البحرين.. أفلام وفعاليات سينمائية

 
 
 
 
 

«غيــاب» و «مهملات»

دعوة لمشاهدة فيلمين جميلين من "أفلام قصيرة من الخليج"

بقلم: محسن الهذيلي*

 
 
 
 

فيلم

غياب

 
 
 
 
 
 
 

كان من بين حزمة الأشياء المفيدة التي قدمها مهرجان دبي السينمائي في دورته السادسة إلى الصحفيين قرصا مدمجا يحتوي عدة "أفلام قصيرة من الخليج"، وهي أفلام أنتج أغلبها في سنة 2008. ونتطرق في هذه الورقة إلى إثنين منها وهما فيلم "غياب" (2008) لمحمد راشد بوعلي (البحرين) وفيلم "مهملات" (2006) لعبد الله بوشهري (الكويت).

نبدأ بفيلم "غياب" (11 دقيقة) لنقول أن الفيلم لم يصور في الحقيقة الغياب كما نفهمه من هذه الكلمة وإنما الوحدة التي أمست مشكلة يعاني منها بعض الناس، لأن الغياب لغة يضمر الرجوع، وهذا لا وجود له في قصة الفيلم أبدا، ثم إننا حين نقرأ في جينيريك الفيلم أن السيناريو هو عن قصة للشاعر البحريني قاسم حداد وأن عنوانها "الوحيد لوحده" نتساءل عن جدوى تغيير هذا العنوان المناسب والشعري. هذا ونشير إلى أن بداية الفيلم - التي هي في الحقيقة نهايته- تؤكد ما ذهبنا إليه. فالفيلم من خلال جينيريكه يبدأ بلقطات لأوراق جافة تعبث بها الريح في زاوية من بيت مهجور (الذي هو في الحقيقة البيت الذي تجري فيه أحداث الفيلم)، بعد ذلك رأينا واجهة البيت على الشارع وبابها الحديدي الموصد، في الداخل شاهدنا أبوابا ونوافذا وجدرانا وأدراجا خربة مهجورة خالية من الحياة تماما، فـ"هجران" أصحاب البيت لبيتهم نهائي لا "رجوع" فيه وبالتالي فإنه ليس "غيابا".

من ثم ومباشرة بعد البداية-النهاية ونحن لازلنا في الجينيريك (وهذا من جماليات الفيلم) نمر إلى ما سبق ذاك الخراب من حياة للبيت: الزرع (نبتة البطاطا) وقد سقاه أصحابه الماء، الشجرة اليافعة والتي تشهد على العناية بها، العصفور في القفص يخبر عمن يطعمه ويسقيه، المروحة لتلطيف الجو وللشهادة بوجود حياة في البيت والجريدة لقضاء الوقت في القراءة ثم المشهد على الراديو. بعد ذلك يبدأ الفيلم مع حركة يد أحد أبطاله (الزوج) فتضغط على مفتاح الراديو لتصدر عنه إحدى الأغاني الشجية لأم كلثوم، وهو دليل الحياة والطرب والعواطف في البيت.

بعد هذا المشهد نرى شخوص الفيلم وهما زوجان "مسنان" أو هكذا يفترض أن يكونا، الزوج يقرأ الجريدة ويستمع إلى أم كلثوم والزوجة تطرز على قطعة قماش بيضاء. دون أن نسمع أي صوت من خارج هذه الجلسة لا نعرف كيف تولدت لدى الزوج فكرة أن باب الدار يطرق، حينئذ نهض وخرج ينظر من يكون الطارق، إلا أنه يعود أدراجه متعجبا، الزوجة التي كانت مستغربة تصرف زوجها أخبرته بأن لا أحد طرق الباب، ولكن الزوج أقنعها بأن الباب قد طرق لأن عدم ذلك غير معقول. من هنا جاءت فكرة خروج الزوج ثانية، وقبل أن يستعيد مقعده جنب الراديو ترك الباب مفتوحا على القادم المنتظر، الزوجة التي كانت مستغربة تصرف زوجها اقتنعت برأيه وأنه ليس لوحدتهم وعدم زيارة الآخرين لهم أي وجه عقل، وربما قالت لنفسها حينئذ "لعل المشكلة في!" وخرجت بدورها (ثالثا) لتتأكد، وعندما اقتنعت بعد أن ألقت بنظراتها على الخارج بعدم وجود زائرين، تركت الباب مفتوحا على مِصرعه ورجعت لتجلس في مكانها غير بعيد عن زوجها، هي تطرز وهو يقرأ جريدته ويستمع إلى أم كلثوم والباب مشرعا.

