاب مشاعرك ووعيك ليتحدث عنه رجل كما فعل المخرج التونسي فريد بوغدير في “حلفاوين”!

عزيزتي: لعلكِ الآن قد فهمتِ، أو أحسستِ، برغبتي، كإنسان أولا، وكمخرج يعمل في ذات الوسيط ثانيا، أني لا أريد أن أسمع أصداء خطابات نوعنا تُحجِم من إمكانياتك، بل أريد أن أراكِ وأسمعكِ تتحدثين بلسانكِ وعنكِ وبمفردات خطابكِ. أريد أن أسمع حكاياتك الاستثنائية منزوعة من سطوة مسارات اختيارات الوجود الذكوري. وفي ظني لن يحدث ذلك إلا عبر مقاربة مختلفة منكِ للمكون الرئيس في عملية ابداع الخطاب السينمائي وهو الثيمة!

دعينا الآن ننتقل من طرقات الذاكرة الخاصة وذاكرة الوسيط مباشرة نحو ما يصفه الرجل، في خبث، بـ”مملكتك”، بالرغم من هيمنة أعلام الذكور عليه بواسطة الميديا؛ وهو “المطبخ”. دعينا نتحرك نحو “مطبخنا السينمائي المفتوح على الإنصات المتبادل”، متخففين وغير عابئين بحلول لعنات تناحرات الماتشو والفيمنيست، وما بينهما، من صناع أفلام أو نقاد مهيبين من الجنسين، الأموات منهم قبل الأحياء.

ففي ظني أن الثيمة، وليست الفكرة الرئيسية- فكثيرا ما يلتبس الأمر بينهما، هي المكون الأول الذي علينا الحديث بشأنه في الرسالة الأولى. وقد تكون حكاية طفولتي، أو ما شابه من حكايات تخصك، مفيدة في اقتناصها من أجل صنع إزاحة إدراكية حسية بسيطة وإيجابية لها ولمطبخنا لنبتعد، ولو ميليميترات، عن مطبخ الـDefacto السينمائي. ذلك المطبخ العالمي المفروض كواقع “بقوة ما” على خطابينا السينمائيين، مدركين ما يخلقه في خطابينا من انحرافات غير حرة وغير إنسانية وغير فنية. انحرافات متجلية بصور شتى في خطابات السينما العالمية، فما بالك بالسينما العربية منها، محررين من معصمينا قيدي أحكام القيمة وأفعل التفضيل، ومن كاحلينا قيدي التفكير الثنائي ونرجسية النوع، لنتحرك نحو وضع الأمور في ما نراه نصابا مناسبا، مستعينين في تفكيرنا بالتذكير دائما بأنه وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن إلا أن خطابات السينما مقارنة بخطابات الفنون الأخرى ما زالت وليدة، وأن كلا من “الماتشو” الغني ماديا و”الماتشو” المهيمن سياسيا وفلسفيا تحكما في أغلب مجريات إنتاج وترويج خطاباتها، وذلك بالتوازي مع ظهور الرواد المكافحين وتعاقب الأساتذة المطورين الذين تلقفوها في المهد ثم في الطفولة ليعلموها، تارة من الفلسفة، وتارة من محددات طبيعتها، وتارة من ذاكرة الفنون الستة الأخرى، أوليات قاموس إلقائها. ولكن، وللأسف، فقد كان ذلك يتم تحت راية الحكايات الكبرى الحداثية، والتي تهاوت أمام مجاعات وأوبئة وكوارث وحروب عالمية كافية لأن يقف الإنسان، أيا كان نوعه، حين يدرك قوة وبطش وسيطه معلنا “ثمة أمر غير مناسب في تعاطينا مع العالم من أعلى وعلينا إمساك أول مكون”.

عزيزتي: فلنعد سويا إلى حكايتي الأولى كطفل والتي سردتها في البداية، وتحديدا إلى لحظة دس الفتاة للرسالة في موقع صدرها الآمن، ولنبدل ذلك الطفل بكِ والفتاة بابن المنجد. ها أنت تتحركين في حماس مشهود ووفق كل التنبيهات وكامل الحرص لتسلميه الرسالة أيضا في خلسة. لكن وإذا كان هذا العالم تحكمه وتقمعه وتنتهكه أنثى ففي أي موقع آمن سيدس رسالته “سيد”؟!

أتلك ابتسامة؛ أم ضحك صداح؟

ها قد وصلنا إلى سهول المرح وبدأنا نفقد الموطنة، وعبر الإزاحة نتموطن ثانية في فضائينا وأزمنتنا. فلنعد ثانية إلى الطفل ونمرح أكثر في أنطولوجيا تاريخ ثيمة “قوة الحب” Forcefulness of Love. فقد ترين ذلك الطفل الذي يعدوا في حماس بين قبيلتي المنجد وبائع الألبان ما هو إلا شكسبير ذاته، وما المجتمع الحامل للدراما إلا مجتمع “روميو وجولييت”، وما أمي إلا بريخت قاس أفسد اندماجي وتدخل بكسر الإيهام مطلقا نافورة الوعي. وأراهنك أنكِ ترين أمي مُحِقة من زاوية نظرها إلى العالم. رجاء لا تتراجعي عن ذلك؛ فأنا أيضا أرى بريخت محقا من زاوية نظره.

والآن تجلس معنا في مطبخنا قامتان مهيبتان في فن الثيمة والتعامل معها ومع سطوتها وكيفية ترويضها لصالح وجهة نظرهما في العالم. إنهما شكسبير وبريخت. ما الذي يميزهما؟ قولا واحدا؛ إنهما يمتلكان عالما. وإذا أردتِ الآن ترك وسيط المسرح والذهاب لوسيطنا السينمائي ثانية حيث نتناول معضلتين كبيرتين في قاموس الإلقاء السينمائي فيمكنكِ إبدالهما في سهولة ويسر بـ”هيتشكوك” ووغودار. ورغم كونهما موضع اتهامات كثير منها حقيقي وأقلها مفتعل إلا أن كلاهما يمتلك عالما أيضا. السؤال؛ كيف تبدأ رحلة فنان في امتلاك عالما؟

أن يخلص كجزء من الكون للحظة “الإثارة الأولى” سواء كانت تلك الإثارة تأتي عبر شعور أو حدث أو واقعة أو ضوء أو صوت أو أقصوصة أو رواية، وأن يقدس لحظة التواصل تلك مع العالم، وأن يقتنصها، ويميزها داخله في علاقتها بدينامية ذاكرته ووعيه ورحلة جسده في اللحظة، أن يتشبع بها بشكل كامل، ولا أبالغ حين أقول “عليه أن يترنح بها حسيا ومعرفيا”. فذلك الإخلاص هو خط دفاعه الأول عن تميزه كإنسان أولا، وعن جاهزيته ثانيا للنضال ضد الواقع المفروض وصراع التقاليد المكرور والخطابات المتعددة وتنحيتها بعيدا للتهيئة لـ”الإثارة الثانية”، والتي تدفع بعملية تبلور الثيمة نحو النقاء، فكل واقعة في العالم تحمل داخلها احتمالات الـ 36 ثيمة المتعارف عليها، وعلينا في الأخير اختيار واحدة. ولن نحتار بعدها في ما إذا كنا نختارها أو هي التي تختارنا في آن، مدركين أننا، وفي الوقت المناسب، سنختار بين الـ35 الأخرى عددا مناسبا لمساندتها كجذور شجرة صغيرة تدافع عن وجودها الحيوي.

إن تلك الإثارة الثانية هي التي تهيئنا تماما وتدفع معها عملية قنص والتقاط نقطة الهجوم على “أضعف موقع من الثيمة”، نعم أضعف موقع، ليتشرب منها الدينامية الأولى لمفرداته وخطابه وتركيباته الكامنة بغرض وحيد؛ الامتلاك التام للثيمة، ومنها ستتساقط كل فخامة مزيفة وكل مسالب اليقين المسبق عن العالم بعيدا عن كاهلنا، ومعها تتألق التفاصيل التافهة والتجاورات المهملة في تقليد جمالي وحيوي يميزنا تماما عن الآخر سواء كان رجلا أو امراة، راحلا أو على قيد الحياة. وعندها إرسال التحية للرواد داخل خطابنا السينمائي سيأتي من منبع أنهم “ليسوا أباء أو قامعين بل أخوة في التفكير”. ومعها تنحل العقدة عن لسان “الشكل” و”التمويل” في خطابكِ السينمائي.. وتلك رسالة أخرى.

     
     
 
 
 
     
 

ندى الأزهري

كاتبة صحافية من سوريا

مارس 2018

 

 
 
 

مظلومة ولكن متمردة

المرأة والسينما في العالم العربي من وجهة نظر غربية

 
 

حين عرض فيلم “الزين اللي فيك” للمخرج المغربي الفرنسي نبيل عيوش في فرنسا عام 2016، لقي الترحيب والاستحسان خلافا لما حصل في بلده الذي منع عرضه. إذ أن هذا الفيلم الذي يحمل “هجوما لاذعا على المجتمع المغربي”، كما يمكن تلخيص آراء النقد الفرنسي، أثار موجات سخط عنيفة في المغرب حيث صُوّر. تناقض بين وجهتي نظر نقع عليه غالبا في أفلام عربية من هذا النوع، بمعنى أفلام تنتقد مجتمعاتها وتسلّط ضوءا “مبهرا” على أحوالها. اختلافٌ في التلقي يتخذ أبعادا أشد عمقا حين تتعلق هذه الأحوال بالمرأة العربية والمسلمة.

لا يمكن للمتابع إلا أن يلحظ اهتماما خاصا في الغرب، والقصد هنا فرنسا تحديدا، بأوضاع المرأة في العالمين العربي والإسلامي. تأتي السينما لتؤكد هذا الاهتمام عبر نوعية بعض الأفلام العربية التي تعرض في فرنسا من جهة ومن جهة أخرى عبر التلقي الذي يصاحب العروض على الصعيد الصحافي أو الجماهيري، إذ يعتبر البعض أن الفن السابع في منطقة “حيث للمرأة مكان ودور مهمل”، وسيلة للتعبير وأداة للتطور والتحرر من التقاليد، كما يمكننا القراءة في مقالة بحثية عنوانها “سينما وقضايا المرأة في الشرق الأوسط” في موقع “مفاتيح الشرق الأوسط” (Les clés du Moyen Orient).

وبالتالي تجد الأفلام العربية التي تتعلق بأحوال المرأة وقضاياها إقبالا وقبولا في فرنسا، كما أنها توزّع جيدا وتميل إليها شاشات العرض التجارية الكبرى، إضافة إلى صالات فن وتجريب (المدعومة من المركز الوطني للسينما) المنتشرة بكثرة في باريس وأيضا في بقية المدن الفرنسية. يضاف إلى كل هذا، العروض الخاصة والمهرجانات والعديد من التظاهرات الثقافية… يتمثل هذا “الميل” في مدى انتشار هذه النوعية مقارنة بغيرها. على سبيل المثال، من أصل الأفلام العربية التي عرضت على الشاشات الفرنسية العام الفائت، شكّلت سينما قضايا المرأة وكيفية مجابهة النساء للعادات والتقاليد العربية والمسلمة المحور الرئيس والوحيد لأكثر من الثلث. وإن أضفنا إلى القائمة أفلاما من جنسيات أخرى تُكّرس للمرأة وأوضاعها في بلدان مسلمة (إيران، تركيا…) أو لجاليات مسلمة في الغرب (باكستان مثلا وغيرها)، لارتفعت هذه النسبة بالتأكيد. لا نذكر هنا الأفلام التي تتخذ من وضع النساء وسيلة للإضاءة على ظواهر أكثر عمومية في المجتمع لأن تلك تنتهي بأن تغطي على قضية المرأة وتجعلها عنصرا من عناصر الفيلم وليس محوره الرئيس.

ثمة آراء نمطية عامة حول صورة المرأة العربية والمسلمة تنتشر في الغرب، آراء نمطية جاهزة (كليشيه) تنعكس في الأحاديث العامة وفيما يكتب ونجدها أحيانا لدى الجمهور والنقاد في المقالات النقدية التي ترافق عروض الأفلام العربية أو المشرقية التي تثير قضايا المرأة. يمكن تجميع تلك في محورين. الأول يركز على أن المرأة تعاني الظلم والقهر والقمع في المجتمعات العربية المسلمة، وأن تلك المعاناة تتجسد خاصة في الزواج بالإكراه وفي وضع القيود أمام تحررها اجتماعيا وقانونيا وفي تعرضها لجرائم الشرف… يرافق هذا نظرة غربية أخرى للمرأة الشرقية تفرض نفسها بقوة وأتت من حكايا ألف ليلة وليلة، ومن لوحات الفنانين المستشرقين والأدباء الرحالة.

طبقا لهذه النظرة تبدو المرأة كغرض جنسي وغاوية، هدفها الوحيد في الحياة إغواء الرجل وإرضاء نزوات ورغبات غير مشروعة للرجال الشرقيين، لكن تلك الصورة تنزاح تدريجيا لتغلب اليوم النظرة الأولى المستمدة من الحياة المعاصرة والتي تجعل من وضع المرأة العربية في المجمل أكثر بؤسا من المرأة الغربية، ما يدفعها إلى التمرّد وعدم الاستسلام. يقودنا هذا للمحور الثاني للنظرة الغربية الذي يتمثل بسعي المرأة العربية والمسلمة للمقاومة والتحرر عبر خلع القيود وإثبات الوجود، وبالتالي يجب دعمها في محاولاتها والوقوف إلى جانبها لتصل إلى ما وصلت إليه المرأة الغربية “القدوة” من منجزات.

يمكننا كذلك إضافة بعض الملاحظات المتعلقة بصورة الرجل العربي من خلال وضع النساء في المجتمع. ففيما تبدو صورة المرأة العربية سينمائيّا أيضا على أنها لبنة المجتمع والحامية للأسرة فإن الرجل خلافا لها يبدو مزعزعا وعنيفا وخاضعا لأمه ولإغراء النساء وفي معظم الأحوال غير مخلص لزوجته وباحث عن زواج جديد.

يمكن العثور على هذه المحاور أي هذه النظرة الغربية للمرأة عبر النقد والتعليقات التي ترافق عروض الأفلام العربية في فرنسا في عيّنات نقدية لأفلام عربية عرضت العام الماضي في فرنسا.

المرأة المظلومة دائما والكائدة أحيانا!

فيلم المخرج المغربي نبيل عيوش الذي اعتبرته مجلة “نونوفيل أوبس″ (سابقا نوفيل أوبسرفاتور) “دفاعا عن النساء ومعبّرا عنهن وعن كرامتهن”، يثير قضية الدعارة التي هي “إحدى المحرمات في العالم العربي” كما كتبت مجلة “إل” الفرنسية النسائية، لكنها مع هذا “تسمح بعيش قلة من المجتمع فيما تفضّل الأغلبية غضّ البصر عنها والصراخ لإدانة ما تعتبره إهانة وطنية” تتابع المجلة في نقدها لقيم المجتمع المغربي. في المغرب اعتبر الفيلم “انتهاكا لكرامة المرأة المغربية” لأنه يبدي تفاصيل عمل الغانيات المغربيات ويمثّل بالتالي “احتقارا كبيرا للقيم الأخلاقية للمرأة المغربية”. هكذا، أثار “الزين اللي فيك” أو “Much Loved” منذ عرضه في مهرجان كان 2016 جدلا واسعا في بلده وفي العالم العربي، فمُنع من العرض في المغرب، وتعرّضت بطلته الأولى لبنى ابيضار، كما ذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، للاعتداء ما اضطرها للجوء لفرنسا التي رشحتها لجائزة السيزار الفرنسية كأفضل ممثلة.

تفضل بعض الأفلام العربية أحيانا وضعا معينا ومحددا للمرأة، الطلاق مثلا، لتناقشه من خلال قصة تبيّن مدى الظلم الذي يوقعه على المرأة قرار كهذا يكون في معظم الأحيان فرديا اتخذه الرجل لوحده. فيما ثمة أفلام أخرى تحشر كل ما يمكن أن تعانيه المرأة في مختلف المجتمعات العربية من قهر وقمع في فيلم واحد. هكذا تجمّعت مشاكل النساء، وأيضا مكائدهن وبحثهن عن الإغواء في فيلم من إنتاج جزائري فرنسي يوناني. لم تنس مخرجته إيراد كل ما من شأنه تسليط الضوء على معاناة النساء وكذلك كيدهن العظيم كوسيلة للانتقام من الظلم، وهو ما يثير فضول وإقبال المشاهد الغربي. تجري أحداث “بعمري ومازالني تتخبا باش تتكيف” 2017 (في عمري ومازلت أختبئ لأدخن) للجزائرية ريحانا، في فترة منتصف التسعينات من القرن الماضي السوداء بعد وصول الإسلاميين للحكم في الجزائر.

الحمام هو موقع الحدث، حيث تجتمع نساء آتين للاستحمام وللتنفيس عن مشاعرهن بعيدا عن أعين الرجال و”نظراتهم المتّهِمة”، ثمة أمهات وبنات، عاشقات عذارى ومطلقات، خائنات ومخلصات، متشددات دينيا ومنطلقات متحررات، تتجاور أجسادهن العارية وتتقاطع ضحكاتهن مع بكائهن وصرخاتهن وهن يروين معاناتهن مع الرجل والمجتمع ولكن أيضا تحايلهن على الاثنين. تلجأ إحداهن لصاحبة الحمام لحمايتها من القتل على يد أخيها بعد حملها غير الشرعي، تتضامن معها النساء ويحاولن الوقوف جبهة واحدة ضد التطرف والتعصب والجريمة التي ستقع تحت مسمى الشرف.

الفيلم لاقى إعجاب الجمهور الفرنسي حين عرض السنة الماضية، كذلك استقبلته بعض الصحف في باريس ومدن فرنسية أخرى بترحاب تراوح بين الجيد والمتوسط. رأت مثلا إحدى صحف الأطراف أن الفيلم “يحكي بقوة وحرارة ‘النسوية’ حاملة راية الحرية في مجتمع يقيدها ويعنفها”، فيما عثرت فيه مجلة “لونوفيل أوبس″ على “عطر حرية نساء بلا حجاب، بلا نقاب ولا رجال ولا قيود… يدخّنّ سجائرهن… هؤلاء النسوة اللواتي يعشن تحت حكم مثير للاشمئزاز، هن كائنات من الدرجة الثانية”، وتساءل المقال عن إمكانية تواجد مثل أولئك النسوة “المعنفات المضروبات من أزواجهن”؟ وجاء تعبير “أجساد الحرية تعرّي الضمائر” في جريدة “لومانتيه” وأن جسد المرأة هو دائما الهدف الأول للظلاميين. وقد أثنت مجلة “تيلي راما” على الفيلم لأنه يبدي شجاعة المرأة الجزائرية وصلابتها.

المرأة المتمردة على قوانين المجتمع وأعرافه

يعجب النقد الغربي بمواضيع تعتمد على شجاعة المرأة العربية وعدم استسلامها، وتلقى الأفلام التي تتناول هذا الطرح إقبالا ومديحا على الأقل لناحية الموضوع، دون أن يعني هذا الاهتمام بالمضمون فقط على حساب الشكل. ولكنه يحيي هذا التمرد قبل كل شيء. تتجلى الصورة التي “يجب” أن تكون عليها المرأة العربية المتمردة أفضل تجلّ في فيلم فلسطيني- إسرائيلي شكّل مثالا واضحا على التحرر النسوي الذي يعجب الغرب ويستنكره الشرق. مع الإشارة إلى أن المستنكرين ينتمون إلى اتجاهات فكرية متناقضة تماما، إنما ليس هذا موضوعنا هنا فقط نشير إلى أن “برّ بحر” يختزل التحرر بالجانب الجسدي والابتعاد عن المشاكل الحقيقية للمرأة العربية والمسلمة بإغفاله كافة القضايا الأساسية كالطلاق مثلا وتعدد الزوجات وحرية السفر والزواج.

بر بحر تحوّل عنوانه إلى “سأرقص إذا رغبت” حين عرض في فرنسا، وهو عنوان أكثر جذبا ويتلاءم تماما مع الملصق الدعائي للفيلم الذي يبيّن ثلاث شابات عربيات، واحدة منهن محجبة فيما تحمل الاثنتان قدحا بيد وسيجارة باليد الأخرى، وهذا كل ما يحوز على الإعجاب. الفيلم إنتاج فلسطيني إسرائيلي فرنسي، كما شارك حمود في كتابة السيناريو سينمائي إسرائيلي. أراد الفيلم التعبير عن واقع الشباب العربي في وسط إسرائيلي، كما صرّحت مخرجته. وهو يحكي حياة شابات فلسطينيات يعشقن الاحتفال والسهر ويعشن حياتهن على هواهن في تل أبيب بعيدا عن عائلاتهن. هلل له الجمهور الفرنسي ونال حوالي الأربع درجات من أصل خمس على موقع “ألو سيني” الفرنسي (Allociné) واستحسنه معظم النقاد في الصحافة الفرنسية حتى هؤلاء الذين انتقدوا مستواه الفني. اعتبر الفيلم “صرخة غضب ونسمة حرية…” لأنه يسرد صرخات غضب لثلاث فتيات فلسطينيات يحملن الهوية الإسرائيلية ويتشاركن شقة في تل أبيب بعيدا عن نظرات ومراقبة عائلاتهن العربية، دون أن يعني هذا أنهن تخلصن بالكامل من تأثير العائلة والمجتمع، كون “الرقابة الذاتية (لازالت) في جسد أولئك النساء”.

