زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 75

Grand Prix Award

Close

فيلم "الجائزة الكبرى"/ مناصفة

"حَمِيم" للبلجيكي لوكاس دونت... الصداقات يجرحها الغدر ومُكره

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

يُقال لنا، في مفتتح شريط البلجيكي لوكاس دونت "حميم" (104 د)، الفائز بـ"الجائزة الكبرى" مناصفة للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ السينمائي، أن البطلين اليافعين ليو وريمي (13 عاماً) "هما صديقان حميميان منذ الأبد"، وكأن المودة بينهما ولدت معهما.

العنوان هنا ليس صفة للعلاقة بينهما وحسب إنها حالة وجود، صيغة حياة، ومسار يوميات تبدأ بمناكفاة وتنتهي ببهجات. هما روحان لصيقتان الى حد يظن المرء إن العالم حولهما خُلِق كي يكون ملعبهما، فيما يُكّمِل الأخرون حولهما تشكيلات صورة أما لعائلة متطامنة لا تخترقها الشكوك، أو فريق عمل جماعي مجتهد يقطف غلال الورود كمورد عيش وصيت وراثة، أو زملاء مدرسة تشهد ساحاتها فاجعة مقبلة، بسبب طيش مراهقة وطويَّات سافلة وشبهات مَذْؤُومة.

*******

هذا مجتمع فرانكفونيّ خالص. يحِسّ المرء أن أفراده ذوي طبائع أهل عُزلة إجتماعيّة رغم إزدهار حيواتهم ورؤوس مالهم. تسير أمور دنياهم برقيّ وإيقاع هادىء. يتعمد المخرج دونت (1991) وضع بطليه ضمن عالم متأنق من حولهما، متوازن  في ما بينهما، ورقيق من جهة أهاليهما وجيرانهما.

الثنائي الحَدَث رعويان بقلبين ينبضان معاً، نراهما يركضان أو يقودان دراجتيهما الهوائية بين دروب ريفيّة أو وسط مزارع أقحوان وأضاليات ناصعة الألوان، يتخيلان حروباً مع كائنات وهميّة في بريَّة منمَّقة ومُهَندَسة. حين يأوبان الى غرفة ريمي، تتحول المساحة الصغيرة الى رحم عائليّ يشهد ألعاب نقاوتهما وحساسيتهما ورقّتهما وإحتضانهما الواحد للأخر. هما كيانان طليقان يعيشان ضمن ألفة واسعة، وتحت رعاية الكُلّ.

 طبقيّة أسرتيهما، مُلاَّك حقول زهور بالنسبة لليو وأم ممرضة بالنسبة للثاني، شأن أساسيّ ومعيشيّ في دراما دونت، بمعنى أن الوفرة في حياتهما تحيل أيّ صعوبة  ـ أن وجدت ـ الى جهد جماعيّ لحل عقدتها. بيد أن هذه القوّة تخسر رهانها لاحقا حين تقع النائبة فوق رأس كُلّ فرد من أهالي البلدة الأوروبية الريفية. أنه صيف فائر. فرصة الأثنين الى متع وإندفاعات ونمو متفجّر وتوافق وملء مثالي لإوقات فراغهما، ذلك أنهما موعودان بالإنتقال الى مدرسة جديدة ومرحلة حياتية أكثر تحدياً وتمهيداً الى بلوغهما وإستحقاقاته.

*******

اللافت هنا، أن دونت ومدير تصويره فرانك فَن دِن أيدن (في ثاني تعاون بينهما) صاغا هذا المقطع، الذي يتجاوز الأربعين دقيقة، بنفس أوبراليّ وتدفقيّ واضح، إمتاز بفيوض جليلة من روح طبيعة مفتوحة وإنقلابات مواسمها الأربعة، حيث تتحرك الكاميرا المحمولة بطلاقة مدهشة بين حقول خلابة وبنايات حداثية وغرف مشعّة بفرح وصداقات ووداعات، وتوثّق وجوهاً ذات غبطات واثقة وهناءات متوارثة وسعد عائلي يكفله نظام حكومي ثري وصلد.

