جديد الموقع

 
 
 

عنوان الصفحة:

مجلة «عالم الكتاب»: عيون النقد السينمائي (ملف خاص)

 
 
 
 
 
غلاف مايو 2019
 
 
 
 
 

 

مجلة «عالم الكتاب»:

بورتريه: عيون النقد السينمائي (ملف خاص)

 

تصدر عن الهيئة العامة للكتاب

رئيس التحرير د. زين عبد الهادي - مديرا التحرير وائل سعيد - سناء عبد العزيز

 
 
 
 
 
 
 
 

عناوين الملف

 
 
 
 

·     كمال الملاخ.. شُعلة النشاط

أحمد صوان

 

·     راهب الفن السابع

بقلم: هناء نور

 

·     أحمد الحضري: أديب النقد السينمائي

محمد محمد مستجاب

 

·     الحضري رائدا للثقافة السينمائية.. أستاذي ومعلمي من خلال كتبه وترجماته

صفاء الليثي

 

·     السلاموني يتكلم

د. أحمد خالد توفيق

 

·     سمير فريد.. المُكرَّم عالميًا والمُتجاهل محليًا

نرمين يُسر

 

·     سمير فريد.. عن التأثير والتأسيس والتطور والأستاذية.. وبعض الأمور الشخصية

أحمد شوقي

 

·     3 لقطات على شاشة سمير فريد 

حسام حافظ

 

·     مقاعد "على أبو شادى"... الشاغرة

محمد رفاعى

 

·     علي أبو شادي.. ذاكرة السينما والوطن

نـاهـد صـلاح

 

 
 
 
 
 
 
     
 

 

بقلم: أحمد صوان

 

 
 
 

كمال الملاخ.. شُعلة النشاط

 
 

يصف مُعاصرو  مُتعدد المواهب كمال الملاخ بأنه كان "شعلة من النشاط في شوارع القاهرة"؛ يبدو الرجل العاشق للآثار  كأنما هو فرعون خرج من مقبرته يسير بعزة وقوة وشموخ، يسلك هذا بطبيعته، حتى أنه كان عندما يتحدث عن "نساء الفراعنة" فكأنما يتحدث عن حبيبة يُستغرق في وصف جمالها بأسلوب جذاب، ممتع، ورقيق، يجعل من أمامه يعيش في زمن الفراعنة. كان "سيمفونية متعددة الألوان والأنغام" كما وصفه موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.

وهب الملاخ حياته للفن والآثار والصحافة، كان مبدعاً خلاقاً، ما جعل في جُعبة صداقته كل نجوم المجتمع في عصره، فهو صاحب فكرة مهرجان السينما في كل من القاهرة والإسكندرية، ومهرجان الأفلام التسجيلية للفنون الأفريقية بأسوان، وبينالي القاهرة، واستطاع أن يقدم الآثار بأسلوب سهل وشيق، حتى أنه جعل للآثار عشاقًا من خلال أبواب ثابتة في الإذاعة والتليفزيون.

كان طريق الملاخ في بدايته أبعد ما يكون عن علوم الآثار، فقد درس في كلية الفنون وتفوق فيها حتى عُيّن مدرسًا في قسم العمارة، لكنه، وكما يحكي في كتابه "قاهر الظلام"، فوجئ بعميد الكلية يُلغي جدول محاضرته ويوقفه عن العمل دون سبب واضح، ووسط ثورته العارمة فوجئ برسالة تليفونية تطلب منه مقابلة المستشار الفني لوزارة المعارف العمومية الدكتور طه حسين، والذي قابله بحفاوة ووصفه بأنه شاب موهوب "بل إنك بالنسبة لعمرك نابغة"، حسب قوله، ثم طلب منه أن يقبل رأيه في الاتجاه إلى الآثار للدراسة والعمل بها، لأن هذا العميد نسيب أحد الوزراء "وهو يستطيع أن يسود دوسيهك في غيبة من العلم بدلا من أن يشق لك طريقًا"، وأضاف "أنت أولى بحضارة بلدك". بهذا بدأ الملاخ طريقه الأثري وحصل على درجة الماجيستير في الآثار وفقه اللغة المصرية القديمة واستعد لعمل الدكتوراه لكن ظروف الحياة واهتماماته الثقافية والصحفية حالت دون ذلك؛ لكنه عشق الآثار وعمل فيها بجانب عمله الصحفي في جريدة الأهرام والفنون والسينما وغيرها.

أمّا عن قصة اكتشاف مراكب الشمس، فيروي محمد توفيق في كتابه " الملك والكتابة: قصة الصحافة والسلطة في مصر 1950 – 1999"، أن الملاخ وكان وقتها يعمل مديراً لأعمال آثار الهرم، طلب من مصلحة الآثار أن يُعيد البريق إلى الهرم الأكبر بتنظيف الطريق المؤدي إليه من الرمال التي انهالت عليه، خاصة في الجانب الغربي لهرم الملك خوفو. يروي العالم الأثري الدكتور زاهي حواس، والذي كان يعمل مع الملاخ في ذلك الوقت، أن الريس "جرس يني" الذي كان يعمل في هذه المنطقة ويشرف على العمال اكتشف شيئًا صلبًا، فهرع يتصل بالملاخ الذي كان يتناول الغداء مع صديقه الكاتب الكبير أنيس منصور ومورس هنري مراسل "يونايتد برس" في مطعم الأكسلسيور بالتحرير. يقول حواس "على الفور استقلوا جميعاً السيارة متجهين إلي منطقة الهرم، وأثناء الطريق احترق موتور السيارة، ما جعل أنيس منصور يقول إنه  يبدو أن لعنة الفراعنة بدأت مع الكشف؛ لكنهم وصلوا حتى جنوب هرم الملك خوفو مباشرة، ووقف الملاخ بجوار الحفرة التي تقع في الناحية الجنوبية الغربية وكان معه مرآة فشاهد من خلالها داخل الحفرة الأخشاب متراصة فوق بعضها البعض، وهنا قال الملاخ أنه كشف "مراكب الشمس"؛ لكن المضحك المُبكي في هذا الأمر أن مصلحة الآثار حولت الملاخ للتحقيق، وتم خصم عشرة أيام من راتبه لأنه أعلن عن الكشف، ثم استقال بعدها من العمل بالآثار وكان ذلك في صيف عام 1957.

في الصحافة، كان الملاخ يرسم يوميات الأخبار وآخر ساعة وأخبار اليوم والجيل الجديد؛ وبخلاف المقال الشهير للراحل محمد حسنين هيكل، كان يكتب العنوان لصفحة من "غير العنوان" بخط يده، والتي جذبت آلاف من عشاق الأهرام؛ كذلك رسم مقالات توفيق الحكيم ومحمد التابعي وعباس العقاد وسلامة موسى وكامل الشناوي وهيكل.

الحماس نفسه الذي بحث به عن مواضع القدماء حتى ظهرت صورته على غلاف مجلة "تايمز" الأمريكية، وتجلت به ريشته في الصحافة حتى كان واحدًا ممن استطاعوا أن يجعلوا جريدة الأهرام تُقرأ من الصفحة الأخيرة، هو ما دفع فكرة مهرجان القاهرة السينمائي لعقل الملاخ، عندما جلس على مائدة الإفطار مع النقاد فوميل لبيب وعبد المنعم سعد وماري غضبان وأحمد ماهر  في برلين عام 1975، حيث كانوا يحضرون مهرجان السينما، ولفت عبد المنعم سعد نظر الملاخ لخبر في مجلة فارايتي الأمريكية عن قيام إسرائيل بتنظيم مهرجان سينمائي بالقدس، ما جعله يشعر بالغيرة على مصر التي شهدت أول صناعة سينما في أفريقيا والشرق الأوسط.

هكذا حرّك حماس الملاخ الباقيين ككرة ثلج أصابت هدفها بعد عام واحد، حيث تم إنشاء "الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما" لتكون الجهة المُنظمة للمهرجان، واختير الأديب الراحل يوسف السباعي -وزير الثقافة الأسبق- رئيساً فخرياً للجمعية، وتم تشكيل هيئة المهرجان برئاسة  كمال الملاخ، وكان عبد المنعم سعد مديراً، وحسن عبد الرسول أميناً عاماً ،وأحمد ماهر أميناً للصندوق، وعضوية فوميل لبيب ومفيد فوزي وأحمد صالح ؛ واستضافت الدورة الأولى سينما قصر النيل يوم الاثنين 15 أغسطس 1976. وقتها افتتح رئيس الوزراء المهرجان، لكن الرئيس السادات استقبل في بيته الملاخ وضيفته النجمة الأمريكية إليزابيث تايلور. المُثابرة نفسها دفعته  لتأسيس مهرجان محافظة أسوان عام 1981، وكان بعنوان "مهرجان أسوان الأول للسينما الأفريقية"، ونظمته جمعية كتاب ونقاد السينما، بحضور العديد من كبار نجوم مصر، منهم فريد شوقي ونادية لطفى ومديحة يسرى ولبلبة وعادل أدهم، والإذاعي إمام عمر ؛ ولكن لم يستمر هذا المهرجان وتم تقديم دورة واحدة منه، لوجود العديد من العوائق وقتها.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم: هناء نور

 

 

 
 
 

راهب الفن السابع

 
 

من السهل على أي باحث عن "أحمد الحضري"  كتابة اسمه فقط لا أكثر في محرك البحث "جوجل" وهو سيقوم بتعريفه به وتقديم بيانات شبه كاملة عنه؛ إذ إن الرجل موسوعة سينمائية.. وقد وهب وقته وجهده في محبة هذا الفن بكل تفان وإخلاص.. سواء في الترجمة، أو النقد. أو الكتابة السينمائية، أو المناصب الثقافية التي تقلدها.. فقد أسس جمعية الفيلم عام 1960.. وتولى عمادة المعهد العالي للسينما عام 1967.. وأدار المركز الفني للصور المرئية عام 1972.. وتولى إدارة مركز الثقافة السينمائية عام 1975.. غير أنه  كان رئيسا للمركز القومي للسينما عام 1980.. ثم تولى صندوق دعم السينما عام 1984..  

وثمة موقف طريف لم يبرح ذاكرتي؛ فبعد وفاة أحمد الحضري عن عمر يناهز 91 سنة.. قرأت لصحفية ما مقالا بعنوان: أحمد الحضري 91عاما من الإبداع.. وهذا يعني أن الرجل منذ برح بطن أمه وهو يكتب للسينما، وربما كانت الصحفية مبتدئة وهذه الأخطاء شائعة الحدوث.. لكني فيما بعد فكرت بشكل  غير ساخر، أو ضاحك بتعبير أدق.. فرأيت بشيء من التأمل بعض الصدق غير المتقن في التعبير عن الرجل. وأخذت أفكر في تعبير أدق عن رجل كرس ما يقرب من 70 سنة من عمره في محراب الفن السابع.. حتى توصلت لتعبير يليق به ويرضيني كقارئة له؛ ألا وهو: "أحمد الحضري راهب الفن السابع".

ولأنني لست "جوجل" ولا أحب أن أعبر من خلاله.. توصلت لفكرة ليتها تنال قارئ هذا المقال.

إذ قلت: بما أن مؤسس جمعية الفيلم هو "أحمد الحضري" ورئيسها الحالي هو الفنان والمصور السينمائي "محمود عبد السميع" لم لا يدور حديثا بيننا حول الأستاذ أحمد الحضري؟

يقول الفنان "محمود عبد السميع" متحدثا بحب بالغ: لم أكن أعرف أحمد الحضري عن قرب.. وكنت أظن أن كيانا عظيما كهذا.. يبدو ضخما ومهولا.. لكني حين رأيته وعرفته عن قرب اكتشفت أنه عادي مثلنا، وبسيط بساطة العظماء.

وكنت قد اكتشفت أنه أول من كتب عن السينما وأعلام السينما وحرفية السينما باللغة العربية.

وفي عام 57 صدرت مجلة "المجلة" وكان حريصا على الكتابة فيها عن أعلام السينما العالمية.. ثم نشر مقالات في حرفية السينما: الفكرة، المعالجة السينمائية، والسيناريو، والإخراج.. واستشهد بأفلام معروفة عالميا ومحليا.

وفي عام 64 قرر عمل دراسات سينمائية في جمعية الفيلم.. وقلنا: نعمل أفلام الهواة.. واشترطنا أن يكون العاملين بها هواة فقط في تخصصاتهم.

ويضيف الفنان "محمود عبد السميع": الكلام عن أحمد الحضري يحتاج لأوقات طويلة.. والحديث عنه ممتع ولا ينتهي.. وقد تعلمت منه الكثير.. كان وسيظل أستاذ  لي، ولهاشم النحاس، وخيرية البشلاوي، وسمير فريد... وغيرهم من عشاق الفن السابع.

وندين له جميعا بالولاء؛ لأنه قدوة.. ولقد كرمناه عدة مرات.. وكرمه "الأمير أباظه" بصفته رئيس جمعية كتاب ونقاد السينما.. وعمل احتفالية حضرتها عشر جمعيات بعشر تكريمات.. قبل وفاته بعدة أشهر.

وسيظل "أحمد الحضري" رائد من أهم رواد الثقافة السينمائية في مصر، وعلى مستوى العالم العربي.

وسيبقى في ذاكرة السينما المصرية أهم موثق لها.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

محمد محمد مستجاب

 

 

 
 
 

أحمد الحضري: أديب النقد السينمائي

 
 

كرهبان الأديرة المصرية القديمة، الذي لا تراهم، ولكنهم جالسون يتأملون الكون حولهم، يستقبلون أشعة الشمس كي يحولها لدفء وأفكار وحرارة ومؤتمرات وأبحاث وكتب وعقائد سينمائية، أو يحدثونك عن القمر، وبريقه، وحالاته وتحولاته من بدر لهلال لخسوف ولحالات أخري لا نعلم عنها شيئًا. وبين الشمس والقمر، سوف يخبرك – هؤلاء الرهبان- بوقت الفيضان، ومتي تنشأ الأعاصير، ومتي تهدأ الرياح، وتخفت وتصير نسمات باردة تناغش الوجوه.

ومن هؤء الرهبان، جاء لنا "أحمد الحضري"، وتحدث بحكمتهم، وأخبرنا بما ينقصنا، وتحدث في كل شيء يهمنا، ويفتح الآفاق لأفكارنا وإبداعنا.

وهذا ما فعله هذا الكاهن السينمائي العتيد، حيث قام بتغذية وجداننا السينمائي منذ صغرنا، وأمدنا بالروافد والأنهار التي تسري داخل جهازنا العصبي حتى تصب داخل عقولنا وقلوبنا أيضًا.