تتحمس مجلة “إل” لهؤلاء الفتيات اللواتي “يحاربن بطريقتهن أصولية المجتمع التي تريد إرجاعهن للبيت، كما آليات المجتمع الذكوري الأبوي الساحق”. هذه المحاربة تتجلى في الحفاظ على أسلوب عيشهن المتمثل في شرب الكحول وتعاطي المخدرات ومضاجعة أحبائهن والرقص… في الليل، والطبخ والدراسة والعمل في النهار… كما تكتب. ويصف نقاد فرنسيون آخرون هذا الطريق الذي تتبعه على الأخص بطلتا الفيلم، فالثالثة كانت محجبة ولكنها تبدأ في ما بعد بتذوّق الحرية معهن، على أنه “طريق الحرية المليء بالمحن”. وعلى الرغم من أن طريق الحرية هذا كان في معظمه مفروشا بالاستفراغ على قارعة الطريق واستنشاق الكوكايين وممارسة المثلية الجنسية فقد كتب أحدهم نقدا يعتبر أن الفيلم “يعالج مواضيع المجتمع الأكثر حساسية، الجنس والسياسة والدين بصراحة منعشة”!، وبأن المخرجة لا تحاول الإقناع ولكن فقط صُنع فيلم يُفهِم بأن هؤلاء الفتيات الفضوليات للمعرفة والتسامح هن “أفضل مستقبل ممكن”!

وبدا الفيلم للبعض “قصيدة رائعة لتحرير المرأة المسلمة” كما كتبت صحيفة “الباريزيان” وعملا يطالب منذ الافتتاح “بحرية الرأي”. واعتبرته جريدة “لوفيغارو” صفعة وأوردت في نقدها للفيلم “في سأرقص إذا رغبت” تصوّر ميسلون حمود تحرّر ثلاث نساء عربيات في تل أبيب “صفعة جيدة”. هذا هو التمرد الذي أعجب في الفيلم الذي غابت عنه النقاشات المعمقة ومحاولات إثبات الذات في العمل، والثورة الحقيقية على تقاليد مجحفة في ما يتعلق بأساسيات حياة المرأة في المجتمعات العربية والمسلمة. ويبدو هذا في مثال واحد على الأقل حين اتخذت البطلة المحجبة قرارا حكيما بالانفصال عن خطيبها المتعلق بشريعة الإسلام ظاهريا والدنيء باطنيا، والذي اغتصبها فلم تتجرأ على البوح بحقيقة السبب لوالدها. فهل التحرر هو فقط في محاولتها التدخين وشرب الكحول والسهر تيمنا بصديقتيها؟ يبدو أنها الطريقة للحاق بالعالم الحديث وفق سنا جمالية التي تلعب دور سلمى المثلية في الفيلم إذ صرحت “لا أحد يريد التحدث عن المرأة التي تشعر بأنها حرة بما يكفي للسهر كل ليلة، ولكن تجب مناقشة ذلك حتى يمكن للمجتمع العربي اللحاق بالعالم الحديث”!

ويأتي فيلم آخر تكافح بطلته ضد الأعراف والقوانين السائدة في مجتمعها. “على كف عفريت” للتونسية كوثر بن هنية “شجب لعيوب المجتمع التونسي حيث تظلّ المرأة خاضعة للسلطة الذكورية الأشد قسوة” كما كتبت “Le Dauphiné Libére” هذا الفيلم المأخوذ عن قصة حقيقية يطرح معاناة الشابة مريم مع الإجراءات الإدارية وأسلوب تعامل المجتمع بعد اغتصابها خلال حفل طلابي. أما “كفاح” هذه البطلة فيتبدى حسب مجلة “برميير”، “ضد العار الذي يريد إلحاقة بها العنف المطبق على النساء والنظام الفاسد”.

لكن على الرغم من تحبيذ مواضيع كهذه فإن الصحافة الفرنسية لا ترأف بالفيلم حين لا تقتنع بمستواه الفني. في عبارة لمجلة “بوزيتيف” حول فيلم بن هنية، “لا يمكن لأي قضية أن تُخدم عبر سينما فقيرة”! كل ما يمكن أن يقال!

رجل ظالم ومظلوم

تمكن الإشارة إلى تعليقات تتعلق بصورة الرجل في بعض الأفلام العربية، ومع أن صورته نادرا ما تنفصل عن صورة “المجتمع″ الذي يلحق الظلم بالمرأة، فهو يبدو بدوره أحيانا ضحية ظلم هذا المجتمع بخضوعه لقسوة أعرافه. في فيلم “نساء الباص 678″ لمحمد دياب الذي يثير قضية التحرش الجنسي في مصر في وسائل النقل، كتبت ليبراسيون “باستثناء المحقق البسيط (الساذج)، فإن الرجال يظهرون في النهاية كضحايا حزينة من إحباطاتهم الذكورية وخضوعهم لشروط الذكورة والشرف”.

فيما تحيي مجلة “الأكسبرس″ تضامن النساء في الفيلم ضد الرجل المذنب، لكشف الجناة وتسليط الضوء على هذه الظاهرة بقولها إن كفاحهن “أجمل كفاح سينمائي منذ زمن طويل من أجل كرامة المرأة”.

المرأة العربية والسينما… وجهة نظر غربية

ثمة تطور واختلاف ملحوظ اليوم في الحديث عن المرأة العربية في السينما، إذ أنها، ضمن محاولاتها الانفتاح على قضايا المجتمع الأشد واقعية، تقترب أكثر من عوالم المرأة الداخلية، وتبدو الأفلام اليوم أكثر ذاتية في اعتمادها على ذكر تفاصيل أكثر التصاقا بالواقع وتعبيرا عن حميمية المرأة، ما يسمح “بملاحظة وفهم حياة النساء من الداخل بصراعهن وحياتهن اليومية وكفاحهن”.

تجد باحثة فرنسية في “السينما وقضايا المرأة في الشرق” الذي نشره موقع Les clés du Moyen Orient (مفاتيح الشرق الأوسط) أن قضية المرأة بدأت تثير الاهتمام في سينما الرجل مع المطالبات المتزايدة للنساء في المجتمع، لكن المخرجين والمنتجين التفوا في ما بعد حول الموضوع بمزجه مع مواضيع أخرى “وضع النساء في أعمال السينمائيين الشرقيين استخدم للحديث عن ظواهر أكثر عمومية تنتهي بأن تغطي على القضية الأصلية”، كما سبق وذكرنا أعلاه. لهذا قرّرت النساء الوقوف خلف الكاميرا في مرحلة السبعينات من القرن الماضي مع ناديا حمزة وإيناس الدغيدي ليقمن بدور في نهضة المرأة في السينما. إنما الرهان تغيّر اليوم، وفق الباحثة، إذ أن “الحديث عن وضع المرأة يجب أن يختلف عما سبق وقام به السينمائيون والغربيون، وأن يتم بطريقة أقل خشونة وأكثر شخصية”.

بناء عليه تغيّرت الثيمة وركزت على المرأة ودورها في المجتمع وباتت النظرة أكثر حميمية. تعطي الكاتبة مثالا على هذا التطور فيلم “وجدة” للسعودية هيفاء المنصور. يسرد العمل قصة بسيطة لفتاة من ضواحي الرياض تريد دراجة ولكن الدراجات في السعودية “هي للرجال فقط”. هيفاء المنصور توقع هنا “فيلما يشجع السعوديات والشرق أوسطيات لأن يكن وليات أمرهن”. تعيد الكاتبة نجاح الفيلم وتجاوزه لحدود الشرق إلى قلة الأفلام التي تأتي من السعودية أما الأقل فأفلام تخرجها نساء”. لكنها تقرّر أنّ هكذا أفلام مازالت على الهامش “الأفلام النسوية تجد صعوبة في العثور على جمهور محلّي”.

إن وجدت تلك الأفلام مشقة في استقطاب جمهور محلّي فهي لا تلقى إلا التحية والاهتمام في الغرب عامة. أفلام كتلك تساهم في نشر الحرية والدعم لأوضاع المرأة العربية الصعبة في العالم العربي.

     
     
 
 
 
     
 

ناجي فوزي

ناقد من مصر

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المرأة في مصر: بين المصطلح وواقع الإنتاج

 
 

من الصعب -وغالبا إلى حد الاستحالة- أن يأتي ذكر السينما دون الإشارة إلى علاقتها بالمرأة أو علاقة المرأة بها، فالقاعدة في تناول العلاقات الإنسانية بين أعضاء الجنس البشري هي علاقة المرأة بالرجل أو الرجل بالمرأة (فالأمر سيان) ثم تأتي العلاقات الإنسانية بين طرفين من الجنس ذاته – أنثيين أو ذكرين – على سبيل الاستثناء، مهما بدا هذا الاستثناء لافتا للانتباه. ومع ذلك فإنه من اللافت للانتباه أنه بينما يتوفر مرجع في بحوث النقد السينمائي يحمل عنوانا باسم “الرجل على الشاشة” (ستيفن كوهان، آنا راي هارل: الرجل على الشاشة، إعداد وتحرير وترجمة عصام زكريا القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2005)، لم يصادف الباحث مرجعا يحمل عنوان “المرأة على الشاشة”، وإنما يأتي البحث في “سينما المرأة” أو “السينما النسوية” ضمن مراجع تتناول موضوعات أخرى في مجال النقد السينمائي.

وإذ تهتم السينما المصرية بتقديم شخصية المرأة في صورتها النضالية (في شتى الميادين والمجالات) بما يثبت قيمة الذات الأنثوية باعتبارها صنوا للذات الذكورية في جانب ملحوظ من الإنتاج السينمائي في مصر، فإنها كثيرا ما تتناول نضال المرأة في دفاعها عن حقها في حرية اختيار شريك حياتها، كما تتناول نضالها في ميادين أخرى متعددة، تتجاوز فيها ذاتها المحدودة إلى كل أنشطة الحياة الأكثر رحابة، بدءا من نضالها الأسري كزوجة وكأم وربة بيت مسؤولة عن إدارته، ومرورا بنضالها السياسي الوطني ضد الاستبداد من الداخل أو الاحتلال الأجنبي من الخارج، ومقاومتها للفساد في صوره المختلفة، وفضلا عن ذلك كلّه ما تبذله من كفاح مستمر من أجل إثبات ذات كينونتها المتميزة علما وعملا، بل إنها لا تفتأ أن تدافع عن كينونتها القانونية ذاتها في مواجهة ما يمكن أن يفرّق به القانون تفرقة جائرة بين المرأة والرجل، لصالح هذا الأخير، وفي أغلب الأحوال تنتصر السينما المصرية للمرأة المنكسرة، دفاعا من الأفلام عن حق المرأة في الحياة الكريمة في كل وجوهها، ويظهر كل ما سبق في عدد غير قليل من الأفلام التي تنحو في بعضها إلى الطابع الرومانسي، وفي بعضها الآخر إلى الطابع الفكاهي، فضلا عن بعض الأفلام التي تميل إلى الواقعية الصارمة، ومع أن الكثير من هذه الأفلام تميل إلى الطابع الميلودرامي، إلا أن أغلبها ينتظم في مصفوفة طويلة متماسكة تؤكد على صفة المرأة المناضلة.

فإذا ما سلمنا بأن للسينما المصرية دورا مهمّا في تقديم الصورة النضالية للمرأة، فيكون من المهم أن نتابع دور المرأة كصانعة للأفلام في مصر، وخصوصا من خلال التقويم النقدي للظاهرة السينمائية النسوية في مصر والمعروفة باسم “سينما إيناس الدغيدي”، ومدى علاقتها بالمحتوى البحثي الخاص بمصطلح “سينما المرأة”.

1- المصطلح

ومع أن وجود المرأة في الأفلام يرجع إلى تاريخ انتشار الأفلام ذاته، وخصوصا الأفلام الروائية، إلا أن الوصول إلى مصطلح مثل “سينما المرأة” (féministe film) أو “السينما النسوية”، لم يكن مصاحبا لذلك التاريخ، ولا لاحقا له وإن بعد فترة قصيرة، بل إننا نستطيع أن نلاحظ أن باحثا في “أنواع الفيلم الأميركي”، وهو ستانلي ج. سولومون، يرى أن البحث في موضوع “صورة المرأة في السينما” لا يعني أن هناك نوعا فيلميا أو جنسا فيلميا اسمه “سينما المرأة” يمكن أن يدرج في مصفوفة تصنيفه النوعي للفيلم الأميركي، الذي يحصره في ستة أجناس ليس من بينها “فيلم المرأة”، فهو يرى أن هناك عددا من أنماط التصنيفات الفيلمية قد شاعت في الكتابات النقدية (في عقد السبعينات من القرن العشرين) وهو يطلق عليها اسم “الأنواع المفهومية” (conceptuel genres) باعتبارها أنواعا تنشأ عند تحديد موضوع أو نقاش أيديولوجي يتكرر في مجموعة من الأفلام، وتدليلا على ذلك يطرح سولومون مثلين من “الأنواع المفهومية” التي يقصدها وهما “السياسة في الأفلام” و”الجنس في السينما”، فيذكر أن بعض النقاد والمؤرخين يجدون أنفسهم قادرين على إنشاء أنواع لدراسة بعض الصفات التي يرى سولومون أنها تبدو لهبعيدة عن السينما وأقرب إلى علم الاجتماع″. ومن المرجح أن سولومون يرى أن موضوعا مثل “صورة المرأة في السينما” هو لا يعدو أن يكون موضوعا بحثيا في النقد السينمائي يتميز بطابع خاص، وأنه -بذلك- ليس مؤسسا لنوع بذاته من الأنواع الفيلمية، إذ يقول سولومون في ذلك “حين تسيطر الأيديولوجيا على المسعى النقدي فإن الإحساس السينمائي يهمل أو على الأقل يصبح ذا أهمية أدنى مما لو درست السينما كصياغة فنية “art form” قابلة للإدراك، ذات أهمية قصوى، وذات أهمية في حد ذاتها”، ويطرح سولومون مثالا يوضح به وجهة نظره هذه بقوله “مع الاحتمالات غير المحدودة تقريبا، والتي تواجه الناقد الراغب في الكتابة في موضوع من هذا القبيل يكون ساخنا جماهيريا يوما ما، وليكن مثلا ‘صورة المرأة في السينما’، فإن انتقاء عشوائيا لعشرين فيلما يمكن أن ينتج تعميمات تكاد لا تتوافق بالمرة مع ما لو طبقت على اختيار مختلف لعشرين فيلما أخرى متكافئة في ذات الموضوع″.

غير أن باحثا أميركيا آخر في النقد السينمائي، وهو برنارد ف. ديك، يخصص جزءا كبيرا عن “سينما المرأة” في الفصل الكامل الذي يضعه عن “الأنواع/الأجناس الفيلمية”، وذلك في كتابه “تشريح الأفلام”، وهو يشير فيه بالتفصيل إلى المقصود بسينما المرأة (فيلم المرأة) وإلى تاريخ هذا النوع من أنواع الفيلم الأميركي، حتى أن هذا الباحث يعود لكي يخصص بندا تفصيليا يتناول فيه النقد المتصل بسينما المرأة أو “النقد النسوي” (féministe criticisme) أو “النقد المناصر للمرأة”، ذلك أن ديك يشير إلى أن “فيلم المرأة” هو مصطلح مقبول في النقد السينمائي كما أنه جنس فيلمي مشروع، كما يضيف بالقول إنه “قد أصبح فيلم المرأة جنسا لسببين: محاولات هوليوود المبكرة لاكتساب ود المشاهدات، وظهور النجوم من النساء اللواتي رفعتهن شخصياتهن إلى مستوى الأيقونات”. ويضيف فان ديك موضحا “كانت صناعة السينما دائما تولي اهتماما خاصا لجمهورها من الإناث، إما بسبب افتراض أن النساء يتوافر لهن وقت أطول لحضور الأفلام، وإما لأن لديهن ميلا أكبر لشراء مجلات المعجبين لمتابعة أخبار نجومهن المفضلين”.

ويرى برنارد ف. ديك أن هوليوود كانت سريعة الاستجابة إلى تخصيص ما يرى أنه جنس فيلمي خاص بالمرأة، بما يتفق مع النسبة التي تشكلها النساء كشريحة متميزة من جمهور الفيلم، وهو يفصل ذلك بقوله “ولأن النساء يؤلفن شريحة هامة -وأثناء الحرب العالمية الثانية شريحة رئيسية- من المتفرجين، استجابت هوليوود بتخصيص جنس فيلمي خاص لهن، مع نجوم من أمثال ديفس وجون كروفورد وباربارا ستانويك، اللواتي أصبحن لا ينفصلن عن شخصياتهن إلى درجة أن المرء يتحدث في الكثير من الأفلام عن ‘فيلم لبيتي ديفس′ أو ‘فيلم لجون كرو فورد’. وكانت بيتي ديفس وجون كرو فورد تلعبان أدوار نساء مساويات للرجال، وأحيانا أفضل منهم”.

والمتابع للتفصيلات التي يطرحها برنارد ف. ديك بتوسع عن “سينما المرأة” يلاحظ أن الموضوعات الشائعة في هذا النوع الفيلمي في السينما الأميركية بدأت بالإشارة إلى أن حبكة هذه الموضوعات تدور حول شخص المرأة بذاتها، باعتبارها كائنا غير محدود بأي قيود إلا مسألة أنها ككل الكائنات تتعرض إلى الفناء بالموت، ويزيد على ذلك أنها “حين تواجه الموت، فهي تموت موتة نبيلة، ذلك أنه بينما تعاني النساء بشكل نبيل في الكثير من الأفلام الأميركية في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين، فإن أفلاما أخرى تصورهن على أنهن قادرات على النجاح في مهن يسيطر عليها الرجال، فقد صورت أفلام المرأة -في تلك الفترة- النساء في مهن مختلفة متنوعة: محاميات وكاتبات إعلانات ومراسلات صحافيات وممثلات وجراحات وممرضات، وبحلول العقد السابع من القرن (أي الستينات) لم يكن شيئا غير عاد أن تكون المرأة محامية ناجحة أو صاحبة مشاريع تجارية، ويتفق الطرح السابق مع ما تشير إليه بان جبار خلف بأن النساء في أفلام المرأة “يقمن بأدوار إنسانية كانت سابقا حكرا على الرجل، فهن مديرات وعالمات ومثقفات ومحاربات”، وتؤكد الباحثة على أن “العمل” المقصود في قولها السابق هو بالأكثر ذلك الذي يحقق للمرأة فرصة الإبداع. 

ومن جهة أخرى، يشير برنارد ف. ديك إلى أن “النساء اللواتي صورتهن هوليوود في عصرها الذهبي كنَ في أحيان كثيرة يتمتعن بإرادة قوية، لكن عوامل مختلفة، منها قواعد الإنتاج (أي الرقابة- الباحث)، وتوقعات الجماهير، والارتياب العام بالمرأة التي تنجح في مهن يسيطر عليها الرجال، جعلت من الضروري إما التحول في آخر لحظة إلى الزواج، الذي كان دائما يعتبر إرضاء عن العمل، وإما إشارة ما إلى شائبة تشوب المرأة”. ونحن نستطيع أن نرى أن هناك تطبيقا مباشرا لهذه الفكرة في السينما المصرية في أكثر من فيلم، لعل في المقدمة منها فيلم “الأستاذة فاطمة” (إخراج: فطين عبدالوهاب 1952) الذي ينتهي بعدول المحامية “فاطمة” عن المضي في حياتها المهنية كمحامية تضع قدميها على أول طريق النجاح المهني، وذلك بإثبات براءة خطيبها المحامي البارع المتهم بالقتل العمد، لتعلن أنها لن تستمر في مهنتها من أجل أن تتزوج المحامي بعد الإفراج عنه. وإذا كان فيلم “الأستاذة فاطمة” يشير إلى مسألة التحول في آخر لحظة إلى الزواج، الذي يعتبر أكثر إرضاء (للمرأة) من العمل، فإن الفيلم المصري “مراتي مدير عام” (إخراج فطين عبدالوهاب 1966) يشير بطريقة غير مباشرة إلى أن هناك شائبة تشوب المرأة العاملة فيه، ذلك أن الفيلم يشير في أكثر من موضع فيه إلى أنه من الصعب قبول أن يكون الرجل مرؤوسا لزوجته في نفس مكان العمل الذي يجمعهما في التخصص المهني ذاته، حتى أن الفيلم يقدم الزوجة المدير العام في حفل استقبال تقيمه الشركة التي تعمل بها هي وزوجها، وهي تتحدث في الموضوعات العملية والمهنية الفنية والإدارية الخاصة بأعمال الشركة، بينما هي تترك زوجها محاطا بكوكبة من السيدات اللواتي يقطعن الوقت معه في الحديث عن شؤون منزلية بحتة، تعد من الأعمال الموكولة إلى المرأة بوصفها كذلك، أي امرأة.

