Our Logo

 سيرةأوراق ناقدسينما مجهولةمقالات الأسبوعمشاهداتTop Nine  

 

مبدعون في سينماتك

أوراق ناقد

 

تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

سجل الزوار

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

ندعوك لزيارة مدونة الناقد محمّد رُضا

 

وهم السينما الجميل

 
     
  

العبارة التي يرددها كثيرون هي «السينما هي مجموع كل الفنون» او «السينما فن الفنون». والمقصود بذلك، من دون الحاجة الى الإيضاح حقيقة، هو أنها تمثّل مجموعة الفنون الأخرى في حاضرها ففيها المسرح، وفيها التمثيل وفيها الموسيقا وفيها فن التصوير الذي تعتمد عليه بالطبع وفنون مختلفة بعضها متّصل أيضاً بالمسرح مثل الديكور وتصميم المناظر العامّة الخ....

الفن الوحيد الذي لا علاقة له بالفنون الأخرى  والذي يشكّل عنصراً بالغ الأهمية في السينما هو فن المونتاج (التوليف). ومع أن كل ذلك يؤكد الفكرة العامّة من أن السينما هي مجموع الفنون الأخرى، الا أن الأمر ليس بمثل هذه السهولة.

ليس الأمر هو أن كل عنصر فيها ينتمي الى فن سبقها كما لو أنها سلطة الفنون. كما أن اعتبارها على هذا النحو يقلل من قيمتها وهذا سعي سابق لكثيرين من الذين لم يقبضوها جديّاً حين ترعرعت ولم يقبضوها جدّياً حين انتشرت، ولا زالوا لا يقبضوها جدّياً اليوم.

إذا شرّحنا عواملها وكيفية صناعتها، فإن الكثير من العمليات التي تؤدي الى خلق الفيلم هي ذاتها التي تؤدي الى خلق المسرحية: هناك النص، وهناك الديكور، وهناك التمثيل، وهناك -بالطبع- الإخراج، وهناك  الجمهور.

ما ليس هناك، وما يميّز العملية السينمائية مباشرة وبفاصل كبير هو بالطبع التصوير والمونتاج لاحقاً. وما يستطيع كل منهما فعله لإنجاز الفيلم مذهل في إمكانياته. الى جانب أنهما المسؤولان الأولان عن الفصل بين المسرح وبين السينما، هما بحد ذاتهما عبارة عن فنّين منفصلين يعملان تحت مظلّة السينما. واحد ينقل الحياة من مكان التصوير الى الآخر. الآخر يتدخّل لتحويل تراكمات اللقطات الى تتابع مفيد.

إنه من الممكن طبعاً العودة بكلا الفنين الى أصول أخرى: التصوير السينماتوغرافي هو وريث التصوير الفوتوغرافي الثابث. هذا هو تسجيل لمشهد من الحياة. إنه رديف للعين البشرية. المونتاج، من ناحيته، هو من نسل الخدع والمؤثرات التي كانت منتشرة أيام صناديق العجب. فحينها كان لابد من يد تعمل على تحريك شيء ما في إيقاع معيّن وبعدد مرّات معيّنة لكي تمنح الحركة لما هو ثابت... تماماً كما اليوم مع إختلاف الأدوات.

ما لا نفكّر به كثيراً حين نجلس لمشاهدة فيلم ما (جديد او قديم) هو أن الحركة التي نراها هي تلفيق كامل.

خذ مثلاً الفيلم الذي أثار ضجّة كبيرة في العام الماضي No Country For Old Men  الذي نال أربع جوائز أوسكار (وأكثر منها في مناسبات أخرى) هي أوسكار أفضل فيلم وأوسكار أفضل سيناريو وأوسكار أفضل إخراج وأوسكار أفضل ممثل في دور مساند.

أحد المشاهد التي تبقى في البال طويلاً هو ذلك الذي يجول فيه ليولِن (جوش برولِن) بين السيارات والشاحنات المزروعة بالجثث في الصحراء. يمشي منتقلاً بحذر بين كل شاحنة وأخرى وصولاً الى تلك الشاحنة التي يجد فيها رجلاً بقي حيّاِ يطلب منه الماء.