فلا أستطيع أن أنسي لقاءته في برنامج "نادي السينما" الشهير مع المذيعة اللامعة "درية شرف الدين" في سهرة السبت من كل أسبوع، وكيف كان يحلل لك الفيلم، ويخبرك بتاريخ المخرج وبدايات الممثل، ونشأة الفن السينمائي في بلد ما، كان يتحدث كموسوعة شاملة، في جميع ما يعرفه، لتشعر أنت - كمشاهد بالامتلاء الفني، والرؤية الإبداعية قبل مشاهدة الفيلم.

لقد كانت تحليلاته هذه، هي بداية تعرفي به، قبل أن أراه في بيتنا جالسًا في حضرة مستجاب الأب، أو أجد كتبه في مكتبه بيتنا، أو أجلس في حضرته بكافيتريا الهناجر.

في صوت هاديء، وابتسامة لا تفارق وجهه، كان يتحدث، ويبدي رأيه في السينما، ويطرح الأفكار فيما ينقص أو تحتاجه مكتبتنا السينمائية، أو يقترح مهرجانا أو مؤتمرًا نجتمع فيه كي نتحاور ونتناقش ونتنافس أيضًا، وكان دائمًا يقدم لك كتابًا، سواء من تلك الكتب التي تصدر من باب التكريمات في المهرجات، أو كتابًا خاص به، أي إنه بعد أن يملأ عقلك، سوف يضع هذا الكتاب في يدك.

وهذا أجمل ما كان في الأستاذ "أحمد الحضري" هو عدم بخله، وعدم تحفظه، وعدم جلوسه خلف مكتبه كموظف يخشي مقابله الجمهور، أو يمارس سلطاته كي يقتل موهبة، أو يعيق تقدم فنان، كلا، وكأنه كان يريد أن يستفيد من معرفته وأفكاره كل من يقابله ويجالسه، لذا فقد ظل كـ "قرص شمس" حانية، وشديدة الحرارة أيضًا، رغم جسده النحيل، وطوله الفارع، وأتذكر هنا أيضًا، كيف كان اسمه يذكر كثيرًا في الخطابات التي كان يرسلها المخرج محمد خان في بداياته من أوروبا لصديقه المصور سعيد شيمي كي تنشر في النشرة السينمائية. وهي خطابات كتبت في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كي تكتمل الصورة لدي، بأن الأستاذ "أحمد الحضري" لم يتوانَ عن مد يده في نشر كل إبداع سينمائي، وتوجيه من قادوا الشاشة السينمائية وامتعونا بأفلامهم، وذلك منذ سنوات طويلة.

إن الدور الذي كان يقوم به "أحمد الحضري"، يشبه عمل المؤسسة الكاملة، بين تنظيم المؤتمرات والاستعداد للمهرجانات السينمائية، ثم الجلوس على مائدته كي يحلل أحد الأفلام أو يرتب مسودات أحد كتبه. أو يفتح بعض المعاجم ليقارن بين كلمة وأخري قبل أن يقوم بترجمتها، تلك الكتب التي تزين مكتبتنا العربية، والتي يجب أن تمتد لها يد أي مهتم بالشأن السينمائي، وفي جميع المجالات السينمائية، فهي أحد الأسس قبل أن نشرع في أي عمل فني.

فمنذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى العقد الثاني من الألفيه، أي ما يقارب السبعون عامًا، كان "أحمد الحضري" حضارًا دائمًا ومتواجدًا في كل منبع نشرب منه ونغذي منه عقولنا السينمائية، وليصبح شيخ النقاد، والأب الروحي لهما، ومدرسة قائمة بذاتها، فألف وترجم عشرات من الكتب السينمائية المهمة التي كانت تصدر منذ الستينيات.

كما شغل الكثير من المناصب السينمائية الحيوية في حياته العملية، منها تأسيسه لجمعية الفيلم، وعمادته للمعهد العالى للسينما، وإدارته لكل من المركز الفنى للصور المرئية، ومركز الثقافة السينمائية، ورئاسته للمركز القومى للسينما، وصندوق دعم السينما، ونادى سينما القاهرة، ومهرجان الإسكندرية السينمائى، والجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما.

ولأنه كان يعلم ما ينقصنا وينقص مكتبتنا السينمائي، فقد قام بترجمة كثير من الكتب، ترجمه رصينة وحية، خاصة لمعرفته بذائقتنا السينمائية، وبرؤيتنا المختلفة للأمور، لذا فإنه لم يترجمها من باب الترجمة فقط، ونقلها فقط، بل وضع فيها رؤيته الفنية، وقرب فيها وجهات النظر، حتى تصبح تلك الكتب، نافذة حقيقة لعقولنا، وأساس لمكتبتنا السينمائية، ومن هذه الكتب وخاصة في مجال صناعة السينما: كتاب "صناعة الأفلام من السيناريو إلى الشاشة" تأليف إيفان بتلر، ونجد كتابًا آخر يهتم بصناعة الأفلام الروائية تحت اسم "صناعة الأفلام الروائية" تأليف أندرو بوكانان د. ت، وكتاباً معنياً بحرفية عملية الإخراج باسم "الإخراج السينمائى" تأليف تيرنس سان مارنر، وكتاباً موجهاً لفنانى المونتاج وهو "فن المونتاج السينمائى" تأليف كاريل رايس، وكتاب "تصميم المناظر السينمائية" تأليف تيرنس مارنر، وهو أحد الكتب الهامة لمصممي الديكور، وكتاب "كتابة السيناريو للسينما" تأليف داويت سوين، وكتاب "كيف تتم كتابة السيناريو" تأليف إنجار كارتينيكوفا.

 كما قدم للممثل، وأقصد نجوم الشاشة، جزء من تكوينهم الأدائي والتمثيلي، كي تدعم موهبتهم وتعينهم على الأداء المؤثر والمتميز على الشاشة، منها: "التمثيل للسينما والتليفزيون" تأليف تونى بار، و"توجيه الممثل فى السينما والتليفزيون" تأليف جوديت ويستون، وكتاب "رجال السينما" تأليف أوزويل بليكستون د. ت، وكتاب "قراءة الشاشة" تأليف جون أيزود، وكتاب "نظرية السينما" تأليف بيلا بلاش، وكتاب "قواعد اللغة السينمائية" تأليف دانييل أريخون.

ويجب أن نعلم، إنه في كل كل فترة زمنية، يظهر شخص أو مجموعة أشخاص، يقومون بتنظيم الصفوف، ويصبحون الأدلاء للطريق، يمهدون ويرصفون ويقومون بإزاحة تلال الرمال وتمهيد التراب، كي يصبح الطريق خاليًا وممهدًا كي تسير القافلة.

ورغم ثقل وامتداد القافلة السينمائية المصرية والعربية، إلا إنه يوجد "قلة" استطاعوا أن يقومون بتلك الأشياء من أجل استمرار عمل القافلة السينمائية، ومن أجل رؤية الطريق الإبداعي، ومن أجل أيضًا الخروج من الأزمات التي كثيرًا ما تتعرض لها السينما المصرية.

والراحل "أحمد الخضري" كان من ضمن هؤلاء، ولا أستطيع هنا أن أنسي أصدقاءه: أحمد رأفت بهجت ومحمد عبد الفتاح، ودورهم في مساعدته، بقيادة القافلة وتمهيد الطريق ووضع التضاريس لعقولنا الضيقة.

 أحمد الحضري مصري حتى النخاع، ناقدًا، ومؤرخًا، وكاتبًا، ومترجمًا، ومنظمًا، وقائدًا، فهو المثابر والدقيق، وكأنه مؤسسة كاملة تسير على قدمين، بطوله الفارع، وشاربه المنمق، يتحدث بهدوء، ويتواجد في كل مكان، ويفكر في صمت ويحلل المواقف وينظر للصورة الكلية للحياة السينمائية المصرية، ويمدك بالأفكار التي تحتاجها، لذا فإننا لا نستطيع أن نسير بدون أن تمتد أيدينا إلى أحد مؤلفاته أو ترجماته، ولا نستطيع أن نغفل عن أفعاله ومؤسسات وجمعياته السينمائية التي قام بإنشائها أو حتى التلميح بما يجب أن يكون.

ربما يعود ذلك لأنه خريج كلية الفنون الجميلة في الأساس، وكأن هذه الذائقة الجمالية، هي ما جعلته يقوم بتشكيل وتجميل هوية الكثير ممن يحبون السينما، والفن السينمائي عمومًا، أي أن كلمة منه أو عبارة يقولوها أو كتاب تقرأه له، يقوم بفتح الطريق أمامك، وربما تكون أنت في المقدمة، وهو في الخلف، ولم يكن يتضايق من ذلك، فهو يشعر بالرضاء عما يفعله.

ورغم كثرة مؤلفات أحمد الحضري، سواء كانت مترجمة أو مؤلفة، إلا أنني وجيلي كله والجيل السابق، نظل مدينين إلى "نشرة نادي السينما" والتي تزين مكتبتي بأعدادها من فترة الستينيات إلى منتصف السبعينيات، وإنها كنزي الثمين الذي تمتد يدي له كلما شعرت بالخواء أو الفقد أو عدم معرفة الطريق.

تلك النشرة السينمائية التي أفتخر بأعدادها في بيتي- والتي ورثتها من أبي- بورقها الغامق الهش، لكنها كانت بالنسبة لي مصدر كثير من الأفكار والإلهام، لأكتشف بعد ذلك خصوصية تلك النشرة، وفراده تجربتها في تكويننا السينمائي.

سيظل أحمد الحضري حاضرًا بابتسامته، ومؤلفاته، وستظل الألقاب التى حصل عليها حقيقة ومن نصيبه هو وحده، فهو الأب الروحي لتاريخ السينما المصرية، وراهب النقد السينمائي المصري، وشيخ النقاد دون منازع، في مصر والعالم العربي، ومعلمهم الأول والمؤرخ السينمائي المثابر والدقيق.

أن تضاريسنا السينمائية، قام أحمد الحضري، بتمهيد طرقها ودك جبالها، وتنقيتها من المطبات والشوائب التي تعيق حركتها، وهذه زهرة نضغها على قبره، ونقرأها كفاتحة على روحه الطاهرة.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

صفاء الليثي

 

 

 
 
 

الحضري رائدا للثقافة السينمائية

أستاذي ومعلمي من خلال كتبه وترجماته

 
 

كنا في مهرجان الإسماعيلية العريق وقد بلغ دورته الـ21، يتناقص فيه بإطراد أعداد الرواد وتتزايد أعداد السينمائيين الشباب الصحفيين والنقاد، في اليوم الأول عرض عامل العرض الأفلام بأبعاد تخالف أبعادها الحقيقية، همس لي سينمائي شاب الأفلام معروضة غلط، حقا؟ تساءلت وتذكرت أحمد الحضري الذي كان أكثر ما يضايقه حدوث خطأ كهذا فينفعل ويطلب إيقاف العرض ويصعد بنفسه الى الكابينة ويبقى مع فني العرض حتى يصل إلى العرض بمستواه الفعلي. كنا نصفق له ضاحكين ونحن ندرك تماما حرصه على الدقة والإتقان بداية من البحث في التاريخ وتدقيق المعلومات، وصولا لحقيقة الفن السينمائي، انتهاء بجودة العرض وخاصة بعدما انتقلنا الى الديجيتال حيث تتعدد أنواع وأبعاد الصورة ولم تعد بأبعاد قياسية (ستاندراد) كشريط الفيلم السينمائي كما بدأت وقت الحضري وعصره الذهبي للسينما في مصر والعالم. للحضري مريدين، تلاميذ يعترفون له بالفضل ومنهم مدير التصوير سعيد شيمي، قاطع سعيد منظمي حلقة البحث في النقد السينمائي في السبعينيات سائلا هل تم ذكر أحمد الحضري ويعقوب وهبي؟ وجاءت الإجابة من محسن ويفي منسق حلقة البحث بأنه يأتي ذكر الحضري بالتأكيد في عدد من أوراق البحث. وعن نفسي أعتبر أحمد الحضري أستاذا لي رغم أنه لم يقدم لي درسا خاصا سواء حين كنت طالبة بمعهد السينما أو فيما بعد حين تزاملنا في مجلس إدارة جمعية نقاد السينما المصريين، حين كلفت بأمانة الصندوق تخوفت أنني لا أفهم في الحسابات فشجعني لن نتركك وسنكون معك، وحين اتهمني البعض باستغلال موقعي في أمانة الصندوق أثناء إصدار مطبوعة النقاد عالم السينما كان مدافعا قويا وقال للزميل الذي قال بالحرف "عفا الله عما سلف" وطالب بإبعادي عن المهمة، لكن الحضري بأمانته ومثاليته رفض ما اعتبره تجاوزا في حقي وأصر على استمراري ورد على الزميل إذا كانت قد تجاوزت فسأكون أول من يحقق ويتأكد من صدق الاتهام أو عدمه. وقد حدث بالفعل وخاصة أنه عاني من اتهام مماثل حين كان مسئولا عن نادي سينما القاهرة، من البعض الذين يرفعون شعار "فيها لاخفيها" حين لا يجدون لهم مكانا في عمل ناجح.

 الحضري أحد رواد التنوير في الثقافة السينمائية المصرية مثلت ترجماته مرجعا هاما لكل من يرغب في تعلم فن السينما، مثلت كتبه لي مصدر التعلم الذي سبق التحاقي للدراسة بالمعهد العالي للسينما وخاصة كتاب قواعد اللغة السينمائية لكارل رايس الذي ترجمه الحضري بلغته القوية وإتقانه المعروف.

الترجمة كانت فنا مبدعا لدى الحضري يتجلى ذلك في ترجماته البعيدة عن الترجمة الحرفية الثقيلة بل ترجمة المعاني باستخدام ألفاظ قريبة من استعمالنا اليومي وبعيدا عن حذلقة البعض فلم يترجم حرفيا كتاب "تقنية مونتاج الأفلام" الصادر عام 1953 بل ترجمه إلى "فن المونتاج السينمائي" متفهما المعنى الذي يهدف إليه الكاتب في النسخة الإنجليزية الأصلية من الكتاب.

وفي الترجمة أصبح العمل القياسي في هذا الموضوع باللغات الإسبانية التشيكية والبولندية والروسية. وقام الحضري بترجمته عام 1964 وكان مرجعا هامل لكل دارسي السينما وخاصة في المعهد التابع لأكاديمية الفنون بالجيزة وسيصبح الحضري عميدا له عام 1967 ويقوم بتغيير قواعد القبول به ليصبح قاصرا على خريجي الجامعات ولكن التجربة لم تكلل بالنجاح ويعود المعهد لاستقبال طلاب الثانوية العامة جنبا الى جنب الخريجين وتكون القاعدة هي النجاح في اختبارات القبول وكنت في أول دفعة بهذا النظام الجديد التحقت بشهادة الثانوية العمة ومعي سيد سعيد خريج هندسة، وزميل خريج فنون مسرحية وآخر خريج باليه ورابع خريج سياسة واقتصاد. وظلت ترجمات الحضري مرجعا هاما والمصدر الرئيس الذي ننهل منه علمنا.

