زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مالمو الثامن للسينما العربية - 2018

"وليلي" للمغربي فوزي بنسعيدي... كتائب الطّبقة الخائنة

بقلم: زياد الخزاعي

المغربي فوزي بنسعيدي من ذُرّية سينمائية تولد في عسر، كونها محاطة اليوم بكم وافر من نذالات حروب وعبثياتها، وصراعات مناطقية خاسرة سلفاً، وتجهيل حاقد ومتعمّد واسع النطاق، وتخلّف مجتمعيّ تتعاظم ضغوطه وإختراقاته. ما تتوارثه سُلالات السينمائيين الشباب العرب في الأونة الأخيرة، يقع في قلب إنقلابات سياسية معكوسة التوجهات، فبدلاً من تصحيح وراثات مجتمعية محلية وتثويرها، تتسابق أنظمتها الى توسيع فجوات ترهيبية عبر إختلاق إصطراعات مذهبية وعقائدية، تتعقد صورها وتبريراتها على وقع إستعارات تاريخية جوفاء وكاريكاتيرية، وعداءات تستحكم على أرض مكائد لن تنتهي حتى يوم النشور. من هنا، لا يجد هذا النسل السينمائي سوى شجاعته، وضمن حدود محصورة، وخاضعة الى رقابات وتخوينات وإقصاءات، في مقاربة عثرات إجتماعية وعائلية، من أبواب نعي أخلاقياتها وطبقيتها، وما تبقى من أبطالها وجساراتهم.

هكذا، غمزت التونسية كوثر بن هنية في عملها "على كف عفريت" عبر إتهامها قوات من نخبة الأمن الحكومي بإغتصاب طالبة جامعية، الى ناحية إنهيار قيم مجتمعية، تستفيد من سطوات وحشية وحماياتها. مثلما، شتمت المغربية مريم بنمبارك أعرافاً عامة وتدني معاييرها في باكورتها "صوفيا"، عبر حمل شابة بسفاح من أحد أفراد عائلة نافذة، قبل ان يسعى الجميع الى التستر على جريمتها، و"قتل" فضيحتها. فيما توصل المصري محمد حماد في "أخضر يابس" الى لعن العزلة الذاتية لبطلته، كعنوان درامي ساحق لإنانية مجتمع يسيء الظن، ويُحكَم بالجور. وحينما تصبح شتيمة عابرة بين شخصين من أصول مختلفة باباً لفضح عنصرية مجتمع، يخفي عنفه وحساسياته العرقية، يكون فيلم زياد دويري "القضية 23" (أو "الإهانة") أكثر من مخاتلة عقائدية، تُحاسب ما يسعى السياسيون ومتحزّبيهم الى طمره أو شطبه من ذاكرة خؤونة. وحده المغربي هشام العسري، الذي إمتلك زمام مبادرات تحريضية صادمة ضد إستبداد كارتلات ديماغوجية، وعنف مؤسسات بلوتوقراطية، وقف بعناد نادر، مسلحاً بفيوض من إبتكارية مشهدية ونفس تهكميّ ناصع، محولاً سينماه الغريبة الإيقاع، والقريبة من التفكيك الخلّاق، كما في "النهاية"(2011) و"هم الكلاب"(2013) و"جوّع كلبك"(2015) و"ضربة في الرأس"(2017)، وأخيراً "الجاهلية (2018)، الى مانفستوات متوالية ضد القمع والإستلاب والسلطة المستبدة والإنتهازية والمهابة من الدولة العميقة ورموزها. يبدو مواطنه بنسعيدي أقرب الى خطابه المؤدلج لكن بصيغة أكثر رزانة. فسينما العسري حركية وموتورة وحماسية، فيما تتشكّل أفلام بنسعيدي من تبصرات واقعية، أمينة الى تقليدية سردياتها، وإن غامرت بين حين وأخر في خوض لعبة "تغريب بريشتي" ممسرحة(نسبة الى الكاتب الألماني برتولد بريشت)، كما تجلّت في "الف شهر"(2003) و"يا له من عالم جميل"(2006) . بيد ان الأثنين يشتركان في هوسهما بالمدينة وهمومها وبشرها وتناقضاتها وفتكها المقنّن.

 في جديد بنسعيدي "وليلي"، الحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في الدورة الثامنة (5 – 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2018) لمهرجان مالمو للسينما العربية في السويد، مقاربة أكثر شكلانية في موضوع الفظاظات وصناعتها وتجبّرها على البشر. شابان متزوجان حديثاً، ينغص فرحتهما عجزهما في فك عقدة خلوتهما. مليكة تعمل خادمة في بيوت أغنياء، فيما "يناضل" عبد القادر في مهنته "الصدامية"  كعامل أمن في مجمع تجاري. الأثنان هما الوجه الأكثر شعبية في مدينة مغربية متحولة. تألقهما مستند على حشد يومي من العواطف والألفة والجيرة والتكافل. حينما يعصي عليهما إنفرادهما، يتوجهان الى مدينة "وليلي" البونيقية الأثرية، حيث يكون تاريخها حصانة، وأطلالها أمكنة تستر. هنا تُسرد وقائع ولههما ضمن فضاءات مفتوحة خلابة ومسالمة، فما سيلحقهما هو جحيم طبقي لن يستكفي بغضه إلا في تحقيق عقوبات شرسة.

