تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

 

 

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

جديد السينما

سينماتك ملتيميديا

 

 

 

 

 

 

 

 

نديم جرجورة يحاور إثنين من أبرز مخرجي السينما المصرية

داود عبدالسيد في الفيلم الطويل

عبد السيد: الفيلم الجيد يعني أنك داخل مناخ التغيير

وشريف البنداري في الفيلم القصير

البنداري: أرى أن هناك دائماً بصيص أمل ينبغي التمسك به

هل يرث الحكم الجديد وسائل الإعلام وهل يضعها كلها في خدمته؟ 

داود عبد السيد: الفيلم الجيد يعني أنك داخل مناخ التغيير

نديم جرجورة

كلّما التقيتُ مخرج «البحث عن السيّد مرزوق» (1990) و«الكيت كات» (1991) و«أرض الخوف» (1999) وغيرها، أشعر بمتعة الاستماع إلى رجل يملك قوّة الملاحظة ورغبة الاكتشاف. إلى سينمائيّ يفتح عينيه على الدنيا ليُفكّك راهنها، مُعيداً صوغ لقطاتها وتفاصيلها من داخل ذاته وروحه. هذه المتعة ناتجة من سلاسة أقواله وتحليله وعمقهما. من نظرته الثاقبة. من حماسته المنكشفة من خلف هدوئه، أو في قلب الهدوء البادي على محياه: حماسة المُراقبة والتأمّل، اللذين يدفعان إلى مزيد من الفهم والمعرفة، وإلى استخلاص ما يُمكن الاشتغال السينمائي عليه من أحوال الفرد والبلد والذاكرة والمعطيات

لم يكن ممكناً لقاء السينمائي المصريّ داود عبد السيّد، بعد مرور عام واحد على انطلاق «ثورة الخامس والعشرين من يناير»، من دون الذهاب إلى أقصى حدّ ممكن في الحديث عنها. في الحديث عمّا حصل ويحصل. السينما حاضرة طبعاً. المشهد الإنساني العام أيضاً

لكن الحوار معه لا يُمكن أن ينتهي. أخذتني تداعيات الزلزال التاريخي الكبير، الذي صنع مرحلة جديدة ومختلفة تماماً عن التاريخ المصري والعربي، إلى أمكنة أخرى. الحوار معه يمتلك أساساً متعة إضافة حوافز جديدة لمزيد من التأمّل والبحث والفهم.

·         مرّ عام واحد على قيام «ثورة الخامس والعشرين من يناير»، أو «انتفاضة الخامس والعشرين من يناير». ما الذي حصل في هذا العام؟ كيف تنظر إلى الأمور، أقلّه على المستوى الإنسانيّ؟ 

} هناك نتيجة واضحة ليس الآن فقط، بل منذ البدايات الأولى للثورة أو للانتفاضة. هذا قلتُه سابقاً، مع بداية محاكمة حسني مبارك. الفكرة عندي أن الثورة لا تعني استلام الثوّار الحكم أو السلطة، بل هي كامنةٌ في صنعها متغيِّراً تاريخياً. هناك دائماً شعور بأن هذه هي المرّة الأولى في تاريخ مصر لا يُقتَل فيها فرعون، ولا يُخلع فيها فرعون، بل تتمّ فيها محاكمة فرعون. فراعنة كثيرون قُتلوا أو خُلعوا أو هربوا. لكن، أن يُحاكَم فرعون، فهذا يعني أن إنجازاً ثورياً تاريخياً حصل في ثقافة شعب

هذا تقييم حركة الثورة أو الانتفاضة. بالعودة إلى السؤال: الإنجاز الأساسيّ الذي حصل كامنٌ في أن تغييراً حصل في الإنسان المصري، وليس على الأرض. بمعنى آخر، كان الناس خائفين وقانعين بأنهم يعيشون في بلد نظامه السياسي فاسد. كانوا مدركين هذا الأمر وهم غير راضين، لكنهم لا يتحرّكون. خائفون هم. غير قادرين على التجمّع مع بعضهم البعض. الآن، الوضع مختلف تماماً. فَقَد المصريون الخوف. باتوا قادرين على التجمّع، حتّى وإن لم يتجمّع المصريون جميعهم مع بعضهم البعض. حتى الفئات أو الكتل الشعبية الأكثر بلادة، تمّ تسييسها. حتّى أولئك الذين أعلنوا موقفاً ضد التظاهرات، أو مع الحاكم اليوم، باتوا هم أيضاً مسيَّسين. باتت السياسة همّاً يومياً. في بيروت، ربما لن ينتبه اللبنانيون إلى معنى المسألة هذه، لأن الجميع تقريباً مسيّسون منذ زمن بعيد، بحكم طبيعة النظام الطائفي. لكن، أن يحدث هذا في مصر، فهذا إنجاز. إنه الإنجاز الثاني للثورة أو الانتفاضة.

ما حصل بفضل الثورة/ الانتفاضة الآن يُمكن التعبير عنه بمفردة «تفاعل». الآن، نحن وسط التفاعل. وبالتالي، لا توجد نتائج نهائية، باستثناء ما ذكرته سابقاً. هناك حركة مستمرّة يومياً. هناك شيء جديد يحصل يومياً. هناك أمور مختلفة تتبلور، أو أنها لا تزال في مرحلة البلورة. لكن، أخشى ما أخشاه أن نصل إلى الصورة المعروفة عن الثورات، التي يُقال إنها تنتهي دائماً إما بحكم ديكتاتوري، وإما بحرب أهلية. هذا ما أخاف أن يحصل. هذا أمر مخيف فعلاً. أنا لا أريد حكماً ديكتاتورياً ولا حرباً أهلية، بل حكماً ديموقراطياً ونظاماً حديثاً