يخلو هذا الفصل المثير للإعجاب تماما من أيّ إشارة لظنون في ما يتعلق بالوداد ودرجات حميميته بين ليو (أيدن دامبرين) وريمي (غوستاف دي ويل)، لإن النظرة العامة لعلاقتهما مجيَّرة بالكامل الى سنهما ويفاعتهما وعفافهما. أن تقاربهما الجسدي ليس مدعاة شكوك، وأن حساسيتهما العاطفية لبعضهما كصديقيّ عمر لن تثير حفيظة أحد. القناعة العامة إنهما صبيان غِرّان فقط.

تتجلى هذه الصفة برعويّة خالصة في مشهد جامع بين الصبيين ووالدة ريمي (الممثلة أميلي دوكان المشهورة بدور "روزيتا" (1999) بطلة فيلم الأخوين البلجيكيين جان لوك وبيير داردن). نراهم مستلقين على العشب، يسندون رؤوسهم على أجساد بعض بمحبة. تدور بينهم حوارات لن توصل المشاهد الى وجهتيّ نظرهما بشأن علاقاتهما أو الإيماء الى صفتيّ "عاشقان" أو "حبيبان"!، ففورة الفتوة لا تنظر الى حسابات الأخرين وتآمراتهم. تأتي الظنون لاحقا ولكن ليس من كومونتهما بل من طرف ثالث عابر، يقايس تقارب أجسادهما برّيبة وعين ظنَّة.

 
 

*******

يعيد المخرج دونت هذه التهمة من الزاوية ذاتها التي دفعت ببطل/ة باكورته "فتاة"، الحائز على جائزة "الكاميرا الذهب" (كانّ 2018)، الى قطع عضوه التناسلي كونه عائقاً بدنياً، يقف ضد تحقيق حلمه في الإنضمام الى فرقة رقص بالية، فيما يأنف الأخرون إعتباره "فتاة" في طور تغيّر هرمونيّ وجراحيّ ، يتطلب وقتاً وصبراً وإقتناعاَ، لا إنتقاصاً أو تشنيعاً أو إزدراء. طموح لارا (15 عاماً) المبالغ فيه لا يُقدمه دونت كعناد ميلودراميّ وإنما كمساءلة سينمائية حول غِلّ الأخرين وحقارة نفورهم وقبيح كُربْهم. وهي المحنة ذاتها التي يواجهها الثنائي ليو وريمي في ساحة لعب مدرستهما الثانوية الجديدة، حين يرصد أقرانهم إسنادهما رأسيهما الى كتفيّ بعض، أو تشابك ذراعيهما حولهما، ليواجها أسئلة/ تُهماً/ رجماً بالظّنون: "هل أنتما معا ( أيّ "لوطيان")؟. تبدوان صفيّين. أن الأمر واضح. أأنتما حبيبان؟. يبدو أنكما لم تدركا هذا بعد". يجيب ليو، تحت ضحكات وغمزات أتْرابهما من المراهقين: "إنه صديقي المفضل. مثل أخي". لن يشفع ردّه، وتبقى عيون خبث وسوء نوايا تحاصرهما من كل طرف، إذ وجدت فيهما طريدتين رخوتين لفضول مسموم ونميمة جائرة.

*******

لن يساوم نصّ دونت (بمشاركة مع أنجيلو تيسنس) على طهارة علاقة ليو وريمي، ولن يدخل في مداهنات سينمائية بشأن نظرة قاصرة تحاول النيل من حياءهما وحشمتهما البدائيتين. أن القرار يجب أن يكون بينهما وفي ملعبهما فقط، وعليهما تبعاً له أن يتحمّلا إرتباكاته وتداعياته. فما يبدو أن ريمي أكثر "نسوية" من صديقه، وهو قطعاً أكثر رقيّاً في صمته وتأمَّله في محيطه، وإبداعاً في إختياره أكسسوارات غرفته من رسوم وألعاب ودمى ويافطات، وأيضا كعازف ماهر على ألة "الأبوا" المزمارية، يتضح أن الأخير أكثر جبناً في الدفاع عن براءة علاقتهما، ولن يتردد في الميل الى قرار مساومة سريع وحاسم، إكتسبه إرثاً من عائلة تحسب غلال ربحها أو خسارتها، وليو في عسره لن يختار الأخيرة، أو يفرط برجولة مهدَّدة بالإغتياب.