الفيلم إذن هو هذه الثلاث رحلات (ذهابا وإيابا) بين الباب والمجلس الواقع في فناء البيت، وذلك دون كلام بين شخصيتيه إلا في المناسبة الوحيدة التي أقنع فيها الزوج زوجته بأن لابد أن يكون هناك أحد قد جاء لزيارتهم إلا أنهما لم ينتبها إليه.

قصة فيلم مهملات (6 دقائق) هي قصة اجتماعية وليست إشكالية أو "وجودية" كما هي قصة فيلم "غياب" الذي يتطرق هو الآخر إلى ظاهرة اجتماعية لها علاقة بحياة المسنين وعزلتهم في المجتمع البحريني أو ربما بشكل عام.

تصف حكاية فيلم "مهملات" واقع التشرذم والقطيعة الذين باتا يحكمان العلاقات الأسرية أو الزوجية في المجتمع الكويتي بحيث يقضي بعض الأزواج أوقاتهم في معاكسة النساء وتقضي بعض الزوجات أوقاتهن في الترويح عن أنفسهن باستقبال معاكسات الرجال لهن من خلال الرسائل النصية التي يحملها إليهن "المحمول". داخل فضاء الأسرة ذاته يصور الفيلم بعض الممارسات غير السوية مثل تعاطي الزوج للمخدرات وظلم الزوجة في تعاملها مع الخادمة التي تعتبرها مثل عبد مملوك، وهذا المفهوم ربما لا يكون بعيدا عن مقاربة الزوج لهذه المخلوقة التعيسة - كما يشير الفيلم بإيحاء سينمائي لطيف- فالزوج ربما يتعامل معها كـ"أَمَةٍ" يضاجعها حين يشاء. أما خارج حدود هذه الأسرة أو على تخومها، في المجتمع، نلتقي بـ"مظاليم" آخرين مثل ذلك الشخص الذي يقضي وقته ينقب في القمامات ويعيش على البقايا وكذلك بائعة المتجر التي ينظر إليها بعض الرجال المعاكسين كامرأة غير مستقيمة تستخدم محل عملها لإغراء الرجال واصطيادهم.

بعد هذا التقديم لملخص الفيلمين نقول منذ البدء بأن "غياب" و"مهملات" هما فيلمان ناجحان على أكثر من مستوى وأن من بين ما يتميزان به جمالية لقطاتهما وسلاسة إيقاعهما ونجاح مخرجيهما في إدارة ممثليهما، كما يتميز الفيلمان بجمال سيناريوهما. ونشير هنا إلى ظاهرة إيجابية جديدة بتنا نراها في الأفلام الخليجية القصيرة في الفترة الأخيرة وهي استقطابها لممثلين محترفين يتقنون التمثيل أمام الكاميرا، وقد ساهم ذلك في إنجاح عدد أكبر من الأفلام. ويعكس ذلك من جهة أخرى حسب رأينا نوعا من النضج لدى عدد من المخرجين الخليجيين الشبان.

ففي فيلم "غياب" كان أداء عبد الله ملك (الزوج) جيدا وقد استعمل امكاناته التمثيلية ببراعة وذلك للتعبير عن شكه وعدم ارتياحه، مشيته بين المجلس الواقع في فناء بيته وباب الدار الحديدي كانت حقيقية. الممثلة شيماء الكسار (الزوجة) كان أغلب أدائها في نوع نظراتها التي كانت تعكس استغرابها واستفهامها حول سبب ضيق زوجها وحركته بين المجلس والباب.