اصطفافات خطرة 

·         هل ترى بذور حكم ديكتاتوريّ أو حرب أهلية؟ 

} ممكن ذلك طبعاً، إذا حصلت تطوّرات معيّنة. قبل وقت قصير، حدثت مواجهة بين جماعة «الإخوان المسلمين» ومتظاهرين. «الإخوان» أقاموا حاجزاً بشرياً حول البرلمان لحمايته. هذا هو المكسب الذي حصلوا عليه بعد ثمانين عاماً أو أكثر بقليل على تأسيسهم. هناك «عظمة» كبيرة بين أنيابهم، ليسوا مستعدّين للتنازل عنها بأي شكل من الأشكال. في المقابل، هناك الثوّار. هؤلاء لا يتوقّفون ولا يخافون ولا يهابون أحداً. اقتحموا الحاجز البشريّ «الإخوانيّ»، ودخلوا مبنى البرلمان

هذه مقدّمات لاصطفاف إيديولوجي ومصالح قد تؤدّي إلى مشاكل كبيرة وخطرة. ليس بمعنى «حرب أهلية» وميليشيات. مع العلم أن فكرة الميليشيات ليست بعيدة عن «الإخوان المسلمين». 

أما بالنسبة إلى الديكتاتورية، فالواضح تماماً أن «المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة» يريد إحكام قبضته على السلطة. يريد السيطرة، سواء من أمام الستارة، أم من خلفها. أي إما عن طريق «وكالة» ما، وإما بشكل مباشر وواضح وصريح. بذور الديكتاتورية موجودة. بذور الحرب الأهلية أيضاً. طبعاً، ليس المعنى المباشر للحرب الأهلية والديكتاتورية. ما أقصده هو أن هناك «ديكتاتورية مُعدَّلة». أن هناك صراعات أهلية. التيار الإسلامي حاول مراراً أن يثير صراعات كهذه. أن «يفعلها» كما يُقال. وهو ارتكبها في بداية الثورة/ الانتفاضة ضد الأقباط بحرق كنائس. إنه طالِبُ صراعات كهذه. يُمكن للتيارات الإسلامية أن تقوم بأمور كثيرة كهذه. لذا، فإن الحلّ الوحيد الآن، عشية وضع دستور جديد، كامنٌ في ضرورة التوافق. إذا لم ينجح التوافق، ستُصبح الأمور صعبة جداً.

·         كمراقب من بعيد، أرى أن صراعات كهذه بدأت تتكوّن على الصعيد الإبداعي، في الفنون والثقافة والآداب، عنوانها الأساسي: الحريات العامّة

} عندما حاز التيار الإسلاميّ على الأغلبية البرلمانية، انتشرت مخاوف كبيرة بين أفراد فئات ثلاث: المثقفون والأقباط والنساء. طبعاً، لا أستثني الرجال، لكن النساء عانين كثيراً، وهنّ في موقع الضحية أكثر من الرجال. بالنسبة إلى المثقفين، أودّ إعادة رسم صورة لواقع لا يعرفه اللبنانيون، أي أن الواقع هذا غير مُطبّق في لبنان: عند بناء الدولة والسلطة، تحكّم النظام القائم بمؤسّسات صحافية وإعلامية مختلفة، كـ«الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» و«روز اليوسف» وغيرها. التلفزيون، بغالبية قنواته، بين يديّ الحكومة، أي السلطة. حسناً: عندما يحصل «فصيل» معيّن، أياً كان شكله، على الأغلبية البرلمانية، ويُمسك الحكم، هل يرث وسائل الإعلام كلّها؟ هل تبقى وسائل الإعلام هذه «في خدمته»؟ المعروف أن وزارة الثقافة المصرية تموّل نشاطات ثقافية كثيرة، كالمسرح والكتب، طباعة ونشراً. السينما لم تكن مموَّلة من قِبل الوزارة. لكن، هناك الـ«أوبرا» وفرقتها، الموسيقى وفرقتيها السمفونيّة والعربيّة، الباليه، الفرق الشعبية... هذه كلّها مموَّلة من قِبل السلطة الحاكمة سابقاً. أي من الدولة. السؤال: عندما يأتي أناسٌ كـ«الإخوان المسلمين» و«السلفيين»، ولديهم تيار يعتبر أن الموسيقى مثلاً حرام، ما الذي سيحصل؟ ما الذي سيفعلونه هم؟ لا أقول إن التيارات الإسلامية كلّها تقول بأن الموسيقى حرام، بل هناك اتجاهات معيّنة. لكن المسألة الأساسية هي أن تفكيراً كهذا حاصلٌ وموجودٌ.

الحكاية نفسها في مجال التعليم: نظام التعليم في مصر مُصابٌ بعيوب كثيرة، في مسائل متعلّقة بالدين أو بالإيديولوجيا السياسية. باللغة العربية أو بالتاريخ. مثلٌ أول، في مادة العلوم: هل سيقولون إن الله خلق آدم وحواء (الإنسان)، أم أن الإنسان مخلوق نتيجة تطوّر معيّن حصل على الأرض؟ مثلٌ ثان، في مادة التاريخ: هل سيبقى تجاهل المرحلة القبطية تماماً كأنها لم تكن موجودة أبداً في تاريخ مصر؟ هل سيتمّ تهميش المرحلة الفرعونية؟ هل سيبدأ تاريخ مصر من الإسلام والفتح الإسلامي لمصر فقط؟

هذا كلّه ناتجٌ من أمر أساسي: لقد سُمح بإنشاء أحزاب دينية لديها إيديولوجية دينية واضحة ومعروفة. أحزاب دينية تُفكّر بهذه الطريقة. في دول ديموقراطية يتمّ فيها تبادل السلطة أو الحكم بين الأحزاب والأفراد المرشَّحين من قِبَل أحزاب أو المنفردين، هل يُطبِّق «الحزب الديموقراطي المسيحي» الألماني مثلاً إيديولوجيته الثقافية في حال وصل إلى الحكم؟ ماذا عن الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الولايات المتّحدة الأميركية، مع أنهما غير معنيين بالثقافة والإعلام ربما؟ 

هذا واقعٌ ملموس. ثم لا تنسَ أننا لم نمرّ في مرحلة تحوّل من الدولة التسلّطية إلى دولة تمارس تداول السلطة. أنا شخصياً من المدافعين عن فكرة مفادها التالي: لتُشكِّل الأغلبية البرلمانية الحالية الحكومة الجديدة. أنا ضد عدم تشكيل حكومة. أنا مع أن يحكم «الإخوان المسلمين». ولنرَ جميعنا كيف سيحكمون.