يسارع ليو الى مُبَاعَدَاته تدريجياً. يصدّ محاولات رفيقه في تماساتهما الجسدية. يناور في مواعيد لقاءاتهما، ويتخلى عن مشاركة النوم في فراش واحد كعهدهما. يعلن ليو عن ذكوريّة متأخرة درءاً لمهانات الأخرين وضراواتهم. يركز دونت فطنته السينمائية على حدين إعتباريين جارحين. الأول (وهو الأثقل درامياً) معني بقرار ليو وصمته ومراوغاته، إضافة الى أسى داخلي، يأكل كيانه بسبب تفكيكه الطوعي  لولاء مديد مع صديق عمر. الثاني (وهو الأكثر غلاظة) يتعلق برد فعل ريمي التدميريّ لضياع عاطفة ظنَّها أبدية. يختار الثنائي دونت/ فَن دِن أيدن حلاً بصرياً في مشاهد المواجهة بين البطلين إستند في الغالب الى لقطات مقربة من وجهيهما، إشارة الى عزلتهما وإنفصالهما السريع وعداوتهما المفاجئة.

يخالط ليو غلماناً أخرين ويصاحبهم على حساب ريمي. ينظم الى فريق هوكي الجليد توكيداً لـ"قربان رجولته". يتحاشى زيارات الأخير الى مضمار الملعب سعياً للقائه، ويتحصَّن خلف خوذة الإرتطام الرياضية، يتابع ريمي عبرها بوجع غائر في ضميره، وهو ينعزل ببطء ووجل عن المجاميع، ويقصي بمرارة حاله عن هرج الطلاب.

يجادل ليو أقرانه في قضايا حب البنات والرغبات والبلوغ، ويخترع مغامرات جنسية. أن ليو في طور إعادة تأهيل حاسمة وإذعان كامل لقوانين كتلة جنسانية، لا سبيل له لدفع شكوكها سوى الإنخراط في "آثامها". أما ريمي ومدفوعاً بغُمَّته وحيرته، يرد على المجافاة بأقصى فعل دنيوي أسود: الموت.

يكون وقع هذا الأخير هائلاً، لإنه مخف ولم تصوره كاميرة دونت/ فَن دِن أيدن. ما نتابعه هو لوعة عاصفة بالنفوس، وأثم جماعيّ عارم. هنا، يقلب "حَمِيم" خطّه التراجيدي بحصافة، واضعا ليو المصعوق أمام خيار نقاءه الداخلي الذي تَشَوَّه كونه شخصاً طَامِس القلب، ولا سبيل له سوى الإقتراب أكثر من والدة المغدور صوفي التي إحتضنته كما وليدها، فالعواطف لا تنْدَرس: "هذا بيتك. تعال متى شئت"، تقول له. من هنا، يصبح كل شيء بالنسبة لليافع ذا أهمية إستثنائية في وجدانه: الصمت، الكلمات، النظرات، التقارب، الإجابات، مقتنيات الراحل، مواقع طيشهما، ذكرياتهما، كلماته، رائحته، سذاجته. تنقل هذه الإعدادات ضميره الحي من إرتباك المخطيء الى يقظة المُحب، فتتحقق رزانته بإقراره، تحت دموع سخية، أن غفلته وإستضعافه أفضتا الى فقدانه صداقة عهد. أن الإنتظار غير مجد في عهدة الموت.

*******

يطعن شريط لوكاس دونت، المتميز برصانة خطابه الإجتماعي وصدق عواطفه تجاه شخصياته ومحنها، بقسواتنا وتبنيا الأعمى الى عقلية الأخرين وسوء دوافعهم.

يتحامل على تقلباتنا الذاتية وموت مروءاتنا وغياب المرونة في تعاطينا مع الإستثنائي، خصوصا فيما يتعلق بدافع جنسي ملّتبس، سواء فسلجياً (كما في حالة لارا بطلة فيلم "فتاة") أو شعورياً كرباط جليل ونزيه جامع بين رفقة ليو وريمي، تنتقصه شراسات ولا إخلاص ولَوَائِم.

سينماتك في ـ  06 يونيو 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004