ومن جهة ثالثة، يشير برنارد ف. ديك إلى أن الرقابة الذاتية من صناع السينما على الأفلام، وهي ما تعرف باسم “قواعد الإنتاج”، هي التي جعلت أفلام العقدين الخامس والسادس (الأربعينات والخمسينات) من القرن العشرين تحجم عن التناول الأكثر صراحة للجوانب الجنسية، وتتجنب معالجتها بطريقة مباشرة.

ومن جهة رابعة، يشير برنارد ف. ديك إلى أن المتغيرات الاجتماعية المصاحبة لعقد الستينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية (كما في العالم الغربي بصفة عامة)، مع “الهجوم على الشخصيات الأنثوية النمطية الذي شنته جماعات نسائية، أتاحت لصانعي الأفلام أن يستكشفوا موضوعا لم يتعاملوا معه إلا بشكل سطحي في الماضي، وهو “الترابط الأنثوي”، ذلك أنه مع أوائل العقد السابع من القرن العشرين كانت هناك إشارات حميمة واضحة لموضوع محرم (آخر) وهو الشذوذ الجنسي، وإن لم يكن يصور بالفعل، واتصالا بذلك نستطيع أن نلاحظ أن أول إشارة فيلمية مقصودة إلى مسألة “السحاق” (الشذوذ الجنسي الأنثوي) في السينما المصرية تأتى في عقد السبعينات من القرن العشرين، من خلال فيلم ينتمي إلى نوع “الفيلم البوليسي”، وهو فيلم “الصعود إلى الهاوية” (إخراج: كمال الشيخ، 1978) حيث يشير هذا الفيلم إلى أن الفتاة المصرية المتطلعة إلى الثراء السريع، وإن كان من خلال التخابر ضد وطنها لصالح دولة أخرى عدو (إسرائيل) لا تتواصل عاطفيا مع خطيبها، وإنما هي تحقق هذا النوع من التواصل مع امرأة أخرى تعمل في مجال الجاسوسية.

وفي النهاية يشير برنارد ف. ديك إلى موضوعين على جانب كبير من الأهمية، أولهما أن العقبة الرئيسية لفيلم المرأة في الوقت الحاضر هي ندرة السيناريوهات الجيدة التي تصلح للنساء متوسطات الأعمار، وثانيهما هو “الافتقار إلى أدوار جيدة للنساء اللواتي تجاوزن الأربعين، بالمقارنة مع الخيارات الأوسع إلى حد كبير أمام الرجال من العمر نفسه أو الأكبر سنا”، ولذلك يختم فان ديك تفصيلات بحثه في مسألة “سينما المرأة” كنوع فيلمي قائم بذاته بقوله “لن يختفي فيلم المرأة أبدا، لكنه لن يكتسب من جديد الشعبية التي كان يتمتع بها أبدا إلى أن يدرك المنتجون وكتاب السيناريو أن من الممكن لفيلم عن امرأة في منتصف العمر أن يحتوي على الكثير من الحبكة الدرامية كما هو الحال في فيلم عن المرأة الأصغر سنا”. ومع ذلك فإنه من المهم ألا نغفل عن وجهة النظر التي ترى أن “الفيلم الجيد هو الذي يسعى لتكون بطلته بطلة يمكن تعميمها كي تصبح بطلة كونية، تعبر محليتها، نحو آفاق العالمية بقوة الفن والنموذج الذي يعتبر تعدد الثقافات غنى للنوع الإنساني، بحيث يمكن لهذه البطلة أن تلهم النساء والرجال في أنحاء العالم ليتصدوا لمصيرهم ويغيروه نحو الأفضل أو يشاركوا تلك البطلة عبر الآفاق المستقبلية التي يتيحها الفن للناس″.

2- المرأة صانعة الأفلام في مصر

ما بين “المرأة والسينما” من جهة، “والسينما والمرأة” من جهة أخرى، من الممكن أن يثور التساؤل عن أي شكل من شكلي العلاقة وجد في مصر. ونستطيع -في هذا المجال- أن نلاحظ أن العلاقة بين السينما والنساء في مصر قد بدأت من جهة المرأة أولا، أي أن السينما في مصر لم تحتك بقضية تخص المرأة وتتناولها بالمعالجة للمرة الأولى إلا بعد أن احتكت المرأة بذاتها -أولا- بالسينما في مصر، فقد بدأت العلاقة بين هذين الطرفين بإقدام المرأة المصرية على الإنتاج السينمائي (فضلا عن التمثيل في أول فيلم من إنتاجها) وذلك عندما أقدمت عزيزة أمير (1901-1952) على إنتاج فيلم “ليلى” والتمثيل فيه في العام 1927، وهو أمر نرى أن السينما المصرية تختص به غالبا، حيث لم يسبق للباحث الاطلاع على ما يدل على عكس ذلك حتى الآن. وفي كل الأحوال، فإن علاقة المرأة (المصرية) بالأفلام في مصر امتدت من الإنتاج النسوي الذي تصدرته عزيزة أمير (وشاركت فيه الكثير من الأخريات من ممثلات السينما المصريات) إلى نشاط الإخراج السينمائي ذاته منذ العام 1929، حيث قامت عزيزة أمير أيضا بإخراج فيلم “بنت النيل”، ثم قام بالإخراج من الرائدات كل من الممثلات المنتجات فاطمة رشدي وبهيجة حافظ وأمينة محمد، ومرورا بجيل الوسط من الممثلات المنتجات (ماجدة في فيلم “من أحب” 1966) وصولا إلى الجيل اللاحق في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، مع كل من المخرجات غير الممثلات نادية حمزة ونادية سالم وساندرا نشأت وإيناس الدغيدي. غير أننا نستطيع أن نتفق إلى حد ما مع الناقد السينمائي علي أبوشادي في تقويمه النقدي العام للنشاط النسوي المصري في مجال الإخراج السينمائي (حتى عقد الثمانينات على الأقل)، وهو يوجز رأيه في تجربة المخرجات السيدات بقوله “إن التجربة النسائية في الإخراج كانت باهتة وغير قادرة على الاستمرار، خافتة في السينما الروائية، التي كان منتجوها لا يثقون في قدرة المرأة على قيادة هذه المجموعة الضخمة، وإن حاولت نادية حمزة لكونها منتجة أيضا أن تقدم بعض الأعمال في الثمانينات، لكن ما لبثت أن توقفت بعد عدة تجارب ضعيفة”.

وإذا كنا نتفق جزئيا مع رأي أبوشادي السابق الخاص بالتقويم النقدي للتجربة النسائية في الإخراج السينمائي في مصر، فإننا من الممكن أن نتفق معه إلى حد كبير على أن المخرجة السينمائية المصرية إيناس الدغيدي (1953) تكاد أن تنفرد بساحة الإخراج النسوي (إن جاز التعبير) في مصر منذ عقد الثمانينات في القرن العشرين، وبالتحديد منذ العام 1985، عندما قدمت فيلمها الأول “عفوا أيها القانون”، ذلك أن المخرجة نادية حمزة (1939-2012) بدأت نشاطها في إخراج الأفلام (فضلا عن إنتاج بعضها) في العام 1984 بفيلم “بحر الأوهام”، ومع أن عددا ملحوظا (يصل إلى سبعة) من أفلامها تحمل أسماء النساء (نساء خلف القضبان – النساء – امرأة للأسف – معركة النقيب نادية – امرأة وامرأة – نساء صعاليك – حقد امرأة) إلا أن اتصال موضوعات هذه الأفلام بالنساء (فضلا عن بقية أفلامها) هو اتصال لا يتناول معالجات فنية واضحة لقضايا المرأة بصفة عامة، وإنما يدور أغلب هذه المعالجات في إطار من الموضوعات ذات الطابع التقليدي الذي يفتقر عادة للإبداع، وهي بصفة عامة لا تخرج عن الميلودرامات السائدة في السينما المصرية في وقت إنتاجها (في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين) فضلا عن غياب المعالجات الواضحة لقضايا المرأة إن وجدت.

وإذ لا تتجاوز أفلام المخرجة ساندرا نشأت (1970) “السينمائية” القليلة نسبيا (سبعة) كلا من الفكاهة والمغامرات البوليسية، فإنها لا تتضمن أي إشارة يمكن أن تتصل بقضايا المرأة بصورة أو بأخرى.

واستنادا إلى ما سبق، تبقى إيناس الدغيدي متصدرة الساحة السينمائية في مجال تحقيق “فيلم المرأة” في السينما المصرية، وخصوصا في عقودها الثلاثة الأخيرة، بدءا من العام 1985، غير أن التدقيق (النقدي) في أفلامها يشير إلى أنه على الرغم من أن أغلبها يتناول شخصيات نسائية متنوعة باعتبارها شخصيات محورية في هذه الأفلام، إلا أنه من المبالغ فيه أن تصدر أحكام نقدية قاطعة من شأنها أن تنسب إلى الدغيدي النوع السينمائي المتخصص “فيلم المرأة” على نحو مطلق، فحتى تاريخ إعداد هذه الدراسة أخرجت الدغيدي 16 فيلما روائيا طويلا، بدأتها بقضية متحيزة تحيزا قويا لحقوق المرأة في فيلم “عفوا أيها القانون” (1985)، وأنهتها بفيلم ذي طابع خيالي نرى أنه يقلل من شأن المرأة في أحد جوانبه، وهو فيلم “مجنون أميرة” (2006)، وبين هذين الفيلمين تتأرجح أفلام الدغيدي ما بين معالجات لقضايا المرأة بطريقة واضحة وتحمل الإشارة المباشرة إلى حقوقها الشخصية (تحديدا) ومعالجات أخرى تكاد أن تختفي منها أي إشارات لهذه الحقوق، بل إننا سوف نلاحظ أن فيلمها “امرأة واحدة لا تكفي” (1995) يحمل نوعا من التمجيد لذكورة الرجل على حساب كرامة المرأة، وإن لم يكن تمجيدا مباشرا.

إن القضية الأولى، بل الأساسية، في فيلم الدغيدي الأول “عفوا أيها القانون” هي قضية حقوقية إنسانية من الدرجة الأولى، وهي مسألة التفرقة التي يقررها القانون الجنائي (قانون العقوبات) بين مواطنين مصريين متساويين في الحقوق والواجبات من الناحية الدستورية، وذلك عندما يرتكب كل منهما الفعل ذاته الذي يطاله المشرع بالمحاكمة والعقوبة، إذ بينما يحول القانون جناية القتل العمد إلى وصف الجنحة بالنسبة للزوج الذي يبادر بقتل زوجته وشريكها حال مفاجأته لهما متلبّسين في وضع الزنا (المعاشرة الجنسية)، فإنه في المقابل هذا القانون لا يحول هذه التهمة من وصف الجناية إلى وصف الجنحة في حالة ضبط الزوجة لزوجها متلبسا بجريمة الزنا (في منزل الزوجية)، مع أن الملابسات النفسية هي ذاتها التي تواجهها الزوجة كما يواجهها الزوج في الحالة ذاتها. إن الطابع الذكوري لقانون العقوبات المصري -هنا- يستند إلى النظرة الدونية من المجتمع الذكوري إلى المرأة بوصفها كائنا أدنى من الرجل، ولعل ما ينطق به “عبدالقوي”، وهو أبو الزوج المقتول وكان -هذا الأب ذاته- قد سبق له أن قتل زوجته يوما، عندما فاجأها متلبسة بالزنا، لعل ما ينطق به في تفسيره لهذه النظرة الذكورية التي يتصف بها القانون في هذه الحالة، وهي النظرة التي ترى أن للرجل “عرضا” من حقه أن يدافع عنه حتى وإن بارتكاب جريمة القتل، بينما أن المرأة من وجهة نظر القانون في هذه الحالة، التي تتطابق مع وجهة نظر “عبدالقوي”، لا “عرض” لها. ومن هنا تصدق ملاحظة علي أبوشادي، التي تشير إلى أن الدغيدي قد “اقتحمت في جرأة منطقة شائكة في نظر المواطن الشرقي وأظهرت خلل القانون الوضعي الذي يفرق في العقاب لجريمة واحدة وهي الخيانة الزوجية، فإذا ما ارتكبها رجل تعد جنحة، أما إذا اقترفتها امرأة فهي جناية”.

وإذ يأتي فيلم “التحدي” (1988) ليقدم المواجهة القاسية التي يواجه بها المجتمع (وخصوصا الجانب الذكوري منه) المرأة بعد أن تقضي عقوبتها الجنائية المحكومة بها عليا بالسجن بسبب قيامها بقتل زوجها وهو يحاول أن يعتدي عليها بعد أن فوجئت به يعاشر امرأة أخرى في فراش الزوجية ذاته، ذلك أن هذا المجتمع يتعامل مع مثل هذه المرأة -في الغالب- بوصفها قاتلة، غافلا عن ملابسات القتل ذاتها، والأكثر خطورة أن يتجاوز المجتمع عن الطبيعة الخاصة لمشاعر الأمومة، فضلا عن قيمة أن يربى الطفل في حضانة أمه، غير أن صناع الفيلم لم يتمكنوا من إحكام صنعة فيلمهم حول هذه القضية بما يتفق مع قيمتها الإنسانية في حياة المرأة؛ إذ أنهم ينخرطون في محاولة إلباسه ثوبا سياسيا من خلال بعض الإشارات المنقوصة العاجزة، بما يشير إليه علي أبوشادي باعتبارها رموزا سياسية هشة، ذلك أن صناع الفيلم يتجاوزون عن تقديم ما هو مهم -بل الأكثر أهمية- في قضية فيلمهم، وهو أن الأمومة غريزة طبيعية عند الإناث في الكائنات الحية، وتزداد قيمتها عند المرأة ككائن بشري، وأنه لذلك من الواجب أن ينحاز القانون للغريزة الطبيعية السامية وليس لأي اعتبارات أخرى، فضلا عن أن الفيلم يتغافل عن الإشارة إلى كيف يمكن للأم أن تؤهل طفلها من الأب المقتول على يديها لكي يتجاوز صدمة أن يعلم لاحقا أنه يعيش في كنف قاتلة أبيه، حتى وإن كانت أمه.

ويحمل فيلم “امرأة واحدة لا تكفي” (1995) نوعا من التمجيد غير المباشر لذكورية الرجل على حساب كرامة المرأة، كما أن المخرجة، بحسب علي أبو شادي، تقتحم “عدة عوالم وقضايا دفعة واحدة: عالم الصحافة والسياسة في الجامعات والجيل الجديد وأزمة المساكن وشركات توظيف الأموال والفساد الاجتماعي وخراب الذمم والضمائر”، ويقدم الفيلم هذا الخليط من القضايا ذات الطابع السياسي من خلال شخصية صحافي يؤسس ثلاث علاقات نسائية مع ثلاثة نماذج من النساء، ما بين المرأة الحسناء ذات العلاقات النافذة في السلطة والمال، والفتاة الجامعية المتحررة ذات النشاط السياسي الجامعي، والأرملة الفاتنة الفقيرة المنكسرة التي تفقد مأواها السكني، ويختم صناع الفيلم فيلمهم بإقرار كتابي من الصحافي (في شكل رسالة) بأنه يحب النساء الثلاث في وقت واحد وعلى قدم المساواة، بعد أن أكد الفيلم على حاجة كل واحدة منهن العاطفية إليه.

وفي فيلم “قضية سميحة بدران” (1990) تكتشف الصحافية النشطة، التي تشتهر بتتبع قضايا الفساد الاقتصادي وتكشف عنها في تحقيقاتها الصحافية الجريئة، أن زوجها رجل الأعمال الثري هو واحد من رؤوس هذا الفساد، وأنه ما تزوجها إلا لكي يشغلها عن نشاطها المهني، فتأخذ على عاتقها مواجهته والعمل على كشف كل أعماله المشبوهة، حتى أنها تتعرض لخطر محاولته قتلها بإطلاق النار عليها، بعد أن يفشل في الضغط عليها بخطف أخيها ومساومتها عليه. إن الزوجة الصحافية -هنا- تضع كلا من ضميرها الإنساني وضميرها المهني في الصدارة من اعتباراتها، وهي تتجاوز بهما حياتها الزوجية ذاتها.

وفي فيلم “القاتلة” (1992) ترتكب امرأة ناضجة عددا من جرائم القتل، ويكون كل ضحاياها من الرجال، ليتضح أنها كانت تتعرض في طفولتها لانتهاكات جنسية بشعة، مما يتسبب في إصابتها في الكبر بحالة نفسية مرضية تدفعها لإغواء الرجال ثم الإجهاز عليهم، ويكتشف ضابط المباحث المكلف بمتابعة قضيتها أنها مصابة بمرض نفسي يجعلها غير مسؤولة عن تصرفاتها، وبدافع من مزيج من شفقة الضابط على هذه المرأة المتهمة -وتتحول إلى عاطفة حب مع مرور الوقت- مع الرغبة في إظهار الحقيقة، يستقيل من عمله الشرطي ليتفرغ لممارسة مهنة المحاماة بغرض الدفاع عنها. ونحن لنا أن نلاحظ أن الفيلم يطرح مفارقة لافتة؛ إذ يقدم محاميا رجلا يدافع عن امرأة قاتلة تستحق البراءة (على الرغم من تدخل بعض المتنفذين للضغط في مواجهة المرأة لإحكام الاتهام عليها) فينجح هذا المحامي الرجل في الحصول على حكم قضائي ببراءتها، بينما تفشل المرأة المحامية في فيلم “عفوا أيها القانون” في تحويل وصف جناية القتل إلى جنحة، وهي تدافع عن المرأة التي تقتل زوجها الذي يعاشر امرأة متزوجة على فراش الزوجة القاتلة.

وإذ يتناول فيلم “ديسكو ديسكو” 1994 قضية شبابية من خلال اتجاه جانب ملحوظ من الشباب من طلبة المدارس بالذات لتعاطي المخدرات، فإن ذلك يعني أننا لسنا بإزاء فيلم عن المرأة، حتى مع جعل القيادتين العلمية والإدارية للمدرسة الثانوية المشتركة لسيدة على جانب كبير من الجمال والأناقة؛ خصوصا وأن الفيلم لا يقدمها كطرف رئيسي في الصراع إلا بوصفها المهني الذي من الممكن أن يكون موكولا لأحد الرجال دون أي تأثير جوهري على النسيج السردي للفيلم.

غير أن الدغيدي تعود بقوة لمعالجة قضية نسائية صرف في فيلم “لحم رخيص” 1995، الذي يعد أول فيلم مصري يتناول مسألة ما يعرف باسم “الرقيق الأبيض”، الذي يعني الاتجار بأجساد النساء تحت أي ستار وهمي من القانون. ويدخل الفيلم إلى منطقة ديموغرافية من المجتمع المصري يظهر فيها هذا النوع من التجارة، وهي المنطقة الريفية أو ذات الطابع الريفي، فإذا كان المشهور في هذه المسألة هناك هو تزويج الفتيات الصغيرات القصّر لأشخاص من الدول العربية النفطية، ليحصل ذويهن، وخصوصا الآباء أو الإخوة الذكور، على هبات مالية تحت مسمى “المهر”، وذلك بصرف النظر عن المستقبل الذي من الممكن أن ينتظر هؤلاء الصغيرات اللاتي غالبا ما يكن لازلن في طور الطفولة. غير أن ما يطرحه الفيلم لا يقل في خطورته الاجتماعية (المجتمع بصفة عامة) والنفسية (الأنثى على نحو خاص) عن ذلك كله، وهو أن الفتيات اللاتي يتخطين سن الزواج المناسب بسنوات (كثيرة)، بل يصلن إلى السن التي من الممكن أن تصنفهن في خانة العنوسة، من الممكن أن يضطررن إلى أن يعرضن أنفسهن بأنفسهن في سوق الرقيق الأبيض، طالما لم يصبن حظا من الزواج، وخصوصا إذا كن دون عمل يعُلن أنفسهن منه، وهذا هو ما تلجأ إليه ثلاث فتيات في بلدة ريفية صغيرة، يعانين من ظروف اجتماعية واقتصادية متشابهة، فيلجأن إلى سمسار القرية المشهور بالوساطة في سوق النخاسة البيضاء، قاصدات أن يدبّر لكل واحدة منهن إحدى أقرب الفرصتين إما الزواج وإما العمل، ومن ثم تتزوج إحداهن من رجل عربي خليجي. يجعل منها خادمة لثلاث زوجات له في بلده العربي، ولما تخشى على حياتها ووليدها تتمكن من الفرار إلى مصر ولكنها تظل مهددة بملاحقة هذا الزوج الخليجي. وتتزوج الثانية من شاب عربي ثري سريعا ما يتركها دون أوراق تثبت زواجها منه، بعد أن يقضي ما يشبعه من رغباته في جسدها، بينما تكون هي قد أصبحت حاملا منه وتلد طفلا لا تعرف كيف تنسبه إلى أبيه الشرعي، فتسعى جاهدة لكي تتخلص منه تماما. أما الثالثة فهي تضطر إلى أن تقبل أن تعمل خادما وتتحمل الكثير من المشاق فضلا عن المهانات حتى تستطيع أن تكوّن لنفسها مشروعها الصغير الخاص بها، ولكن تاريخ علاقتها بسمسار القرية يلاحقها لينغّص عليها سعادتها بالنجاح في العمل والحب معا. وعن ذلك كله يشير الناقد سمير فريد إلى أن “مخرجة الفيلم تتصف بالشجاعة لتناولها موضوعا مسكوتا عنه في المجتمع المصري، وأنه -لذلك- يعد هذا أكثر أفلام المخرجة شجاعة من بين بقية أفلامها”، غير أن اللافت للانتباه أن ما يصفه سمير فريد بـ”الشجاعة” تصفه المخرجة ذاتها بـ”الغلاظة”، إذ أنها ترى أن هناك غلاظة في موضوع فيلمها هذا.