في هذا المشهد نطالع العناصر التي تؤلّفه بوضوح. بعضها نحسّه او نفسّره ذهنياً إذ لا يمكن أن نراه.

هناك الرجل الذي يجول. هناك الشاحنات والسيارات المهجورة. هناك الصحراء. هناك بعض السماء. هناك ريح خفيفة. هناك شجرة بعيدة. هناك شاحنة فيها رجل لا زال حيّاً. على صعيد الإستقبال الذهني والحسّي هناك وحدة هذا الرجل. إحتمال إقباله على مفاجأة خطرة. هناك العطش حين يطلب المكسيكي الجريح الماء. ثم هناك السؤال البعيد عما ستكون خطوة ليولن التالية.

تم تصوير ذلك المشهد  في يوم من الشهر الأول او الثاني من العام 2007. لا أدري، ولا أعتقد أن أحداً سوى العاملين في الفيلم مباشرة يدري، في أي يوم تحديداً- لكن علينا أن نختار يوماً خيالياً: ليكن إذاً الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني/ يناير. الفيلم لا يُصوّر بحسب تسلسله على الشاشة ما يعني أن هذا المشهد صُوّر بعد أسابيع تصوير وليس في أوّلها لأنه سيتطلّب الأمر أسابيع أخرى من المونتاج والمكساج والعلميات الفنية الأخرى قبل افتتاحه في التاسع عشر من أيار/ مايو من العام نفسه في مهرجان «كان» السينمائي الدولي كما حدث بالفعل.

ما نشاهده على الشاشة هو حركة في الزمان والمكان الذي تم فيه التصوير. الآن جوش برولِن  وإدواردو أنطونيو غارسيا (المكسيكي الذي لعب دوره في دقيقة من زمن الفيلم) كل منهما في زمن آخر ومكان آخر. حين تشاهد الفيلم في أي زمان آخر، سواء بعد دقيقة من تصوير أو بعد مئة عام من تصويره، فإن الممثل الذي تراه، سواء أكان دوره كبيراً ام صغيراً، يفعل شيئاً (وربما يكون قد مات مثلاً) لكن ما نراه هو سرقة اللحظة من الحياة وإدخالها الكاميرا ثم طبعها على الفيلم وإعطاء الفيلم للمونتير لكي يستخرج ما تم اختياره من زوايا وعدد لقطات للتوليف بينها وجمعها على النحو الذي شاهدناه فيها.

هذا هو التلفيق الكبير: الممثل الذي تراه ليس موجوداً لكنك نسيت ذلك لأنه -في ذات الوقت- موجود- إنه ليس حيّاً، لكنك نسيت ذلك، لأنه في نفس الوقت حي يتحرّك. في هذا كلّه أروع ميزات العمل السينمائي: الإيهام.

المسرح لا يستطيع فعل ذلك. أنت تشاهد الممثل فعلياً. لحظته على المسرح هي ذاتها لحظته في الحياة ولحظتك في الوجود. لا يمكن القطع من وجهه الى كلب عابر... كلاهما عليهما الظهور معاً. لا يمكن القطع بين رأسه وهو يستدير لسماعه صوت ما، وبين مصدر الصوت... لأن كلاهما في لقطة واحدة من كاميرا العينين في كل شخص جالس في المسرح يراقب.

ليس هناك وهم في العمل المسرحي الا في حدود الحكاية ذاتها حين تكون خيالية فينقلك النص الى موقف لا ينتمي الى الحقيقة (المسرحية لا يمكن لها أن تكون تسجيلية) مثل موقف هاملت حين يصارح عمّه بما يعرفه عنه بعدما سلب عمّه الحكم وقتل شقيقه الملك.

في تلك اللحظة، إذا ما آثرت التوقّف عن المتابعة والتفكير بما تراه، ستدرك أن الوهم في حدود أن الممثل ليس هاملت في الحقيقة والممثل الآخر ليس عمّه- وهو أضعف أنواع الإكتشافات لأن الوهم الذي نتحدّث عنه في هذه الآونة ليس موحياً بشيء وليس فانتازياً كما هو الوهم الجميل للسينما.

سينماتك في 26 يوليو 2008