مستقبل الحريات 

·         حسناً. سأنتقل معك إلى الجانب الثقافي البحت، والسينمائي بصورة خاصّة. هناك وضوح في تحرّك «الإخوان» و«السلفيين» إزاء الحريات. كلام قيل. والبرنامج المتكامل الخاصّ بهم واضح تماماً

} هناك مخاوف، من دون أدنى شكّ. في فترة سابقة، كتبتُ مقالة حول هذه المسألة: يجب أن يلتقي المثقفون والفنانون والمفكّرون والمبدعون جميعهم مع بعضهم البعض. هناك من اتصل بـ«غرفة صناعة السينما» التي تبنّت ما توصّلنا إليه إثر تأسيسنا «جبهة الإبداع»: تنظيم مؤتمر ومسيرة ضخمة جداً مشى المنضوون فيها من «دار الأوبرا» إلى «مجلس الشعب». هناك، سلّمت مجموعة منّا إلى المجلس التوصيات والبيان الخاصّ بـ«جبهة الإبداع» الذي يُدافع عن حرية الإبداع، وعن ضرورة حمايتها. طبعاً، تمّ تسليم التوصيات والبيان إلى نوّاب رأينا أنهم يُمكن أن يمثّلونا

«جبهة الإبداع» ومثقفون ومفكّرون وفنانون في المجالات كلّها مستعدّون جميعهم وجاهزون جميعهم للتصدّي. طبعاً، هناك مشكلة أخرى: الرقابة المؤسّساتية والرقابة الفكرية. الرقابة عملياً تابعة لوزارة الثقافة أيضاً. وهي لا تزال تابعة لها.

هذه كلّها مشاكل يجب أن تُعالج. لا أعرف كيف. لكننا جميعنا وسط تفاعلات شتّى وتبدّلات تحصل وأمور تتبلور. يجب أن تُعالج هذه المشاكل، مع الحفاظ على هوية مصر طبعاً. ربما سنفشل. أقول ربما. حينها، يكون لنا شأنٌ آخر. هذا يتوقّف على المسيرة الأساسية للثورة/ الانتفاضة المصرية

·         قبل الثورة/ الانتفاضة، أُنجِزت أفلامٌ متنوّعة، سلّط بعضها الضوء على مآزق وحالات بائسة في المجتمع المصري. لا أميل إلى ما يُسمّى بـ«سينما تحريضية». لكن، ألا ترى أن أفلاماً كهذه ساهمت، بشكل أو بآخر، في الحراك الذي حصل لاحقاً؟ فيلمك الأخير «رسايل البحر» (2010) مثلاً أضاء على أمور جوهرية في الحياة العامّة، كالوحش العقاري والحيتان التي تغتال الإنسان الفرد العاديّ

} أولاً لديّ تحفّظ على فكرة «دور الفن». أرى أن دور الفن هو أن يكون العمل الفني جيّداً. أن يكون الفن جيّداً، أياً كان موضوعه. أصلاً، هناك تقدّم وتخلّف، هناك إنسانية وأشياء ضد الإنسان والإنسانية. ما دام المرء مع التقدّم والإنسانية والإنسان، فهذا يعني «تحريضٌ» على القيام بثورة

لم يكن ممكناً صنع أفلام تحريضية. أرى أن هناك نموذجاً واحداً تحريضياً بشكل ما، متمثّلاً بفيلم «هي فوضى» للراحل يوسف شاهين: قدّم الفيلم فساد رجل أمن في دائرة الشرطة. طبعاً، يُمكن تعميم النموذج هذا، لأن غالبية رجال الشرطة فاسدون، أو متورّطون بجزء من الفساد. أرى أنه يُمكن اعتبار هذا النوع تحريضياً. كما يُمكن اعتباره تنفيسياً، في الوقت نفسه. أنا أعتبره تحريضياً. لكن، هل هناك فيلم يصنع ثورة؟ 

·         لم أقصد هذا بسؤالي، لأني متأكّدٌ تماماً من أن الفن لا يصنع ثورات

} مُدركٌ ما تقوله، لكنّي أحاول مناقشة الفكرة بشكل متكامل. إذاً، لا يصنع فيلمٌ ثورةً. في مقابل هذا، لو صنعت عملاً فنياً جيداً بشكل عام، يعني أنك أصبحت داخل مناخ الرغبة في التغيير

ذكرتَ لي «رسايل البحر». لكنّي سأعود معك إلى «مواطن ومخبر وحرامي» (2000). الفيلم هذا لا يقول لك «قم إصنع ثورة»، بل يحاول أن يشرح «ميكانيزم» الفساد الذي يحصل في المجتمع كلّه. المواطنون والمثقفون البرجوازيون والشرطة واللصوص المنتمون إلى الطبقات الدنيا، هؤلاء جميعهم قال الفيلم كيف يكونون «سبيكة»، وكيف يتماهون مع بعضهم البعض، وكيف يزوّجون بناتهم لأبنائهم أو العكس، وكيف تتداخل الأمور إلى درجة أن لا أحد يعرف فلان ابن من، أو إلى لحظة يُمكن معها أن يتزوّج أحدهم شقيقته، إلخ. قصدي أن هذا ليس تحريضاً، بل محاولة فهم. محاولة معرفة. إعطاء رؤية