ويبدأ فيلم “استاكوزا” 1996 بداية مبشرة من خلال قضية مهمة تخص العلاقة بين الرجل والمرأة حول “قيمة ذكورية الرجل” من وجهة نظر المرأة، فالفيلم يقدم فتاة متمردة يتطور شجارها مع شاب آخر ليصل إلى حالة من العنف الميكانيكي الذي يتيح لها أن تصيبه بعاهة مستديمة في خصيتيه، مما يعرضه لفقد ذكوريته، التي يعدها المجتمع رمزا للرجولة. وتأتي أهمية ما يطرحه الفيلم هنا استنادا إلى أن المجتمع يرى أن الرجولة تتمثل في منطقة معينة من جسم الرجل، بصرف النظر عن حقيقة أخلاقه وصفات أفعاله. غير أن الفيلم يتجه وجهة أخرى عندما يجعل الفتاة مضطرة لقبول الزواج من هذا الشاب درءا للعقوبة الجنائية السالبة للحرية التي يمكن أن تنتظرها، فضلا عن التعويض المالي الكبير، ليتحول زواجهما إلى حلبة شجار مستمرة، ذلك أن للفتاة عمة تتعمّد أن تعهد للشاب بترويض ابنة أخيها، فبينما يمكن أن ينتظر المتفرج أن يشاهد نوعا من ترويض المرأة للرجل، عندما تضطر لأن تقبل الزواج من رجل فاقد الذكورة في مقابل ألا تتعرض لعقوبة السجن، غير أن الفيلم يستأنف طرحه الدرامي من خلال عدد من المشاجرات ذات الطابع الفكاهي التي لا بد أن تجعلنا نتذكر مسرحية وليم شكسبير المشهورة “ترويض النمرة”، وهي في نظرنا مسرحية ذكورية من الدرجة الأولى، أي أن الفيلم ينحرف نحو تمجيد الرجل، خصوصا أنه ينتهي بنهاية سعيدة تتضمن استجابة الفتاة المتمردة لترويض الرجل، لتستأنف حياة زوجية سعيدة مع مروضها.

ويأتي فيلم “دانتيلا” 1998 ليشير بوضوح إلى أنه من الممكن أن تتغلب علاقة الصداقة بين امرأتين على أي اعتبارات أخرى، حتى وإن كانت تصل إلى حد الاستغناء عن وجود الرجل في حياتهما، إذ تقرر المرأتان أن تنفصلا عن الرجل الذي تجتمعان تحت سقفه كزوجتين تتصارعان عليه لكي تفوز به إحداهما على حساب الأخرى، لكي تحتفظ المرأتان بصداقتهما باعتبار أن قيمة هذه الصداقة تتجاوز قيمة الاستمرار في الزواج بنفس الرجل، لذلك يرى سمير فريد أنه من الممكن أن يكون في فيلم “دانتيلا” ما يعد ردا على فيلم “امرأة واحدة لا تكفي”.

ومع أن فيلم “كلام الليل” 1999 يجمع بين امرأتين، تفصل بينهما الفوارق الطبقية (سيدة – مدبرة منزل وسكرتيرة خاصة في الوقت ذاته) إلا أنه فيلم يقوم على قصة “العري” للكاتب جمال الغيطاني، ذات الطابع السياسي الصرف، الذي يقارن من خلاله بين كل من العري السياسي والعري الجسدي، مع التأكيد على أن أولهما هو الأخطر على المجتمع، ويرى سمير فريد أن “كلام الليل” هو أكثر أفلام الدغيدي قربا من السياسة، استنادا إلى أصلها الأدبي (39). غير أننا لا بد أن نلاحظ أن هناك تشابها بين قصة الغيطاني “العري” وقصة “المذنبون” للأديب نجيب محفوظ، إذ أنهما تتناولان الفكرة ذاتها، أي العلاقة بين العري السياسي والعري الجسدي، كما أن السينما المصرية قد تناولت قصة “المذنبون” فيلما من إخراج سعيد مرزوق 1976، أي قبل فيلم “كلام الليل” بأكثر من عشرين عاما، ومع ذلك نستطيع أن نلاحظ أن فيلم “المذنبون” يتناول القضية بقدر من الجرأة يتجاوز به جرأة الدغيدي في فيلم “كلام الليل”، فضلا عن أن المحتوى الدرامي لفيلم “المذنبون” يمتاز بكل من التماسك السردي من جهة، وإحكام الصنعة الفيلمية من جهة أخرى.

ومن الضروري أن نتجاوز عن البحث في العلاقة بين فيلم “الوردة الحمراء” 2000 و”سينما المرأة” عند الدغيدي، باعتباره فيلما عاطفيا بوليسيا تقليديا، بينما تعود الدغيدي -مجددا- لتتناول مشاكل المرأة من خلال شريحة عمرية مهمة جدا في حياة الأنثى، وهي فترة المراهقة بالذات، وذلك في فيلم “مذكرات مراهقة” 2002، الذي يتناول مراهقتين اثنتين (وليست مراهقة واحدة) الأولى فتاة حالمة “جميلة” تعيش أحلام يقظتها -بأكثر من نومها- باعتبارها ملكة تاريخية مشهورة بجمالها (كليوباترا السابعة) ويحبها قائد روماني مشهور بهوسه بها (أنطونيو) ويتصادف أن تلتقي بشاب يشبه حبيب حلمها، فيربط الحب بينهما حتى درجة العشق الذي يزرع جنينا في أحشائها، في الوقت الذي تغار فيه منها صديقتها المراهقة “نانسي”، خصوصا أن الحبيب هو أصلا صديق لها، فتسعى لتصوير لقاء غرامي بين “جميلة” وحبيبها، ثم بعد أن يسافر الحبيب فجأة خارج مصر، تتفق “نانسي” مع شاب آخر يرغب في الانتقام من “جميلة” بسبب إعراضها عنه، فيتم إرسال التسجيل إلى مديرة مدرسة “جميلة” ليفتضح أمرها، وإذ تتعرض “جميلة” للاغتصاب من هذا الشاب فيتسبب في إجهاضها، بينما يعود الحبيب ليعرض عليها الزواج فترفضه وترحل مع والديها إلى خارج مصر كلها. وكما يشير الناقد هاشم النحاس إلى نجاح الفيلم في معايشة الجمهور لأحداث الفتاة المراهقة في مواقفها المتعددة (على نحو ما سبق) فإنه يرى أن هذا الفيلم هو “الأجرأ بين أعمال إيناس الدغيدي، ليس لما يحتويه من مشاهد جنسية صارخة، ولكن للمفهوم الذي تقدمه عن حرية المرأة العربية”، غير أننا نتفق مع الناقد كمال رمزي على أنه “بدلا من أن يفسر الفيلم مأزق أبطاله تفسيرا اجتماعيا، فنفاجأ به يفسرها تفسيرا ميلودراميا، فيرجع سبب النكبات لأشرار مخادعين خبثاء، خلت قلوبهم من الرحمة تماما مثل أشرار السينما المصرية قديما”، غير أنه في كل الحالات يحمل الفيلم رسالة مهمة وهي أن النهاية المأساوية لأحلام الفتاة المراهقة كما يقدمها الفيلم، لا تعني أنها نهاية العالم، وأنه من الممكن أن تبدأ حياتها من جديد، غير أن الفيلم يشير بوضوح تام إلى أن هذه البداية الجديدة لا يمكن تحقيقها في المجتمع ذاته الذي يتسبب في مأساتها، ومن ثم عليها أن تغادر الوطن كحل حتمي لتحقيق هذه البداية، فهو مجتمع من الممكن أن ينسج المآسي ولكنه لا يستطيع أن يقبل البدايات الجديدة، فما يراه الفيلم أنه مأساة يراه المجتمع -داخل الفيلم- عارا أخلاقيا.

ويعد فيلم “الباحثات عن الحرية” 2005 امتدادا لمحاولات الدغيدي الجريئة لعرض المشاكل الحيوية التي من الممكن أن تعترض حياة المرأة، حتى أنه يكون من المرجح أن تؤثر في مصيرها إلى حد كبير. فالفيلم يتناول ثلاث نساء من جنسيات مختلفة من المنطقة العربية، المشهورة بقمع المرأة وظلمها اجتماعيا وقانونيا أيضا، وهن يعملن في مهن مختلفة (مراسلة صحافية وفنانة تشكيلية ومغنية) وتقرر كل منهن مغادرة وطنها إلى بلد أوروبي (فرنسا) حيث يلتقين هناك معا، غير أنهن يواجهن عددا من التجارب العاطفية الخاصة أو الحياتية العامة، مما يجعل كل واحدة منهن تشعر بصدمة غير متوقعة، فإذا كن قد رحلن من بلادهن بحثا عن هوياتهن المفقودة في مجتمعات هذه البلاد، إلا أنهن يواجهن واقعا أكثر صعوبة في بلد غريب، ومن ثم يقدم الفيلم حلا صادما، وهو أنهن يقررن العودة إلى بلادهن لكي يتعايشن من جديد مع مجتمعات لا تنجح في شيء بقدر ما تنجح في قمع النساء وإذلالهن، وهو حل يمكن قبوله باعتباره مقصودا ليحث المرأة على الاستمرار في النضال داخل مجتمعها من أجل حقوقها جميعا، وفي مقدمتها الحق في الحرية، بما في ذلك حرية الجسد ذاته. ومن اللافت للانتباه أنه على الرغم من أن الفيلم يتناول مسألة الحرية الجسدية للمرأة، إلا أنه لا يبالغ في مشاهده الجنسية.

والمتابع لفيلم “ما تيجي نرقص” 2006 من خلال مقارنته بالفيلم الأميركي “”shall we dance? إخراج: بيتر شيلسوم 2004) من الممكن أن يلاحظ أن هذا الفيلم لا يضيف استحقاقا جديدا إلى رصيد الدغيدي في أفلام المرأة، خصوصا أن الفيلم الأميركي يدور حول شخصية رجل في منتصف العمر وليس امرأة، وفي هذا المجال يعد الفيلم الأميركي أمينا في النقل عن الفيلم الياباني الذي قدم هذا الموضوع في السينما العالمية لأول مرة بالاسم ذاته “shall we dance?” (إخراج: ماسايوكى سو 1996)، وإذ يشير الناقد أيمن يوسف إلى كل من هذين الفيلمين، فإنه يرى -ونحن نتفق معه- أن الفيلم المصري أتى ساذجا في ترجمة فكرة الفيلم الرئيسية والمهمة وكذلك المشاعر الحقيقية للشخصيات الأصلية في الفيلمين الياباني والأميركي وخصوصا في الفيلم الأميركي.

وفي كل الحالات يخرج فيلم “مجنون أميرة” 2009 من مصفوفة أفلام المرأة عند الدغيدي، فهو فيلم يدور في قالب خيالي حول قصة حب من الممكن أن تجمع بين الأميرة البريطانية المشهورة “ديانا” وشاب مصري لا يعرفها إلا من خلال صورها المنتشرة في الصحف والمجلات، فيتمادى في خياله إلى درجة تقترب من الجنون.

خاتمة

في كل الأحوال تشكل إيناس الدغيدي ظاهرة خاصة بذاتها في السينما المصرية المعاصرة، لأن أغلب أفلامها لا تتناول الشخصيات النسائية كشخصيات رئيسية فحسب، وإنما أيضا لكون هذه الشخصيات هي شخصيات فاعلة في الأفلام، ومن خلالها تطرح المخرجة أفكار أفلامها. ومع ذلك فإن أفلام الدغيدي، وإن تتميز بقدر من الجرأة اللافتة للانتباه من خلال أسلوب معالجتها للمشاهد الجنسية في أفلامها، غير أنه يعد -من وجهة نظرنا- قدرا محسوبا من الجرأة، ونرى أيضا أن هناك كمّا ملحوظا من الأفلام المصرية السابقة على ممارسة الدغيدي لنشاطها الإخراجي، التي تتجاوز الدغيدي بجرأتها في تقديم المشاهد الجنسية، فضلا عن الجرأة في أسلوب طرح الموضوعات المتعلقة بها، ويزيد على ما سبق أن السينما المصرية زاخرة بكمّ ملحوظ من الأفلام التي يمكن أن تدخل تحت مصطلح “سينما المرأة”، بحسب ما أشرنا إليه سابقا.

     
     
 
 
 
     
 

وفاء السعيد

باحثة من مصر

مارس 2018

 

 
 
 

صرخة “أنا حُرَة”.. تحيّزات الخطاب الذكوري المُستبطَن

 
 

عندما سئلت الفنانة لبنى عبدالعزيز عما تقدّره من أعمال في مشوارها الفني، في حوار أجراه معها الصحافي المصري محمود السعدني في برنامج للتلفزيون العربي “ماسبيرو” وقتذاك، وقد كان عمرها الفني لم يتخطَ ست سنوات، ورصيدها من الأفلام السينمائية لم يتجاوز الأحد عشر فيلما، ذكرت بكثير من الفخر والاعتزاز فيلمها الذي أصبح أيقونة من كلاسيكيات السينما المصرية بلا شك “أنا حُرَّة”، معللة رأيها بأن الفيلم قدَّم صورة جديدة غير تقليدية للفتاة المصرية في طريق كفاحها نحو تحقيق الحرية والتخلص من رِبقة التقاليد والعادات الخانقة. في لقاء آخر مع إحدى القنوات الفضائية المصرية يفصل بينه وبين اللقاء الأول حوالي نصف قرن، مازالت عبدالعزيز تعتز بـ”أنا حُرَّة” ليس كونه عملا سينمائيا مبهرا إخراجيا مثلا، أو لتكامل عناصره الفنية، ولكن لما يحمله من رسائل ومعان قدمت صورة تنتصر للمرأة المصرية والمرأة في المطلق، وأن هذا الفيلم تحديدا جلب لها الكثير من الاحتفاء والتقدير محليا وعربيا.

وهذا تحديدا المريب في هذا الفيلم. تلك الضجة التي أثيرت حوله ومازال يثيرها، وهذا الاحتفاء الكبير الذي صاحبه، وهذا الفخر والاعتزاز الكبير الذي يشعر به صُنَّاعة، الذين رسخت في قناعاتهم أنهم يحسنون للمرأة وللمجتمع صنعا. هذا ما يجعلنا في محاولة لأن نسائله اليوم بعد انقضاء كل هذه السنوات، وما حققه، ومازال يحققه منذ أن عُرض للمرة الأولى عام 1956 وحتى اليوم. ومدى تأثيره في غرس ما أسمته عبدالعزيز، على حد تعبيرها، “صورة جديدة” للفتاة المصرية “المعاصرة” في حينها. هل قدّم الفيلم بالفعل هذه الصورة؟ ومن أي منظور؟ في رؤية مَنْ؟ وهل كان عبدالقدوس ومحفوظ وأبوسيف “تقدميين” فعلا في تصويرهم لقضية المرأة؟ وكيف انتهى بـ”أمينة” الحال بعد كفاحها وصراعها لتحقيق تلك الحُرَّية التي دائما ما تُنكر عليها.

لبنى عبدالعزيز، التي ذكرت في أكثر من مناسبة أن شخصية “أمينة” مستوحاة منها نفسها، تقول “أذكر أن الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس قال لي: أنا كتبت رواية ‘أنا حرة’ بعد أن استوحيت ملامحها وشخصية البطلة منك. فقد كان إحسان صديقا لوالدي وجارا لنا في حي غاردن سيتي، وعاصر إصراري على رفضي كلية الآداب ورغبتي في الالتحاق بالجامعة الأميركية، لأن الدارسين بها عددهم قليل وشهادتها غير معترف بها”. وأضافت عندما قدمت فيلم “أنا حرة” عام 1956 شعرت بأن الباب انفتح أمام هذه الصيحة الجميلة لحرية المرأة، ورغم ذلك كنت أحسّ أننا نخطو خطوة إلى الأمام، ثم نعود خطوات للخلف، ومازلنا في معركة التحدي للحصول علي الحرية الكاملة للمرأة”، يبدو أنها لم تراجع موقفها من الفيلم مع انقضاء الزمن، وأنها مازالت تعتز به، وأجدها معتدلة لأنها وصفته بخطوة على الطريق تم التقهقر عنها. وهذا ما يبرّر موقفها بالنسبة إليّ، دفاعها عن قصة تمثلها هي شخصيا، لكن رأيها المنحاز يفضح عدم وعيها هي نفسها بالخطاب الذكوري المستبطَن الذي ينطوي عليه العمل.

بالطبع هذا المقال ليس محاكمة لشخوص راحلين ليسوا موجودين اليوم في عالمنا ليدافعوا عن أنفسهم حول ما سوف نوجهه لهم من نقد، نحن واعون بعامل الاختلاف الزمني، ولن نحاكم عملا في الماضي بأعين زمننا الحاضر وبمفاهيم اليوم، فالسياقان باتا مختلفين أو متباعدين، مما يجعل أي نقد متجنِّ يحاكم نصا كتب أو أخرج منذ أكثر من ستين عاما بمفاهيم معاصرة سوف يكون ظلما نحاول ألا نقترفه! من قبيل لماذا فعل ولم يفعل؟، هو بالفعل أنتج نصه وتركه لنا لنتناقش في ماذا فعل؟ وكيف فعله؟ وبأي وجهة نظر صاغه؟ من الجيد أن يعيد الإنسان التفكير فيما كان يقال له، وأن يتأمله، ويفحصه بعينٍ جديدة تفككه وتكشفه من داخله، هو نفسه، لا برؤية جاهزة مفروضة عليه من خارجه.

حرية المرأة من منظور المبدع الرجل

من الخطير أن تصنع فيلما عن المرأة ولم يشترك في فريق كتابته أو إخراجه اسما نسائيا واحدا، فالأمر كله يصبح بيد المبدع الرجل، بما في ذلك اختياراته الفنية، طريقة التصوير، وما سوف يبرزه في المركز وما سوف يقصيه مزويا في الهامش من حكايته. نجد أنفسنا أمام شريط ذكوري بحت ابتداء من كاتب القصة عبدالقدوس، مرورا بكاتب السيناريو نجيب محفوظ، وكاتب الحوار السيد بدير، والمنتج رمسيس نجيب، الذي كان مسيحي الديانة واضطر إلى التخلي عن عقيدته للزواج ببطلة الفيلم لبنى عبدالعزيز زواجا شرعيا يرضى عنه المجتمع، وأخيرا المخرج صلاح أبوسيف والذي يلقبه البعض برائد الواقعية في سينما المصرية.

واليوم عندما تتصدر مخرجة شابة لصنع فيلمها الأول، تجد في جمهور السائلين من يبرز موجّها لها سؤالا في نبرة تحدِ ظاهرة، لماذا لم تصنعي فيلمك عن “قضية المرأة”؟ كمّ المخرجين الذكور الذين تناولوا المرأة في أعمالهم في تاريخ السينما المصرية كله لا يُعد، ومع ذلك لم يجدوا مَنْ يتصدى لهم ليسألهم لماذا تناولتم قضايا المرأة في أفلامكم، بل إنهم يتلقون أعمالهم تلك بالاحتفاء والتهنئة والابتهال، كأنه تنازل ونزل من عليائه الذكورية ليتصدى بقلبه الأبوي الرحيم لقضايا الجنس الضعيف الناعم المقهور، فتعلو أسهم أرصدته كمثقف رجل يتبنى قضية المرأة المهضوم حقها يا وِلداه.

وتعلق سلمى الطرزي، مخرجة شابة على الاختيارات الفنية للمخرجين الرجال ومتلقيها فتقول، “لا أظن أحدهم سأل مخرجا ذكرا سؤالا صيغته: “لماذا لم تختر موضوعا يخص ‘قضايا الرجال؟’ والسبب بسيط، فلا شيء محددا اسمه ‘قضايا للرجال’، لأن الأبوية تقوم على كون الذكر القاعدة العامة، بينما الأنثى (وكل المنتمين لهويات جندرية غير معيارية) هي الاستثناء، المرأة هي الآخر، وبالتالي تتمركز النظرة لهذه المرأة، هذا الآخر، حول اختلافها عن القاعدة العامة، اختلافها عن الذكر وعلاقتها به. بمعنى آخر، وحسب المصطلح الفرويدي البغيض ‘غياب العضو التناسلي’، فإن العضو التناسلي هو المعيار الأساسي الذي يُصنَّف البشر بناء على وجوده أو غيابه”.