تتعدد الألقاب التي تسبق الحضري فالبعض يسميه شيخ نقاد السينما في مصر، والبعض يحسبه مؤرخا وخاصة مع مجهوده المدقق في كتابة تاريخ السينما في مصر بجزئيه، وريادته في إصدار دليل شامل للسينما المصرية بأفلامها الطويلة والتسجيلية والقصيرة ومهرجاناتها المهمة، وخاصة جزأه الأول والذى نسميه فيما بيننا بالكتاب الأسود نظرا لغلافه بين الرمادى والأسود ويعد حتى الآن واحدا من أهم المراجع لكل ما أنتج من أفلام روائية طويلة والأفلام القصيرة والتسجيلية ولم يضاهيه أى دليل صدر بعده حتى يومنا هذا. لا في شموله ولا في دقته. فهو المؤرخ السينمائي المثابر والدقيق.

ومن كتبه المترجمة الأخيرة كتاب رجال السينما الذي يقدم تعريفا بدور كل فرد يقوم بمهمة محددة في صناعة السينما بداية من كاتب السيناريو، والمخرج السينمائي، ومخرج الأفلام التسجيلية، والممثل السينمائي، مرورابوكيل الفنانين والمنتج ومدير الإنتاج ومساعد المخرج ومهندس المناظر والمصور ومصور الأفلام التسجييلية ومصور الجرائد السينمائية والمصور الفوتوغرافية ومهندس الصوت وفتاة التتابع ومركب الفيلم وفنان الرسوم المتحركة ومؤلف الموسيقى التصويرية ومدير الدعاية السينمائية وينتهي بتعريف الإصطلاحات الفنية. ومن الواضح أن الحضري وجد في الكتاب ضالته في التعريف الدقيق والتصنيف وعدم خلط الأنواع وكلها سمات تناسب شخص الحضري القادم من خلفية عسكرية، المهندس ضابط الاحتياط المعروف بدقته المتناهية وحرصه على أدق التفاصيل. كان الحضري يحضر اجتماعات السينما بزيه الرسمي ولفت نشاطه في جمعية الفيلم الوزير ثروت عكاشة فاختاره لعمادة معهد السينما بعد أن طلب منه كتابة تقرير عن كيفية تطوير مناهج معهد السينما فكان تقريره مركزا على زيادة الناحية العملية وعاد بعد زيارة لمعاهد بولندا وتشكيوسلوفاكيا وفرنسا ليستفيد من كل المناهج ومن طرق التدريس التى تقدم بالخارج المتقدم. بعدها استلم العمل بالمعهد وقام بمحاولة لتنفيذ رؤيته فى التطوير ولكنه اصطدم بكثيرين قدموا اعتراضات ضده، وكان تركه للوظيفه فائدة له ولنا فقد قام بترجمة كتب فى الدراسات السينمائية ليستفيد منها المبتديء والمحترف على حد سواء. حبه للاتقان على طريقته وإصراره على التميز يجعله ينجح فى أن تكون سنة عمادته 67/68 كأول دفعة يتخرج منها الجميع بعد أن أنهوا مشروعات تخرجهم بالكامل ومنهم المخرج سمير سيف وكاتب السيناريو ابراهيم الموجى.

درس الحضرى الهندسة المعمارية فى كلية الفنون الجميلة وتخرج عام 1948. ثم تمكن من ممارسة هوايته فى التصوير أثناء بعثته بلندن، اشترى الكاميرا وحمض أفلاما صورها بكاميرا 8 مللي وعرضها بجهاز عرض نفس المقاس. عاد لمصر مهندسا معماريا وعمل بتخصصه 19 عاما مهندسا عاملا وسينمائيا هاويا، ثم عكس الأمر فمارس السينما 19 عاما والهندسة أصبحت هوايته. فى لندن تعرف على تجربة "جمعية الفيلم" ونقلها إلى مصر فأسس مع مجموعة من المثقفين المصريين "جمعية الفيلم" بالقاهرة. عاد عام 1955 إلى مصر وكله حماس لتطبيق ما تعلمه، وشارك فى نشاط جمعية "الفيلم المختار" حتى عام 1959، وتم تأسيس "جمعية الفيلم" عام 1960 كأول جمعية تسجل بالشئون الاجتماعية. بدأت نشاطها فى مايو 1961، وهى الجمعية التى استمرت حتى الآن.

ومن نتائجها المهة فيلم "حصان الطين" الذى أنتجته الجمعية لفتاة هاوية سينما وقتها وهى عطيات الأبنودى، قام الحضرى بتصويره مع محمود عبد السميع الذى خلفه الآن فى رئاسة جمعية الفيلم.

لا يعرف الواحد منا إلى أين ستتجه مسيرة حياته، تعلم الحضري التصوير وكان يأمل الاستمرار كواحد من صناع السينما ولكن ميله للعمل العام وخدمة بلده أخذه في مسار يحقق نجاحا في تأليف الكتب السينمائية وترجمتها وفي قيادة عدة منابر تقدم خدمة تثقيفية مجانية لكل محبي السينما كمركز الصور المرئية الذي يسمى الآن مركز الثقافة السينمائية ونادي السينما وجمعية الفيلم المستمرة كجمعية للهواة حتى الآن.

الحضري معلمي أيضا في هذا الاتجاه حيث لم أكمل في ممارسة فن المونتاج الذي درسته وتعلمته، وركزت في الكتابة السينمائية، نقدا وأبحاثا، كما ركزت في اختيار الأفلام للمهرجانات السينمائية وهو الدور الذي قام به الحضري الشغوف بالسينما مصريا وعالميا، الرائد الذي عاش حتى النفس الأخير متابعا ومرتحلا إلى كان وبرلين، عضوا فاعلا في الإسكندرية والإسماعيلية والقاهرة وكل مكان يحتفي بالسينما ويدعمها.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

د.أحمد خالد توفيق

 

 

 
 
 

السلاموني يتكلم

 
 

نعم، سوف أتكلم اليوم عن الناقد السينمائى الجميل سامى السلامونى (س . س) الذى توفى فى مثل هذا الشهر عام 1991.

أنا لم أقابل (س.س) قط، لكنى تبادلت معه مراسلات عدة فى خطابات مطولة كان يكتبها بخطه الأنيق ويرسلها مسجلة لعنوانى فى طنطا (وهو درس فى التواضع لن أنساه أبداً) أما عن سبب عدم لقائى معه فهو سبب رومانسى جداً يناسب فتى فى العشرينيات من عمره، ولا يريد أن يعرف أن كاتبه المفضل من لحم ودم وله ظل على الأرض.. كان بوسعى دائماً أن أركب القطار إلى القاهرة، ثم أمشى لرقم 63 شارع شريف حيث نادى السينما.. لكنى لم أجد قط الشجاعة لعمل ذلك.

كنت أعتبر سامى السلامونى موجوداً للأبد، فهو كائن سينمائى لا يمرض ولايموت، مثله مثل تلك الأطياف الشفافة على أشرطة السليلويد.. ثم فتحت الصحف ذلك اليوم الحزين من شهر يوليو عام 1991 لأجد الأستاذ أحمد بهجت ينعى الفارس الذى رحل.. عرفت أننى أخطأت التقدير وضيعت فرصتى الأخيرة للقاء هذا الرجل الذى تربيت على كل كلمة كتبها.

فى آخر خطاب لى قال: "أحرضك على أن تحترف الكتابة.. لكنى لست مسئولاً عن النتائج! "أنا نفذت هذا التحريض يا أستاذ سامى.. وهأنذا أقدم لك هذا المقال فهل سيروق لك؟

الناقد السيئ ليس إلا مقدماً للأفلام، بينما الناقد الجيد معلم ومفكر وفنان متخصص.. هذه هى كلمات جون سيمون فى كتابه (العقيدة السينمائية)، وقد ظللت أتذكر هذا التعريف طويلاً كلما تعلق الأمر بسامى السلامونى.. إن كتاباته لم تكن نقداً سينمائياً فحسب، بل هى خليط من الأدب الساخر والفلسفة والفهم المتكامل للحياة. مازلت أرى أنك تتعلم الكثير عن الأدب من مقالات هيكل السياسية. ومقالات جلال أمين الاقتصادية، ومقالات سامى السلامونى السينمائية.

تخرج سامى السلامونى فى المعهد العالى للسينما وحصل على دراسات عليا فى الإخراج عام 1973، علاوة على ليسانس آداب قسم صحافة.. أى أنه صحفى سينمائى أو سينمائى صحفى. بالإضافة لهذا كان نموذجاً للصعلوك البوهيمى الحقيقى الذى لا يعرف متى ولا كيف يأكل، ولا أين يبيت ليلته، وبالطبع هو لم يتزوج برغم حبه المجنون للأطفال. إن حكاياته طويلة مع الشقة الآيلة للسقوط التى كان يقيم فيها، وعندما وعدته الفنانة البريطانية فانيسا ردجريف أن تزوره عندما تأتى مصر، كانت مشكلته هى أنه لا يعرف أين يضع هذه السيدة لو فعلتها وجاءت.

أخرج سامى السلامونى أفلاماً قصيرة: منها (الصباح) و(مدينة)، كما أنه ظهر ممثلاً فى أفلام محدودة منها لقطة قصيرة فى فيلم (الحريف). وقد قدم عدداً من البرامج التليفزيونية المهمة مع صديق عمره يوسف شريف رزق الله.

كان السلامونى فى كتاباته النقدية يستعمل لغتين: اللغة الوقور الأكاديمية المخيفة التى استعملها مثلاً فى مقاله عن فيلم (المدرعة بوتمكين) فى مجلة الهلال، وعن (كاجيموشا) فى مجلة الفنون، ولغة بسيطة ساخرة غير متحذلقة مثل التى كان يستعملها فى مقالاته فى مجلتى الكواكب والإذاعة والتليفزيون. ولكنه اختار اللغة الثانية دون تردد.

كان عدو التحذلق والتظاهر بالعبقرية. عندما شاهد فيلم (الجلد) للإيطالية ليليانا كافانى، قرأ فى مقدمته كلمات للمخرجة تقول: "الجلد خارطة جغرافية للعالم، سواء كان جلد إنسان أم جلد كلب" قال بطريقة تلقائية: "أقسم أننى لم أفهم حرفاً من هذه العبارة، فهى ضخمة جداً وغامضة جداً بحيث لابد أن تكون عظيمة وعميقة، وبحيث صار من لا يفهمها حماراً. وكثير من الأفلام يلجأ لهذه الحيلة كى يبدو عميقاً بينما أعظم الأشياء كان دائماً أبسطها"ـ

فى شبابه كان متمرداً عصبياً أو كما يصف نفسه (ثائر الشعر والأفكار) ولم يكن يتنازل أو يتساهل. وكان أستاذه العظيم أحمد كامل مرسى يقول له تلك العبارة التى كان السلامونى يعشقها: طظ فى حضرتك. مع الوقت ازداد تسامحاً وقبولاً للآخرين. مثلاً بدأ يدرك أن حسن الإمام مخرج متقدم جداً تقنياً برغم أنه أكثر ناقد هاجمه فى حياته. لكنه ظل يمقت الادعاء والتصنع.. "آخر فيلم لجان لوك جودار تشعر بأن الرجل صنعه لنفسه وأصدقائه من العباقرة فقط وجودار يقول فى المؤتمر الصحفى: ليست لدى مخيلة.. لقد تخيل كارتر والخمينى كثيراً، بينما فللينى وروسللينى نظرا للأشياء الحبلى بالمعانى. هذا كلام كبير جداً بس أنا مش فاهمه"ـ

سامى السلامونى كان طفلاً مندهشاً يعشق السينما بجنون، ولا يفهم قواعد تلك اللعبة المسماة بالحياة ولم يبرع فيها قط. كتب كثيراً جداً لكنه مع الوقت بدأ يعتقد أن الكتابة لا تغير شيئاً وأنه أصغر من أن يوجد السينما التى يحلم بها. لعل السبب الأهم أن هذا صاحب أعوام الانفتاح الأولى، وقد رصد بحساسية تغيرات المجتمع المصرى العجيبة.. رأى الجمهور الذى بدأ يسيطر على السينما فى ذلك الوقت، ففشلت أفلام عظيمة مثل (روكى) و (جوليا) و(امرأة غير متزوجة)، وكتب يقول:

ـ"المأساة أن المشاهد المصرى لم تعد تعنيه أى جوائز فى العالم ما لم تحقق له الأفلام مواصفاته هو الخاصة فى (السلطنة) .. مسألة مثل التوظيف الدرامى للإضاءة التى نثرثر بها نحن النقاد، تبدو مضحكة جداً بالنسبة لجمهور اعتاد نور الكباريه الساطع".. فى ذلك الوقت قتل بلطجى عجوز الشاب (عمرو عز العرب) حفيد جمال عبد الناصر فى مشاجرة بسبب خروج السيارة من الجراج.. المثير هو أن العجوز ـ وهو رجل أعمال كذلك ـ كان يحمل سكيناً فى سيارته أغمدها فى بطن الشاب. رأى السلامونى فى هذا الحادث ما هو أكبر.. رأى عصراً يذبح عصراً آخر. لقد صار هؤلاء فى كل مكان "لهم فتحة صدر الطرزانات، ولهم نفس الملامح ويستمعون لنفس المطرب وفى عيونهم صفاقة من شبع بعد جوع.."ـ

هكذا ومثل كل هؤلاء الذين يحملون قلب طفل، تحولت الإحباطات والدهشة إلى جلطات تسد الشرايين التاجية، وكان قلبه هو الذى قضى عليه. هؤلاء الأطفال الكبار لا يموتون إلا عن طريق العضو الأكثر حساسية فى أجسادهم: القلب.

بالنسبة للممثلين

كان السلاموني يؤمن بأهمية الممثلين القصوى، فلم يستطع أن ينظر لهم تلك النظرة المتعالية التي نظرها لهم هتشكوك "قطيع الماشية" أو يوسف شاهين الذي استخدمهم كشاحنات تنقل أفكاره.. يوسف شاهين اختار لبطولة فيلم "اليوم السادس" محسنة توفيق ثم فردوس عبد الحميد ثم سعاد حسني ثم داليدا.... يتساءل السلاموني: كيف يصلح لسعاد حسني ومحسنة توفيق ما يصلح لداليدا؟ ...هذا يدل علي أن شاهين يعتبر الممثلين مجرد قطع شطرنج ولا فارق بين ممثل وآخر.