في فيلم "مهملات" كان أداء أحلام حسن (الزوجة) مبدعا جدا وقد ركز المخرج عن وعي بتعبيرية وجه ممثلته التي كانت تخبر بالتحريك الخفيف لرأسها أو لإحدى عناصر وجهها أو بنظرتها المتأملة والمتفكرة، عن كل ما تريد إيصاله للمشاهد من أحاسيسها، وقد رأينا هذا الأسلوب التمثيلي في المشهد الذي كانت مستلقية فيه مسلمة نفسها إلى خادمتها وهي تستمتع بعنايتها بأصابع قدميها ومتابعة بفرحة واهتمام زائدين الرسائل النصية المعاكسة التي كانت تستقبلها، هذا المشهد كان معبرا وممتعا وجميلا.

أحلام حسن (الزوجة) رأيناها أيضا في مشهد آخر جميل حين قسم المخرج إطار صورته نصفين، نصف جعله للزوج (أحمد السلمان) وحياته الخاصة والمنعزلة حتى وهو في بيته حيث يتعاطى المخدرات؛ ونصف جعله للزوجة وهي مستلقية تستقبل رسائلها النصية كالعادة فرحة ناظرة، كان أداء أحمد سلمان في هذا المشهد عفويا وأنيقا وكان أداء أحلام حسن ملفتا للنظر.

أحمد سلمان رأيناه في مشهدين آخرين، مشهد أمام السوبرماركت ومشهد أمام بيته. في المشهدان كان أداؤه حقيقيا وعميقا. دور المخرج وإدارته للممثل في مشهد دخول البيت كان ظاهرا فنظرة أحمد السلمان (الزوج) إلى أعلى تجاه بيته ثم إلى جهة الشارع عبرت عن تردده وضيقه من ملاقات زوجته، كما زين ذلك اللقطة. في المشهد أمام السوبرماركت وأثناء معاكسته للبائعة بدى أحمد السلمان متقنا لهذا الدور، وقد قابلته الممثلة "باتيا" بحُسن الأداء وعفويته. المخرج في هذا المشهد كان موفقا، حيث أرانا من خلال لقطة واحدة ممتدة الإثنان خارجان من المتجر يلاحق الزوج البائعة وقد انعكست على زجاج المحل صورة الموقف المقابل المكتض بالسيارات، وهو ما أعطى فكرة متكاملة عن المكان وأثث إطار الصورة وعبأها. لم نسمع من الحوار في هذا المشهد إلا صفير الزوج إلى البائعة وهي تظهر ممانعتها، وكان ذلك كافيا لنتعرف على مضمون تلك الملاحقة.

بقي الآن من الفيلم ثلاث مشاهد تقريبا لم نتحدث عنها، واحد استهل به المخرج أحداث فيلمه وهو مشهد الشارع المؤثث بضجيج إحدى السيارات ومواء تلك القطة الصغيرة الماكثة على الرصيف، الربط بين صورة القطة ومرور ذلك المنقب في القمامة في مشهد الشارع أوحى بالمقارنة بينهما في عيشهما على الهامش واقتياتهما من بقايا الآخرين و"مهملاتهم".

هناك أيضا المشهد الأخير في الفيلم الذي أكد من خلاله المخرج على هذه الوضعية فقارن في هذه المرة بين المنقب على القمامة وذاك الصبي الذي خلق "بدون" ووجد نفسه منذ أيامه الأولى في "المهملات". الخادمة التي هي إحدى أولئك المهمشين رأيناها كيف استقالت السيارة - بعد أن وضعت الصبي في المزبلة- مع غريب آخر لتخوض مغامرة أخرى استرقت إليها نفسها فجرا والناس نيام.

بقي الآن مشهد هروب الخادمة من البيت فجرا، ولقطة الترافلين من داخل البيت في مشهد على الخارج والشارع والتي كانت من أجمل مشاهد الفيلم رغم أن المخرج قد أخفق حسب رأينا في تكرار منظر الزوجة وهي "مرمية" على فراشها، كنا نود لو انتهت حركة الترافلين الوئيدة بين النافذة الأولى والثانية إلى وصول الخادمة إلى الشارع والتحاقها بالسيارة التي كانت تنتظرها وذلك دون قطع باللقطة التي ذكرنا.

