زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"قمر المشتري" للهنغاري كورنيلا موندروتسو..

قهر حدود العنصريّ

بقلم: زياد الخزاعي

إذا كان المعلّم الفنلندي آكي كاوريسماكي قارب الشتات السوري في جديده "الجانب الأخر من الأمل"(2017) من باب التندّر على حظوظ قدرية تحشد خاسرين تحت بقعة ضوء ملوّنة حضارية، يتحايلون على فاشيات أوروبية متحوّلة، يسرق فيها موظفوها مواطناً عاجزاً عبر قوانين رأسمالية وحشيّة مدعومة ببنوك طمّاعة وبلا ضمير، فيما تستعبد أنظمتها لاجئاً غريباً، يتمسكن بمرارات بلده الأصلي تبريراً لملاذ لن يخلو من مذلّة، فإن زميله الهنغاري المميز كورنيلا موندروتسو يصطاد حكايته الغرائبية في عمله الروائي الخامس "قمر المشتري"، الذي عُرض ضمن مسابقة الدورة الـ70 ( 17 – 28 أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي، من علو سماوي بهيّ وضمن منظور ذاتيّ لمفهوم "هجرة سايبيرية"، تنتصر الى أحوال معذبيّ حدود عبر تمليكهم قوى تمكنهم من التحليق، كما الملائكة، في سماوات حرّة حيث الإمان ربانيّ ومجاني وطليق.

يصل سوري كاوريسماكي الى هلسنكي وهو مغطى بسُّخَام سفينة تحميل، لينخرط بسرعة في "كومونة" غرباء آملاً في إنقاذ شقيقته والإجتماع بها ثانية بعد فراق، ذلك ان اللاجيء لا يمكن أن يكون عديم المنبت أو بلا ذرّية، وتاريخه الحقيقي لا يُسطّر في المنافي بل هو ضارب في عمق منشأ وعائلة وذاكرة وصداقات. تكمن مشكلته في كيفية نظر موظف هجرة غربيّ اليه: أهو مستوطن أخر أم ضيف خفيف المقام يأوب الى رحم أصوله حينما يحل أوان عودته؟. يجمع كاوريسماكي بطله خالد (شيروان حاجي) الخاسر لبلد بعيد يعبث به الجميع مع مواطن يدعى ويكستروم، قليل الكلام وكثير الفعل، يضمن للغريب حلولاً عملاتية مثل ملجأ سريّ محلي و"أُبوّة" أوروبية!.

أما حالة السوري أريان، وهو أسم ذو مرجعيّة شرقيّة جليّة، تبدأ مغامرته في نصّ موندروتسو عند الحدود راجلاً، أي ثابتاً على أرض الرجاء، قبل أن يشهد مجزرة أفراد شرطتها وهم يطاردون غرباء لن يطول وقتهم كي "يدنسوا" وطناً فلت للتو من توتاليتارية شيوعية سوداء، ويغرق اليوم في إندفاع إيماني مسيحي، يبرر لهم تصفية مَنْ تسول له نفسه إختراق عفّته عنوة. هذه حادثة هنغارية حقيقية إستلفها صاحب "أله أبيض"(2014) كإتهام سينمائي ليمينية عصرية لا تخشى غلوها العرقي وعصابيتها. تشعل حروباً ولا ترتضي بعواقبها على ترابها. المدهش هنا أن هذا السوري ليس عابراً عادياً بل يبدو كيسوع حداثي يتلّبس رداء لاجيء ينتظر بصبر نادر قيامته المتأخرة. حينما يصاب أريان بطلق ناري إستهدفه به ضابط حدود، فإن روحه لا تصعد الى سماواتها وحسب بل جسده كله. أنه نشور النّطفة الشرقية/العربية التي تبقى  طوال ساعتين (مدة الشّريط) وهي تحوم في سماء بودابست، يطاردها رجل الأمن الدموي لازلو، والمُكلف من دوائر حكومية غامضة بمهمة إنزال القصاص ضد أبالسة جدد لما يُعرف محليا بـ "الشؤم العثماني" الذي عانى منه أهل المجر منذ موقعة موهاج(1526). لا يمكن بتاتا إنكار هذا التأويل المسيس، فمن دونه يصبح فيلم موندروتسو عاجزاً عن فضح رهاب الخوف من الأخر والعنصرية والبلطجة والخيانات والدموية، وهذه جميعها مصاغة بخطاب سينمائي يستغل حيلة الطيران ليحكم بوجهات نظر متعددة الزوايا على ساكني هذه البلاد وهوسها بهزيمة قديمة وإرث مجازرها ووحشية مرتكبيها.   

بطل موندروتسو هو "كروبيم"(ملاك) أخرس في إشارة بليغة الى إن الكلمات تفقد دلالاتها عندما يعمّ العقاب. تتعاظم مأساته مع تعسّر إقامته الملتبسة بين برزخين متجافيين، أرض لا ترغب بموطأ قدمه على جغرافيتها(لأنه دناسة)، وسماوات لا تريد ان تستكفي منّتها الإلهية وتستقبله نهائيا في حضرة الرّب(لإنه بلا قداسات). أن أريان (شمبور يغير) طريد مزمن ووحيد، إلا من رفقة طبيب يدعى شتيرن(ميراب نينيدزا) وحصاناته وإستغلاله، لا يستغرب تحقق معجزته ("التي يخافها الأخرون لكنها خلاصهم" حسب الضابط الدموي) بل يتسائل، عبر حركات جسده وتعابير وجهه، عن مغزى ان يكون مختلفاً عن بشر عانوا حروباً وغزوات إرغمتهم على هجرات مثله، لكنهم لا يتوانون من نبذه.

هذا السوري، الذي يرطن إنكليزية مكسورة، ليس سوبرماناً كما وصفته خطأ المجلة السينمائية البريطانية "سايت أند ساوند"، وإنما هو تجلّ جارح لعقدة لاجئين كشفت عبر طوفانهم نفاقاً أوروبياً مشيناً حين صفق أهله لراجلين ممن غذوا خطاهم نحو أمان مفترض لينتهوا في معسكرات وأسوار ومهانات،  لكن هذه الأوروبا (وهو الأسم الذي أطلقه غاليلو غاليلي على أحد أجرام الكوكب العملاق حين إكتشفه عام 1610، وإستلفه موندروتسو عنواناً لفيلمه) عاندت وتمنعّت الى اليوم عن إيقاف الحروب بين مجرمي "إدارة التوحش" وعصابات الحزب الواحد والتي ما زالت تولّد لاجئين ممرورين بعثراتهم ولا خوارقهم.

يزخر"قمر المشترى" بمشهديات رشيقة ومؤثرات عالية التقنية، تنتصر الى دهشة سينمائية قائمة على توتّرات محمومة وفوضى جماعية وتخويف درامي ومطاردات هوليوودية، يشترك فيها الجميع بما فيها كاميرة المصور القدير مارسيل ريفا التي صورت العاصمة الفاتنة من علو فاقع كفردوس بلا روح، يعج بعساكر ومظالم اللّجَاة السورية.

سينماتك في ـ  12 يناير 2018

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)