باكورة الجورجية ديا كولومبغَشفيلي "بداية" (125 د)
مليئة بالشياطين.
نلتقيهم مع نيران جامحة تُصيب الهيكل المعزول لطائفة
شهود يهوه المسيحية اللا ثالوثية عند أطراف بلدة
ريفيّة جبليّة في ضواحي العاصمة تبليسي (هي مسقط رأس
المخرجة)، إثر هجوم متعصّبين، يثير رعب مؤمنيها
وظنونهم.
لن نرى أولئك الأبالسة المهاجمين، لأنهم تحصَّنوا
بالخارج وأَدْبَرَوا. رموا قنابل مولوتوف إرهابهم
وأختفوا، بيد أن ضِرَام دناستهم لقاعة الملكوت الشديد
البياض والخالية من أيّ علامة عقائدية، ينال بالأساس
علاقة زوجين شابين، هما ديفيد راعي الكنيس وزوجته
الشابة يانا المكلفة بالأطفال ومعمودياتهم.
****
قبل هذه الغارة، نشارك الحاضرين سماعهم حججاً حول
الإيمان والخطايا والوعد والعقيدة والتنوير والعصمة
و"أوقات النهاية". موعظة لا تكتمل، يقوم بها المبشر
الشاب مستنداً الى حكاية النبي إبراهيم، وطلب الربّ
منه تقديم ابنه إسحاق قربان إثبات يقينه وولائه
الإلهي، أو كما تُعرَّف إحدى السيدات قصّة الإنجيل
وعِبرتها إنها "إختبار كي يجعل إيمانه أقوى". هذا
تفسير يسعى اليه اللاهوتيون للتفريق بين إخلاص مُنقَّى
للنعمة، ونقيضه من تعصَّب أعمى.
تأتي النيران لتحقق معادلة بشأن غَشْم وقِسط، بين
وَجسْ وأَمان، بين رَدَّة عائلية وسوءة مجتمعية ضمن
معادلة جغرافية مضغوطة، حدودها بيت ديفيد ويانا
وطفلهما غيورغي، الذي يصف والده مجموعته من العاقين بـ
"الشياطين الصغار"، ومحيط قروي باهر الطبيعة، يكون
لاحقا موقعاً صارخاً لجريمة إغتصاب الأم الشابة على يد
غريب طرق بابها، وهي وحيدة، ليُحاصرها بفِرْيَة
ملّتبسة، لم تتمكّن من إيجاد قوّة إيمانها كي تصدّها،
وتبعد رداها عن براءتها وإنسانيتها.
فيلم ديا كولومبغَشفيلي (ضمن الأختيار الرسميّ لمهرجان
كانّ السينمائي 2020، والمتوفر على منصة موبي بدءاً من
29 يناير 2021) لن يُقارب الدين وقداساته وتقواه. ليس
شأنه محاكمة نساكه ومتزهديه وخاشعيه. قطعاً، هو ليس عن
فئة ما وإسلوب تعبَّدها وطقوسه. نعم، يفتتح الشريط
مشهدياته داخل كنيسة بيد أن مذمَّته السينمائية
تتجمَّع حول عالم أخر من فزع ذاتيّ، يطوَّق بلؤم
وخِسَّة مَيْسَرة أسرية تعيشها يانا.
تشعل نيران الهجوم دوافع أخرى في كيانها، وتطلق
تساؤلات جسورة بشأن خيبتها من أبوَّة دينية، يمارسها
الزوج ديفيد (كاتب السيناريو المشارك راتي أونيلي)
كضغينة ضدها، وحصاره المتزمت الذي "قتل" فيها روح
الإبداع كممثلة واعدة سابقة، ما يدفعها عميقاً نحو
خيبة أمل من مغازي حياتها ونيَّات وجودها وبرَّ
عواطفها.
ما كان يمثل فردوساً أرثوذكسياً لها وعائلتها، يتهاوى
على صعيدين متزامنين. الأول، يمسّ علاقتها بديفيد
الغارق بمحنتي خضوعه لمصالح أمن، تطالبه بحذف أشرطة
فيديو مراقبة سجلت وجوه المعتدين، درءاً للفتنة...
"طلبوا مني تهدئة الأمر"، يقول بحيرة. وسعيه الى إيجاد
بدائل مالية تُعيد بناء ما أحترق، إستمراراً للعظات
الدينية وكأن شيئاً لم يحدث، درءاً للشماتة.
الصعيد الثاني، يطاول مهادنتها لنفسها وإرتدَّادها عن
طموحات كادت ذات يوم أن توصلها الى شهرة من نوع أخر.