إنها مرحلة تأمّل 

·         أتذكّر أيضاً «الصعاليك» (1984). ألا يدخل في المجال نفسه الذي تتحدّث عنه؟

} طبعاً. إنه عن صعود طبقة في المرحلة الناصرية وتطلّعاتها لبلوغ الحكم وتولّيه. هذه أفلام تشرح. المسألة عندي واضحة تماماً: كل فكرة جيّدة تُحرِّض على المواجهة والتغيير والكشف

·         كيف تنظر اليوم إلى أفلام المرحلة الثورية الجديدة هذه؟ 

} فن الثورة هو الفن الناقد للثورة، ليس من منطلق عدائيّ، بل من منطلق كونه من داخل الثورة. أو بسبب كونه جزءاً منها، وليس من خارجها. هذه وجهة نظري الخاصّة بفن الثورة. الأفلام التي صُنعت بعد «الخامس والعشرين من يناير» كانت ضرورية، ولديها مهمّة: تسجيل الثورة. وهذا تمّ بشكل جيّد جداً. تمّ التسجيل بفضل كاميرات المراقبة المنصوبة من قِبل الشرطة والأمن (حُذفت أجزاء منها لإخفاء الإثباتات كلّها التي تدينهم)، وأجهزة الهواتف المحمولة. هناك كاميرات الصحافيين العاملين في وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية. الهواة أيضاً. لأول مرّة في مصر أرى، بفضل شريط أو شريطين من أشرطة الـ«كليب»، لقطات لقتلة أمام الكاميرا. ربما هناك لقطات أخرى أيضاً. هذا إنجاز تكنولوجي

كان يجب استخدام هذا في عمل متسلسل طبيعي لما حدث في فترة الأيام الثماني عشرة، وما بعدها. هذه تُعتبر «أفلام المرحلة». هكذا يُمكن صُنعها. هذا دور كان يجب أن تتمّ تأديته، وهذا ما حصل تماماً

·         هل صوّرتَ أثناء التظاهرات والحراك الميدانيّ؟ 

} نزلتُ إلى الشارع، لكنّي لم أُصوَّر. منذ اللحظة الأولى لنزولي شاهدتُ كاميرات كثيرة. قلتُ إني لن أُضيف شيئاً. الفكرة الأساسية لا تتعلّق بالتصوير، بل بالتقاط ما حصل ويحصل. لم يكن التصوير قضيتي. قضيتي كانت أن أشعر بالفرح الحاصل، وأن أتأمّل بما يحصل. أن أراقب التفاعل. أن أراقب ما يحصل. هذا ما أثار اهتمامي

لم أكترث بالتصوير، لأن الجميع تقريباً كان يُصوِّر

·         أرغبُ في سؤالك عن اشتغالك الوثائقي. في النصف الثاني من سبعينيات القرن الفائت وبداية ثمانينياته، أنجزتَ ثلاثة أفلام وثائقية فقط: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» (1976)، «العمل في الحقل» (1979) و«عن النساء والأنبياء والفنانين» (1981). منذ ذلك الوقت لم تُنجز فيلماً وثائقياً واحداً.

} ما جعلني أفقد الرغبة في العمل التسجيلي (الوثائقي) في الفترة تلك كامنٌ في أننا كنّا جميعنا نُنجز أفلاماً فقيرة جداً، بإمكانيات قليلة جداً، بالمعنى الحقيقي والعميق للكلمة، لكن أحداً لم يكن يُشاهدها، لأنها لم تكن تُعرَض. كان لديّ شوقٌ للتواصل مع الناس، لقناعة لديّ بأن الفن نوع من الاتصال والتواصل مع الناس. لاحقاً، انصرفتُ إلى العمل في تحقيق أفلام روائية. عندما بدأت السينما التسجيلية تذهب إلى الناس، وباتت لديها قدرة على التواصل والاتصال معهم، عن طريق القنوات التلفزيونية الفضائية طبعاً، رأيتُ أن الأصغر سنّاً، الذين يحقّقون هذا النوع السينمائي، هم الذين يُفترض بأفلامهم التسجيلية أن تُعرض أمام الناس، لا المخرجين الأكبر سنّاً. هذا طبيعي.

في الوقت نفسه، يكون للمرء أحياناً مسار خاصّ، وإضافة في مجال معيّن. يُمكن أن تكون الإضافة هنا كإضافة غيره. لكن، هذا ما حصل معي: كان مساري أن أحقِّق أفلاماً روائية

·         ماذا عن مشاريعك الجديدة إذاً؟ 

} حالياً، أحاول أن أفهم. ليس الفهم العام، بل أن أفهم من خلال المُراقبة. من خلال رصد ما الذي يحصل يومياً. رصد الحركات الصغيرة وتطوّرها وكيفية تطوّرها أيضاً. لديّ موضوع أفكّر فيه منذ أشهر مديدة، وهو يختمر تدريجاً. موضوع شغلني منذ فيلمي الأخير «رسايل البحر»، متعلّق بالمرأة. المرأة نصف المجتمع. طبعاً الثورة أنجزت نقلة كبيرة في هذا الموضوع. المرأة في موقع القهر كمواطنة أولاً، وكامرأة ثانياً. أرى أن تغيير وضع المرأة امتدادٌ لتغيير المجتمع. متكاملٌ وإياه أيضاً

·         غير أن المرأة حاضرةٌ في بعض أفلامك السابقة؟ «أرض الأحلام» (1993) و«سارق الفرح» (1994) مثلاً

} هنا، الأمر مختلف قليلاً. لن يكون فيلماً عنها، بل ستكون هي المحور والشخصية الرئيسة. لا أرغب حالياً في الاسترسال بالكلام عنه، لأن الأمر لا يزال يُشغلني ويتبلور فيّ.