يرفع بنسعيدي عن عوالم مدينته، وهي هنا مكناس مسقط رأسه، ما يجعلها يوتوبيا سينمائية، مركزاً مشهدياته وبناءاتها على يد مدير التصوير المميز مارك – أندريه باتني حول تناقضين طبقيين حادين، تتضافر فيهاعناصر تشكيلية بكنايات، لكن سهلة الإصطياد والتعرّف. فكل ما يحيط بمليكة (مليكا كونده) يميل الى عزلتها، وما سيلحقها من جور، بينما نرى زوجها (محسن مالزي) يغرق في عالم إنتقامي بعد "خطأ" في تقديراته مع سيدة ذات طلّة مرفهة، نعرف لاحقا انها عقيلة مسؤول نافذ، تجاوزت أسبقيات طابور في مجمع تجاري، يشرف الشاب على أمنه، ويضمن حصانات متبضعيه، بيد ان صفته كـ"رجل أمن" تتهاوى عندما يقف أمام سطوة رجل الأمن الحقيقي (فوزي بنسعيدي)، سيد السلطة، المتمكّن ، الفاشي المتستر تحت رداء سلوك أوروبي مزيف. رجل يحمل في داخله، رغم جبروته، بذرات خسة ذاتية تقوده الى شكوك تطال "شرف" زوجته، وتغويه  في التلصص على أغراضها بحثاً عن دليل. هذا الأخير، تتعاظم حجته مع مقابله المتجسد في شريط فيديو للحادثة التي "أجرم" فيها عبد القادر، والذي سيستخدمه نصّ صاحب "موت للبيع"(2013) كقرينة على اللا تكافؤ بين بينات طبقية، ترفض القبول بتلاقيها أو حتى التحايل على إتفاق لحل وسط، وهي ثنائية يرفعها بنسعيدي على ملصق فيلمه بصيغة شتائمية تقول "الحب أو الحكرة" (المذلّة)، أي ان خيار الزوجين الشابين محكوم بفشل أزلي، فلا الحب يستكمل عناصره لإنتاج عائلة طبيعية، ولا "الحكرة" تسمح لعباد هذا الوطن بضمان كراماتهم وحرياتهم التي ولدوا عليها. فالثنائي الشاب هما من ضمن "كتائب طبقة خائنة" لا تتوانى من البصق على يد مولاها، لإن عرفانها ناقص، عليه فان الرضوخ المزمن لهذه الكتائب مرتبط بشكل نهائي في قدرة النظام ودهائه على وضعها داخل إطار حالة إتهام متأصّل ومديد. تتجسد هذه الحالة بصرياً، بإختيار بنسعيدي/ باتني للقطات قريبة، ضيقة، تحتشد فيها مليكة وعبد القادر ومعهما باقي الشخصيات عنوة، وكأن سجنها الشعبي، بديكوره المغربي التقليدي الباهر، لا يطيق حضورها، بإعتبارها كائنات خاسرة وملعونة. فيما نرى رجل الهيمنة وطبقته يعيشون ضمن بنايات حداثية. نوافذها تتشبه بفاترينات باريسية، بإضاءات قوية وموزعة بحرفية ديكور غربي. يصورها الفيلم ضمن لقطات كبيرة ومن زوايا بعيدة، ذلك أن خشيتها الطبقية تدفعها الى علو مكاني تشبّهاً بأرباب الرومان. الفرق الأساسي هنا، إن السلطوي المغربي مجبور على الإختلاط  مع رعاعه، وعليه ان يتحمل تخلفهم وإملاقهم.

يتلقى البطلان عقابهما، كل حسب حقه. فالسطوة لها أنيابها المتخصصة والمعنية في فتح أبوابها للصوصها الصغار، وهي ذات قدرات خرافية في التعامل مع إزدهار دولتها، وإشتداد برجوازيتها وبأسها. أما أهل الحضيض فهم غير مشمولين بتوزيع ثروات أو إمتيازات، وعليهم الغرق في جحيم دعارات وإدمان وتمييز ولا عدالة. عليهم ان يقبلوا بظلمهم الإجتماعي ومشقات عيشهم ونفاقهم. وكل مقاومة ـ كما طلّت في عالم مليكة وعبد القادر ـ يكون قصاصها ماحقاً. يعتبر بنسعيدي بطله الشاب "رجلاً محافظاً وعنيفاً، وقد يكون عنصرياً. في المقابل، هو أيضا كائن مخلص وصادق ومحترم ومجنون حب. عبد القادر يتوق إلى كرامة ينكرها عليه مجتمعه وأسرته. رجل بسيط نشأ في نظام قيم جديدة. ترى كيف يضمن له هذا النظام عدالته الشخصية، ويعطيه إنسانية؟".

لن يكفَّر شريط "وليلي"(106 د) ناسه، رغم ان عيشهم يصبح عسيراً. كما انه لن يخذلهم برؤيا سينمائية متهافته، تتعمد تعاطفات فّجة، فهم مصائر مثيرة للإهتمام، وشديدة الإعتداد بنفسها وموقعها ومحتدها وشجاعاتها، لكن ما يخذلها على الدوام هو اللا إنصاف. نصّ بنسعيدي، الذي أعده شخصياً عنواناً موكداً ضمن صنف سينمائي أطلقت عليه أسم "سينما الطاقة النقيّة"،  يؤمن الى حد مدهش ببشره فـ"القتال لم ينته بعد" حسب ما سطره مخرج "الحافة" (1997) في الكتيب المرافق لعمله الباهر.

سينماتك في ـ  19 أكتوبر 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)