تكشف نيران الهجوم عن لا عدالة عاشتها يانا من دون
تبرّم أو ظنَّة. دارت حياتها حول تعهُّدها الى مذبحها
الشخصي، من دون أن تستل سكينها، وتوجه نَّصلها الى
عنقها كي تُصدق خلاصها، وتُنهي حصارها المتوافر في
كُلَّ مشهد من شريط كولومبغَشفيلي، بدءاً من تشكيله
البصري المعتمد على شاشة عرض أكاديمية مربعة
(قياس1:33)، توحي بعُسْرين مكاني وأخلاقي، ولقطات
ثابتة طويلة وشديدة البطء، تورية على زمن لا متحور
للبطلة. هذان العنصران يتكلَّفان بشحن الشريط بوفرة
كآبة رمزية لحياة هامدة، إشارتها الباهرة تظهر في مشهد
إفتتاحي حيث نرى يانا تقف وحيدة ومتأسَية وملتاعة عند
شجرة باسقة. أناقة ملابسها لا تتوافق مع جلسة الكدر
التي تنهار فيها فجأة، وهي جلسة تعود مرة أخرى على
شاشة المقطع الأخير، لتوكد ما إِنْتَوَت عليه الأم
الشابة.
****
قبل هذا، تصوَّر مخرجة "مساحات خفية" (2014) مشهداً
شديد القسوة، يجري داخل غرفة ذات إنارة حياديّة خافتة.
الحيّز فيها مرصود بزاوية واحدة، وضمن مقاس لقطة قريبة
ومستمرة، تعكس وجهة نظر محددة، تصوَّب نيرانها بأَنَاة
الى قلب مقت دفين، تتصاعد خصوماته بين زوجين. الرجل
بنقمته: "إنتشلتك من الحضيض. تعاقبينني لأنك ممثلة
فاشلة"، و"أنت مصرّة على تدميري". المرأة بجزعها: "لا
أستطيع الإستمرار هكذا. الأيام تمضي ولا أشعر بوجودي".
حين يُمعن ديفيد على إن "كل ما أحتاجه منك هو دعمك"،
توضح له بغموض علَّتها التي يُسفهها لاحقا كمعاناة
نفسيّة: "أنظر الى المرآة، وأرى فيها شخصاً غريباً".
ما أرادت البطلة التعبير عنه هو وحشتها المتعاظمة
ويأسها، إيمانها المتلاشي وإرتيابها، هزيمتها الحتمية
وظنونها. لن يلتفت ديفيد الى تحوَّلها الداخلي, ذلك
إنها تنتظر سكيناً، ترفعها يد كائن دخيل، تحوّل
المساحة الصغيرة لديوان ضيوف منزلها المتواضع الى مذبح
كونيّ لكرامتها ونبلها وناموسها وإلهامها.
يقتحم ذلك الوافد، في المقام الأول، حِشْمَتها
كلاهوتية وزوجة. يدعي الشاب أليكس (كاخا
كينتسوراشيفيلي) إنه يسعى الى أجوبة حول الهجوم كمحقق
أمني، لكنه بدلاً من رصد الحقائق، يذهب نحو أسئلة
خصوصيّة شائنة، تتعلق بحياتها الجنسية مع زوجها، بل
ويرغمها على ترديد جمل فاحشة، ويسحب يدها كي تُمسك
بعضوه التناسلي، ويسألها إن هي شعرت بالخوف، فترد
بـ"نعم". المشهد برُمَّته لا علاقة له بخلاعة شخصيتين
غير متكافئتي القوّة. هو تدقَّيق درامي في "بداية"
جديدة لطويَّة ملعونة تقود يانا (إداء آسر من أيا
سوختاشفيلي) لاحقا نحو جحيم أخر بلا منتهى وأشدّ
هولاً.
شخصيّاً، لا أعتبر شريط كولومبغَشفيلي جندري النزعة
(أو نسوياً). صحيح، المرأة مركزه، لكنني أميل الى
الظنَّ أن مغزاه إعتباريّ (سائراً على منوال فلسفة
صاحب "ضياء صامت" (2007) و"زمننا" (2019) المخرج
المكسيكي كارلوس ريغاداس الذي يُشارك هنا كمنتج منفذ).