المسألة بالنسبة إليّ مرتبطة بالمتعة. أي أن أشعر بالمتعة في تحقيق عمل ما. أحاول ألا أجلد نفسي، بأن أذهب إلى إنجاز فيلم لأن الضرورة تتطلّب هذا. أو لأنه يجب عليّ إنجاز فيلم. أريد تحقيق فيلم عندما أشعر برغبة في ذلك. عندما أشعر بأن المتعة في تحقيق المشروع باتت حاضرة فيّ

·         هل لهذا السبب كانت هناك فترات زمنية طويلة أحياناً بين تحقيق فيلم وتحقيق آخر، سابقاً؟ 

} سابقاً، كان هناك جَلْدٌ للنفس. لا تنسى أني كنتُ أواجه دائماً صعوبات شتّى لتحقيق أفلامي. لم يعد لديّ جَلَدٌ على ذلك. تقدّم العمر، ولم يعد هناك وقتٌ طويلٌ لخوض مواجهات وتحدّي صعوبات. لذا، عندما تنضج المسألة وأرتاح إلى إنجاز المشروع، سأشتغله.

السفير اللبنانية في 24 فبراير 2012

يبدأ بتحقيق الفيلم ليدرك متأخراً أنه حبس الشخصية أو الفيلم كله في مكان واحد 

شريف البنداري: أرى أن هناك دائماً بصيص أمل ينبغي التمسك به

نديم جرجورة

الفيلم الأول الذي لفت انتباهي إلى جمالية اشتغاله البصري، حمل عنوان «صباح الفلّ». لم يكن حضور التونسية هند صبري فيه ممثلة وحيدة لتسع دقائق سبب ذلك فقط، مع أنها بدت لي ممثلة متكاملة وحيوية في توهانها داخل دائرة مغلقة عليها. لم يكن التزام مبدأ «وحدة المكان والزمان» ركيزة درامية للفيلم القصير هذا سبباً آخر فقط. إنه العالم المتكامل الذي صنعه مخرج شاب يُدعى شريف البنداري (مواليد القاهرة، 29 أيلول 1978)، جعل الكاميرا عيناً متلصّصة على الذات الفردية، ومنفتحة على متاهاتها وآلامها وتمزّقاتها وأسئلتها. ثم جاء «حظر تجوّل» (ضمن الأفلام العشرة لـ«18 يوم»، المُنجزة بوحي عفوي من «ثورة الخامس والعشرين من يناير») و«في الطريق لـ... وسط البلد». بعدهما، تسنّت لي مُشاهدة «ساعة عصاري»، المُنجَز مباشرة بعد «صباح الفلّ». بهذا كلّه، تكوّن لديّ انطباع بأن ما أشاهده من اشتغال احترافي في معاينة الذات الفردية هذه، مبنيّ على جمالية الصورة السينمائية في التقاطها النبض الإنساني، أو في معاينتها المخفيّ بين الذات ونفسها، أو بين الذات والآخر.

حضور هند صبري بأدائها الجميل في «صباح الفلّ» (تظنّ المرأة أن اليوم «يوم عمل عاديّ»، قبل أن تنتبه إلى أنه «عطلة نهاية الأسبوع». لكن الاختصار هذا ركيزة درامية للبحث في مسائل الذات وعلاقتها بنفسها، وسط حصار القلق والتمزّق والتوهان)، تساوى والحضور البهيّ للراحل صلاح مرعي، الفنان المتخصّص بالديكور والعمارة، في «ساعة عُصاري» (الرجل العجوز متألم بصمت لحالة الحصار المقيم فيه، وإن عاش مع زوجته في منزل واحد. والابن القادم إليهما وحفيدهما مفتاح إضافي للغرق في عالم الشقاء الروحي والألم الذاتيّ). تساوى أيضاً، إلى حدّ كبير، وحضور أحمد فؤاد سليم في «حظر تجوّل» (جدّ وحفيده محاصران في الشوارع الخاضعة لمنع التجوّل، وباحثان عن منفذ ما للوصول إلى المنزل). كأن الحرفية التمثيلية لصبري متناغمة وعفوية الأداء لمرعي. متناغمة أيضاً وحساسية التمثيل لدى سليم. أو كأن عين المخرج الشاب أقدر على إزالة العفوية لمصلحة الأداء الحسّاس، أو على تخفيف حرفية التمثيل لمصلحة عفوية اعتادت صبري الارتكاز عليها في تقديمها شخصيات متناقضة. بهذا، تبدّت حرفية شريف البنداري، الذاهبة به إلى نقل «وحدة المكان والزمان» إلى فيلمه الروائي القصير الأخير «حظر تجوّل» (تمثيل سليم والصبي علي رزيق)، في ظلّ «ثورة الخامس والعشرين من يناير». لكنها وحدة مفتوحة على أسئلة الحصار والمنفى الداخلي والتواصل مع التبدّل الخارجي، الذي يُفترض به ربما أن يبدأ في الداخل الفردي. أما الوثائقي الجديد «في الطريق لـ.. وسط البلد»، فبحث بصري في الآنيّ، بالعودة إلى جماليات الماضي.

الحوار التالي مع شريف البنداري محاولة لتفكيك البُنى الصانعة أفلاماً قصيرة ووثائقية، بانتظار البدء بتحقيق مشروعه الجديد، المتمثّل بإنجاز فيلم روائي طويل، سيكون الأول لمخرج شاب تخصّص أكاديمياً بالفنون التطبيقية (قسم النسيج)، قبل متابعته دراسة جامعية في «المعهد العالي للسينما»، وتخرّجه منه في العام 2007

·         ما لفت انتباهي في فيلميك الجديدين «حظر تجوّل» و«في الطريق لـ... وسط البلد»، من بين أمور أخرى طبعاً، كامنٌ في طغيان الدائرة المغلقة على الأفراد. أي أن هناك حصاراً ما، نفسياً ومعنوياً ومادياً، يمنعهم من بلوغ ما يريدون الوصول إليه أو تحقيقه. الدائرة المغلقة موجودة أيضاً في «صباح الفلّ»، ومتمثّلة بحصار جدران المنزل (هل هي جدران النفس والذات والروح أيضاً) للمرأة (هند صبري) التائهة داخل بيتها. هناك أيضاً «ساعة عصاري» (تمثيل صلاح مرعي وباسم السمرة والطبيبة والناقدة السينمائية سهام عبد السلام). كيف تُفسّر هذا الأمر؟