ذات مرة احتدت الفنانة شهيرة علي جمهور المسرح الذي قاطعها، فشتمتهم وانسحبت، خرجت الأقلام الحادة تمزقها تمزيقا، لكن سامي السلاموني قال: من حق أصغر كومبارس أن يصغي له الناس ويحترموه، لكن هذا الجمهور المتوحش الذي يعتقد أنه اشترى كل شيء بفلوسه يستحق ما فعلته شهيرة.. كان سامي السلاموني من النقاد القليلين الذين جرأوا علي نقد الجمهور نفسه، فهناك أفلام عجيبة فعلا، لكن الجمهور جعلها تنجح مما يعني أن الجمهور نفسه ليس على ما يرام تماما.

بالنسبة للمخرجين

لم يتحفظ في إبداء إعجابه بالمخرجين الشباب الراغبين في عمل شيء مختلف، ومنهم عاطف الطيب ومنير راضي ومحمد خان، لكنه ظل علي احترامه للرواد، بالنسبة ليوسف شاهين كان يعتبره مخرجا عبقريا بحق، لكن يجب أن يبتعد عن السيناريو نهائيا، لأن ما يقدمه يبدو مضطربا غريبا مترجما إلي العربية. على يوسف شاهين أن يقدم لنا بديلا لحسن الصيفي، فإذا كان هذا هو البديل فإن حسن الصيفي يربح بالتأكيد.. كانت بينه وبين حسام الدين مصطفى حرب ورق لكنه وقف معه في معركة "درب الهوى" الشهيرة، ورأى أن حسام الدين مصطفى مخرج محترم برغم أسلوب المراهقة أحيانا في الإفراط في زوايا الكاميرا الغريبة واستعمال الزووم، صلاح أبو سيف هو الأستاذ برغم إيمانه العجيب بأنه لا يوجد نقاد في مصر.. سمير سيف واضح ومحدد... إنه يؤمن بأن سينما الأكشن الأمريكية هي السينما الحقيقية، ومهمة الفيلم هي الإمتاع دون أن نحمله أي أعباء أخرى.. إنه صادق وينفذ ما يؤمن به بشكل محترم.

الصهيونية

لم يخلط السلاموني قط بين اليهودية والصهيونية، وكان أول من حذر مبكرا من تسلل الإسرائيليين إلي التليفزيون المصري مثلما ظهر مناحم جولان صاحب شركة كونان في برنامج زووم الذي تقدمه سلمي الشماع، واعترف بأنه تعلم الكثير من سينما اليهود من كتابات أحمد رأفت بهجت، التي علمته معني أن يكون اسم البطلة سارة أو هانا والبطل روبين أو ديفيد، ينقل لنا ما قاله شارلي شابلن اليهودي: لو كان ينبغي أن نقيم وطنا ليهود العالم في فلسطين، فعلينا أن ننقل كل كاثوليكيي العالم إلي فلسطين!... علي الأمم المتحدة ألا تسمح بإقامة دول عنصرية لأقليات ولأسباب كهذه لم يستطع قط أن يبتلع العبقري وودي ألين الذي يقحم يهوديته بدون مناسبة في كل أفلامه

الرقابة

كانت له صدامات كثيرة مع الرقيبة الحديدية نعيمة حمدي التي قالت في حوار لها: إنها مع التطبيع قلبا وقالبا، وقالت في حوار آخر: إن ثورة يوليو انتزعت ثروات علية القوم.. لكنه برغم كل شيء لم يستطع أن يرفض الرقابة بقلب مستريح كدأب المثقفين، وذلك عندما استدعاه مدير الرقابة سامي الزقزوق لعرض خاص لفيلم رائع هو "القمر" تحفة برتولوشي، الفيلم ساحر الجمال لكنه يحكي عن علاقة عاطفية بين أم وابنها!... بعد ما رأى الفيلم شعر بأنه عاجز فعلا عن اتهام الرقابة بضيق الأفق.

هناك مشاهد لا يمكن أن نسمح للمشاهد بأن يراها "إن المتفرج يعامل بتقاليد رقابية صارمة طيلة العام، ثم نأتي في المهرجانات لنفاجئه بلقطات تذهب عقله دون مراعاة للظروف التربوية والاجتماعية لهذا المشاهد"ـ

وعندما رأى الفيلم الأسباني "المراهقات" قال: الفيلم ينتهي بنصيحة بلهاء للبنات ألا يفعلن هذا، بعد ما علمهن لمدة 90 دقيقة كيف يفعلن هذا! يطالب بأن تتساهل الرقابة مع الأفلام المحترمة العميقة خاصة السياسية منها، أما حذف اللقطات الفاحشة، فمسألة يمكن أن يفهمها.

المعارك

معارك سامي السلاموني الصحفية تستحق كتابا كاملا، خاصة معركته مع مخرج إيراني غامض كاد يصبح ظاهرة سينمائية لفترة هو "فريد فتح الله منوجهري" الذي قدم فيلمين في غاية الرداءة لكنهما نالا تسهيلات تصوير وإنتاج غير عادلة في مصر، بالطبع اتهمه المخرج الإيراني بأنه شيوعي، واتهمه بأنه يشاهد الأفلام وهو نائم... رد السلاموني بأن منوجهري يخرج الأفلام وهو نائم، هناك معارك كثيرة مع حسام الدين مصطفى، وإن اعترف له بأنه متحضر.. "لم يرسل بلطجية لضربي أو يجعل راقصة تحدد لي موعدا للقائها كما فعل مخرجون آخرون!".... كانت هناك معارك عنيفة مع غرفة صناعة السينما التي تبعث للخارج بمجموعة معينة من النقاد، بينما تتجاهل السلاموني ورفاقه تماما

وفي سبتمبر 1981 وجد نفسه ضمن المبعدين في مذبحة سبتمبر الشهيرة، بالطبع كان الكثيرون قد تطوعوا في تقاريرهم السرية باتهامه بالشيوعية، وهي التهمة الجاهزة ضد أي متمرد مختلف يقول كلاما لا يفهمونه.

تراثه

ترك السلاموني الكثير من المقالات المتناثرة التي تشكل مرجعا مهما لحقبة سينمائية كاملة، وأعتقد بلا فخر أن عندي أكمل مجموعة منها بعضها من مجلة الإذاعة والتليفزيون وبعضها من مجلة الكواكب أو الفنون أو الهلال... وجدت أن الأستاذ "يعقوب وهبي" قام بجمع مجموعة الأفلام العربية في أربعة مجلدات ممتازة صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكان رئيس التحرير هو أحمد الحضري لكن لم يقم أحد علي قدر علمي بجمع ما كتبه السلاموني عن السينما الغربية، وهو تراث ثمين جدا بدوره، فماذا كتب بقلمه الساحر عن "إي تي "و"حرب الكواكب" و"الفك المفترس"... إلخ...؟

هذا هو العرض الذي أقدمه لأي جهة ترغب في إصدار هذا الكتاب المهم، صدقوني إن س.س يستحق هذا وأكثر.

 

مجلة الشباب - 1 أغسطس 2010

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

نرمين يُسر

 

 

 
 
 

سمير فريد.. المُكرَّم عالميًا والمُتجاهل محليًا

 
 

لعقود طويلة اعتادت الصحف والمجلات المصرية على تخصيص صفحات للفن لأخبار النجوم وصورهم والحوارات الصحفية، فظلت كنوع من النميمة التي تتبع النجم وتلتقط الصور المثيرة للنجمة لتصير عنوان الموسم، لم يكن هناك نوع آخر من الصحافة الفنية حتى منتصف ستينيات القرن الماضي؛ لذا لم تعرف الأوساط السينمائية والصحفية ما يسمى بالنقد السينمائي؛ حيث جاء سمير فريد حاملًا نوعًا مختلفًا من صحافة السينما، فأخذ على عاتقه تحليل الأعمال السينمائية مُفسرًا دوافع صناعها ومُبرزًا نقاط القوة والضعف بها. عندها ظهرت كلمة "ناقد" ليختلف عن محرر الفن.

منذ التحاق سمير فريد بجريدة الجمهورية تخصص فى تحليل ونقد الأفلام السنيمائية، ولتوسيع مداركه فى هذا المجال فقد درس النقد والدراما على أيدى أشهر القامات فى تلك المرحلة المزدهرة سينمائيا، فصار مؤثرا فاعلا فى تغير حركة السينما المصرية، باعتباره مستشار ومؤرخ للسينما العربية والعالمية، حيث استفاد من خبرته كثير من السينمائيين الناشئين بالإضافة الى المخضرمين الذين يستشيرونه فى أعمالهم ومن لم يقم بهذا ينتظر قراءة مقاله القادم الذى ربما يذكر اسم السينمائي أو أحد أعماله،  كما لعب دورا كبيرا بشكل خاص في الوقوف مع جيل الثمانينيات في دعم مشروعاتهم السينمائية باستشاراته وآرائه التى لم يبخل بها، سمير فريد لم يترأس مهرجانات أو  يشارك في لجان تحكيمها فقط بل إنه مؤسس مهرجان الأفلام القصيرة والوثائقية في عام 1970، والمهرجان القومي للأفلام الروائية الطويلة عام 1971، بالإضافة إلى جمعية النقاد السينمائيين المصريين عام  1972.

"لا كرامة لنبي في وطنه"، فقد ألف سمير فريد أكثر من ستين كتابا فى السينما المصرية والعالمية ترجم بعضها إلى عدة لغات أجنبية واعتبارها مراجع سينمائية هامة ومؤثرة، كما شارك فى لجنة تحكيم مهرجان فينيسا وهو ثالث أكبر مهرجان سينمائي بعد مهرجان برلين ومهرجان "كان"، حصل الناقد الكبير سمير فريد على العديد من الجوائز سواء داخل أو خارج مصر ومن أهمها، جائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2002، وميدالية مهرجان كان الذهبية بمناسبة الدورة الأخيرة في القرن العشرين عام 2000 وأخيرا تم تكريمه بإهداءه "كاميرا برلينالي" من مهرجان برلين السينمائي فى دورته67 عام 2017 الجائزة التى لها من الأهمية والقيمة العالمية والتى تُعد المرة الأولى التى يفوز فيها ناقد سينمائى بها، وأول شخصية من مصر والعالم العربى وأفريقيا. وفى حفل خاص أقامه المهرجان على شرف الناقد الكبير أكد الناقد الألمانى كلاوس إيدر، رئيس الاتحاد الدولى للنقاد، أن «فريد» تعلم أن يجعل عينه حادة وبارعة فى قراءة الأعمال السينمائية، كل هذ الجوائز والتكريمات الرفيعة للناقد الراحل من مختلف المهرجانات السينمائية العالمية فى حين غاب تكريمه من المهرجانات السينمائية فى مصر على الرغم من ترأسه لمهرجان القاهرة السينمائي  فى دورته ال36 وإصدار كتاب له من "آفاق السينما االعربية" بعنوان "سينما  الربيع العربي" والذى يبرز فيه آراءه تجاه الثورات العربية قائلا فى ندوة الكتاب التى حضرها العدد الأكبر من السينمائيين والنقاد المصريين والعرب "مازلت مؤمناً أن الثورات التى حدثت هى ربيع رغم كل المآسى الشتوية التى شهدتها ومازالت تحدث، وأرى أنه ربيع لأنه فكرة تنطوى على إرادة فى التغيير الحقيقى، وأضاف: هذه الثورات كانت حرة لم ينظمها حزب أو فرد. وشبه فريد هذا الربيع بسقوط جدار برلين الذى كان الهدف الرئيسى منه الرغبة فى التغيير لأن هذه الثورات كانت تهدف بالأساس إلى الرغبة فى التغيير الحقيقى والرغبة فى الحرية.

بالفعل كانت حرية التعبير من أهم القضايا السينمائية التى حملها سمير فريد على عاتقه بل وكانت الهم الأكبر الذى يشغل تفكيره فى إثبات حرية الإبداع السينمائي ودفع الأذى عن صناع الأفلام الذين تمت مهاجمتهم م قبل الرقابة والشعب على حد سواء مثل فيلم المذنبون لسعيد مرزوق ودرب الهوى لحسام الدين مصطفى والمهاجر ليوسف شاهين كما تصدى لمصادرة وحذف أفلام حديثة مثل الأبواب المغلقة لعاطف حتاته واشتباك لمحمد دياب.

بقي أن نذكر أن عمدة النقاد العرب والمصريين لم يكن مؤرخ سنمائي وناقد بل كان موسوعة علوم وتارخ وآداب وفنون ومثال الناقد السينمائي ذو الثقافة الواسعة ومثالا للإنسانية وكفى استخدام كلمة "كان" التى تدل على الماضى لأن الرجل سيبقي فى ذاكرة السينما العالمية علامة فارقة.

هوامش:

جائزة برلياني: جائزة خاصة منحها مهرجان برلين لسينمائي أهم مهرجانات العالم السنمائية كتكريم لهؤلاء الذين قدموا أعمالا وخدمات للمهرجان التى تقام احتفالاته في "قصر برلينالي"، والذي يقع في منطقة مارلين ديتريش.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

أحمد شوقي

 

 

 
 
 

سمير فريد.. عن التأثير والتأسيس والتطور والأستاذية.. وبعض الأمور الشخصية

 
 

يعيش المثقف حياته حالمًا بالتأثير، بأن يكون لما يمارسه من نشاط فكري وإبداعي عائدًا يفوق مجرد التعبير عن الذات. رأي قد يرفضه بعض المبدعين باعتباره تعميمًا خاطئًا، متعللين بأن تاريخ الفن والفكر يضم قامات كبيرة اكتفت بأنفسها وبلذة الفعل عن مراقبة تأثيره. إلا أن الرد وإن صلح لدى بعض الأنشطة الفنية والفكرية، فمن العسير أن يصمد عندما يتعلق الأمر بحرفة مثل النقد السينمائي. فإذا كان النقد بطبيعته فعلًا وسيطًا، يرتبط تلقائيًا بوجود المنتقد، فإن المنتقد في حالتنا هو أحد أكثر صور الإبداع شعبية ومخاطبة للجمهور العريض. الفيلم السينمائي الذي مهما كان نخبويًا فهو في النهاية صُنع كي يُعرض على شاشة أمام صفوف من المشاهدين.