ثنائية البطل/الضحية

يحيلنا هذا إلى ثنائية البطل/ الضحية ما قدمه أبوسيف ورفاقه في شريطهم لا يعدو كونه استكمالا وامتدادا طبيعيا للخطاب التنويري الحداثي الذي بدأ مع قاسم أمين والذي أخذ على عاتقه أن يتحدث باسم المرأة أن يكون صوتها المكتوم خلف أسوار القهر العالية، وأن يتبنى هو بكرمه الذكوري “قضيتها”، بسبب عقله المتفتح المتأثر باختلاطه بالثقافة الأوروبية كأنه اكتشف فجأة بفضل سفره ورؤيته لنماذج النساء الأجنبيات، أن بجانبه كائنا اسمه “المرأة” يعيش مُهمشا مقهورا متاعا للرجال وخادمة لهم شأنها في ذلك شأن أي أقلية عرقية أو دينية.

كان يربط هذا الخطاب التنويري نفسه دائما بخطاب وطني ذكوري يضع الوطن والرجل في مركزه. فالمرأة هي نصف المجتمع، وهي التي تربي نصفه الآخر، فإذا ما أردنا أن نحرّر الأمة علينا أن نحرر المرأة، وأن تترك للجواري اللاتي يقبعن في بيوت أزواجهن فسحة من الحرية للتعلم الأوليّ، ليس معاذ الله أن ترتقي في مراتب الدراسة لتصل إلى ما هو أبعد من مبادئ القراءة والكتابة والحساب، فقط نذر يسير لكي تربي وتعد الرجل الذي سيقود مهمة الدفاع عن الوطن والحرية.

وبالرغم من هذه الدعوة البسيطة لتعليم المرأة، وتركها سافرة بلا يشمك أو برقع يغطي وجهها، أقامت الدنيا ولم تقعدها حتى اليوم، ونال صاحب الدعوة على إثرها ما ناله من هجوم وسب يلاحق اسمه حتى اليوم.

نظرية الضحية كما هي معروفة في مراجع الدراسات الأنثروبولوجية تتلخص في كون الضحية بالطبع “ناقصة” دائما، فهي بذلك في حاجة إلى مَنْ يمثلها، وبما أنها “ضعيفة” أيضا دائما، فهي بحاجة إلى حماية الطرف الأقوى في تلك العلاقة الشائهة. وبذلك ترتسم شبكة من علاقات القوة، يظهر فيها ذلك “البطل” المنقذ في صورة الرحيم المدافع، يبالغ في حنوه إذا كان مبدعا يقرر أن يخرج فيلما أو يكتب نصا يبرز فيه ما لا تستطيع المرأة أن تقوله بنفسها. وهذا نفسه ما كانت تراه أمينة في عباس تنظر له بمشاعر ملتبسة، تخشى على حريتها منه، وتنظر له بإكبار وإجلال وتقديس لجديته وهالة الهيبة التي يحيط نفسه بها منذ كان طالبا صغيرا، وتلتمس في شخصيته حصنا آمنا، وحضنا رحيما يكفي أن تلقي بنفسها بين ذراعيه لتشعر أنها في أمان. ولا يدري هذا المبدع أن خطابه المشبّع واعيا أو لا واع بأيديولوجيته التقليدية وثقافته التي لا يستطيع الفرار منها مهما ادّعى “البطولة” يفضحه ويكشف تحيّزاته. وهذا ما يجعلنا نسائل حدود الجرأة التي استطاع أن يتخطاها الفيلم الذي من المفترض أنه تجاوز حدود الخطاب “الأميني” (نسبة إلى قاسم بك أمين) زمنيا حتى نستطيع فعلا وصفه بالتقدمي، أو أنه غيّر شيئا في العقلية السائدة والصورة النمطية عن دور المرأة في المجتمع، هل خرج هذا الفيلم عن حظيرة الخطاب التقليدي أم عاد وأعاد “أمينة” – التي باتت هنا رمزا يشير إلى المرأة بوجه عام- إليها رغم كل ما حققته من إنجازات؟

أمينة “سي” السيد/عباس سيان

أمينة” عبدالقدوس لا تعدو كونها طبعة جديدة أكثر حداثة من “أمينة” نجيب محفوظ، فمع تعاقب الزمن لم يتغير أي شيء مما هو متوقع منها. بل أجد أن هذا الفيلم والنص الروائي في آن بمثابة إهانة واضحة لكل ما حققته المرأة في طريق حريتها من إنجازات فصلت بينها وبين دعوات الحرية الأولى زمن قاسم أمين، وبفضل حركة نسوية مصرية قادتها السيدة هدى شعراوي. صحيح أنها كانت حركة طبقية نهضت على أيدي نساء الأرستقراطيات من طبقة الكبراء والأعيان، وهنا جانب آخر للقوة الاقتصادية من مكانة تجعل مجتمع الرجال يصمت عن صالون ثقافي لأميرة تستقبل فيه رجالا من المفكرين، أو لا يستطيع أن ينتقد بلهجة حادة أو يهاجم بضراوة ما تفعله سيدة مجتمع بفضل مكانتها المادية والاعتبارية ونسبتها لعائلة فلان باشا، فيحميها من الذكور الآخرين إما ثروة وإما ذكر صاحب مكانة تعيش في كنفه!، لكنها حققت مكاسب حقيقية لا تنكر على الأقل في المجال الخيري والاجتماعي والأنشطة الرياضية والفنية التي كانت محرّمة على المرأة وقتذاك تحريما قاطعا.

أمينة زوجة “سي السيد” كانت تجلس تحت قدميه تغسلهما له بعد عودته من سهرة عتيدة تعرف أنه يخونها فيها مع كل صنوف النساء، وتحمد له كرمه أنه لم يتزوج عليها رغم ولعه بالجنس اللطيف كأبيه وكابنه ياسين الذي سيكمل مسيرته من بعده. كانت حبيسة بيتها الذي حُملت إليه عروسا صغيرة قاصرا ولم تخرج منه أبدا إلا مع سي السيد لتزور أمها زيارات خاطفة متباعدة. ليست مثقفة سياسيا، وقد كانت السياسة والدبلوماسية وتقلد المناصب الحكومية والبرلمانية حِكرا على الرجال من دون النساء، والأثرياء من دون الفقراء، لا تدري من أمر البلاد شيئا، ولا يصلها من أخبار سياسة الدولة سوى ما يتبسط السيد أحمد عبدالجواد كرما منه أيضا في إلقائه على مسامعها وعلى إثر انتشائه بالخمر، وإن كان في وعيه ما حدّثها في تلك الشؤون قط. بلغ جهلها السياسي حد أن استوى لديها المصري والمحتل الإنكليزي لا تدري لماذا عليها أن تكرهه ولا تشعر ببغض للمحتل لأنه محتل أو لأنها تعرف قضية وطنها فقط لأن ابنها فهمي العزيز عليها يكرههم، تلك هي صورة المرأة الساذجة التي عوقبت بالطلاق عندما شطّت بأمنياتها إلى أبعد مما هو مرسوم لها وقررت أن تخرج لتزور مقام سيدنا الحسين، فتعرضت لحادث سير لأنها لم تكن تفقه المشي في الشوارع التي لا تعرفها، المرأة ربة المنزل، وأم العيال، التي تسعى لتسمين بناتها بما كان يسمى بـ”البلابيع السحرية” التي تجلب من العطار لإعدادهن للزواج عندما كانت السمنة معيار جمال الأنثى، والتي تحددها معايير ذكورية سلطوية بمرور الزمن بين السمنة والنحافة، صورة المرأة يشكلها الرجل وهي تسعى لتلبية الصورة التي يرسمها لها إرضاء له. كذلك كانت تحمل بناتها بأعباء الواجبات المنزلية كي يصبحن “سيدات بيوت” ماهرات، أمينة المسكينة التي لا تجلس بين يدي زوجها إلا وهي خافضة العينين ولا تخاطبه إلا بسيدي.

هل هذا الهوان تغيّر مع “أمينة” عبدالقدوس سنة 1956 زمن إنتاج الفيلم؟.. المرأة في ذلك الزمن صوّرها الفيلم تسعى للعريس، وما تتعلمه من فنون العزف والرقص والغناء ضرورة من لوازم تربية الفتيات وإعدادهن للزواج. باستثناء النقد الموجه لنساء الحي اللائي تلكن بألسنتهن سير الناس في عادة قبيحة مزمومة توارثناها جيلا بعد جيل، قدَّم الفيلم نفس الخطاب تكرر في صورة العمة، وفي النص الروائي شعرت أمينة بمشاعر ملتبسة تجاه أمّها التي كانت ضعيفة مستسلمة بحاجة لمن يعولها؛ ولذلك تركت ابنتها لعمتها تربيها لتبحث لها بعد الطلاق عن زوج يتولاها بعنايته وبإنفاقه، فالرجال قوّامون على النساء بما أنفقوا بالطبع، أما محاولاتها لأن تدرس وتكسب قوتها هي عبودية لصاحب العمل، أما عبوديتها لزوجها أو حبيبها فهي عبودية محبّبة بإرادتها لأن عذرها أنها تحب! يا لها من حرية نالتها المرأة.. ويا له من منطق أعوج إن قبلناه من منظور أيديولوجي، لفظناه من وجهة نظر جندرية. أيّ هراء هذا. ما الذي اختلف عن تلك الصورة المهينة سوى أن أمينة وصلت في المراحل التعليمية إلى التوجيهية وطمحت بسوء أدبها إلى أن تزامل الشباب في الجامعة، ثم تجد وظيفة. وأنها بسبب ظروف نشأتها المعقدة وانفصال والديها وتربيتها كاليتيمة في منزل عمتها أوغرت صدرها وأورثتها عنادا وصلابة كأنها حاقدة على العالم، فهي في تحليل إحسان للشخصية فتاة معقدة أصبحت عنيدة من أجل العناد والمعارضة والانتصار لنفسها الجريحة. هذه الخلفية النفسية في تاريخ الشخصية اختزلها الفيلم، لكنها فضحت في الرواية أسباب توق أمينة غير المعلنة للحرية التي لا تدري بماذا تفعل بها، إنه تحد أكثر منه حرية.

من الخطير أن تصنع فيلما عن المرأة ولم يشترك في فريق كتابته أو إخراجه اسما نسائيا واحدا، فالأمر كله يصبح بيد المبدع الرجل، بما في ذلك اختياراته الفنية، طريقة التصوير، وما سوف يبرزه في المركز وما سوف يقصيه مزويا في الهامش من حكايته

كما أنها تماثلت نفسيا مع صورة الأب ذلك الطيف الذي أحبته من بعيد كأنه الطائر المحلق، كان حُرّا لا يعرف تحمل المسؤولية، فأعجبت به وأرادت أن تكون مثله. فظهرت أمينة في ثوب “الاسترجال” كأنها بتمردها تريد أن تناطح الرجل وتقتنص منه مكانه!، لا صيحة حرية حقيقية أصيلة تنبع من ذات مظلومة تخوض معركتها على أرض صلبة ثابتة ضد طغيان جنس يضعها دائما في الهامش ويختزلها في الجنس وتربية الأطفال. فتشعر معها في النصيْن بأنها تقف على رمال متحركة وأنك تغوص معها في تشتّت ذهنها وحيرتها. ولم يذكر الفيلم حادث التحرش الجنسي الذي تعرضت له هي طفلة في العاشرة من عمرها وذكرته الرواية، فأثّر فيها وأصبحت تشمئز من الجنس الآخر بصفة عامة، وأصبحت باردة معه.

كذلك الوصف الإيروتيكي الصارخ الذي بالغ إحسان فيه في مواضع عديدة من الرواية، يمثل صورة مهينة أخرى تصور إلى أيّ حد لا يرى الرجل من المرأة التي أمامه سوى عودها ونهديها وشفتيها، وأنها مادة استعمالية، جسد، مثار فتنة لكل شباب ورجال الحي. حتى شخصية الرجل الذي أراد خطبتها في الفيلم اعترض على ما يظهره فستانها المفتوح من مساحات في جسدها!، فجسد المرأة واقع تماما تحت سلطة الرجل، مساحات التغطية والتعرية، يتحكم فيما يستطيع التسامح معه وفيما لا يقبله! إحسان جعل من أمينة نفسها في مواضع أخرى كائنا شهوانيا، ملّ حريته “المزعومة” فبماذا فعلت بالتعليم والعمل؟ لم تجنِ سوى التقلب في فراشها مع خيالاتها، تمردت على الزواج لكنها وهبت نفسها لقبلات عابرة لا تتجاوز الحد ولم تتخطَ سقف فقدان العذرية. تريد رجلا لتكتمل به أنوثتها التي أهدرها طول استرجالها.. وأنها لم تحسّ بحرارة جسدها سوى بين ذراعي “عباس″ صورة البطل المُخلِّص الذي أسلمت جسدها له وتماهت معه وذابت تماما فيه كأنه لا وجود لها بجانبه.

فدائما لا بد من “عباس″ ينهي حيرة “أمينة” ويجذبها إليه من ظلمة ضلالها.. جلوسها تحت قدميه لمساعدته في ارتداء الحذاء هو ما سيحررها! فقد ذكر في الرواية جملة واضحة “لن يملأ هذا الفراغ إلا رجل”.. هو الذي يمثل المرجعية، والمثل، رمز الثقافة، والاطلاع والثورة، كل وجوه الثائرين وجهه كما ذكرت الرواية أيضا، وهو القائد والمعلم في مشهدين بينهما مونتاج متواز بينما أمينة تلهو على البيانو مع ابن عمتها المحروم من العزف على الفيولينا لتحكمات سلطة أبوية أيضا، يصنع عباس المجد، يجتمع مع مجموعة من زملائه يخططون لمظاهرة أو عمل ثوري، واستخدام المونتاج المتوازي هنا أحدث مفارقة أو تضادا بصريا يبرز المعنى ويوضحه بين العبث والجد، الثورة الزائفة التي لا داعي لها على التقاليد والثورة الحقيقية التي فيها خلاص الوطن. وفي وصفه للقائها بعباس بعد أن فصلت بينهما أعوام كان يصف لهجة جمله الحوارية في النص وهو يوجه لها خطابه الذي يفكك دعوتها بأنها نالت بكفاحها حريتها ويتهكم على عقلها ومعتقداتها ويفنّدها لها ثم يسحقها سحقا كما ظهر في الفيلم أيضا بـ”قال كأنه يلقي خطابا سياسيا.. قال كأنه يعطي درسا..”، وكأن الراوي العليم الذي يأخذ من الإله صفة المطلع على ضمائر ونفوس شخوصه، كان هو نفسه إحسان عبدالقدوس الذي وضع أمينة طول الرواية في مقعد الطلاب الدراسي وألقى عليها محاضرة طويلة تضمنت أفكاره هو الذاتية جدا ومفهومه الخاص جدا عمّا تعنيه حرية المرأة في مجتمع شرقي.

للنص عتبات ونستطيع أن نلج في تحليل الشريط منذ بداياته الأولى التي تبدأ أولا بالعنوان، “أنا حُرَّة”، استخدام ضمير المتكلم الذي يتوجه بخطابه لجمهور مُتخيل مُفتَرض، فنبرة المواجهة نجدها مبكرة جدا. يبدأ الفيلم باللافتة نفسها التي بدأ بها النص الروائي، اعتاد عليها قُراء عبدالقدوس الذي يقدم مقولة مُلَخِصة لأفكاره في النص في بدايته، وكانت مقولة صادمة “ليس هناك شيء اسمه الحرية، وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه. إننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغراضنا.. وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك: لأي غرض ستهبها؟ من الجليّ أن ليس عباس وحده من يلقي دروسا”.

الانسلاخ الحضاري من الهُوية الشرقية

الفيلم وكذلك الرواية، كانت أشبه بتقرير أو بحث أمينة المتواصل عن معنى الحرية. وقد أقر عبدالقدوس نفسه في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه، بأن أسلوبه الصحافي كان يطغى على أسلوبه الروائي، وأنه إذا ما أراد كتابة أرائه هو نفسه في مقالة مطولة وضعها في قالب رواية وراح يبث فيها عن كل ما يريد أن يطرحه من آرائه الشخصية. هذا ليس جرما في حد ذاته، الجريمة أنه يقول في مقدمة الطبعة الأولى من نفس الكتاب إنه يقدم حقيقة الإنسان، وتلك هي الحقيقة. أجد في ذلك غرورا ذكوريا جليّا، كأنه يملك مفاتيح الحقيقة المطلقة وكأنه هو الذي سيلقّن المرأة درسا عن ماهية الحرية؟ وكيف تكونين حرّة؟ أشبه بكتالوج أو الدليل العملي لحرية المرأة. هذا الأسلوب السخيف الذي وضع المجتمع حتى اليوم في أزمات حقيقية لم يتجاوزها منذ عهد قاسم أمين مرورا بالأمينتين الأولى زوجة “سي” السيد، والثانية رفيقة “سي” عباس.

ففي رحلة البحث هذه، لا تعدو أمينة أن تكون سوى رجع صدى لكل ما يقال عليها ويُردد على مسامعها ويُلقى في جعبتها عن معاني الحرية، وكيف تصل إليها. ففي مشهد تسمع من “فيكي” صديقتها اليهودية أن عليها أن تستمر في دراستها وتعمل وتكسب قوتها لتكون حرة، تعود في المشهد الذي يليه لتردد كأنها ببغاء بطريقة آلية نفس الحوار لابن عمتها. وفي كل ما تفعله تخلص لمعنى عن الحرية تستقيه من الآخرين لا ينبع من ذاتها. كأنها نفس حائرة تائهة، شاردة ضالة. كما أنها تمردت على تقاليد المجتمع إلى حدود الخروج والوقوف في البلكونة والرقص، مرافقة شباب وفتيات حي الظاهر اليهود.

والجدير بالذكر أن إحسان عبدالقدوس، كما أبوسيف في الفيلم، أظهر احتقارا مستبطنا لتلك النزعة، فلكي تتحرر أمينة من تقاليد أسرتها وحيّها السكني، كان عليها أن ترتكب جرما مزدوجا، أن تنبذ الدين والتديّن أولا، ثم تنخرط في الثقافة الأجنبية وتنبذ الثقافة الشرقية. ولماذا لا تكون سيدة شرقية وحُرَّة؟ نبرة إظهار الشذوذ عن العادات كانت مرتفعة جدا في النصين، الفيلم والرواية. فميولها للتحدث بلغة أجنبية كي تجد حرية أخرى في رحابة انتقاء اللفظ الذي تريد أن تنطق به ويكون محرما النطق به في لغتها، والاتجاه للدراسة في الجامعة الأميركية لا المصرية وتشبعها بالثقافة الأميركية التي ذكر في النص أنها “تصون الحرية من التقاليد الشرقية العتيقة”، وفي أول يوم دراسي لها هناك يصفها أنها تحررت من الثقافة الشرقية التي مازالت تسدل على وجهها برقع الحياء. أي أن الحياء “برقع شرقي” يغيب عن الفتاة التي انسلخت عن جذورها وراحت تلقي بنفسها في أحضان حضارة وثقافة غريبة علينا، وتولع برقصاتها وموسيقاها التي تهكم عليها إحسان وشبهها بشخير النائم، رغم أنها مسألة أذواق في نهاية الأمر.

هذا الانسلاخ الذي بدأ معها مبكرا بمخالطة اليهود الذين يشربون الخمر، ويقبّلون بعضهم بعضا، كأن “الرجلين” عبدالقدوس وأبوسيف، يشيران بفزّاعة للمجتمع بأن هذه ليست هي الحرية؟ وللبنت: هل تريدين حريتك؟ هذا يعني أنكِ تسهرين وتشربين ويقبلك الشباب، وأنك تتأخرين لتجدي رجالا يتحرشون بكِ!، وأن تلك ثقافة غريبة علينا. ألم يجلب التنويريون أنفسهم أفكارهم عن المرأة من هذه الثقافات؟

إن محكمة الضمير تلك التي تتخلل الشريط في لحظات، كلما أتت أمينة تصرفا يبدو طبيعيا لإنسانة لا تريد من أحد أن يتدخل في تصرفاتها، يؤنبها صوت رخيم جليل كأنه الإله في عليائه وهو صوت “رجل” يحاسبها ويوبخها أحيانا ويهزأ بتصرفاتها ويحذرها من عواقبها ويتركها في لاوعيها تتمزق وتبكي ويعلو بكاؤها.. لماذا لا يكون صوت أمينة الداخلي صوتها هي نفسها أو حتى صوت امرأة؟ لماذا صوت العقل والضمير رجلا؟.. أليس هذا اختيارا فنيا من مبدعي العمل يحق لنا مساءلته، ويكشف لنا لمحة من نزعتهم الذكورية.