أنجزتُ «صباح الفلّ»، أول أفلامي القصيرة، في العام 2006، تلاه «ساعة عصاري» في العام 2007. منذ ذلك الحين، أتشوّق للخروج بشخصياتي إلى الشارع لتصويرها فيه. أحد الأصدقاء كان يمزح معي دائماً بقوله إن أفلامي «خرجت» إلى دول عدّة في العالم، مع أني لم أصوّر لقطة واحدة خارج الاستديو. في الحقيقة، الموضوع يستهويني منذ البداية. أبدأ بتحقيق الفيلم، فأدرك متأخراً أن الشخصية، بل الفيلم كلّه، حبيس المكان الواحد. بالتأكيد هذا أمر غير مقصود. لكن، بالتأكيد أيضاً أن الحدث الدرامي في الفيلمين هذين لا يحتمل الخروج من المكان الواحد المغلق لأي سبب من الأسباب. ما يسيطر دائماً على الشخصيات، وربما عليّ أنا أيضاً من خلال الشخصيات تلك، هو حالة البحث الدائم و المحموم. كل شخصيات أفلامي في حالة بحث دائم. في «حظر تجول» تصوّرت واهماً أني خرجت بشخصياتي إلى الشارع. غير أني أدركتُ، بعد انتهاء الفيلم وعرضه، أن الشارع هو سجن الشخصية. فعلى الرغم من الاتّساع الضخم للشارع حول الشخصية، إلا أن هذه الأخيرة لا تزال سجينة الخلاء هذا. أن الشخصية في حالة بحث عن الطريق إلى المنزل أيضاً

بالنسبة إلى «في الطريق لـ... وسط البلد»، الأمر مختلف. السبب مختلف أيضاً: منذ البداية، اخترت تحقيق فيلم عن المكان (وسط البلد في القاهرة) من خلال شخصيات الفيلم. أو تحديداً من خلال العلاقات المختلفة للشخصيات بالمكان. لاحظت أن فكرة الحصار من الأفكار المسيطرة عليّ بشدّة أثناء تناولي الشخصيات. سلسلة متوالية من الإحباطات والانكسارات التي تواجه الشخصيات في رحلة بحثها عن المدينة، وعن أمكنتها في المدينة. الشخصيات كلّها دائرة في دوائر مغلقة داخل المكان الواحد الضيّق (وسط البلد). قد تتقاطع دوائرها أحياناً، وتتوازى أحياناً أخرى، إلا أن المؤكّد هو أن تراكم العلاقات هذه، وتجاور بعضها مع البعض الآخر وتقاطعها، شكّلت نسيج المكان (وسط البلد). وبحكم طبيعة الفيلم الوثائقي، لم أكن لأندفع إلى تنفيذ الفيلم على النحو هذا، لولا شعوري بأن لدينا، معظم شخصيات الفيلم وأنا، الشعور نفسه تجاه المكان.

تفاوت

·         بالإضافة إلى هذا، أو على الرغم من هذا، هناك شعورٌ بأنك ذاهبٌ بشخصيات فيلميك الجديدين إلى نوع من أمل، سواء كان مبطّناً أم مباشراً: انبثاق الفجر (هل هو فجر جديد؟) في نهاية «حظر تجوّل»، أو ثقوب عدّة منتشرة في طيات الحبكة القصصية في فيلمك الوثائقي تسمح باختراقها نحو الأفضل. أم أن هذا كلّه مجرّد أوهام، أو التباسات معلّقة؟ 

في الحقيقة، هذه الملاحظة صحيحة تماماً. هذه ليست التباسات إطلاقاً. ينطبق الأمر نفسه بشدّة على «صباح الفل»: فكرة وجود المفتاح مثلاً. أو أن اليوم هو أساساً يوم عطلة، وما من داع للذهاب إلى العمل. أيضاً «ساعة عصاري» بشكل أو بآخر. أرى أن هناك دائماً بصيص أمل يجب التعلّق به. هذه قناعة شخصية أساساً. يجب افتراض أن هناك أملاً، وأن نصدق هذا كي نستمرّ. في الحقيقة، لم أكن أعنيه بشدّة في «صباح الفلّ» و«ساعة عصاري»، فهذان فيلمان مقتبسان عن عملين أدبيين. لم يكن هناك تعديل على النهاية الموجودة أساساً في النصّ الأدبي. لكن هذا، أصلاً، خياري السنيمائي.

مع «حظر تجول»، كنتُ حريصاً الحرص كلّه على نهاية متفائلة. أعتقد أنه مهمّ، في الوقت هذا تحديداً من تاريخ مصر، بثّ روح متفائلة لتقوية عزيمة شعب جَادَ بالكثير من أجل رؤية بلده في شكل أفضل. بثّ الروح المعنوية والدعوة إلى التفاؤل أمران مهمّان للاستمرار في المشوار الطويل الذي بدأ تواً. عموماً، وشخصيا، أرى الأشياء بهذا الشكل دائماً. أرى هذا الضوء في نهاية النفق دائماً.