في المسافة بين الشاشة والصفوف يقف الناقد، لا سيما الناقد المنشور الذي يكتب للصحف والمجلات لا لهامشية الأكاديميا. وكلما زادت الأعداد على الجانبين: الأفلام وصناعها وجمهور القراء، اقترب الناقد السينمائي أكثر نحو حلم التأثير. طريق نحاول جميعًا كممارسين لهذه المهنة الغريبة أن نقطعه خطوة بخطوة، خطوات ثقيلة وعسيرة لأسباب عدة يطول شرحها، وفي نهاية الطريق نجد مجموعة يُعد أفرداها على أصابع اليد الواحدة، وربما أقل. بعدما جعلوا الحلم واقعًا، ونحتوا بأيديهم تأثيرًا لا يزول في العقول والنفوس والقلوب، حتى صاروا والمهنة ارتباطًا بديهيًا، فإن ذُكر لفظ النقد السينمائي لقارئ عربي، استدعى معه تلقائيًا وجوهًا بعينها. وفي صدارة هذه الوجوه يقف وحده، أنجب أبناء هذا الفن في مصر: كبيرنا الذي علمنا السحر.

(1)

في عام 1976 اجتمع عبد المنعم الصاوي، رئيس مجلس إدارة دار الهلال ووزير الثقافة لاحقًا، بناقد الجمهورية الشاب اللامع سمير فريد، لمناقشة مشروع إصدار صحيفة سينمائية فنية متخصصة على غرار "الكورة والملاعب" التي أصدرتها الدار قبل شهور. الصاوي اقترح أن تحمل الجريدة اسم "السيما والفنون" فطلب فريد أن يكون العنوان هو "السينما والفنون"، ولما تساءل الصاوي عن الفارق، رد فريد بأنه وغيره من النقاد والسينمائيين يكافحون من أجل أن تصبح "السيما سينما"، أي أن تُعامل السينما بجدية مثل باقي الفنون، ليقر الصاوي العنوان ويبدأ العمل على تجهيز العدد الأول من المجلة، والتي صدرت مع بداية 1977 واستمرت بانتظام لمدة 35 أسبوعًا قبل أن يتم إيقافها بقرار سيادي مثلها مثل مطبوعات عديدة تم إيقافها في تلك المرحلة من حكم السادات.

ما يهمنا هنا تلك النظرة الثاقبة والوعي المبكر الذي امتلكه سمير فريد وبنو جيله لطبيعة عملهم، لاحظ أنه وقتها لم يكن قد تجاوز الثالثة والثلاثين من عمره بعد، لكنه بدأ المسيرة مبكرًا وخاض رحلته وفهم بدقة الدور الذي ينبغي عليه أن يلعبه. دور أكبر من الدعاية للأفلام والترويج للنجوم مثلما كانت المهنة في عهد أغلب ممارسيها من الأجيال السابقة، دور يوقن أصحابه أن السينما سينما وليست سيما، وأن محترف هذه المهنة يُدعى ناقدًا سينمائيًا وليس ناقدًا فنيًا كما كان شائعًا، وأن ما عليهم هو إقناع جميع الأطراف المحيطة (بما في ذلك بعض السينمائيين أنفسهم) أنهم يمارسون فنًا رفيع المستوى، ويقدمون منتجًا ثقافيًا يمتاز على غيره من أساليب الإبداع بكونه الأقدر على الوصول لكافة الطوائف والطبقات، من أرفع الناس ثقافة لأقلهم حظًا من التعليم.

"السينما والفنون" كانت إحدى مبادرات سمير فريد الذي أراد أن يخلق مجلة سينمائية مصرية على غرار "فارايتي" الأمريكية، فكانت أعدادها الأولى نموذجًا لما يجب أن تكون عليه مطبوعة سينمائية جادة ومشبعة ومسلية قبل أن تتوقف لظروف خارجة عن الإرادة. ولفريد عشرات المبادرات الأخرى التي توقف بعضها واستمر بعضها دون صاحب الفكرة، الذي كان "مؤسسًا" بحق، يسعى دائمًا لخلق الجديد واستحضار أفكار حداثية لتطبيقها على الواقع المصري والعربي، سواء استمر لاحقًا في إدارته أو تركها لغيره كي يبدأ مشروعًا جديدًا. فكان فريد هو أحد أهم أذرع الظهير الفكري لجماعة السينما الجديدة التي خلقت أهم حراكًا سينمائيًا مصريًا في أواخر الستينيات، ثم قام عام 1972 بتأسيس إتحاد نقاد السينما الذي صار لاحقًا جمعية نقاد السينما المصريين ليكون أول اتحاد من نوعه في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، والذي سبقه محاولة خلق الاتحاد من خلال "كتاب السينما" الذي أصدره مع يوسف شريف رزق الله وفتحي فرج في أبريل 1969، وجاء فى مقدمة الكتاب "هذا هو الجزء الأول من كتاب أردنا به أن نحقق هدفين: أولهما العمل على خلق سينما مصرية جديدة، وثانيهما أن يكون نواة لاتحاد عام يتجمع فيه كل نقاد السينما فى مصر"، فكان من الواضح أن كلمة كتاب، وتعبير الجزء الأول هما للتحايل على صعوبة وجود ترخيص لإصدار مجلة.

يُمكن الاستمرار طويلًا في ذكر مبادرات سمير فريد التي يمتد تأثيرها حتى يومنا هذا، فلا يكاد حراك سينمائي كبير إلا وكان الرجل منخرطًا في تأسيسه ودعمه: جمعيات واتحادات وصحف ومجلات ومهرجانات سينمائية، أكثر من نصف قرن من الحماس الذي لا ينضب والرغبة في دعم كل موهوب وصاحب فكر سينمائي، والكتابة عن كل ما هو جديد في السينما المحلية والعالمية، حتى صار من المستحيل عمليًا إحصاء آلاف المقالات التي كتبها وجمع بعضها في كتبه، أو حصر عدد المواهب التي كان من أول من قدموها للقراء وصار أصحابها لاحقًا فنانين كبار يشار بهم بالبنان. فإذا كان البعض يحلم بإحداث أثر ولو بسيط في مجال عمله وثقافته الوطنية، فإن ما حققه سمير فريد في حياته يجعل أي إنجاز في الثقافة السينمائية بجواره لا يكاد يُرى.

(2)

خلال ظهوره العلني الأخير قبل أسابيع قليلة من وفاته، عندما حضر سمير فريد إلى جمعية نقاد السينما المصريين ليقوم نظريًا بمناقشة أحدث كتاب طُرح جامعًا مقالاته، وعمليًا ليلتف حوله أعضاء الجمعية ويقدمون له آيات المحبة والتقدير والعرفان، كان ذهنه في أوج حضوره واشتعاله، ورغبته في الحكي عن لحظات وذكريات الماضي مسيطرة لدرجة جعلت الجلسة تستمر لقرابة الثلاث ساعات. خلال تلك الجلسة روى سمير فريد واقعة تدفع للتأمل والتفكير في مسيرة هذا الرجل، وهي تلقيه دعوة لنيل جائزة تكريمية من أحد المهرجانات الثقافية السعودية، وهو جائزة لها قيمة مالية معتبرة، ليكون رده على الدعوة بالشكر والاعتذار لأنه كما قال "عشت حياتي كلها أمارس مهنة واحدة هي النقد السينمائي، ودولتكم تُحرّم السينما ولا تسمح بوجود ولو دار عرض واحدة، وهذا ما أراه انتقاصًا من قدر الفن الذي وهبته عمري بأكمله، وبالتالي هو انتقاص مباشر مني ومن حياتي يجعلني غير قادر على قبول الدعوة والتكريم".

العهدة بالطبع على سمير فريد الذي كان في سن وحالة صحية لا يمكن معها إلا أن نوقن بصحة روايته. لكن ما يهمنا هنا ليس الحديث عن رفض المال وإنما تقدير الرجل للسينما ودفاعه عنها. الأمر الذي يدفعنا لتخيل موقف فريد لو كان القدر قد أمهله أن يعيش ليشهد انفتاح المملكة على السينما، والحراك الحادث حاليًا بافتتاح عشرات القاعات ودعم الإنتاج السينمائي وتسهيلات التصوير وغيرها من المبادرات. أغلب الظن، ووفقًا لفهم شخصية سمير فريد والنظر لمواقفه السابقة، كنا في الأغلب سنراه أول المتحمسين للحراك والداعمين له ولو دون مقابل، فطالما كان هناك حراكًا وتطلعًا للمستقبل كنت تجده، مستغلًا أي فرصة للحلم بواقع أفضل وبسينما أكثر انتشارًا وتأثيرًا.

هذه المرونة والقدرة على مراجعة المواقف الشخصية هي أحد أكبر ميزات سمير فريد التي ميزته عن مجايليه ورفاق دربه، إنه لم يستسلم أبدًا لجمود أيديولوجي أو يقع أسير رأي أعلن عنه أو منهج اتبعه في فترة من حياته، فمراجعة الذات وتعديل المواقف طبقًا متغيرات عالم لا يتوقف عن التغير سمة لا يملكها إلا الشجعان. أمر جعل فريد يعترف بنفسه في حواره مع وائل عبد الفتاح والمنشور في كتاب بعنوان "سمير فريد.. مغامرة النقد" فكتب عبد الفتاح تحت عنوان "مهارة سمير فريد في التأسيس لا ينافسها سوي قدرته على الاعتراف":

"أول اعتراف قاله لي في الحوار: أنا مسئول عن تسييس السينما. والمقصود أنه أعطى قيمة لأعمال أكبر من قيمتها.. لأنها لاقت هوى سياسي.. أو لعبت على أفكار من العيار الثقيل. والاعتراف الثاني أنه ساهم عبر موقع ثابت في جريدة شعبية مثل "الجمهورية" في ترويج أفكار عن السينما مثل "سينما المثقفين" وهي التي تلعب على فكرة غامضة هي "المتعة الذهنية" وهي لعبة أقرب إلى تصور بأن الشطرنج هو دليل الذكاء وأن الذهن المحض أرقي من الحس. وهي مصطلحات نفت من السينما مخرجين مثل حسن الإمام.. وربما كمال الشيخ واحتقرت متعة الحواس. واستسلمت لفكرة تبعية السينما إلى مؤسستين كبيرتين هما: السياسة والفكر.

سمير فريد يعترف الآن بما جنته المصطلحات على السينما، وجهت الذوق.. وأعلت من مزاج الانبهار الذي رأى في أعمال "تاركوفسكي" أو "بيرجمان" وغيرهما الأساطير فوق النقد.. ليس هذا فقط.. ولا تتحقق المتعة بدون إتباع الكتالوج الخاص بها".

موقف سمير فريد بنسخته القديمة يكاد يتطابق مع كل نقاد بني جيله، غير أن الفارق الجوهري هو قدرته على تطوير نفسه والخروج مع عباءته الذاتية. مقارنة بسيطة بين مقال كتبه سمير فريد في السبعينيات وآخر كتبه في التسعينيات تكفي كي نضع يدنا على مشوار كبير قطعه الرجل على مستوى تنقية الأسلوب من كافة الشوائب الأيديولوجية والتركيز بالأساس على فن السينما. وفي ورقة بحثية قُمت بإعدادها ضمن حلقة بحثية عقدها مهرجان الإسماعيلية عام 2018 حول إسهام سمير فريد النقدي، كانت المقارنة بين ثلاثة مقالات كتبها كل من سمير فريد وابنيّ جيله سامي السلاموني وكمال رمزي عن نفس الفيلم وهو "كابوريا" لخيري بشارة. مقارنة كشفت بوضوح عما سبق به سمير فريد مجايليه من حيث انضباط النبرة والأسلوب، والقدرة على الكتابة عن الفيلم بآراء وصياغات صالحة للتداول حتى بعد قرابة الثلاثة عقود على كتابة المقال.

لذا، فإن أحد أكبر الخسائر في رحيل سمير فريد، وهو الوحيد من جيله الذي حافظ على الكتابة اليومية حتى آخر يوم سمح له جسده بممارستها، هي فقداننا لهذه الروح الحرة، التي لا تأسر نفسها ولا تخجل من مراجعة الموقف وتعديله، والتي تُعلمنا بهدوء ودون جعجعة الفضيلة الغائبة عن كثير من كبار الكتاب: في الكتابة لا ثبات، إذا لم تتحرك للأمام ستتراجع للخلف حتى وإن لم تنتبه.

(3)

ذات صباح من شهر أبريل في عام ماضي أتلقى إتصالاً من الأستاذ سمير فريد. اتصال صار دورياً في كثير من أيام الثلاثاء والأربعاء فور قرائته للعدد الجديد من جريدة القاهرة، ثم قيامه بالاتصال بمن يريد أن يهنئهم على مقال أو يبدي لهم ملاحظة أو يناقش. معهم موضوعاً يتعلق بما كتبوه. في جهد وإخلاص حقيقي لفكرة الثقافة كحراك فكري لابد وأن ينخرط فيه كل المثقفين بغض النظر عن عمرهم وقيمتهم.

ما حدث في تلك المكالمة تحديداً هو إنه لما يبدأها بندائه الشهير "إزيك يا ناقد"، وإنما رحب بي بلهجته التي لم تخلُ أبداً من نبرة مرحة ـ أو ساخرة ربما ـ قائلاً "أهلا بالناقد السويدي أحمد شوقي". ضحكت وسألته عن سبب هذا الوصف، فأجاب "عشان أنت كاتب مقال ميكتبوش غير ناقد سويدي".

المقال المقصود كان تغطية لفعاليات إحدى دورات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وأشرت فيه لنجاح المهرجان في الارتباط بالمجتمع المحلي لدرجة أن صاحب أشهر مقاهي المدينة علّق على أحد الحوائط صورته مع المخرج الإثيوبي هايلي جريما وكأنها صورة مع أحد النجوم المعروفين. الأستاذ سألني: هل تعتقد حقاً أن صاحب هذا المقهى يعرف أفلام هايلي جريما؟ هل ذهب يوماً هو أو من يعملون معه لمشاهدة أحد أفلام المهرجان؟ يحبون المهرجان ويحتفون به بالطبع، فخلال أيامه يقبل عدد ضخم من الضيوف على مقهاهم، من بينهم أمثال جريما ممن يسمعون عنه أنه مخرج عالمي. لكن هل هذا نشر حقيقي للثقافة السينمائية أو ترسيخ لها في حياتهم اليومية؟

أسئلة سمير فريد أصابت كبد الحقيقة، وجعلتني أفكر طويلا أن محاولة منح مشهد طريف مثل صورة جريما على حائط المقهى أكبر من قيمته، بتقديم تفسير واستنتاج اجتماعي وثقافي منه هو فعل يشبه آراء المستشرقين الذين يأكلون وجبة مصرية واحدة ثم يكتبون طويلاً عن ثقافة الطعام في مصر. أي أنني كتبت مقالاً يكتبه ناقد سويدي يزور الأقصر للمرة الأولى، وليس ناقد مصري تعامل مع الأهالي ويعرف دروب تفكيرهم وتصرفهم.