نهاية حرية المرأة

هنا تأتي مسألة النهاية التي اختلفت بين النص الروائي والفيلم. ففي نهاية الرواية كل ما يفعله إحسان هو أن يثور العاشقان على مؤسسة الزواج التقليدية وأن يتساكنا أو يتعاشرا لمدة ثمانِي سنوات دون زواج. لكن أمينة تتخلى تماما عن نفسها، لتصبح سيدة المنزل التي كانت لا تريد أن تكونها، فالرجل الأناني بطبعه لكي يتفرغ لقضية التحرر والثورة، على المرأة أن تضحي بنفسها في سبيله، خطاب “تيمور” لشفيقة في الزمن الحديث. بل أحبت المطبخ وشعرت بأنه مكانها على حد وصفه في الرواية، وأنها ندمت على سنوات عمرها التي قضتها في التعليم والعمل – ولم تقضهِا في المطبخ بالطبع- وتشعر اليوم بأنها لو كانت قد قابلت عباس قبل معركة استكمال دراستها الجامعية ما كانت أكملتها.. أصبحت تكنس وتنظف وتعد له ملابسه وتلخص له كتبه وتتولى مصروف بيته ولا تريد سوى ما يريد ولا تفعل شيئا يخالف إرادته، لقد وجدت سعادتها في الحب وفي إيمانها بهذا “الرجل”، هي تخدمه في منزله وهو يتولى عنها مهمة الكتابة، والسجن، والثورة ويجلب للوطن حريته نيابة عنها. فهل هذا خطاب تقدمي يناصر المرأة ويذود عن حقوقها حقا؟

عباس″ رجل تقليدي جدا، شرقي جدا، تصوراته عن دور المرأة في حياة الرجل ليست سوى منظور تقليدي، كل ما أدخله من تطور عليه أنه وهبها شرف أن تخدمه وهو يكافح من أجل الوطن، فيصبح كفاحه كفاحها كما قالت أمينة في الرواية إنها لم تعد تريد أن تفعل يكفي أن عباس يفعل! تخضع له في نهاية الأمر وتركع تحت قدميه بنفس الطريقة التي تجلس بها عمتها تحت قدمي زوجها. ومن ثم لا فكاك من العبودية كما وصل الفيلم لتلك النتيجة وألقى بها في وجه المتفرج، لقد أجلستك في مقعدك ساعتين إلا ربع الساعة تشاهد فتاة عنيدة بلا طائل، اكتشفت خطأها بعد أن وجدت الرجل الذي يشكمها مع إضافة بسيطة أنها تحبه فستقبل أن تفني كيانها في كيانه.

لا مفر من أن يبدأ الفيلم/ النص بأمينة ساخطة ناقمة على صورة عمتها المستسلمة لطغيان الزوج وتحكماته، تشمئز من جلوسها تحت قدميه تنظف له الحذاء وينهرها وهي في وضع أدنى منه، ثم ينتهي الفيلم بأن تفقد شخصيتها وأن تذوب تماما في شخصية عباس، وأن تجلس هي الأخرى تحت قدميه تساعده على ارتداء حذائه. وكما ذكر النص “تصبح أمينة صورة مهذبة من عمتها”.. النص الروائي الذي يستفيض في السخرية من أمينة ومن الحرية التي تسعى إليها.

وهذا يتكرر مع إحسان بكل أسف في قصته القصيرة “النظارة السوداء” والتي أيضا يحاكم فيها صورة نمطية للمرأة العابثة اللاهية ولا بد من رجل صارم حاد الملامح قوي الشكيمة كأحمد مظهر أو شكري سرحان مع أمينة ليتولى مهمة كبح جماحها وترويضها وأن يزيل الحجاب الأسود الكثيف من على عينيها وأن يريها الطريق ويأخذ بيدها من ضلالها ويردها إلى جادة الصواب. أي استهزاء أكثر من ذلك بالمرأة ككيان حر واع عاقل يستطيع أن يحدد خياراته بنفسه بعيدا عمّا يقرره لها الرجال الأقوياء رموز القوة والرحمة؟

لم يخرج خطاب أبوسيف في الفيلم عن هذا الإطار الذي كان في نظري ليس سوى دعاية أيديولوجية رخيصة وبغيضة للنظام الناصري، الذي يروّج لمجانية التعليم والمساواة للجميع، وحرية المرأة في العمل والخروج لبناء المجتمع، ولكن “بحدود” وشروط حتى لا تتمادى في تصديق نفسها، ففي النهاية على أمينة الركوع تحت قدمي سيدها “سي” السيد/عباس، والنهاية الشرعية التي اختلفت عن نهاية الرواية التي في رأيي الشيء الوحيد الثوري في هذا النص الرجعي! لكن لم يرد بها لا المخرج ولا فريق رجاله غير الصداميين أن يصطدموا بها مع المجتمع فآثروا السلامة وزوّجوا أمينة من عباس في السجن بعد أن قبض عليهما وبحوزتهما منشورات محرّضة على النظام الملكي الفاروقي ويا لعجب الأقدار يحرر المأذون العقد قبل قيام انقلاب يوليو 1952 بثلاثة أيام، لتكون بذلك النهاية السعيدة. نهاية حرية المرأة.

     
     
 
 
 
     
 

أسماء الغول

ناقدة من فلسطين

مارس 2018

 

 
 
 

سينما المرأة الفلسطينية.. طريق نحو الاحتراف

 
 

لا ترى المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر أن كونها امرأة أضاف إلى مهنتها في مجال الإخراج، أو أخذ منها، فهي تقول عقب عرض فيلمها “واجب” مؤخرا في إحدى قاعات السينما في مدينة تولوز الفرنسية “في فلسطين تتم معاملتي طبقا لما أصنعه من أفلام، ولا أحد يمايز بمعاملتي لأني مخرجة امرأة، سواء بالسلب أو الإيجاب، إلا في أميركا؛ فهناك يصنفون أفلامي ضمن مهرجانات سينما المرأة”. تضيف آن ماري “أحيانا الناس لا يصدقون المرأة، سواء كانت محامية أو كاتبة أو مخرجة، لذلك عليها على الدوام، أن تبذل مجهودا مضاعفا لإثبات ذاتها وما تسعى لقوله”.

ويبدو أن الهوية “الجندرية” لم تكن يوما من أولويات المخرجة آن ماري جاسر، كما أنها ليست من أوليات الفلسطينيات اللاتي عملن مبكرا في مجال السينما، فالهم السياسي والوطني في مقدمة المسيرة السينمائية الفلسطينية، ونادرا ما شغلهن إثبات ذواتهن كنساء في حقل السينما “الرجالي”، أو أمام تصنيف المجتمع لهن، بل تقف هذه “الكليشيهات” المكررة عائقا أمام إثبات حرفيتهن.

عن ذلك تقول ريم نزال في الكتاب المشترك “عين على سينما المرأة الفلسطينية”، “جاءت الرؤية النسوية للسينما من خلال نظرة ورؤية المرأة لذاتها ولقضيتها ومشاكلها، وهي الرؤية المبنية على أساس رفض النظرة التقليدية الجنسوية والمواقع التي توضع بها المرأة قسرا”، معتبرة أن “الثقافة الاجتماعية السائدة وتعبيراتها الإبداعية ومن بينها السينما، يمكن لهما أن تكرسا هيمنة الموقف الذكوري على العلاقات الاجتماعية وتضمنا بقاء مراكز القوى التي تتحكم بها في مواقعهم، وذلك تبعا لموقف أصحابها من منتج وكاتب للنص ومخرج، بهدف تسخير السينما في خدمة بقاء ثقافة الهيمنة، وتكريس مراكز القوى بسبب الموقع الذي تحتله السينما كإحدى الأدوات الهامة التي تعكس الواقع ومفاهيمه وبسبب جماهيريتها وتنوع واتساع نطاق مرتاديها ومتابعيها”.

سينما القضية

على الرغم من رفض النظرة التقليدية لدور المرأة في السينما إلا أن المخرجة الفلسطينية خاصة في البدايات لم تعمل على تقديم النساء ككيان مستقل وعرض معاناتهن أو مشاكلهن بكل منفصل، بل انطلقت بقوة لخدمة أجندات سياسية ووطنية تستقطب الرجال والمجتمع، ومرت سنوات طويلة قبل أن تصور المرأة فيلما عن معاناة المرأة أو قضاياها، وربما كان هذا يميز المخرجة الفلسطينية من ناحية اتساع نظرتها وعدم حساسيتها تجاه هويتها، ولكن أيضا يمكن اعتباره تقصيرا بحق النساء ومعاناتهن الخاصة وحياتهن.

وربما يكون فيلم “واجب” الذي عُرض مؤخرا للمخرجة آن ماري جاسر، قد قدم نموذجا للجرأة في طرح القضايا الوطنية والفلسطينية والنقد الذاتي للحياة الاجتماعية والسياسية منضويا تحت راية السينما الفلسطينية، ولم يجعلها كونها امرأة تتردد أو تبطئ خطواتها في خوض طريق مشروعها السينمائي وفي طرح الهوية الفلسطينية بنقد حاد بعيدا عن أي هوية جندرية.

هذا لا يميز آن ماري جاسر وحدها، بل هي نموذج معاصر لمسيرة المخرجات الفلسطينيات التي بدأت منذ أن قامت المخرجة سلافة جادالله وهي من أوائل الخريجين الذين درسوا في المعهد العالي للسينما في القاهرة، في قسم التصوير، بإجراء لقاءات مصورة مع مناضلي وطلائع المقاومة الفلسطينية، ومشاركة المصور السينمائي الفلسطيني هاني جوهرية في تصوير أحداث وآثار حرب الخامس من يونيو 1967 ومأساة النزوح الفلسطيني الذي حدث خلالها.

أول مخرجة فلسطينية

أسست سلافة مع جوهرية قسما للتصوير لتوثيق الأحداث الفلسطينية، خاصة نشاطات الثورة الفلسطينية السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية بالصوت والصورة، وعرفت هذه الوحدة لاحقا بـ”وحدة أفلام فلسطين”، وأنتجت في العام 1969 أول أفلام السينما النضالية الفلسطينية تحت عنوان “لا.. للحل السلمي”، وهو ذاته العام الذي أصيبت فيه سلافة برصاصة في رأسها أثناء عملها، ما أدى إلى إصابتها بشلل نصفي، منعها من الاستمرار في العمل كمخرجة ومصورة سينمائية.

بهذا الصدد كتبت الناشطة النسوية الفلسطينية، خديجة أبوعلي شهادة بحق المخرجة سلافة قالت فيها “انطلق السينمائيون الثلاثة؛ سلافة جادالله وهاني جوهرية ومصطفى أبوعلي، يؤمنون بأنهم من خلال الصورة، يمكنهم إيصال ونشر مفاهيم الثورة إلى الجماهير والحفاظ على استمراريتها، وبهذا المفهوم تم إنشاء قسم التصوير الفوتوغرافي عام 1967 ثم ‘وحدة أفلام فلسطين’ أواخر العام 1968، وتعتبر هذه الوحدة أول وحدة سينمائية تعمل بمواكبة تنظيم ثوري مقاتل في حركة تحرر وطني، وهي من التجارب النادرة في تاريخ حركات التحرر ومن العلامات المضيئة في تاريخ حركة فتح”.

وتضيف أنها بقيت تتردد على قسم التصوير بين الفينة والأخرى، وكان الثلاثة يعملون على تحميض وطباعة الصور في مطبخ البيت الذي كان مقرا لأكثر من نشاط للفدائيين، وكان لهذه المجموعة سحرها الخاص، فيميزهم التفاني في العمل، والتواضع الشديد مثل تواضع الأنبياء.

وتتابع “في هذه الفترة حصلت ‘وحدة أفلام فلسطين’ على كاميرا سينمائية، وكان مصورو الوحدة قبل ذلك يلجأون إلى استعارة كاميرا سينمائية للتصوير عند الضرورة، واستقال كل من سلافة ثم هاني من وزارة الإعلام، وتفرغا للعمل في قسم التصوير وبدآ بتوثيق جميع النشاطات والأحداث التي تمر بها الثورة، بدء بمعسكرات التدريب وقواعد المقاتلين في الأغوار وفي جبال السلط، في المؤتمرات والمسيرات والاحتفالات السنوية لانطلاقة الثورة. كانا سعيدين بمعداتهما الحديثة لكن فرحتهما لسوء الحظ لم تكتمل عندما تعرضت سلافة لإصابة بطلقة في الرأس. سلافة المناضلة، نواة المجموعة وعصبها المحرك، تركت فراغا كبيرا وهي تنتقل من مشفى إلى مشفى ومن عملية جراحية إلى أخرى”.

السينما المستقلة وسينما المرأة

لم تفصل سلافة السينما عن النضال بل كان أحدهما سببا لوجود الآخر، ما جعل السينما الفلسطينية ملتصقة بالضرورة بالهم الوطني لعقود طويلة، ولم تعش كسينما فلسطينية مستقلة عن القضية حتى بدايات الثمانينات حين بدأ ما يسميه إبراهيم درويش المرحلة الرابعة من السينما الفلسطينية في دراسة أجراها عن السينما الفلسطينية بعنوان “السينما الفلسطينية: أرشيف ضائع محته الحروب والشائعات” وابتدعت هذه المرحلة التي بدأت أوائل الثمانينات حالة الإبداع الفردي من مخرجين في الشتات والوطن والمخيمات دون أن تنضوي تحت منظومة واحدة، وبالفعل هذه الأعمال الفردية أوصلت السينما الفلسطينية إلى العالمية والمهرجانات الدولية، فلأول مرة تتم مناقشة القضية من بعد ذاتي وشخصي، وتكريس مفهوم سينما المؤلف، وكان للمرأة المخرجة حظ كبير فيها، وبرزت وقتها كل من المخرجتين عزة الحسن وليانة بدر.

وقد وصف درويش هؤلاء المبدعين بقوله “هو الجيل الذي كان قادرا على التحرر من الماضي الجامد بالتركيز على الحاضر وتنويع زاوية الألم التي لم تعد جماعية كما كانت في اعمال الفنانين الرواد بل صارت مزيجا من الشخصي والجماعي، بل أحيانا طغى الهم الشخصي والنجاة على هم الجماعة، وهذه السينما تتميز بتقنياتها التي تجمع بين الرواية والتسجيل ومثلما تحاول الخروج من دوامة الألم العام تعمل على مزج الأجناس الروائية والسينمائية في قالب جديد”.

ومن الممكن المرور على المراحل الثلاث الأولى التي ذكرها درويش في حياة السينما الفلسطينية؛ المرحلة الأولى وهي أعمال الفلسطينيين قبل النكبة، خاصة تجارب إبراهيم سرحان الذي ينسب إليه تصوير أول شريط مصور عن زيارة الأمير سعود بن عبدالعزيز إلى فلسطين وفيلم آخر هو “أحلام تحققت” وعلى العموم تظل هذه الفترة التي يؤرخ لها ما بين 1935 و1948 محل جدل وتطرح فيها أسماء متعددة، لكن السينما كملمح من ملامح الحياة كانت موجودة في الحياة الفلسطينية. والمرحلة الثانية هي الفترة ما بين 1948 و1967 ويطلق عليها اسم مرحلة الصمت مع وجود بعض الإشارات عن محاولات لسرحان إنتاج فيلم هو “معركة في جرش” (1957) لا علاقة له بالقضية الفلسطينية وقد منعته السلطات الأردنية لاعتقادها أنه شوه اسم المدينة السياحية ثم عادت وسمحت به بعد أن أجرى المخرج تعديلات عليه، وهناك فيلم آخر ينسب إلى هذه الفترة قدمه المخرج الفلسطيني عبدالله كعوش “وطني، حبي” (1964) عرض في عمان وبقية المدن.

والمرحلة الثالثة جاءت بعد فترة الصمت هذه فقد أعقبتها فترة غنية تحولت فيها السينما إلى دعاية وتأكيد للهوية الوطنية، وما يميز هذه الفترة ما بين 1968 و1982 هو التركيز على الهم التسجيلي لهموم الثورة وأنتجت فيها حوالي 60 فيلما تسجيليا، ولم ينتج إلا فيلم روائي “عائد لحيفا” لقاسم حول (1982). وتظل هوية السينما هنا موضوع نقاش هل هي سينما الثورة أم سينما ثورية أفكار ومبادئ؟

وأخيرا المرحلة الرابعة التي تتحدث عن الجهود المستقلة والأصوات الفردية التي حاولت تقديم رؤيتها الخاصة، وهذه المرحلة يرى الناقد زياد عثمان في الكتاب المشترك “عين على سينما المرأة الفلسطينية”، “أنها شهدت انفتاحا وتنوعا من حيث المواضيع المطروقة أو من حيث المعالجات الفنية، وتطورت لاحقا نحو سينما فلسطينية تناقش قضايا ومواضيع اجتماعية وسياسية واقتصادية، وهذه المرحلة تعززت بعد التسعينات أي بعد قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية إذ بدأ البعد الاجتماعي والحياتي بكل تفاصيله يطل على سطح الحياة إضافة إلى السياسي والوطني، ولا سيما السينما التي بدأت تفرض حضورا على مستوى المجتمع الفلسطيني، ألا وهي سينما المرأة”.

من الوطني إلى الإنساني

يُعرف الناقد سعيد أبومعلا الفيلم الفلسطيني بإخراج نسائي بأنه الفيلم الذي تخرجه امرأة فلسطينية، سواء كانت تسكن في فلسطين التاريخية أو خارجها، بغض النظر عن جهة التمويل أو الإنتاج، شريطة أن يكون موضوعه متعلقا بالشأن الفلسطيني نسويا كان أو وطنيا أو بالاثنين معا.

هنا بدأت مرحلة السينما الفلسطينية الجديدة مع مطلع الثمانينات وفيها كانت منجزات المخرجات الفلسطينيات الأكبر، ويرى الناقد بشار إبراهيم في كتابه “في السينما الفلسطينية الجديدة” أن ما يميز هذه المرحلة “طبيعة الرؤية السينمائية التي تتناول القضية الفلسطينية، من خلالها، وطبيعة البناء البصري للصورة، وآليات السرد السينمائي، وتقنياته، التي تقدم الموضوعات عبرها، كما تتعلَّق بطبيعة التغيير الحاصل في الشروط، وفي القوانين، التي باتت تحكم العمل السينمائي، من كتابة وإخراج، وآليات إنتاج، وطرق توزيع وعرض، وهي شروط اختلفت عموما عما كان سائدا في السينما الفلسطينية خلال مرحلة الثورة الفلسطينية، فتراجعت سمات الثورية، والتحريضية المباشرة، وبرزت سمة التأمل في حال الفلسطيني، سواء أكان يعيش تحت الاحتلال، أو في المنافي”.

ومن هنا غاب الوطني المباشر من الأفلام ونشأ تيار سينمائي فلسطيني يهتمبالتفاصيل الإنسانية اليومية للمواطن الفلسطيني دون حمل الشعارات الوطنية على أكتافه بل محاولة للتحرر منها إلى الشروط والعوامل المشتركة الإنسانية العالمية التي كانت في الوقت ذاته متحققة في سينما الآخر الإسرائيلي وتفاصيل حياته اليومية والإنسانية التي تمس المشاهد الغربي.

ويصنف الناقد سعيد أبومعلا أفلام المرأة الفلسطينية إلى مستويات ثلاثة وفق ثنائية الوطني والاجتماعي، على النحو التالي:

نتيجة شح التمويل، اتجهت المخرجات إلى تقديم طلبات لمنح مؤسسات مدنية ودولية، وبذلك تغيرت الأفكار والمواضيع التي يتم طرحها ولم تعد متناسقة مع الحالة السياسية التي تحيط بالمخرجات

أولا: أفلام ذات هم وطني خالص؛ ويقصد بها تلك الأفلام التي تناولت القضايا الوطنية من دون أن تمنح تركيزا على النساء، وحتى لو حضرت النساء في بنية تلك الأفلام فإن حضورهن يعتبر جزءا من موضوع وطني وليس بصفتهن نساء فلسطينيات أو شأنا اجتماعيا.

ثانيا: أفلام تطرقت إلى قضايا اجتماعية صرفة من دون أن تهتم بالشأن السياسي، فتناولت وعالجت قضايا مجتمعية مثل: الطلاق والزواج والميراث والتحرش الجنسي.. إلخ من الموضوعات.

ثالثا: أفلام دمجت بين الوطني والسياسي وهي تلك الأفلام التي حاولت مقاربة موضوعاتها سياسيا واجتماعيا في آن معا.

