حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

 

محمّد رُضا يكتب لـ"سينماتك"

أوراق ناقد

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

الناقد والمنتج

 

     

  

وصلت الى دبي لاستلام مهامي كمدير مسابقة مهرجان دبي السينمائي الدولي، وبعد نوم طويل استيقظت وأدرت جهاز التلفزيون. عمت قليلاً مع الأمواج المتضاربة. محطات دينية تواجهها محطات إنفلاتية كلاهما يرسمان لوحة مشتركة عن العالم المتناقض الذي نحن عليه.

واحدة تدعو للقيم ومنها ما يُغالي ويتطرّف فيقلب الموائد كلها ويكاد يدعو الى خط منفصل يكون هو إمامه ويتشدّق أمام الناس بالفتاوى التي لم نسمع بها قبلاً. كل هذا وهو لا ينسى أن يتأكد من أنه سيقبض ثمن ما يقوله- فلا شيء لوجه الله تعالى حتى ولو تصوّر هو ذاك.

ومحطات أخرى تدعوك  لأن تمد يدك، او أي شيء آخر، عبر شاشة التلفزيون لتعبث بمفاتن المغنية التي تتلوّع، وتستلقي وتركض وترقص وتتغنج وتفتح أزراراً من فوق وأزراراً من تحت وتغمز ولا يفوتها أن تغني فوق ذلك كله.

وجدت غريباً أن يكون هناك جمهوراً لهذه المحطّات، لكن صديقي الذي يعمل في مدينة الإعلام يقول أن الجمهور موجود وغفير. وأنا أقول رحم الله هذا الجمهور. لقد مات شاباً والقاتل هو كل منتج تلفزيوني يقبل على نفسه تسميم العقول وتمييع النفوس وإلهاء الناس عن قراءة كتاب او مشاهدة فيلم جيّد او حتى زيارة صديق او معاودة مريض او التواصل مع الثقافة والعلم وما تتطلّبه الدنيا من مهام صحيحة.

في صباح اليوم التالي سمعت منتجاً هو صاحب محلات جزارة في مصر يقول أنه لا يهتم بالنقاد... «يعني هو صح وملاييييييييييين الناس كلها دي التي تدخل الفيلم على خطأ؟» قال فض الله فاهه.

وأضاف الفصيح:

«ما يهمّنيش النقاد. لا أعترف بهم. مين هوّا عشان يكون يقولي أنا أعمل أيه؟ ينقد نفسه الأول».

كل ما يدور في مصر او في سواها من حالات فوضى كان لابد أن يؤدي الى أن يسود ذلك النوع من الإنتاج الذي يعيش كالطفيليات على جوانب الحياة حيث لا تصل الشمس ولا الهواء النقي. فقط هواء منتجين يريدون الإستفادة من حالة ركود في مهام الحياة تسود أكثر من بلد عربي بات لا يجد دافعاً لأن يتقدّم كإنماء شامل.

وكبداية، فإن الرد على كلام الجزّار والمنتج هو: نعم. يمكن للناقد أن يكون على صواب ولملايين الناس أن تكون على خطأ. بل هذا هو الواقع بالفعل. ليس هذا لأن الناقد ملاك مُنزل، بل لأنه على درجة من الوعي جعلته ينأى بنفسه عن هذا الإنتحار الذي يمارسه الناس كلّما شاهدوا معظم المعروض على المحطّات التلفزيونية ومعظم المعروض على الشاشات السينمائية. إنه كما لو أن أحداً يريد أن يزج بنفسه الى قاع أسود مظلم لأن الحياة فوق السطح ما عادت تساوي شيئاً بالنسبة إليه فيعمد الى مشاهدة «كركر» وأمثاله.

والمنتج هو القاتل كما ذكرت. هو من يمسك بالسكين ليذبح الفكر والعقل والثقافة والأدب والحضارة والمستقبل والتطلّعات والآمال والفن والمنطق. هو من يقطّع كل هذه الأواصر ثم يضعها في الخلاطّة الكبيرة التي تفرم اللحم (أليس بعضهم جزّارين) ويضغط الزر وتبدأ الآلات بالهرس والطحن ومن الناحية الأخرى تخرج كل تلك الخواص الإنسانية وقد تحوّلت الى أشلاء. هذه الأشلاء هي الجمهور الذي يُشاهد هذه الأفلام ويقبل عليها ولو أتيح له التفكير لنأى عنها فتوقّفت.

لو أتيح له لأدرك أنه رضى بأن يسلّم رقبته الى جزار. وكل مرّة يفعل ذلك يدخل جيب المنتج مالاً ينفعه مادياً ويزيده إصراراً على أن هذه هي السينما وحدها لا غير.

قبل مدّة كتبت في «الجزيرة» عن ملاه جديدة أقيمت خارج عاصمة عربية يؤمّها عرب من داخل البلد وغالبية من خارجها. ميزة تلك الملاه والنوادي الليلية هي التالية: إنها تقدّم بنات ليل آتيات من العراق. هربن مع عائلاتهن او ذويهن من جحيم الموت الى العاصمة العربية المجاورة. هناك لا عمل ولا مال. ماذا يفعلن؟ يرقصن كل ليلة في تلك الملاهي وبعضهن يكمل السهرة في البيوت الخاصة او سواها.

هذا وحده منظر مؤلم.

الأكثر ألماً هو ذلك العربي الذي يقف كما لو كان يُثار وينتفض ويرتعش على هذه المأساة. يحمل بيده الدولارات ويرميها فوق خشبة المسرح.... سعيد هذا الأخ وسعادته عائدة الى غبائه. يبدو إنه من جمهور «كركر». لأنه لو لم يكن غبياً لما أمّ هذه المحافل أساساً. وإذا كان لابد له أن يفعل ذلك لإختار مكاناً آخر لا يعيش على لحم المأساة المتمثّلة في العراقيات اللواتي لم يرقصن في الملاهي أيام الدكتاتور الراحل (رحمه الله) بل كان لهن عفّة ومستقبلاً مختلفاً.

ثم يأتيك الخاطيء الأكبر... صاحب ذلك الملهى ووجهه يلمع مثل الليرة الذهب وهو يقول:

«لا أشعر أن في هذا أي خطأ. إنه عمل كأي عمل آخر».

هذا لجانب المنتج التلفزيوني للبرامج و«الكليبات» الغنائية والمسلسلات السخيفة، لجانب المنتج السينمائي ذي الأنياب، مجرمون. لا أقل من ذلك ولا أكثر.

سينماتك في 25 أغسطس 2007