لا أبالغ إن قلت أن هذا الحوار صار يتردد في ذهني كل مرة أقدم فيها على كتابة مقال فيه ما يتعلق بالجمهور وعلاقته بالسينما، مرة كي لا أقع في فخ النظرة السياحية وأتحول ناقداً سويدياً يكتب عن المصريين، ومرة حتى لا أسمع ملاحظة ساخرة من الأستاذ الذي لا تفوته شاردة ولا واردة دون أن يقرأها ويقيمها ويضعها في أرشيفه الأسطوري.

لاحظ الطريقة التي عبر بها سمير فريد عن ملاحظته، بمنتهى الكياسة وخفة الظل، والبعد عن كافة أشكال الوصاية الأبوية التي يفرزها البعض بمعدلات هائلة فقط لأن القدر سمح لهم أن يولدوا قبلك بأعوام أو عقود. هذا رجل بلغ قمة ما يمكن أن يصل إليه ناقد سينمائي: تقدير واحترام وتكريم من العالم أجمع، مسيرة عطاء وإنجاز لا يتوقف لأكثر من نصف قرن، أكثر من ستين كتاباً وآلاف المقالات التي تؤرخ للسينما الحديثة من وجهة نظر مفكر مصري تقدمي ينتصر دائماً وأبداً للحرية. لكنه أبداً لم يستغل الوضع للتعامل مع الآخرين باستعلاء أو فوقية، فظل دائماً يدرك أن من تقديره لهامته أن يقدر الآخرين، وهذا هو أمهر أنواع الأساتذة وأكثرهم تأثيراً في النفوس.

(4)

خسارتنا لسمير فريد ليست مجرد غياب ناقد أو مثقف أو مؤرخ، فما تركه يجعله لا يغيب أبداً. لكن الخسارة هي فقدنا لكل ما يمثله سمير فريد من تفتح ووعي واحترام لقيمة المعرفة والتأريخ، لا في كونهما أداة للتنمر وإنما مخزون يؤسس نظرة نقدية شاملة للحياة، نظرة نقدية محبة تحلم بعالم ووطن أفضل، نظرة يؤمن صاحبها أن دعم من حوله وإن كانوا يصغرونه سناً وقامة وذخيرة وموهبة، هو فرض عين لبلوغ العالم الذي سعى إليه طيلة عمره، والذي ظل حتى اللحظة الأخيرة يتفاءل بتحققه.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

حسام حافظ

 

 

 
 
 

3 لقطات على شاشة سمير فريد  

 
 

المكانة التى حققها الناقد الراحل الكبير سمير فريد "1943 – 2017" بين نقاد السينما فى مصر لم تأت من فراغ.. فهو الشاب المثقف الذى بدأ نشاطه النقدى مبكرا وهو ابن العشرين عاما في 1963 عندما كتب النقد الأدبى فى مجلة الآداب البيروتية، ثم الصحفى النابه فى جريدة "الجمهورية" بداية من 1965.. ثم رائد الاتجاه إلى السفر لمهرجانات العالم عندما سافر إلى "كان" عام 1967، وقد بدأ بعد ذلك رحلة الانفتاح على ثقافة العالم، ورفض التقوقع داخل الأفكار المحلية، وخرج من أسر الأيدلوجية الضيق إلى رحابة الفكر الإنسانى متعدد المصادر حتى أصبح اسمه أيقونة للناقد العصرى.

ومن الصعب الإحاطة بمجمل حياة وأعمال سمير فريد فى مقال واحد، وهو الذى صدر عنه العديد من الكتب والدراسات، بل وصدرت عنه ملفات صحفية كاملة فى بعض الجرائد، وأقيم له أكثر من معرض لصوره الشخصية وأغلفة مؤلفاته التى تخطت الستين كتابا، وعلى قدر استطاعتى سأحاول الحديث عن 3 لقطات من حياته هى الأكثر أهمية بالنسبة لى، لقطة ذاتية عن علاقتى الخاصة به كأستاذ ومعلم، ولقطة فكرية عن تطور موقفه الايدولوجى من يسار الستينيات إلى ليبرالية الألفية الثالثة.. وأخيرا لقطة نقدية عن تطور رؤيته لإبداع كبار مخرجى السينما المصرية وأفلام الشباب والمرأة.. واللقطات الثلاثة هى الدروس التى تعلمتها من معرفتى بهذه الشخصية العظيمة وأظنها دروسا يستفيد منها القراء والزملاء النقاد أيضا.

لقطة ذاتية

بدأت علاقتى بسمير فريد فى مرحلة الدراسة الثانوية عندما واظبت على قراءة الجرائد، ولاحظت أن ذلك الصحفى يكتب عن السينما بطريقة مختلفة أقرب إلى كتابة نقاد الأدب عن القصص والروايات، وتعرفت على ملامحه من صورته الشخصية التى كانت تنشر إلى جوار مقاله خاصة عندما كان يسافر إلى مهرجانات السينما، وبعد التحاقى بكلية الاعلام عام 1980 انضممت إلى نادى سينما القاهرة الذى أسسه ويرأسه المؤرخ والناقد الراحل أحمد الحضرى، وكان يعرض فيلما كل أسبوع فى قاعة النيل الملحقة بكنيسة القديس يوسف بشارع محمد فريد، وفى يونية 1982 وقعت إحدى الأحداث الكبرى فى المنطقة آنذاك، فقد دخل الجيش الاسرائيلى إلى لبنان ووصل إلى داخل بيروت لطرد المقاومة الفلسطينية من هناك، بعدها قرأت إعلانا على باب قاعة النيل عن أسبوع للأفلام الفلسطينية تحت أشراف الناقد سمير فريد يبدأ غدا.. وصلت فى الموعد وجدت زحاما بسبب وجود عدد كبير من الشباب يقف على باب الشارع ويريد الصعود والدعوات لم تصل بعد من مكتب منظمة التحرير بالقاهرة، دخلت بكارنيه نادى السينما وصعدت إلى القاعة وعلى بابها كان لقائى الأول بسمير فريد، ودار حوار طويل بيننا فى انتظار الدعوات حتى جاءت. وطلب منى النزول إلى الشباب وتوزيع الدعوات عليهم للدخول والتنبيه عليهم بضرورة الاحتفاظ بها لحضور باقى أيام الأسبوع.. أصبحنا مثل الأصدقاء مع فارق السن.

بعد ذلك بسنوات أصبح مستشارا لإحدى شركات الإنتاج المالكة لسينما كريم وكانت وقتها أحدث دار عرض بالقاهرة، أعطانى ما يشبه "الأبونيه" الخاص بالمواصلات لدخول جميع عروض سينما كريم مجانا، منها أسبوعا لأفلام يوسف شاهين وشهرا لشكسبير تعرض السينما خلاله الأفلام المأخوذة عن مسرحياته وهكذا..

 وشاءت الظروف بعد أدائى للخدمة العسكرية أن أعمل بقسم الإخراج الصحفى بالعدد الأسبوعى بالجمهورية وهناك تجدد اللقاء مع سمير فريد، ولم يكن يعرف اهتماماتى النقدية إلا بعدما نشر لى أحمد الحضرى مجموعة مقالات فى نشرة نادى سينما القاهرة وقرأ بعضها سمير فريد، وعندما قابلنى طلب منى ضرورة الانضمام لجمعية نقاد السينما المصريين عضو الاتحاد الدولى للصحافة السينمائية "الفيبريسى" ولم أكن أسمع عنها من قبل، وأصبحت هذه الجمعية هى المدرسة الثانية التى تعلمت فيها النقد بعد نادى سينما القاهرة.

كان من عادة سمير فريد عندما يقابل شخصا يعرفه بعد السلام، يبدأ فورا فى الحديث عن موضوع مهم من الموضوعات المطروحة على الساحة سواء السياسية أو التاريخية أو الفنية، ويبادر بعرض رأيه بشكل قاطع وبأسلوبه المميز وبطريقة تنفى كل وجاهه عن الرأى الآخر، وكان يرى أنه من الواجب الأخلاقى أن يقدم لك النصيحة إذا طلبتها منه، هكذا فعل معى مرات عديدة: عندما تلقيت عرضا بالعمل فى صحيفة خليجية نصحنى بالسفر، وشجعنى على الكتابة فى صفحة الفن بالعدد الأسبوعى، ونصحنى بتحمل المسؤولية كاملة عندما أصبحت مشرفا على صفحة السينما بعدد الأربعاء، كان دائما يقدم النصيحة بلا تردد وعنده مجموعة من المعايير التى يجب توافرها فى العمل وبدونها سوف يكون المصير الفشل لا محالة، وكان يرى أن الأرشيف الشخصى للكاتب هو أهم أدواته للتعبير عن رأيه، والكاتب بدون هذا الأرشيف لا يصلح أن يكون كاتبا لأنه سوف يكتب فى مقاله معلومات خاطئة، ويفقد بعدها ثقة القارئ فيما يكتبه.

من أحلام الناقد الكبير سمير فريد والتي استطاع تحقيقها "كتابة العمود اليومي" وهي موهبة تختلف عن النقد السينمائي. وتعتمد علي سعة الثقافة وسلاسة الأسلوب. وإذا كان سمير فريد يعتمد في النقد علي المعلومات الموثقة الدقيقة لتقييم الأفلام. فإنه ككاتب للعمود الصحفي يعتمد علي المعاني الكبري الموجودة في مقولات العظماء. وهو قادر دائماً علي استدعاء تلك العبارات الخالدة من ذاكرته أثناء الكتابة..

وأجدها فرصة لتأمل العبارات التي تكررت في مقالاته بسبب إعجابه الشخصي بها. منها مقولة لشاعر الهند العظيم طاغور الذي قال: "إنني أحب وطني ولكني أحب الحقيقة أكثر" وهذه العبارة سمحت لسمير فريد أن يتحدث بكل شجاعة عن مصر قبل ثورة 1952 ومصر بعدها. ويؤكد علي حقيقة السلبيات الكبري التي أضرت بمصر علي المستوي السياسي والثقافي. حتي وصلنا الي التطرف الديني والارهاب المقيت..

عبارة أخري اعتاد أن يستشهد بها تقول: "أنت تكون حيث تضع نفسك".. وهي تعني أن الإنسان مسئول عن اختياراته وأنه بهذا الاختيار يضع نفسه في موضع الفاشل لو أساء الاختيار. في حين لو أحسن الاختيار سيجد نفسه في موضع النجاح بفضل اختياره للطريق الصحيح..

مقولة أخري للفيلسوف الفرنسي سارتر يتذكرها دائماً سمير فريد تقول: "إن الكلمة المطبوعة تلتصق بصاحبها إلى الأبد" وأعتقد أن هذه العبارة بالتحديد يجب أن يعتبرها كل كاتب موجهة إليه. وهي تجعله يتحمل مسئولية ما يكتبه ليس في وقت النشر ولكن بعد ذلك بسنوات وسنوات.

لقطة فكرية

ظل سمير فريد طوال 10 سنوات "1967 - 1977" ينتمى لقوى اليسار الثقافى - إن جاز التعبير – وكان لفيلم "الكرنك" للمخرج على بدرخان تأثير كبير على اتجاه سمير فريد إلى نقد المرحلة الناصرية، وكان قبل ذلك قد انتبه لأهمية مظاهرات الشباب المصرى فى فبراير 1968 بتأثير من شقيقه الأصغر الطبيب د.حسن فريد كما ذكر لى الناقد الراحل.. وبعد ذلك اهتم فريد اهتماما شديدا بسقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتى 1991 وهى أحداث سياسية كبرى كان يربط بينها وبين صراع الأفكار والايديولوجيا فى العالم وهنا يرتفع إلى مستوى المفكر، وفى كتابه "على بدرخان.. مخرج من زمن التحولات" عام 2006 يكتب فريد موقفه السياسى الواضح وهو يسرد صفحات من تاريخ جيل الستينيات حيث يقول: "بكى جيل الستينيات عبد الناصر مرتين عند هزيمة 1967 وعند موته 1970.. فهو الذى جعله يتطلع إلى أعالى السماء بأحلامه الكبيرة، ثم هوى به إلى سابع أرض، وعندما تولى السادات الحكم رفضه جيل الستينيات الناصرى فى البداية بسبب تأجيل قرار الحرب حتى وقعت بالفعل عام 1973 وتغير موقفه من السادات، ولكنه لم يفهم أبدا توجهه إلى السلام بعد حرب أكتوبر، وكان ذلك بسبب التكوين السياسى البائس الذى لم يدرك أن كل الحروب تنتهى فى وقت ما مهما طالت، وأن النهاية دائما تكون على مائدة المفاوضات".

ويضيف سمير فريد: "ومن التناقضات التاريخية أن عبد الناصر والسادات كانا من جيل الثلاثينيات الذى نضج فى ذروة التجربة الديمقراطية المصرية بعد ثورة 1919 الشعبية الكبرى وعرف متى يحارب ومتى يفاوض، ولكنهما بقطع طريق التجربة التى ولدا بداخلها، صنعا أجيالا لا تدرك ذلك ابتداء من جيل الثورة الأول فى الستينيات، ولهذا قبل عبد الناصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكى روجرز ومات والمظاهرات تهاجمه فى عدة دول عربية، تماما كما هوجم السادات منذ قبوله مفاوضات الكيلو 101 بعد حرب أكتوبر إلى زيارته لاسرائيل واعترافه بها عام 1977 وتوقيع المعاهدة المصرية الاسرائيلية عام 1979 ودفع الثمن حياته عندما اغتيل عام 1981.. وفى زمن التحولات هذا ولد على بدرخان كمخرج وعبر عن انتقال جيل الستينيات إلى مرحلة جديدة أكثر نضجا على كل المستويات."

ويقول أيضا: "أصبح فيلم الكرنك نقطة تحول فى تاريخ السينما المصرية، فقد فتح الباب لما عرف بأفلام مراكز القوى وهو تعبير السادات فى وصفه لمعارضيه من رجال عبد الناصر، والواقع أن الأفلام التى عرفت بهذا التعبير المبسط وأولها الكرنك هى حركة سينما سياسية تدين الاعتقال والتعذيب والاغتصاب وإهدار آدمية الإنسان فى المعتقلات، وهى امتداد لحركات السينما السياسية فى العالم آنذاك خاصة فى إيطاليا لذلك منعت فى أغلب الدول العربية".

وفى كتاب "يسرا فنانة من زمن التكفير" 2009.. يقول سمير فريد: "عبرت مدرسة السينما المصرية عن القيم التى بشر بها دستور 1923 من خلال الألف فيلم التى أنتجت خلال السنوات الثلاثين 1933 – 1963 وعرضت فى مصر وأغلب الدول العربية ومازالت تعرض حتى اليوم على الفضائيات.. وأهم القيم التى عبرت عنها تلك المدرسة التسامح الدينى فهى سينما "حسن ومرقص وكوهين" و"فاطمة وماريكا وراشيل" والمساواة بين الرجل والمرأة فى "الأستاذة فاطمة" و"أنا حرة" وغيرها من القيم التى كانت ولا تزال من المحرمات فى بعض الدول العربية".