بقي أن لي ملاحظة على جينيريك آخر الفيلم حيث أتساءل مستغربا ما هي يا ترى المقاييس التي اعتمدها المخرج عبد الله بوشهري ليقدم اسم الصبي الذي لم يتجاوز الحول من العمر على أسماء بقية الممثلين الآخرين في الفيلم (من غير بطليه) وخاصة البائعة (باتيا) والخادمة (ليتا)!؟

الإبداع في إخراج فيلم "مهملات" لم يخلو منه فيلم "غياب" لمحمد راشد بوعلي، ففي البيت التقليدي القديم ذو الفناء الصغير، وفي سعي الزوج ثم الزوجة بين المجلس الواقع في الفناء وباب الدار أعاشنا المخرج أحداثا سينمائية عديدة ربطها بالتعاطي تمثيليا مع أدوات التطريز لدى الزوجة ومع الجريدة والراديو وتلك الشجرة الواقعة في الفناء لدى الزوج، فأوراق الشجرة التي تساقطت على هذا الأخير حين غدوه ورواحه استوقفته مرتين مرة ليجمعها ويضعها في حوض الشجرة وينفض يديه مما علق فيها منها ومرة ليتأملها على الأرض ثم يتركها ويمر (الذي عمق من البعد الدرامي لهذا الموقف تغيير المخرج للموسيقى إلى موسيقى شجية وأكثر حزنا). وفي لقطة من فوق -عبر أعلى رأس الزوج المتوقف - خيل إلينا أننا نطالع الورقة الساقطة بعين الشجرة، وأحسسنا وكأن المخرج قد أعطى للشجرة دورا تمثيليا زيادة عن دورها في سيناريو الفيلم وديكوره.

إيقاع فيلم "غياب" كان سلسا كما قلنا - وذلك بتكامل زمن اللقطات فيه مع زمن تركيبها- إلا في مناسبة واحدة، وذلك عند خروج الزوج في المرة الأولى، فبعد أن قطع الفيلم على غلقه للباب من جهة الشارع، جاءت الصورة التي تليها من جهة الداخل دون حركة فرأينا الزوج جامدا غير متحرك، الأمر الذي خنق حركته نوعا ما، كنا نود لو أن الصورة قد ركبت حين حركة الزوج وليس قبلها لضمان تواصل حركة إيقاع الفيلم. وهذه ربما تكون المشكلة الوحيدة التي تسبب فيها محمد جاسم الذي أتقن عمله.

بالنسبة للصورة فقد كانت جيدة عموما وقد وفق عبد الله رشدان في تأطير صوره أيما توفيق، المشكلة الوحيدة هي أن الضوء والبياض قد غمرانا في فناء البيت حين الدخول والخروج، فمنذ الدخول الثاني للزوج وكذلك حين خروج الزوجة غابت بقع الضوء والظلال من فوق الجدران. في مشهد الدخول الثاني للزوج كان وجه هذا الأخير كالمعلق في البياض، أي كانت صورة الوجه دون خلفية حقيقية أو دون فضاء.

في الختام أقول بأن فيلمي "غياب" (2008) و"مهملات" (2006) لمحمد راشد بوعلي وعبد الله بوشهري على التوالي هما إحدى أجمل الأفلام الخليجية القصيرة التي شاهدناها[1] إلى جانب فيلم "بقايا طعام" (2008) لموسى جعفر آل ثنيان[2].

هوامش:

[1] أتحدث هنا في حدود ما شاهدت، ولقد طلبت عدة مرات من مخرجين خليجيين أن يرسلوا إلي بعض أفلامهم القصيرة المحرزة على جوائز لأراها فكانوا يعدونني ولكن لا يفون بعهودهم.

[2] أنظر مقالنا: ""بقايا طعام" أحسن فيلم خليجي"، موقع راصد، الرابط:

http://www.rasid.com/artc.php?id=21045

*باحث وانثروبولوجي تونسي

موقعVisionary FX   في 31 مارس 2010

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)