·         ما الذي دفعك إلى اختيار جدّ وحفيده في «حظر تجوّل»؟ لا يمكن التغاضي عن إسقاط كهذا حاضر في السؤال التالي: ألا يُمثّل الجدّ جيلاً قديماً خضع لابتزاز السلطات، وبدا واضحاً في عجزه عن كسر الحصار، في حين أن الجدّ هذا بلغ «الفجر الجديد» بفضل رفقته وحفيده، أمل المستقبل والتغيير؟ 

فكرة التفاوت أو فقدان القدرة على التواصل بين جيلين لطالما عنتني شخصيا. لها صدى واضح في «ساعة عصاري» أيضاً. إلى حدّ كبير، تفسيرك للتفاوت بين الجيلين صحيح. لكن، في حالة الجَدّ، ليس فقط العجز. الجَدّ منتم إلى جيل خائف، والحفيد إلى جيل لا يعرف معنى الخوف. لا أقصد بهذا «شجاعة»، بل إنه فعلياً لا يعرف معنى الخوف. الخوف فعلٌ لم يتدرّب عليه. انكسارات عدّة تعرّض لها الجَدّ، ابن جيل الستينيات والسبعينيات في مصر، جعلته يخشى فكرة النزول إلى الشارع مثلاً. إنه باختصار رجل منتم إلى جيل تربّى على ثقافة الخوف، وشاءت الظروف أن يتورَّط مع حفيده في رحله ليلية «افتعلها»، تحديداً ليلة الحادي عشر من شباط، في شوارع مدينة السويس. الحفيد لا يخاف، ولا يفهم معنى الخوف. ينطلق بعفوية وبراءة، وربما بشجاعة مباشرة، إزاء ما يريد، كي ينجح في تحقيق ما يريد

من أنجح الأشياء التي قام بها النظام السابق في مصر، تربيتنا على ثقافة الخوف، وبالتالي قتل القدرة على الحلم. من هنا، كانت هزيمة جيل بأكمله، وقتله بخوفه. الثورة قامت في مصر بفضل جيل لا يعرف معنى الخوف هذا، أو بالأصحّ أقول إن آليات الخوف التي استخدمها النظام مع الأجيال السابقة، ونجحت في تحقيق مرادها، لم تستقم مع الجيل هذا. الجيل هذا الذي أعتقد أن لديه قدرة غير محدودة على الحلم.

·         ثنائية المكان الواحد والزمان الواحد حاضرة في فيلميك القصيرين «صباح الفلّ» و«حظر تجوّل». ما دافعك إلى هذا؟ ما الذي يعنيك في البقاء ضمن إطار مكاني واحد وزماني واحد؟

كما قلتُ لك في الإجابة عن السؤال الأول، فإن وحدة الزمان والمكان موجودة في «ساعة عصاري» أيضاً. لا أعتقد أن لديّ ما أضيفه على الإجابة تلك على السؤال الأول. إلاّ أني أرى أن وحدة الزمان والمكان لها علاقة وطيدة بحصار «زمكاني» للشخصية، التي ينعكس عليها نفسياً ومادياً ومعنوياً. أعتقد أن جزءاً من الموضوع هو الموقف. فأنا أميل عادة إلى الفيلم القصير، الذي يتناول قطاعاً عرضياً من الحياة اليومية للشخصية، أو لمحة من موقف في الحياة اليومية العادية جداً والبسيطة. هذا التناول يتلازم عادة ووحدة الزمان والمكان. إنه ليس هدفاً، بقدر ما هو ارتباط وثيق بنوعية أفلام قصيرة أحبّها. هو نوع من الدراما خاص جداً

برأيي، ليس السؤال «ماذا يحدث»، لأن المهم «كيف يحدث».

أدب وسينما

·         هناك أيضاً قلّة عدد الممثلين في أفلامك الروائية القصيرة. لماذا؟ أهي استجابة للمدّة القصيرة للفيلم القصير، أم تمرين على التكثيف الدرامي والجمالي، أم حاجة النصّ بحدّ ذاته، أم نقص في التمويل/ الإنتاج، أم تدريب على علاقتك كمخرج بالأداء التمثيلي وبإدارة الممثلين؟ 

بالتأكيد هذا أمر غير مقصود. النصّ بحدّ ذاته يستلزم هؤلاء الممثلين. لكن، مع كل فيلم، أقرّر أن أتعلّم شيئاً جديداً. أو بشكل آخر، أخضع لامتحان معيّن لذاتي في ما يخصّ علاقتي بالممثل بالذات. خبرة التعامل مع ممثلة محترفة ذات درجة عالية من الذكاء والموهبة كهند صبري مثلاً في «صباح الفلّ»، وأنا لا أزال حينها طالباً في «معهد السنيما» أحقّق أول أفلامي، هذا كلّه بحدّ ذاته اختبار وتجربة أحببت خوضهما والتعلّم منهما. وهذا على تناقض تام مع «ساعة عصاري»: الفيلم والدور من وجهة نظري محتاجان إلى ممثل غير محترف، أو بالأحرى «لا ممثل». محتاجان إلى شخص لا يُقدّم نفسه كممثل أساساً. هذا فرق كبير. من هنا، كان اختياري للرائع صلاح مرعي. لكن، عموما، أتمتّع بعلاقتي بالممثلين، وأشعر أنها لعبة أكثر من كونها جزءاً من المهنة، أو جزءاً من دوري كمخرج.

·         «صباح الفلّ» مقتبس عن نص «الاستيقاظ» للإيطالي داريو فو. «ساعة عصاري» مقتبس عن «آخر النهار» للمصري إبراهيم أصلان. ما الذي يستهويك في النصّ الأدبي، رواية أو مسرحاً؟ هل الأدب يمنحك منافذ أخرى للبوح الذاتي عمّا تريد قوله أو تشعر به؟

الغريب أن في الفيلمين جانبٌ ذاتيٌ كبيرٌ يخصّني. في الوقت نفسه، النص الأصلي للقصّة، أو الجزء الملهم من القصة، مأخوذ من نصّ أدبي. الهاجس الذي شغل بالي منذ البداية، أي قبل نحو ستة أعوام، كامنٌ في رغبتي في صناعة ثلاثية مؤلّفة من ثلاثة أفلام قصيرة بعنوان «ثلاثية اليوم» («صباح الفلّ»، «ساعة عصاري» و«بالليل»)، عن ثلاثة أشخاص في حياتي، هم: الأم، الأب والحبيب. الأفلام تتناول بشكل أو بآخر علاقتي بهم. تمّ إنجاز الفيلمين الأوّلين، وتحوّل الثالث إلى فيلم طويل لا يزال في مرحلة الكتابة لغاية الآن. من هنا، تمّ التلاقي بين النصوص الأدبية وما أرغب في البوح به