ويضيف: "لكن هذه الأفلام تبدو اليوم "أجنبية" حتى بالنسبة لجمهور السينما فى مصر مع غلبة التعصب الدينى، وإنكار المساواة بين الرجل والمرأة وتكفير الفنون خاصة التمثيل والرسم والنحت، وتتناول الأفلام كل شئ ماعدا ثالوث الدراما الجنس والدين والحرية.. هذا هو الحال فى مصر نهاية العقد الأول من القرن الحادى والعشرين."

ويستكمل سمير فريد رؤيته: "وكان قدر النجوم الذين برزوا منذ الثمانينيات وحتى الآن مواجهة هذا التراجع فى الثقافة المصرية.. كان عليهم الاختيار بين الاعتزال والحجاب أو التوبة عن التمثيل كأنه جريمة يطلبون من المجتمع أن يغفرها، وكانت يسرا من النجوم الذين اختاروا رفض التوبة عن التمثيل واعتباره فنا من الفنون العريقة فى مصر والعالم، ودفعت يسرا الثمن غاليا حين رفعت ضدها دعاوى قضائية وتعرضت لتشويه سمعتها أمام المجتمع ولكنها استمرت تعمل."

لقطة نقدية

فى دراسة للناقد الكبير كمال رمزى نشرت فى كتاب "سمير فريد وتأسيس النقد السينمائى العربى" من مطبوعات مهرجان الاسماعيلية.. أشار إلى: "التزامه عندما كان شابا بالمدرسة الواقعية الاشتراكية، وكان يكتب النقد وفقا لتلك المدرسة التى كانت سائدة فى الستينيات بفضل كتابات محمد مندور ومحمود أمين العالم ورجاء النقاش والغنيمى هلال ومحمد القصاص وصقر خفاجة.. وأغلبهم كانوا أساتذة سمير فريد فى قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية.."

ولكن المنهج النقدى عند سمير فريد شهد تطورا كبيرا بداية من السبعينات، وكما أشرت بعد مقاله عن فيلم "الكرنك" المنشور فى نشرة نادى سينما القاهرة بتاريخ 24 يناير 1976، وقد اعترف سمير فريد فى أكثر من ندوة بجمعية النقاد بأن نقاد اليسار أعطوا كل اهتمامهم النقدى لأعمال ثلاثة مخرجين: صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح. بالإضافة إلى فيلم "العزيمة" للمخرج كمال سليم 1939 وفيلم "السوق السوداء" للمخرج كامل التلمسانى و"مومياء " شادى عبد السلام.. أما باقى المخرجين وأعمالهم الكبيرة فلم يهتم بأفلامهم سوى قلة قليلة من النقاد.

لذلك حرص سمير فريد فى كتاب "مخرجون واتجاهات فى السينما المصرية" أن ينشر مقالاته عن كبار المخرجين الذين لم ينالوا الاهتمام النقدى عبر رحلتهم السينمائية مثل: نيازى مصطفى وحسن الإمام وعز الدين ذو الفقار وكمال الشيخ وبركات وعاطف سالم وحسين كمال وحسام الدين مصطفى وسعيد مرزوق وأشرف فهمى وعلى عبد الخالق وسمير سيف ونادر جلال وغيرهم.. وفى كتابه "أفلام المخرجات فى السينما العربية" يكتب عن أفلام إيناس الدغيدى ونادية حمزة وأسماء بكرى وهالة خليل وكاملة أبو ذكرى وهالة لطفى و آيتن أمين ونادين خان.. وغيرهن.

وفى هذا الكتاب يكتب: "استطاعت إيناس الدغيدى بإصرارها ومثابرتها أن تكون أول مخرجة فى تاريخ السينما فى مصر والعالم العربى التى تخرج 14 فيلما روائيا طويلا.. والسبب الرئيسى فى نجاحها واستمرارها أنها لم تتعامل مع نفسها كامرأة تصنع الأفلام وإنما كصانعة أفلام قبل أن تكون امرأة، فقد درست فى معهد السينما وتخرجت وبدأت المشوار من أوله كمساعدة للإخراج مع مخرجين كبار، وفى كل فيلم من أفلامها كانت تقطع خطوة إلى الأمام حتى وصلت إلى مرحلة النضج فى "الباحثات عن الحرية" 2005. وهى تتناول قضايا المرأة ولم تحاصر نفسها باكلشيهات هذا التناول، ولم تنظر للمرأة بمعزل عن الرجل أو عن المجتمع ككل ويتميز الفنان الحقيقى دائما بالصدق الفنى مع نفسه ومع واقعه."

ويكتب عن فيلم فيلا 69 للمخرجة آيتن أمين: "غاية الفن أن يجعل الحياة أكثر جمالا فى السينما والمسرح والموسيقى والرسم والنحت والشعر والقصة والرواية.. ومن هذه الأعمال "فيلا 69" إخراج آيتن أمين فى أول افلامها الروائية الطويلة، وجاء أحسن أفلام 2013 وتعبيرا عن مولد موهبة كبيرة بكل معنى الكلمة، وشاعرة سينمائية من الشعراء الذين يجمعون بين جوهر الموسيقى وجوهر الفلسفة."

هكذا حاول سمير فريد فى كتاباته النقدية فى العشر سنوات الأخيرة من حياته، النظر للسينما بعين أكثر اتساعا ورحابة ولم يعد أسيرا للمدرسة الواقعية بل احترم كافة مدارس الإبداع السينمائى.. وكذلك قدم ما يشبه الاعتذار عن إهمال أعمال العديد من المخرجين الكبار بدعوى أنهم يقدمون السينما السائدة وأراد سمير فريد إعادة الاعتبار إليهم.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

محمد رفاعى

 

 

 
 
 

مقاعد "على أبو شادى"... الشاغرة

 
 

عمل الناقد والباحث السينمائي والقائد الثقافي المحنك والمثقف الشامل والعضوي "على أبو شادي" طويلا، درّبّه وأهلّه لذلك، العمل في إدارة الثقافة السينمائية فى جهاز الثقافة الجماهيرية، وهى الإدارة المخولة لها التثقيف السينمائي في أقاليم وقرى وحواري مصر، عبر ما سمّى "نوادي السينما فى الأقاليم" وهى بمثابة البوتقة والمعمل والورشة التي يلتقي وينصهر فيها هواه وعشاق السينما من يملكون موهبة سينمائية ما، وساعون إلى تلمس الطريق إلى العمل فى أحد عناصر السينما، بحثاً أو نقدًا أو إبداعا، وهى امتداد لمشروع رائد هو جمعية الفيلم المختار الذى أسسه الكاتب الرائد "يحيى حقى" أثناء عمله فى مصلحة الفنون فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وأعطى جيل "أبو شادى" كل التقدير والاحترام لـ يحيى حقى ونجيب محفوظ وجيلهما المؤسس ـ وهى أيضا ـ امتداد وتطور فكرة نوادى السينما الموجودة فى القاهرة وبعض المراكز الثقافية الأجنبية، والجمعيات الثقافية التي تكونت ونشأت فى النصف الثاني من الستينيات، ومن أهمها جمعية السينما الجديدة التي سعت إلى التعبير عن الرغية الجادة عند شباب السينمائيين لخلق سينما جديدة قادرة على التعبير عن الواقع السياسى والاجتماعي بعد النكسة.

تشكل وعى الناقد والباحث السينمائي "على أبو شادى" من المناخ الثقافى الجاد الموجود فى القاهرة مطلع الستينيات، منسجماً مع واقعه الإجتماعي والثقافى والسياسى، حيث عمل فى وظيفة صغيرة بوزارة المالية أثناء دراسته الفلسفة فى كلية الآداب، وكما درس النقد الفنى فى أكاديمية الفنون، ومشاهداته للسينما المعروضة فى القاهرة، وتعرفه على الناقد السينمائى "فتحى فرج" الذى قاد خطواته نحو القراءة والثقافة الجادة ومشاهدة الأفلام، وعملا معا، فى وزارة المالية، ثم فى جهاز الثقافة الجماهيرية، وكان لناقد "فتحي فرج" الفضل فى تأسيس نوادي السينما فى الأقاليم، كان وظيفة هذه الإدارة الصغيرة والمهمة هى: أعداد الأفلام والنقاد والمخرجين وعرض الأفلام وإقامة الندوات وإعداد النشرات فى كافة الأقاليم مصربهدف خلق وعى ثقافى وسينمائي. ويتيح بكل جاد فى مجال السينمائي لكي يتزود ويتذوق الثقافة السينمائية الجادة، وكما أعد وأشرف على إصدار مقالات عن السينما من الفترة 1975:1983، وأشرف على إنتاج عدد من الأفلام التسجيلية من إنتاج الثقافة الجماهيرية.. من هذا المناخ المفتوح والمتفتح والمتطلع سواء فى نوادى السينما فى القاهرة، أو العمل فى جهاز الثقافة الجماهيرية، أو فى البلاد عموما، تفتح وعى جيل كامل من المثقفين والسينمائيين وقامت على عاتقهم مهمة تحديث السينما المصرية من نقاد جادين متخصصين، إلى مخرجين وكتاب سيناريو ومصورين، وكانت له رسالة واضحة وهى نشر الثقافة والفن.

من هنا تشكل وعى الثقافى لـ على أبو شادى وكتب وحلل ونشر مقالاته فى نشرات نادى السينما وجريدة المساء التى كان يشرف على صفحاتها الثقافة المثقف الكبير"عبد الفتاح الجمل". وكما إنه عاصر تحول جهاز الثقافة الجماهيرية إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة على يد الرائد "حسين مهران" واستفاد من حنكته الإدارية والتنظيمية واهتمامه بالعمل الثقافي العام والجاد، وساهم فى تأسيس مشروع النشر الذى كان مطلب لكل المثقفين فى الأقاليم حيث: انتظام إصدار مجلة الثقافة الجديدة وسلاسل الكتب الأدبية والثقافية المتنوعة من سينما وفنون تشكيلية وترجمة وكتب للأطفال، رغم أن هذا الجو الثقافي والديمقراطي الذى صار عليه هذا المشروع، ووصل بمسئوليه إلى حافة الصدام والمصادرة. وتعثر مشروع النشر الذى كان مصدر فخر للمؤسسة، حيث نشر مئات الكتب وأتاح الفرص لعشرات المواهب التى نشرت لأول مرة.

بعد التجارب التى خاضها على أبو شادى إدارياً وثقافياً فى الثقافة الجماهيرية خرج منها مسلحا بالثقافة الواسعة والمتنوعة، وديمقراطية واسعة الأفق، عمل فترة مهمة فى الرقابة على المصنفات الفنية والتي أشاد بها الجميع ولمدة ثلاث سنوات، وثم عاد إلى بيته، ليكون أول موظف من أبناء الهيئة يتولى إدارة مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة بالخبرة والوعى والإستراتيجية، وبحكم عمله لسنوات طويلة ومعرفته بالعاملين والمواقع فى الأقاليم ومشكلاتها كان يؤهله أحداث تغيير ونقلة نوعية وحقيقية فى هذه الهيئة القومية التي مازالت لم تؤدِ دورها بالشكل الأمثل حتى الآن. وكان المناخ الذى سارت عليه الهيئة فى ذاك الوقت، العمل بروح الديمقراطية وإشاعة روح الحرية وإتاحة فرص النشر لعشرات الموهوبين، وكان يؤدى هذه الإستراتيجية عن إيمان مطلق وحقيقى اثنان من كبار المثقفين المؤمنين بالعمل الثقافى الجماهيرى همّا: الشاعر"محمد كشيك" والناقد "أحمد عبد الرازق أبو العلا"، رغم ذلك وقع الصدام مرتين خلال عام 2000، حيث وقفت السلطة الثقافية مع نشر رواية "وليمة لإعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر التي اعترض على نشرها بعض القوى المتطرفة وخرج طلاب الأزهر إلى الشارع منددين، ومر هذا الأمر بسلام، وبعد شهور قليلة نشرت الهيئة العامة للقصور الثقافة "ثلاث روايات" اعتبرت إنها تحوي ما يمس الأخلاق وقيم المجتمع، مما أدى إلى معاقبة وإقالة على أبو شادي ومعه مساعداه من المثقفين المسئولين عن النشر فى يناير2001.

وانطلق على أبو شادي فى قيادة عمل الثقافي في مواقع مختلفة ومتعددة داخل أروقة وزارة الثقافة المصرية، معتمدا على الخيرة الثقافية والإدارية التي تعلمها واكتسبها فى مدرسة الثقافة الجماهيرية، ومن أهمها الأمين العام للمجلس الأعلى الثقافة، مرورا بـ المركز القومي للسينما والرقابة على المصنفات الفنية إلى رئاسة قطاع الإنتاج الثقافى، كما أنه أدار مشروعات سينمائية ناجحة من أهمها مهرجاني: القومي للسينما المصرية والإسماعيلية للسينما التسجيلية.

الوجه الحقيقي لعلى أبو شادي هو المثقف الحقيقي والناقد والباحث السينمائي النابه والمجهد، يعرف قيمته كل متخصص درس النقد السينمائي ومارسه.

المتتبع لمسيرة "على أبو شادى" السينمائية والنقدية يدرك مدى الاهتمام والربط بين الكتابات السينمائية النظرية والتطبيقية، وتحتوى على كتابات أقرب إلى الكتب الأكاديمية والمنهجية الرصينة، الساعية لتزويد قارئها بمعلومات ومفردات السينمائية، ومكتوبة بأسلوب سلس يستوعبه القاري العادي، ويتناول الأفلام القديمة والمنسية، ومعرفاً الأجيال الجديدة بسمات وجماليات هذه الافلام، يتجلى الباحث السينمائى عند أبو شادى فى أبهى صورة وهو يؤرخ ويوثق لتاريخ السينما المصرية، وكما يعيد الاعتبار لهذه الأفلام وهذا الجهد السينمائى والثقافى، لذا نجده يخصص عددا من الكتب فى هذا الاتجاه، منها الفيلم السينمائي الذى أعاد نشره بعنوان لغة السينما، والسينما التسجيلية واتجاهات السينما المصرية، وكل الكتابات التي كتبت تحت عنوان الأبيض والأسود أو الكلاسيكيات السينما المصرية والعربية.