بعد أوسلو والسينما المؤسساتية

وإذا كانت بداية عمل المرأة الفلسطينية بالسينما قد تميزت بالتوجه الكامل نحو الوطنية والقضية الفلسطينية نجد أنه منذ اتفاقية أوسلو عام 1993 أصبح هناك تشظ لوحدة الموضوع في العمل السينمائي الفلسطيني خاصة الذي أنجزته نساء ولا يمكن إنكار أنه تشظ تبع العمل النسوي المؤسساتي والحقوقي ككل، فقد تم إنشاء العشرات إن لم تكن المئات من المؤسسات والمنظمات الحقوقية والنسوية التي تنادي بتحقيق المساواة مع الرجل وإعطاء النساء حقوقهن الاجتماعية، وغالبيتها مؤسسات تتبع أحزابا سياسية وتحررية، وقد كان ذلك تغييرا جذريا في الخطاب الحقوقي والسياسي بعد أن كان المطلب الوطني وتحرير الأرض هو هم هامش المجتمع المدني المبكر قبل أوسلو فقد كان يلعب دورا بديلا للدولة وجسم السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي جاء لاحقا وهمش الخطاب النسوي والفني وجعله يركز على الاجتماعي والحقوقي.

وربما اعتبر النقاد هذا أمرا سلبيا وتراجعا بالنسبة لهذه المؤسسات والتجمعات النسوية والحقوقية وتغييرا في خطابها، ولكنه يبقى للسينما مغايرا ويقرب المخرج أو المخرجة من لحظة الإبداع بعيدا عن وصاية المنظمات والبرامج السياسية والوطنية، فيهتم أو تهتم بالبحث عن الذات المتحققة على الأرض سواء للمرأة أو الإنسان، لكن هذا لم يحدث إلى الحد المطلوب مع الأسف فقد أصبحت صناعة الأفلام جزءا من أنشطة لنشر الديمقراطية وحقوق المرأة مثلها مثل ورش العمل والندوات والتدريبات، ولم يقتصر هذا الدمج، أو إذا كان من الممكن تسميته بالفن المؤسساتي، على السينما بل طال المسرح والفن التشكيلي، وفرغه من لحظة الإبداع والإلهام الحقيقية للفنان التي تؤهله للمنافسة العالمية، فقد أصبح فن وسينما ومسرح مناسبات وقضايا حقوقية وممولين، ما نزع عنه الإبداع الأصيل والدوافع الأولى للمخرج والمخرجة التي غالبا ما تكون ذاتية إبداعية أو مجتمعية ملهمة دون تمويل مشروط أو أجندات.

وأصبح العمل الفني السينمائي يتم في مؤسسات نسوية وورش عمل، وليس في أستوديوهات متخصصة، وإذا حصل ذلك يكون مؤقتا لخدمة أحد برامجها الممولة وليس كخطة استراتجية لتأهيل وتمكين المخرجات الفلسطينيات مبدعات ومستقلات في أفلامهن بل ضمن أفكار وكوادر موجهة وفي إطار العمل النسوي والحزبي والأيديولوجي.

لذلك كان من النادر أن تقدم المخرجة الفلسطينية التي تصنع فيلمها تحت مظلة هذه المؤسسات رؤيتها الكاملة المستقلة للفيلم منذ اختيار الفكرة، وكتابتها أو طريقة العمل عليها وتصويرها، وكذلك في الرسالة التي تريد توجيهها، فعادة مثل هذا النوع من الأفلام يفرض وجود واحدة.

وهناك من المخرجات، خاصة من الجيل الأكبر سنا، من بقيت على رؤيتها، وحافظت على إبداعها، وصنعت سينما بعيدة عن هذه المؤسسات والمنح الممولة وأفلام المناسبات، وهن المخرجات اللواتي احتفظن بلحظتهن الإبداعية، ولا يزلن كالمخرجات؛ مي المصري وغادة الطيراوي وعلياء أرصغلي وبثينة خوري ومي عودة ونجوى النجار وليانا بدر وديما أبوغوش وناهد عواد وسوسن القاعود، وقد حاولن أن ينقلن خبرتهن إلى الجيل الشاب عبر مؤسسات إنتاج أو تدريب متخصصة وجدية ولديها خطة استراتجية في تطوير صناعات الأفلام.

أزمة تمويل وأزمة إبداع

ومن الظلم تحميل اللوم كله لجيل المخرجات الشاب الذي يلجأ إلى المؤسسات وأفلام الحقوق وسينما المناسبات في وقت لا يوجد تمويل رسمي لدعم السينما الفلسطينية بشكل دائم، وهو ما أشارت إليه المخرجة آن ماري جاسر حين قالت إنها كل خمسة أعوام تقريبا تنتج فيلما لصعوبة الحصول على تمويل، موضحة أنه في الوقت الذي مولت فيه وزارة الثقافة الفلسطينية جزءا يسيرا من فيلمها الأخير “واجب” كان هناك من انسحب من عرض الفيلم في فلسطين بسبب نقده لمنظمة التحرير الفلسطينية وفساد البعض.

وأزمة التمويل هذه ليست جديدة فهي ما تشير إليه أيضا خديجة أبوعلي في شهادتها حين تقول عن فترة الستينات من القرن الماضي “كانت السينما آخر هم يمكن أن تفكر به قيادة الثورة، وكان علينا أن نعمل في جو تعتبر فيه السينما نوعا من الترف كما كان يقول مصطفى، ‘وعلى بال مين يللي بترقص في العتمة’، كان علينا أن نحتال على الموقف لنحصل على مكان نضع فيه علب المواد المصورة، وأن نشحد تقريبا كل أسبوع أجرة جهاز المونتاج (المافيولا) في أستوديو بعلبك، الذي لم تكن فيه أجرة المافيولا في اليوم تتجاوز 25 ليرة لبنانية”.

ونتيجة شح التمويل، اتجهت المخرجات إلى تقديم طلبات لمنح مؤسسات مدنية ودولية، وبذلك تغيرت الأفكار والمواضيع التي يتم طرحها ولم تعد متناسقة مع الحالة السياسية التي تحيط بالمخرجات، وغدا المشهد السينمائي الواقعي مجتثا، بل أصبحت الأفلام تختلق مواضيع وتطرح الأفكار أمام المجتمع وتخلقها بغرض الجدل أو التنبيه أو الإرشاد بحسب أجندات المؤسسات التي مولت الفيلم، وأصبحت هناك هوة بين المتلقي وصانع الفيلم، فكأن نخبوية الفيلم أبعدته عن تأثيره الشعبي ومصداقيته، ناهيك عن أن السينما لا يراها الفلسطينيون في بعض المدن الفلسطينية طوال العام سوى في المهرجانات الممولة أيضا.

أصبحت هذه الأفلام، كما المؤسسات النسوية، ضائعة بين المطالب الاجتماعية لتطبيق المساواة وطرح مواضيع في الورش والأفلام كأدوات مناصرة مساعدة تتحدث عن الزواج المبكر وغشاء البكارة والقتل على خلفية ما يسمى بـ”الشرف”، وبين الخطاب الاقتصادي ومطالب بمحاربة الفقر وتمكين النساء والتحدث عن نماذج ناجحة لنساء تخطين الفقر سينمائيا، وأخيرا الخطاب السياسي الذي ينادي بإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة وإنهاء الاحتلال، وهذه النقطة الأخيرة نادرا ما خرجت في أفلام تنتجها هذه المؤسسات بل كان الاحتلال دوما كخلفية أو مسببا غير مباشر لقضايا مثل الحواجز العسكرية، مريضات السرطان وتأثير الحروب عليهن، وهناك النساء اللواتي ارتبطن بعملاء لدى الاحتلال ومصيرهن، وهذا يبرز بقوة الفرق بين المرحلة الأولى للسينما الفلسطينية النسائية فقد كانت وطنية وسياسية بالكامل والآن هي نسوية واجتماعية بالكامل وفي الحالتين كانت السينما من أجل الإبداع والسينما من أجل السينما غائبتين تماما، ولحظة الحرية بقيت لدى عدد نادر من المخرجين والمخرجات الذين لهم نفوذهم السينمائي والعالمي، ما يجعل جيلا شابا من النساء والشباب في خطر حقيقي كصناع أفلام لهم استقلاليتهم دون أهداف مسبقة وأجندات، بل سينما تعبر عنهم وعما يريدوه وكيفما يريدوه.

عوامل التراجع ومظاهره

ومن هنا يمكن القول إن هناك العديد من الأسباب جعلت سينما المرأة الفلسطينية تقتصر على نخبة من المخرجات والبقية كن مخرجات إنتاج اللحظة من مشاريع التمويل وورش العمل وهي كالتالي:

أولا، عدم وجود استراتجية رسمية أو غير رسمية للنهوض بسينما المرأة الفلسطينية فتشكل مشهدا وليس أعمالا ناتجة عن مؤسسات أو أفراد.

ثانيا، عدم وجود معاهد وجامعات للسينما في فلسطين، ما يجعل المجال الأكاديمي للعمل السينمائي عشوائيا وغير معمق والكثير منه يركز على العملي فقط، وكـأن الإخراج حرفة يدوية وليس رؤية وقناعات فنية.

ثالثا، شح التمويل الإبداعي للسينما الفلسطينية، والاهتمام غير المشروط بهذا الفن، في الوقت الذي توجد في الضفة الغربية وقطاع غزة دور عرض سينمائية تعد على اليد الواحدة وأغلبيتها يتم فتحها من أجل عروض بعينها.

ومن هنا يمكن التطرق إلى العقبات والمشاكل التي تواجهها المخرجة الفلسطينية حين تريد إخراج فيلما فلسطينيا إبداعيا يمثلها بعيدا عن المؤسسات النسوية والدولية:

1- شح التمويل غير المشروط للسينما، ما يجعلها سينما مؤسساتية تستجيب لشروط المؤسسات النسوية أو المنح الثقافية أو التمويل الأوروبي.

2- عدم العمل في أجواء من الحرية إما لغياب بيئة العمل الملهمة، وإما لغياب الإيمان بقدرة المرأة على إخراج فيلم، وبالتالي يقتصر الإنتاج حتى البرامجي منه على الرجال فقط.

3- صعوبة السفر وتلقي تجارب التعلم في الخارج إلا في حالات نادرة جدا، في الوقت الذي لا توجد أكاديميات محلية لذلك، فيتم تكرار الخبرات الموجودة والأساليب الإخراجية حتى شكل الصورة والحوار والكادر دون تجديد.

كذلك هناك مجموعة من العقبات أوردها الباحث يوسف خطاب في رسالته للماجستير “العوامل المؤثرة على الواقع المهني للقائمات بالاتصال في السينما والبرامج التسجيلية الفلسطينية” التي أعدها لصالح جامعة الأزهر في غزة موضحا أن هناك العشرات من العوامل وهي “العوامل السياسية كالانقسام والحواجز العسكرية الإسرائيلية بين المدن الفلسطينية وصعوبة السفر، ومنع عرض بعض أفلام المخرجات لأسباب سياسية أو بسبب رقابة حكومية، وتردد المخرجة في الاستمرار نتيجة نقد شديد من أقطاب الإعلام والسوشيال ميديا، الاضطرار أحيانا إلى تبني أفكار لا توافق أفكار المخرجة أو تناقضها، كذلك هناك التعرض لصعوبات ميدانية أثناء التصوير كعدم احترام المواعيد والمعاكسات وعدم أخذ عمل المخرجات بجدية، وهذا تلخصه النظرة السلبية للمرأة العاملة في مجالي الإعلام والفن، كذلك هناك عدم تكافؤ الأجور والفرص بين الرجال والنساء في مهنة السينما بفلسطين، ومواجهة مشاكل في الأسرة نتيجة اختيار مهنة الإخراج، ناهيك أنه لا يوجد تسويق لأعمال المخرجات بل تبقى في الأدراج إلى أن يتم تنظيم مهرجان محلي”.

وبسبب تلك العقبات والمشاكل والعوائق وكون المشهد السينمائي الحالي لا يعبر بالضرورة عن الأزمات التي يمر بها المجتمع، وإذا عبر يكون الفيلم من إنتاج حزبي سياسي أو أيديولوجي معين يفتقد كذلك إلى الإبداع والاحتراف، لكل هذه الأسباب أصبحت المخرجات تخرج أفلاما لها سمات تكاد تتوافق من الضعف وعدم الاكتمال:

1. أفلام غير كاملة الحبكة والعناصر

2. التصوير والمونتاج بسيطان وغير احترافيين

3. السيناريو تقليدي وغير مبتكر

4. أغلبها أفلام شديدة محلية تتحدث في أمور نسوية داخلية كالعنف ضد النساء والتحرش ومشاكلهن في المخيم.

5. نادرا ما تمت صناعة أفلام إبداعية ذات مستوى احترافي عال، ومن الممكن أن تشارك في مهرجانات دولية.

6. غياب النظرة الكلية الواعية إلى القضية السياسية في الأفلام التي يتم تقديمها حاليا.

7. ضعف الكوادر الفنية غير المدربة وتكرار اللغة السينمائية والصورة.

عودة إلى آن ماري جاسر

الاختبار الحقيقي للمخرجة المرأة في عالم السينما الفلسطينية ليس أن تعبر عن هويتها وذاتها الجندرية في كل لحظة شخصية على أرض الواقع وفي كل فيلم تصنعه، بل أن تكون هذه النقطة انطلاقا إلى الاحتراف والانسجام والإبداع في أي فيلم تصنعه كي تتجاوزها يوما ما، فتتخطى جميع العقبات التي تفرض عليها رقابة ما كونها امرأة، فلا تعود تخاف سوى أن لا يضيف فيلمها شيئا جديدا إلى الحياة ومسيرة السينما، لذلك فإن المخرجة آن ماري جاسر لم تتضايق من نقد الشتائم التي في فيلمها ولم تأخذ النقد على محمل شخصي كامرأة، أو أنه تجاوز لخطوط حمراء ليس من المفترض على امرأة فلسطينية فعله، بل تقبلت الأمر معتبرة إياه مجرد رؤى مختلفة لسينما الواقع ولغتها! وبذلك تستطيع المخرجة الفلسطينية السعي نحو الاحتراف دون أن تحمل زادها السياسة والجندر بل تكون ذاتها فقط!

     
     
 
 
 
     
 

رزان إبراهيم

ناقدة من الأردن

مارس 2018

 

 
 
 

مسارات وتحولات.. صورة المرأة في السينما المصرية

 
 

في كتابه “النظرية الثقافية والثقافة الشعبية” يشرح الباحث الإنكليزي جون ستوري كيفية إخضاع الجماهير وتطويعها لقبول تصورات موجهة تقف وراءها مؤسسات لها اشتراطاتها في الاحتفاء بمنتج ثقافي خلافا لآخر تعمل على تنحيته جانبا، ليغدو الترويج أو النشر أو العرض مؤطرا بمقاصد جهة بعينها، فهناك من دون أدنى شك صناعة ثقافية ممنهجة قد تتفوق في آثارها على فعل الجيوش والأسلحة، من شأنها السماح بإعادة تشكيل الحياة الاجتماعية، وكذلك السياسية. ولعل حديثنا عن الثقافة الجماهيرية وعلاقتها بالسلطة له ما يبرره في سياق الحديث عن السينما العربية، وأخص بالذكر هنا السينما المصرية، التي لا يجوز بحال من الأحوال تجاوز سطوة كبيرة مارستها، وكانت لها آثارها الجلية في تشكيل الأبعاد الفكرية والنفسية والوجدانية والمزاجية والدينية والقيمية والسياسية لدى قطاع كبير من الأفراد على امتداد أقطار العالم العربي.

كانت المرأة، وعلى مدار سنوات موضوعا أساسيا في الفن والأدب، بل إن السينما ومنذ النشأة، اعتمدت المرأة لتكون العنصر الأهم الذي لازم كافة الحكايا السينمائية، وكانت دون أدنى شك الطرف الأبرز أيضا في منعطفات الحبكة ومجريات الحدث السينمائي، بما يجعلنا قادرين على الحديث كما سيأتي في سطور قادمة عن صور بعينها اعتمدها الكتّاب والمخرجون، ظهرت معها المرأة أداة للتعبير عن العديد من الأمور والقضايا التي شغلت الرأي العام في فترات زمنية مختلفة. يبقى السؤال الأبرز في هذا المقال متمحورا حول القضية التالية: هل اقتربت صورة المرأة من الواقع أم أن أغلب الأفلام السينمائية وقعت في التنميط كما هو الحال في الرواية العربية التي تناولت صورة المرأة؟

يبدو لافتا للمراقب أن الأفلام المصرية الروائية الطويلة منذ نشأتها عام 1927 اعتمدت الفنون الاستعراضية وعلاقة الحب بين المرأة الأرستقراطية والرجل النبيل والفقير، والتي غالبا ما تنتهي بسعادة المظلوم الضعيف وقهر الظالم الأقوى. وهو الطرح الذي طالما رافقته أنماط من الشخصيات السطحية غير المركبة، والمفتقرة إلى حسّ الحياة بكل ما فيها من تفاصيل، فالشرير مغرق في شرّه، والطيّب مغرق في طيبته، وكذلك المرأة التي اختزلت على شكل ملاك حتى وإن ارتادت الحانات، ولبست ثياب الرقص، أو على شكل شيطان رجيم حتى وإن ارتدت ثياب العفة والشرف. لذلك كثرت تلك الأفلام التي تحكي عن علاقة الرجل بالمرأة دون الالتفات إلى سياقاتها المحلية الواقعية بكل ما يعتريها من أبعاد سياسية واجتماعية غاية في الأهمية، وهو ما يحضر في إطار رقابة ابتدأت منذ أيام الملك فاروق الذي يذكر عنه محمود علي في كتابه “مئة عام من الرقابة على السينما المصرية” أنه قام بمنع فيلم “لاشين” عام 1938، وأنه لم يفرج عنه إلا بعد إحداث تغييرات جذرية وافقت عليها العائلة المالكة.

في حديثنا عن المرأة في الصناعة السينمائية، لا يمكن بحال من الأحوال التغاضي عن صورة المرأة المبهرة المجسدة لصورة الأنثى في أجمل حالاتها، وإذ يحتفي المشاهد الرجل بهذه الصورة فلأنها تنبع عن رغبة فحولية لخلق المتعة البصرية المتحققة من خلال الجنس المؤنث. أما المرأة وإذ تحتفي بهذه الصورة، فلأنها قد تدخلها في حالة تقمص وجداني تحتلها وهي تتابع مرارا وتكرارا، بما يدفعها إلى تقليد صورة مرسومة رسمة ثقافية يتم ترسيخها بقصدية مدروسة، إلى درجة السعي أحيانا باتجاه تعديل إطلالتها وفقا لنموذج ممثلة أو فنانة مشهورة كما يذكر خبراء التجميل. جدير بالذكر هنا أن الممثلة السينمائية نفسها وبهذه الصيغة المطروحة تكون قصيرة العمر فنيا، وأنقل عن الغذامي قوله “فإذا ما بلغت الممثلة سنا معينة اختفت من السوق بسبب عدم تأهلها لنقل الصورة البهية المطلوبة إعلاميا ويجري استبعادها بسبب انتهاء صلاحيتها التسويقية”. بما يعيدنا إلى نقطة البداية حيث الهدف الإمتاعي التسويقي الانتهازي، وعليه فما أسرع أن تغيب النجمات بعد أن يأفل بريقهن، لتكون المرأة آنئذ مجرد أداة تمثيل ظرفية يجري الاستغناء عنها بعد نفاد الصلاحية. علما أن الانكشاف المفضوح المتكرر لجسد المرأة لم يكن إلا واحدا من عوامل متعددة أفقدت المرأة مكاسب لها على صعيد التحرر الفكري ونمو الذات.

كثيرا ما تحضر المرأة في إطار نماذج أنثوية متكررة لا على صعيد الشكل الخارجي وحسب كما أسلفنا، وإنما نرقبها وقد ظلت غارقة في عوالم ضيقة تطرحها امرأة متمسكة بقيم المجتمع الأبوي، متمثلة لميراثه، رغم معاناتها الشديدة منه. وكان عليها التعامل مع زوج كالقدر، تؤمن به سيدا مطاعا لا سبيل إلى رده، أو حتى معارضة إرادته. ومطلوب منها الانسياق وراء كل ما يبدر عنه من رغبات أو نزوات، متناسية رغباتها الخاصة. في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات من القرن العشرين أي السنوات التي علت فيها الأصوات التي تطالب بحقوق المرأة، برزت موجة من الأفلام كان كل همها تجسيد ما يدلل على أن المرأة التي تعمل على تحقيق ذاتها، وتجرؤ على تنفيذ قراراتها بالرجوع إلى رغباتها الخاصة، فإنها من دون أدنى شك ستكون سببا في تدمير بيتها وأسرتها، ولن يكون من حقها أن تنعم بالحب ورغد العيش إثر قرار اتخذته بالعيش إنسانا كاملا. وما أشدّ سوء عاقبة المرأة التي ترتاد دائرة العمل لتصبح في مركز يؤهلها لاتخاذ القرار كما على سبيل المثال في فيلم شادية وصلاح ذوالفقار “مراتي مدير عام” (1966)، فنجاح المرأة في عملها يهدد هيبة الرجل وسلطته الذكورية التي يمارسها على زوجته. عموما اعتمدت هذه الأفلام أسلوبا شيّقا لا يخلو من استغلال شنيع لفكرة أن الأنوثة والنجاح في الحيز العام لا يجتمعان، وأن الواحدة بالضرورة لا تقوم إلا على حساب التضحية بالأخرى. لقد كانت هذه الأفلام في الحقيقة نوعا من المقاومة الخفية والتي كثيرا ما كانت تأخذ شكلا رومانسيا وجذابا، لكننا في الحقيقة نستطع وضعها في خانة مناهضة للفكر النسوي الذي تبنته وجاهدت من أجله حركات ومؤسسات ونساء حقوق المرأة. هذا لا يمنع ظهور فيلم من مثل “الأستاذة فاطمة” (1952)، الذي قامت ببطولته فاتن حمامة، يتناول ولأول مرة فكرة عمل المرأة وأهمية المساواة بين الرجل والمرأة، ولكنه يدخل في إطار أعمال قليلة تمكنت من كسر النمط السينمائي القائم على نماذج المرأة المستلبة الضعيفة.