ان يانا هي جزء من منظومة، تتعرض الى تخريب مباشر في
مرونتها الإنسانية ورحمتها، ما تحتاجه هي جُذْوَة نار
كي تنفضح وتتعرَّى (حتى والدتها تشكّك بعفّافها،
وتسألها إن لها علاقة غرامية عابرة!). السؤال: هل هذه
الشخصيات الأربع كافية لتمثيل تراجيديا منمَّقة حول
نسبية الأخلاق؟. أين الغلط؟. زوج مهووس بـ"طموحاتي
وأهدافي"، وزوجة تُعلن من دون أن يلتفت رجلها الى
مكابداتها، إنني "أعاني من مشكلة ما. كما لو أنتظر
بداية أمر ما، أو نهايته". كائن على شفا هاوية، لا
يريد أحد إنقاذه. امرأة تستشعر التغيير، ولا أمرىء
يقودها الى مغفرة. خارطة كولومبغَشفيلي واضحة: أب وأمّ
تتجزَّعهما فتنة مُضمرة. مُتطفّل، نعرف لاحقا إنه لا
علاقة له بأيّ جهاز حكومي، يقطف حشمة سيدة معزولة
ويتوارى. أخيراً، غيورغي (سابا غوغيتشيشفيلي) المتمسك
بطفولته وخَفَرها، والمتسلّح بطهارته التي تُقرّبه من
الله. هؤلاء، ينتظرون الحاكم المتواري لهذه الخارطة كي
يطلق عنان فوضاه التي تستهدف عذابات صامتة، تهتك كيان
سيدة مغبُونة وتدحرها، بعد أن يغدر بها أليكس ويغتصبها
عند ضفة نهر، وسط بريّة خلابة.
****
كضحية مزدوجة بين زوج طاغية وجريمة رجل عابر، تترقَّب
يانا نداء خفيّاً من ذلك الحاكم كي تُفعّل نقطة
إنقلابها الشخصيّ. نرى تلك الإشارة في مشهد ثابت لكنه
مفعم بالحيوية، يحدث في الدقيقة الـ54، ويستمرعلى مدى
ست دقائق كاملة، تستلقي فيه يانا على أرض مخضوضرة،
تحيط بها أوراق شجر يابسة، ومصورّة بلقطة قدرية، بمسقط
علوي. لا نسمع سوى ضجة أصوات طيور، قبل أن تضمحل ويحلّ
بدلها إيقاع الهدير الداخلي للبطلة. في الدقيقة
الأخيرة، يشعّ ببطء نور ربّانيّ بهيّ على وجهها الغافي
بسلام.
في لقطة متوسطة تالية، تصوغ كولومبغَشفيلي رؤية سحريّة
خاطفة، تبدأ بوجه الطفل ناظراً بقلق الى ناحية يمينه،
تتبع كاميرة مدير التصوير الموهوب أرسيني خاتشاتوران
وجهة رؤيته المفترضة بحركة بان متريثة، لنراه راقداً
الى جوار "جثة" والدته، وهي إيماءة غامضة ومحاصرة
بضياء شمسي حنون وحلمي، تُلمح الى توقف مقبل للحياة
كما عاشتها، والى تلاشي أمل كانت تتمسك به عبر إيمان
خاو، يقودها الى عنف داخلي شديد، ضحيته وليدها الصغير.
"لقد قتلته"، تقول بهدوء لزوجها بعد أن سقت غيورغي
السُمّ. تعطي يانا ظهرها الى الكاميرا، فهي غير مطالبة
بتفسير جريمتها البشعة، لإن ما تفاداه النبي إبراهيم
بشأن حزّ رقبة ابنه، قايضه بكائن أخر، وأعلن قوّة
إيمانه. أما هي، فلم تمتلك إرادتها وصون ورعها أمام
إنهيارها الذهني وظلامه وتوقف زمنه، واجدة إن تكفيرها
الدنيوي أَيسَر بذبيحة "حب عائلي" مات في داخلها منذ
بدايته كما يبدو.
لن تتوقف الحُجَّة السينمائية لكولومبغَشفيلي حول معنى
الخلاص وتزكَّية الطاعة بخرس بطلتها، فهناك عقاب أخر
لكبش أخر، يقوم به ناموس طبيعي ضد أليكس الذي نلتقيه
في مشهد ختامي فنطازي، وهو في رحلة صيد مع زمرته، قبل
أن يتوجه الى الكاميرا، وينظر اليها بتعجب، وكأن قوّة
خارقة تأمره بتقديم نفسه قرباناً لإثمه. يطيع الأمر
ويتمدد فوق حقل مجدب. يتنفس بعسر، قبل أن يسري هباب
غامض في أنحاء بدنه، ويتحلَّل عبر فجوات الأرض، إفتداء
لنسل أقتلع جذره من الحياة عنوة. يعلن شريط "بداية"
بذلك شريعته الحقة: إن نهاية الزناة محكومة الى تراب
العدم الذي عليه أن يُنقي عالمنا الغارق بالإكراهات.
|