بمجرّد قراءتي «آخر النهار» قصّة إبراهيم أصلان، وجدت أن فيها جانباً خاصاً جداً يخصّني. من هنا، أخذت النصّ الأدبي لكونه متعلّقا برجل عجوز، يشعر بقِصَر قامته (بكل ما يحمله هذا من دلالات أدبية). لرجل عجوز يشعر بقِصَر قامته أمام ابنه (بكل ما يحمله هذا من دلالات أيضاً). صنعت فيلماً يخصّني، عن نصّ أدبي ليس لي. أما «صباح الفلّ» أول أفلامي فهو مسرحية شاهدتها على خشبة المسرح منذ نحو عشرين عاماً، عندما اصطحبني أبي طفلاً صغيراً لمشاهدة عرض مسرحي صغير لإحدى الفرق المسرحية الحرّة، من بطولة الفنانة عبله كامل. كان قالباً مسرحياً غريباً عليّ حينها، إلاّ أنّي لا أزال أتذكّر المسرحية، التي عثرت فيها على جانب شخصيّ يخصّني. لذا، قرّرت أن تكون أول أفلامي القصيرة

عموما، أقدِّر جداً اعتماد السينما على الأدب، وأحبّه. أرى أنه قالبٌ سنيمائيٌّ خاصٌّ جداً، وصعبٌ جداً، وقلما ينجح. لكن، هناك تجارب كثيرة ناجحة، على رأسها «الكيت كات» (1991) لداود عبد السيّد (عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان أيضاً)، الذي يعتبر نموذجاً عن كيفية تعامل السنيما مع النصّ الأدبي.

عن التنوّع أيضاً

·         تناولت في الوثائقي الأخير لك «في الطريق لـ... وسط البلد» أموراً عدّة: الذاكرة وعلاقتها بالآنيّ، الآنيّ وعلاقته بالحراك الشعبيّ الأخير، العمارة وعلاقتها بتخطيط المدينة، الشوارع كخلفية للحراك وكمرآة للعيش اليومي، العلاقات المتناقضة بين الناس، إلخ. ألم تُخاطر سينمائياً في اختيار عناوين عدّة دفعة واحدة، كل واحد منها محتاج إلى قراءة خاصّة؟ كيف بنيت الفيلم بعلاقته بالعناوين هذه: أثناء الكتابة، أم أثناء التصوير، أم أثناء التخطيط الأول، أم أثناء المونتاج؟ أسألك هذا وأنا منتبه في الوقت نفسه إلى أن المونتاج والتكثيف الدرامي/ السينمائي في سرد الحكايات معاً أفضيا إلى فيلم جميل وعميق في آن واحد.

العناوين العديدة هي الموضوع. التعدّدية والتنوّع والاختلاف جزء من نسيج المكان الذي أحقّق فيلماً عنه. اختيار شخصيات عدّة ومتنوّعة لها علاقات مختلفة بالمكان هو «اختيار» بالأساس. الطريقة التي وجدتها أنسب لتناول موضوعي وبناء الفيلم على هذا المنوال، اختيار مسبق إلى حدّ كبير. إلاّ أن تناول البناء هذا في غرفة المونتاج لم يتمّ عموما بحسب تصوّره الأول. تنفّس الفيلم كثيرا في غرفة المونتاج، وأُعيد تشكيله بطرق عدّة، إلى أن استقرّ على شكله النهائي، بعد حذف شخصيات وإضافة شخصيات أخرى، وما إلى ذلك. لم يكن الهاجس في البدايه عناوين عديدة، بل اقتناص روح المكان، ووضعها على الشريط. لم يكن الهاجس إطلاقاً صناعة فيلم «جامع مانع» عن «وسط البلد»، الذي لا يفتقد معلومة تخصّ المكان ولم يذكرها، بل على العكس كنت أهتم باقتناص روح المكان، أكثر من التعريف به.

·         لا تزال أعمالك متراوحة بين الوثائقي والروائي القصير. لماذا؟ هل يستهويك عملهما؟ 

طبعاً يستهويني العمل في المجالين هذين. أنا أعشق الأفلام القصيرة. لكنّي أعشق أيضاً كل أنواع الأفلام. بالأحرى أعشق القالب الذي يناسب الفيلم. قد يكون موضوعي هو القالب الأنسب لتناوله في فيلم روائي طويل. هذا ما تمّ فعلياً في مشروعي الحالي «بالليل»: كان فيلماً قصيراً، وعندما بدأت العمل عليه، وجدت أن الأنسب بالنسبة إليه هو أن يكون فيلماً طويلاً. الفيلم القصير قالب لا يمكنه احتواء الموضوع هذا. بالفعل، أعمل عليه كفيلم طويل الآن

عموماً، الفيلم القصير برأيي هو أكثر صدقاً وحقيقة، خاصةً في مناخ سنيمائي كذاك الموجود في صناعة السينما في مصر. بل دعني أقول لك إنه يمثّل السنيما المصرية في العالم بشكل أقوى وأهم من الأفلام الطويلة (وأنت تعرف هذا). لكنّي، عموماً، لست من النوع الذي يعتبر أن الفيلم الطويل خطوة مقبلة، يعمل المرء قبل خطوها في إنجاز أفلام قصيرة. إنه قالب خاص بحدّ ذاته، أحترمه جداً، وأتمنّى ألاّ أتوقف أبداً عن تحقيق أفلام قصيرة.

السفير اللبنانية في 24 فبراير 2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)