وعليه يبقى الأساس في صورة المرأة هو العمل على إظهارها منشغلة بهموم سطحية صغيرة، بعيدا عن كل ما هو سياسي أو وطني خارج حدود الأسرة. بل راقبناها تمارس ظلما اجتماعيا كان قد سلط عليها من قبل، لتعيد إنتاجه على امرأة أخرى بروح سلطوية متجبرة. وهي حالات تقف وراءها مؤسسة ذكورية ترفض إظهار المرأة أنموذجا بشريا ديناميكيا مستجيبا للمؤثرات من حوله. علما أن منظمات المجتمع المدني كثيرا ما تطالعنا بتحذيرات متعددة حول الصورة النمطية للمرأة التي تقدمها السينما العربية، بما تحمله من ترويج لامرأة تفتقر إلى بعض من إنسانيتها، ولا كفاءة لها سوى أنوثة توظّفها لأغراض غير نزيهة. وما أكثر ما شهدنا هذا عبر أنموذج السكرتيرة، أو حتى الممرضة، بما تكرسانه من نماذج تستعدي فيها المرأة نظيرتها المرأة؛ فكم من نماذج ظهرت فيها المرأة كائنا دونيا لا مناص من استعباده! وكم من نساء ظهرن وقد تلبسهن الجهل والثرثرة! وكم من أخريات اختزلت صورتهن في النميمة والأحقاد، وارتبط كلامهن بالتفاهة وقلة العقل! وكم من مرة يتم الانتقاص من امرأة حرمت من رجل يشكمها! وفقا للتعبير الشائع. وكم من المرات رأينا نساء لا همّ لهن سوى المال، وكن مجردات من كل قيمة، بل إن بعض الأعمال السينمائية التي أطلت علينا بمظهر عصري، كانت أبعد ما يكون عن روح المعاصرة.

جدير بالذكر وتوافقا مع النظام الأبوي السائد، فإننا على مدار سنوات طويلة رأينا المرأة تعكس تقسيما كانت نوال السعداوي قد أشارت إليه وهي تنقل صورة المرأة في روايات نجيب محفوظ التي تحوّل عدد كبير منها إلى أفلام سينمائية، ومنها ثلاثيته (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، حيث المرأة القديسة الطاهرة “أمينة” تقابلها العاهرة “هنية أم ياسين” و”عائشة” الجميلة الخجولة وتقابلها “خديجة” الوقحة الدميمة، بما يصحّ توصيفه بأنه يدخل في إطار ما بات معروفا من حرص شائع على تقديم مشاكل المرأة بعين الرجل، فأطلت علينا المرأة الضعيفة التي تعيش تحت ظل الرجل، أو تلك التي لا همّ لها سوى السهر على راحته وإرضاء غروره، ومعها برزت صورة الأم الحنون والأخت والزوجة المطيعة والمغرمة المخلصة.

هناك أيضا صورة المرأة النقيض المتمردة المتحررة التي تتحدّى المجتمع وتعاني من ظلم التقاليد وتسلط الأب والأخ، علما أن هذه الصورة أخذت تختفي هذه الأيام بفعل تطورات نوعية شهدتها المرأة، ليبقى من حقنا السؤال عن غياب صورة المرأة المناضلة إلا في القليل القليل، كما في الفيلم المصري التاريخي “جميلة بوحيرد” (1958)، الذي قامت الممثلة ماجدة بدور البطولة فيه، والذي يحكي قصة جميلة بوحيرد ويعرض في الوقت نفسه نضال الشعب الجزائري ضدّ المحتل الفرنسي. والحال أن الاهتمام السينمائي ظل منصبا حول النماذج النمطية المتكررة، ليحضر السؤال مشروعا وملحا حول نماذج مسكوت عنها في السينما المصرية، كما أنموذج المرأة المثقفة أو المناضلة، كذلك لا تغيب عنا ملاحظة ظاهرة إصرار القائمين على صناعة الأفلام العربية على تقديم المرأة في فترات الشباب وإهمالها في مراحل عمرية متأخرة.

في كل الأحوال، لم تحضر المرأة بقضاياها وأطروحاتها المتعددة لتكون جزءا من مشاريع تنموية تساهم في رفع سوية المجتمع المصري، أو حتى تساهم في تفكيك منظومة ثقافية لم تر في تحرير المرأة وإنجازها مشروعها النهضوي سوى تهديد للسلطة الأبوية، بكل ما تحمله من إصرار على تجميد الأوضاع الاجتماعية والحفاظ على الممارسات التقليدية التي تعزز تهميش المرأة، لذلك يصحّ القول إن المرأة ظهرت واجهة يتمّ استغلالها لتكون أداة خادمة موجهة لغايات ومصالح سلطوية. وعلى الأخص السلطة الحاكمة، وعليه فإن الأفلام المصرية إن اعترضت على نظام أو سلطة، فالأغلب أن يكون هذا الاعتراض موجها لنظام حاكم سابق، أما النظام القائم فلا يجوز الاقتراب منه. لذلك فإننا بالكاد نجد فيلما واحدا قبل منتصف القرن العشرين، يتناول النظام الملكي في عهد فاروق بالنقد، وإن كنا نجد العديد من الأفلام التي تدين عصر الملكية في مصر بعد ثورة يوليو 1952. فلا غرابة إذ يسمح بعرض فيلم مثل “زوجة رجل مهم” (1988)، لأنه يوجه النقد اللاذع لنظام سابق، وعليه جاءت الزوجة لتكون في صورتها رمزا مجسدا لشعب تستغله الثورة، حيث أضحت كما يبرزها الفيلم بؤرة من بؤر الفساد، مما يكرس فكرة فشل رموز الثورة في تحقيق النصر، ويعزز فكرة إرهاب الدولة. حتى أولئك الذين كانت لهم أسماؤهم البارزة في الإخراج السينمائي، من مثل صلاح أبوسيف أو توفيق صالح، فإنهم تماشيا مع ما أسلفنا تبنوا أعمالا مغرقة في رمزيتها، متقصدين فيها نزع الصفة المكانية والزمانية للعمل.

جدير بالذكر أن السينما المصرية بعد ثورة يوليو 1952، وتماشيا مع الشعارات التي أطلقت للقضاء على النظام الملكي، وكذلك تلك المنادية سابقا بالتخلص من الاستعمار البريطاني، تجدها قد عمدت إلى إظهار المرأة رمزا للوطن، بما ينسجم واستخدام السينما ليجعل منها بوابة لتمرير الفكر القومي، فظهرت العائلة رمزا لأطياف الشعب، بينما كرست الأم رمزا للوطن، وجعلت من الأب رمزا للثورة، مع تأكيد روح التعاضد في تناغم رومانسي مقصود يلبي توجهات النظام الحاكم. نذكر من هذه الأفلام “أنا حرة” تمثيل شكري سرحان ولبنى عبدالعزيز (1959)، عن رواية إحسان عبدالقدوس التي تمجد الثورة، وتطرح قضية تحرر المرأة التي تصلها في النهاية إلى المعنى الأكبر للحرية في الوطن. علما أن جل هذه الأفلام كان مستوحى من روايات لكتّاب معروفين من مثل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس. نذكر في هذا المضمار فيلم “ميرامار” المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، والذي قامت بالدور الرئيسي فيه شادية، وكانت ترمز لمصر الثورة. يحسب لهذا الفيلم أنه على الرغم من إبرازه العنصر الترميزي الذي حمّله للبطلة، إلا أن هذه الرمزية لم تلغ أو تسمح بإلغاء كينونة المرأة، وهو ما يأتي هنا متصالحا مع العديد من التيارات النسوية التي ارتأت أن هذا التشْيِيء وإن كان يسعف في تمثيل الوطن، إلا أنه يعجز عن تقديم أيّ خدمات فعلية للمرأة. لذلك نجد جورج طرابيشي في كتابه “رمزية المرأة في الرواية العربية” يشرح ما يمكن أن يتركه ترميز المرأة من إحساس بأن المرموز إليه قد تعرض إلى عملية اختزال مجحفة، بينما يحتكر صانع الرمز كل الذاتية لحسابه، والمرأة -وفقا للكتاب- حتى عندما يرمز بها إلى الوطن، تخسر استقلالها وسؤددها الذاتي، وتصير أشبه بمادة صلصالية يصنعها الآخرون ولا تصنع نفسها، تملك اللدائنية ولا تملك طاقة الحرية. في هذا السياق وفي الفترة الناصرية أيضا يطالعنا فيلم “الباب المفتوح” (1963)، الذي قامت بدور البطولة فيه فاتن حمامة، والفيلم كما هو معروف مقتبس عن رواية للأديبة المصرية المعروفة لطيفة الزيات، يتمحور موضوعه حول كينونة الشخصية الرئيسية (ليلى) ابنة الطبقة الوسطى التي تتمرّد على قيود البيت الأبوي، ويرصد علاقتها بالحدث التاريخي، لتكون ليلى هي صانعة الحكاية وخالقة النهاية السعيدة، التي يتبيّن لنا معها أن الفيلم يمثل ركيزة في علاقة المرأة بالوطن، ومكان المرأة داخل هذا الخيال الجمعي القومي.

إن تأمّل صورة المرأة في السينما المصرية في فترة ما بعد هزيمة عام 1967، يبرز اتجاها جديدا يعبر عن معاناة المرأة، وهو الاتجاه الذي يحضر في إطار ظهور تيارات جديدة في السينما المصرية سعت إلى محاكاة التيار التجريبي الذي نشأ في الغرب في عصر الحداثة، نذكر على سبيل المثال فيلم “النظارة السوداء” (1963)، وغيره من أفلام خرجت عمّا ألفناه من ثيمات عملت جاهدة على اختزال المرأة في الوجود الأنثوي الذي سبق وأن تحدثنا عنه، وكذلك وجدناها تنأى عن مرحلة تالية ارتأت ترميز المرأة متفادية بذلك تعاملا فعليا مباشرا مع قضاياها الخاصة.

في فترة حكم الرئيس السادات، وضمن ظروف فتحت فيها الأبواب للكتّاب والمخرجين لانتقاد الفترة الناصرية تمهيدا لأجواء من الحرية المزيفة، يظهر فيلم “الكرنك” (1975)، الذي يصف إحباطات الجيل الجديد الجامعي، بما يتيح للنظام نفسه فرصة الظهور بمظهر الطرف المغاير للاستبداد قبيل توقيعه اتفاقية السلام، وفي هذا الفيلم يبرز الكرنك رمزا إلى الإطار الحضاري المصري، الذي ينتهك في مشهد اغتصاب زينب التي تقوم بدورها سعاد حسني، لتكون زينب رمزا لشباب مصر الذي ينتهك مرات. كذلك يلقي فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس″ (1979)، الضوء على العنف والتعذيب الذي تمارسه أجهزة المخابرات المصرية في ظل الحكم البوليسي ودولة أجهزة الأمن. وهو الأمر ذاته الذي يمارسه نظام مبارك في بداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث يعرض فيلم “الغول” الذي يقوم ببطولته عادل إمام. في فترة السادات أيضا وتحديدا عام 1975، تطالعنا الشاشة المصرية بفيلم “أريد حلا” بطولة النجمة فاتن حمامة، والذي قيل عنه إنه ساهم في إنقاذ العديد من المصريات من المآسي التي كن يلاقينها في المحاكم وهن يجرين معاملات الطلاق، فبسبب هذا الفيلم تمّت إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية، ومنحت المرأة حقها في خلع زوجها، إن هي تخلت عن مستحقاتها المادية، بما يمكن احتسابه منجزا فنيا رائدا في مجال حقوق المرأة.

يبقى ومن خلال ما تقدم من عروض موجزة أن تعاطي السينما العربية مع قضية المرأة، لم يكن لينفصل عن الموضوع السياسي. أما في وقتنا الحالي، في فترة ما بعد ثورات الربيع العربي، فإن الصورة لم تتبلور بعد، وإن كنا نذكر فيلم “بنتين من مصر” (2010)، بطولة زينة وصبا مبارك، الذي يتناول مشكلة العنوسة جنبا إلى جنب مع سلسلة من الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بهذه المشكلة، والتي تحضر لتكشف مدى القهر السياسي قبيل ثورة 25 يناير. كذلك نذكر في هذا السياق فيلم “فتاة المصنع″ (2013)، الذي ينقل صورة نماذج شائعة من الذئاب البشرية المتكررة في الشارع المصري، نراها تتحضّر لافتراس شابة تعمل على إعالة أسرتها، لأعود وأؤكد أن الصورة لم تنضج على نحو كاف بعد.

عموما، إن كنا قد لاحظنا في صورة المرأة توزعا في الاتجاهات، ما بين تقليدي محافظ سلب المرأة حقوقها، وآخر مضادّ انزاح كثيرا عن المنطق السوي، فإننا لا نملك سوى التأكيد على أن طبيعة قضية المرأة هي سياسية في الدرجة الأولى، وأحيل إلى ما كانت سوسن ناجي قدمته في كتاب لها حول “المرأة المصرية وثورة يوليو” عندما أكدت منذ البداية، أن كل ما يرتبط بذات المرأة من أمور شخصية مرتبط في الوقت ذاته بالنظام، وبالسلطة، والحروب والنكبات، ولا سبيل إلى فصل القضايا السياسية عن قضية المرأة الاجتماعية أو النفسية أو الجسدية، لكن أيّ أحد من متابعي الشاشة المصرية لا يملك إلا أن يعبّر عن ضرورة إيجاد صيغة إصلاحية وسطية مفقودة معنية بصورة حيوية مختلفة عن المرأة، من شأنها الارتقاء بحالها والخروج بها عن الصور النمطية المتكررة التي تبعث السأم في نفس المشاهد.

     
     
 
 
 
     
 

نوري الجراح

رئيس التحرير

مارس 2018

 

 
 
 

موضوعية المؤرخ وجرأة الناقد

سينما المرأة ومسرح أبي خليل القباني

 
 

منذ انطلاق مجلة “الجديد” أخذنا على عاتقنا مهمة توسيع دور المنبر الثقافي ليشمل الكتابة التي تبحث في مختلف الظواهر التي تشكل جغرافية الثقافة العربية.

في هذا السياق، هناك ضرورة معرفية تتمثل في قراءة المنجز العربي في السينما انطلاقا مما بات يسمى “سينما المرأة”، أو السينما التي صنعها الرجل وصنع من خلالها صورة المرأة، في واحدة من أكبر عمليات الاستحواذ والهيمنة المجتمعية والثقافية وضوحا ومواربة معا (حتى عندما تبدو موضوعاتها ومراميها مقنعة)، وفي المقابل السينما المضادة التي ردت على هذه المغامرة الجمالية الذكورية، متأخرة بعض الشيء، في محاولة من المرأة نفسها لتخليص صورتها من التأطيرات النمطية التي أسرها فيها الرجل، ومن الموضوعات التي ألحقها بها سينمائيون شاركوا في صناعة صورتها، خلال مئة عام من السينما.

***

لكن هل تبدو المسألة بسيطة إلى الحد الذي يستوجب حفر خنادق متقابلة ذكورية وأنثوية للتعبير عن طبيعة المسألة، وتشخيص حقيقة الظاهرة وتفكيكها، وصولا إلى جوهر الصراع الذي دار بين نمطين من الصور: صور صنعها خيال الرجل وتمثلاته عن المرأة بوصفها كيانا أنثويا موجودا وجودا واقعيا مصحوبا بتراث من التخيلات عنه، وصور مقابلة صنعتها الأنثى نفسها في سياق صراع بين التنميط والتفكيك لتلك الصور الذكورية التي ما برحت سائدة في الثقافة العربية.

أتحدث هنا في مناسبة ملف منشور في هذا العدد حول مجال واحد من المجالات الثقافية التي صنعت صورة المرأة في الأذهان، وهو مجال السينما.

إنما هل يمكن تحقيق فكرة إعادة النظر في تطور ثقافي على صعيد ما دون العودة إلى تاريخ الظاهرة التي نريد أن ندرس، إلى مراحلها المختلفة، إلى ما حضر فيها وشكل عناصر وجودها وقوتها، وما غاب عنها وشكل نقيصة وضعفا، وإلى طبيعة تجلياتها في حقل وجودها، وغيرها من المكونات والمحيط المتصل بالظاهرة؟ ينطبق هذا على ظاهرة بعينها وعلى مختلف الظواهر الثقافية والمجتمعية.

II

يقودنا الحديث عن التوجهات النقدية، من باب إعادة النظر في الإرث السينمائي الحديث إلى ملف آخر ضمه العدد ويتعلق هذه المرة بالمسرح العربي الحديث وتاريخه انطلاقا من ظاهرة مسرحية أساسية تتمثل في تجربة أحمد أبي خليل القباني الذي يكتنف جوانب من سيرته المسرحية بعض الغموض.

***

إلى وقت بعيد ظلت رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا ضربا من الشائعة التي لم تنتشر كثيرا، ولم يصدقها الأقربون ونفاها أو تجاهلها جلّ المؤرخين الثقافيين عندما لم يجدوا لها وثيقة تدل على وقوعها، وقد ضرب هؤلاء صفحا عن البحث المتعمق والجاد في ظل ضعف التواصل الثقافي والمعرفي، بل وانعدامه، بين العرب والأميركيين، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين. على أن باحثا مشهودا له في العناية بأدب الرحلة العربي المكتوب في القرون الثلاثة الماضية، وضع مؤخرا كتابا أماطت صفحاته اللثام عن تلك الحادثة المخفيّة في سيرة أبي خليل القباني، لينقلها من ظلال الخرافة إلى شمس الحقيقة، ويكشف في الوقت نفسه عن أول اتصال ثقافي لبلاد الشام مع الديار الأميركية، والجمهور المسرحي الأميركي بالمعنى الواسع للكلمة.

***

هناك أكثر من معنى لهذا الكشف وللرحلة التي استمرت ستة أشهر صحبته خلالها فرقته المسرحية المؤلفة من نحو أربعين ممثلة وممثلا ومغنيات وعازفين من بلاد الشام، من دمشق وحلب وبيروت وحيفا والقدس وغيرها، أنشأ القباني على إثر وصوله وفرقته إلى شيكاغو بناء مسرحيا يتسع للآلاف من المقاعد، وعرض ما لا يقل عن 10 عروض مسرحية تحت مسمى “مرسح العادات الشرقية”، وحضر عروض مسرحه جمهور كبير من الأميركيين بينهم نقاد وصحافيون وفنانون، وكُتبت قراءات نقدية للعروض في أهم الصحف الأميركية، وأدهش مسرحه الجمهور الأميركي، لكونه نهض على فكرة الفرجة، وتداخل الخشبة بالجمهور قبل نحو 40 سنة من تجربة برتولد برخت صاحب المسرح الملحمي الذي نهج النهج نفسه في عروضه المسرحية وفي توجهاته التعبيرية ذات الطابع التغريبي، واعتبر مرجعا للمسرح العربي الحديث، والسوري على نحو خاص الذي اعتمد فكرة الفرجة، وإسقاط الحائط الرابع بين الجمهور والعرض، من دون أن يذهب النقاد العرب إلى تأصيل مغامرتهم المسرحية استنادا إلى التجربة الريادية لأبي خليل القباني.

من شأن هذا الملف المنشور في العدد أن يفتح بابا للنقاش حول هذه المسألة، إضافة إلى الوثائق غير المسبوق نشرها والتي يقدمها، وللمرة الأولى، منبر ثقافي عربي، في بحث يلقي أضواء جديدة على هذه الشخصية الرائدة في الثقافة العربية.

***

أخيرا، فإن الملفين المنشورين في هذا العدد من “الجديد” يؤشران على مدى الاستجابة، من قبل حملة الأقلام العرب، للمغامرة التي تخوضها المجلة، على ضوء من توجهاتها القائمة على إشاعة روح البحث والتفكير بحرية، وتكريس مبدأ النقد الموضوعي والكشف الأدبي، والتشجيع على قراءة الظواهر الثقافية والأدبية بموضوعية وانفتاح، وصولا إلى إنطاق الوثائق المكتشفة حديثا عن المعطيات والحقائق التي تفيد في إعادة كتابة التاريخ الثقافي العربي الحديث بأقصى ما يتطلبه التأريخ من موضوعية والنقد من جرأة.

لندن في مارس/ آذار 2018

     
     
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)