 وفلم يكن النقد السينمائي قبل جيل الستينيات متخصصين، حيث تبلور اتجاه منهجي فى النقد السينمائى بهدف خلق وعى سينمائى لدى المتلقى، وتم تكوين جمعيتى: النقاد السينمائيين المصريين، السينما التسجيلية لإثراء حركة ثقافية وطنية منفتحة على كل أصيل وإنسانى يربط السينما بقضايا التحرر الوطني فى العالم وخاصة العالم الثالث. وظل "أبو شادى" عمره كله منتميا ووفيا لتلك القيم والمبادئ، التي تعلمها وآمن بها فى الستينيات، وظل منتميا فكريا إلى ما سمّى بـ "الفترة الناصرية"، وكلما أمعن النظام الذى انقلب وتغير سريعا من منتصف السبعينيات، ازداد الناقد المثقف فى التوغل وانتماء والتمسك بالقيم الناصرية على حد تعبير الناقد "كمال رمزى" ومعه الكثير من أبناء جيله وخاصة السينمائيين من النقاد والمخرجين وكتاب السيناريو.

  لذا نجده يخصص كتاباً مهماً من كتبه عن السينما والسياسة، ويدمج اهتمامه المزدوج بين فن السينما وتطوره وبين عالم السياسة، يتناول فيه السينما وثورة يوليو، وتجربة القطاع العام السينمائى وما له وما عليه، وشارحاً الأفلام التى تهاجم مرحلة الستينيات، والأفلام التي تناولت حرب أكتوبر وشهداءها ونتائجها، وهى السياسات التى نجمت عن الانفتاح وغيرها.

  فى كتيب وحيد أعده زميله وصديقه الناقد السينمائي "كمال رمزى" بعنوان "على أبو شادى ناقداً" الصادر عام 2013 عن صندوق التنمية الثقافية وجاء لطابع إحتفاء بالناقد الكبير، يتناول فيه عوامل التكوين الثقافى والفنى وتوجهاته السينمائية والسياسية، مؤكدا على قيمة هذا الناقد المنهجى والمثقف العضوى الذى أتعبه العمل العام وأخذ منه كثيرا من جهده وفكره.

ظل "على أبو شادى" مثّالا للمثقف المتسق مع قيمه وذاته، وكان يدرك تماما أهمية ووعى ورسالة لكل عمل يؤديه بصدق وحب.

 سيبقى مقعد "على أبو شادى" شاغرا، مقعد القائد الثقافي المؤمن بالعمل العام، ومقعد الناقد والباحث السينمائي الموضوعي، صاحب الرؤية الشاملة التي تعلم وتضيء. وأعتقد أن مبادئه فى الإدارة والنقد ستبقى تنير الطريق لكل صاحب ضمير ورسالة ومؤمن بقيم العدالة والنزاهة وقيم الحرية والعمل العام الجاد.

 
     
     
 
 
 
     
 

 

بقلم:

نـاهـد صـلاح

 

 

 
 
 

علي أبو شادي.. ذاكرة السينما والوطن

 
 

(1)

"في أحد أيام أكتوبر 1963 توجه شاب نحيل لم يتجاوز السابعة عشر من عمره نحو مبنى وزارة الخزانة – وهي وزارة المالية فيما بعد- كي يتسلم عمله كموظف "زهرات" على حد تعبير عمنا يحيي حقي، يعمل بمكافأة شهرية لأنه ما يزال طالباً في السنة الثانية بكلية الأداب جامعة عين شمس.. كان سعيداً وهو الوافد من قرية "ميت موسى" التابعة لمحافظة المنوفية، ذلك أن العمل بعائده سيوفر الاستغناء عن استضافة الأقارب له وسيجعله معتمداً على نفسه، وبخاصة أن والده رحل مبكراً وكان الشاب وقتها في منتصف دراسته الثانوية..."، هكذا باشر الناقد كمال رمزي كتابه "علي أبو شادي ناقداً" الصادر عن صندوق التنمية الثقافية، بخصوص تكريم  صديقه في المهرجان القومي للسينما المصرية عام 2013، مستطرداً بدايات الشاب الوافد، العاشق للشعر والقصة، المتابع لمشاهدة الأفلام في دور العرض بمنطقة سكنه بالسيدة زينب، وهو ما لفت انتباه الناقد فتحي فرج وعلى إثره نشأت صداقتهما وكانت مفتاح دخول أبو شادي لعالم السينما الواسع، ناشطاً في الفعاليات والتجمعات والجمعيات السينمائية المختلفة، واحداً من مؤسسي (جماعة السينما الجديدة) مع جيل جديد من النقاد والسينمائيين حينذاك أرادوا سينما مختلفة وتبلور ذلك في كتاباتهم، كانت الحركة السينمائية متدفقة وكان علي جزء من هذا التدفق الذي أسهم في تكوينه المعرفي والثقافي حتى صار واحداً من أهم رموز الحركة النقدية، بموازاة حضوره الرسمي والوظيفي في مناصب عدة لم تبعده عن اشتغاله النقدي الأساسي، وقناعاته الثقافية وكذلك السياسية.. ناقد أيدولوجي، لديه نظرية في تفسير الأفلام واتخاذ موقف حيالها، وهذا أمر لا ينفي موضوعيته؛ بل يمنحه سمة تميزه، فالكلام عن السينما لابد أن يقود إلى السياسة.

من هذا المنظور، تمتع علي أبو شادي بالبراعة والشجاعــة الضــروريتين، وبالشـغف الأصيل لكي يكون ناقداً سينمائياً وموظف دولة، إدارياً ورقيباً، حراً  في عالم الصورة الرحب، ملتزماً ومشاكساً في عالم الوظيفة الصاخب، علي أبو شادي إلتقط طرفي المعادلة إذن، وهو من اتسعت رؤيته لتشمل بهذه الكيفية المحفزة، العمل الفكري والثقافي بكل تحولاته الحادة، من هذا المنطلق بدأ رحلته العملية متحدياً وطأة الواقع الكابوسي ومراوغاً في المساحة بين دأبه العنيد ونجاحاته المذهلة، خلال مشوار حافل اتسم بطابع حركي مؤثر من رئيس الرقابة على المصنفات الفنية، ورئيس المركز القومي للسينما، ورئيس مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، ورئيس للمهرجان القومي للسينما، إلى رئيس هيئة قصور الثقافة والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، فإن أبو شادي الذي تربي في مدرسة الثقافة الجماهيرية، لم يكن نموذجا لمثقف عادي وإنما كان مثقفاً معاصراً بروح الستينيات، وكان أداؤه الثقافي حلاً تطبيقياً لثنائية المثقف والسلطة، فقد نجح في دوره الثقافي العام كناقد سينمائي مستقل ومثقف تنويري في الوقت الذي حافظ فيه علي أدائه الوظيفي في مناصب ومهام متعددة، وهو الدارس للإدارة والواعي لاستمرارية العمل الوظيفي بقدر وعيه للمنتج الإبداعي، لعل أصعب وظائفه كان توليه إدارة الرقابة علي المصنفات الفنية في مصر حيث امتلك سلطة السماح والمنع للفنون الإبداعية وفي مقدمتها الأفلام السينمائية، سلطة جعلته يتحمل عبئاً أثقل من أحلامه، لكن خيال المبدع بداخله طغي دائماً علي مقص الرقيب، في الوقت الذي استفحلت رقابة الشارع بسيطرة سلفيةً ونزعات رجعية لا تنظر إلي الفن إلا نظرة تحريمية، كذلك كان راسخاً في أزمات رقابية صارخة ولعل أزمة فيلم "هي فوضى" (2007) إخراج يوسف شاهين، من الشواهد البارزة على تصديه لفكرة المنع، حين استطاع أن يقنع المسئولين بضرورة عرضه مع وضع علامة استفهام في العنوان ليكون تساؤلاً وليس تقريراً.

(2)

في كل مناسبة تخص علي أبو شادي، أتذكر على الفور أنه كان مدخلي إلى السينما والكتابة النقدية، كانت علاقتي بالسينما لا تتجاوز مشاهداتي للأفلام القديمة على شاشة التليفزيون في المنزل، حتى وقعت عيناي على مقال له عن فيلم "الجوع" للمخرج علي بدرخان في العام 1986، نشرته إحدى المجلات التي كان أبي يجلبها إلى البيت، كنت لاأزال تلميذة صغيرة في المدرسة تحلم بمستقبل أكبر من سنوات عمرها، وقرأت مقال أبو شادي الذي تناول فيه الفيلم كملحمة إنسانية عن العدل والحرية، مؤكداً على روح المقاومة والثورة التي يحملها الفيلم ومسئولية الجماهير لحماية المستقبل بعد التخلص من الطاغية، وهو الأمر الذي أشار إلى أن المخرج علي بدرخان استلهمه من "الحرافيش" لنجيب محفوظ، تتبع أبو شادي هذه الروح بلغة راسخة تدلل على تحليله الفيلم تاريخياً وفنياً واجتماعياً، مستشهداً بأفلام أخرى حملت أيضاً تحريضاً على مواجهة المستبد، كما في "شيء من الخوف" (1969) إخراج حسين كمال، "لاشين" لفريتز كرامب (1939)، "السوق السوداء" لكامل التلمساني (1946)، ومستعرضاً الصنيع البصري وكافة العناصر الفنية من تصوير ومونتاج وموسيقي وديكور وتمثيل، وكيف تكاتفت هذه العناصر في خدمة موضوع الفيلم ورسالته التحفيزية، إنه أسلوب أبو شادي المتكامل في نقده الذي يتمازج فيه الشكل والمضمون، طريقته التي أخذتني لمشاهدة الفيلم بعين باحثة، سائلة، متابعة لدعوته بدرخان يطرح في فيلمه  العفية للخلاص، رأيت الفيلم الذي تبدأ أحداثه بعد خمس سنوات فقط من الاحتلال الانجليزي لمصر، حسبما أشارت اللوحة التي حملت تاريخ 1887 في مقدمة الفيلم، من دون أن أرى أي أثر للاحتلال ولا للانجليز على الرغم من أن الفيلم يدور في قلب القاهرة، العاصمة، هذه الملاحظة  ليست انتقاصاً من الفيلم أو مأخذاً عليه، لكنها من وجهة نظري تشير إلى أن المخرج علي بدرخان وشريكيه في كتابة السيناريو والحوار مصطفي محرم وطارق الميرغني لم يهتموا أصلا برصد الواقع التسجيلي لتلك الفترة، وبالتالي لم أجد أية ضرورة درامية للوحة المذكورة، قراءتي للفيلم أوحت لي بإمكانية تجريد الزمان والمكان، فهو يعالج قضايا كبرى منها السياسي الذي يتعلق بالسلطة والجماهير، والاقتصادي الذي يناقش قضايا طبقية عن العلاقة بين الأغنياء والفقراء من جهة، والفقراء والسلطة من جهة أخري، بالإضافة إلى قضايا إجتماعية وثقافية مثل العلاقة بين المثقف والسلطة، مفاهيم الشرف والأخلاق، وحدود تطلعات الجماهير ونظرتهم إلى الزعيم المنقذ.

 المهم أن قراءتي للفيلم جاءت بإلهام من مقال أبو شادي الذي جعلني أتعلق بالسينما كأداة مهمة من أدوات النضال الاجتماعي والثقافي، يوم قرأته أول مرة، لم أكن قد شاهدت الفيلم في السينما، وربما شاهدته بعد ذلك بسنوات عبر أشرطة الفيديو لكن ظل هذا المقال طوال الوقت هو مفتاح الفيلم، بل ومفتاح إهتمامي بالسينما وعالمها، بينما صار  أبو شادي  شاهداً على أجيال تعاقبت بعده، إذ كان كشعاع يهدي ويساعد، حسبه أنه كان يلحظ كل العابرين على دروب السينما ولا يبخل بمساعدة أحد أو توجيه النصائح اللازمة.

(3)

ربما كانت السياسة هي القلب النابض بالحضور الدائم في كتابات علي أبو شادي،  كما يقول عنه كمال رمزي، وعلى هذا الأساس جاء كتابه "السينما والسياسة"، فمن عنوانه يتضح مضمونه الذي يزاوج بين العمل السينمائي بكل عناصره وبين نسقه الفكري وتحولات الواقع السياسية، وهذا ما ضمه الكتاب في خمسة فصول رصدت الخط البياني للسينما والوطن، ومع مهارة أبو شادي وإتقانه لهذا الرصد وفق معتقده الأيدلوجي، ودفاعه عن عبد الناصر وثورة يوليو التي انقلب عليها العصر السبعيني، إلا أنه تعددت مؤلفاته وكتبه حتى تجاوزت الـ 20 كتاباً، ومنها "سحر السينما" الذي يتناول في سبعة فصول مراحل صناعة الفيلم من الفكرة إلى دار العرض، متوغلاً في العناصر الرئيسية: السيناريو، التصوير، الصوت، المونتاج، تصميم المناظر، الملابس، الماكياج، الإنتاج، الإخراج، إسهام مهم يساعد المتلقي غير المتخصص في فهم الفيلم السينمائي، فيما ظهر كتاب "كلاسيكيات السينما العربية" كمنجز نقدي يتجلى فيه رصده لتجارب سينمائية قيمة مصرية وعربية، صدر له كذلك "كلاسيكيات السينما المصرية" بأجزائه الثلاثة، هذا غير التنوع الفياض في كتبه المختلفة منها: السينما التسجيلية - مقالات ودراسات، وقائع السينما المصرية في مائة عام "1895-1994"، اتجاهات السينما المصرية، الفن بين العمامة والدولة مع كمال رمزي ومادلين تادرس، وجوه وزوايا الذياستعان، لأول مرة عربياً، بتقنية QR BARCODE لإظهار المشاهد السينمائية التي تحدث عنها الكاتب عبر موقع مشاركة الفيديوهات "يوتيوب" وذلك عبر تثبيت تطبيق خاص على الهاتف المحمول، وعند تمرير الشعاع الخارج من الهاتف على الرمز المطبوع في الكتاب يظهر لك مقطع الفيديو، وهي المرة الأولى لكتاب يطبع بالعربية، حيث رسم فيه بورتريهات لـ 20 شخصية سينمائية: يحيي حقي، نجيب محفوظ، صلاح أبوسيف، كمال الشيخ، يوسف شاهين، توفيق صالح، رأفت الميهي، رضوان الكاشف، سعاد حسني، سعيد شيمي، أنسي أبو سيف، سعد نديم، عطيات الأبنودي، عبد القادر التلمساني، هاشم النحاس، على الغزولي، صلاح التهامي، أحمد الحضري، رفيق الصبان.. ليبق علي أبو شادي الذي رحل عن عالمنا في العام 2018، تاركاً لنا رصيداً هائلاً من الكتابات النقدية والإسهامات المؤثرة في العمل السينمائي بشكل عام، كانت السينما هي معركته وكفاحه وحساسيته الدقيقة تجاه الحياة والواقع، وظل هو جزء مهم وذائع الصيت من ذاكرة السينما والوطن.

 
     
     
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004