حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

 

محمّد رُضا يكتب لـ"سينماتك"

أوراق ناقد

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

النقد التهليلي

 

     

  

كلنا ننشأ على شاكلة ما نختارها لأنفسنا من بعد أن دُسّت فينا.

في فيلم «تدمير هاري» لوودي ألن تستاء شقيقته منه لأنه يهودي غير ممارس. في الواقع هو أكثر من يهودي غير ممارس- إنه يهودي ملحد، وبما صفة الإلحاد تلغي عن الواحد ديانته فهو ليس يهودياً ملحداً ولا مسيحياً ملحداً ولا مسلماً ملحداً... الملحد هو ملحد.

المهم أن شقيقته في توبيخها تقول له شيئاً مثل:

«أنظر إلى زوجي لا يترك العبادة مطلقاً»

يسخر منها وودي ثم يقول لها الكلمات التالية:

«أعني إنه لو أن والدينا اعتنقا المسيحية قبل نصف ساعة من ولادتك لولدت مسيحية». ضحكت كثيراً حين قال ذلك لأنها كلمة مُصيبة... أقصد صائبة ولا أقصد كارثة! لو أن أياً منا وُلد في أي كنف لنشأ كما هو هذا الكنف، وإذا ما تمرّد عليه يكون ذلك من اختياره. السنوات الخمسة عشر أو العشرين الأولى من حياة المرء هي بأسرها سنوات ما نشأ عليه: الدين،  البيت، المدرسة، التقاليد، العادات الخ... بعد ذلك، تزوره الاختيارات: فهو إما أن يبقى تابعاً لما نما عليه، أو أنه يتغيّر قليلاً نسبة للمحيط الذي هو فيه، أو يتغيّر كثيراً. إما أن يبقى حليفاً لما نشأ عليه أو يتمرّد على بعضه أو كلّه....

إذا ما أحس الواحد منا بأنه يختار من بين هذه الأوجه فهذا دليل على أنه يفكّر وبغض النظر عن قراره، وخطأ هذا القرار أو صوابه، فإن التفكير دلالة على  أخذ مساحة من الحياة ليفكّر فيها. نظر إلى مرآتها وأمعن. ذهب إلى شاطئ البحر وجلس ينظر بعيداً، أو صعد ذلك التل الذي تحدّثت عنه الأسبوع الماضي واستشرف المنظر من حوله.

ونحن النقاد من هذا «الكل».

كثيرون  منّا لا يفكّرون ثانية بالكيفية التي يقضون بها حياتهم. لم أسمع واحداً منا أشتكى من أن هناك خطأ ما أرتكبه تجاه حياته من حيث الطريقة التي زاول فيها تلك الحياة، أو من حيث طريقة حكمه على الأمور.

هل يعقل أن لا يرتكب أحد أي خطأ من الحجم الذي يدعوه للتمعّن بنفسه ومحاولة فهمها؟ هل يعقل أن يكون بمنأى عن اللوم أو النقد؟ البعض يعتقد ذلك. البعض، مثلاً، يصف السينما الأميركية بأنها عديمة الجودة والجدوى. هكذا يمسح تاريخاً بأسره. وآخر قرأت له ذات مرّة يحكم على السينما المصرية كلها بأنها «لم تنتج في تاريخها سوى أسوأ الأفلام».... وهناك من يعتبر أن السينما الوحيدة التي تستحق أن يُكتب عنها هي السينما السياسية (كما لو أن هناك سينما غير سياسية!).

كلنا- باستثناء من منح لنفسه وظيفة التفكير الأبعدننقاد في النهاية إلى ذات التكوين الفكري الذي نشأنا عليه. أعرف صحافياً سينمائياً بدأ الكتابة في مطلع الثمانينات ولو أتيت اليوم بأول مقال كتبه وآخر مقال كتبه لوجدتهما متشابهين في ضحالة المعلومات وهوان الفكرة.

كل ذلك مضيعة للوقت لكنها للأسف تتم على حساب الناس... هناك من لا يعرف. يعتقد أن ما يقرأه ناتج عن فهم فيصدّقه ويصدّق أيضاً الطريقة الإنشائية التي يكتب فيها الناقد ويعتبرها خير كتابة.

 

المؤسف أيضاً أن الكثير من الذين يكتبون في هذا المجال، المجال السينمائي المبسوط على سهل بلا نتوءات، يكتبون بنفس الطريقة التي كانوا يكتبون فيها الدروس الإنشائية. المقال النقدي عن «كركر» مثلاً، ونحن في زمن كركري لا شك، عليه أن يبدأ بديباجة من نوع التعريف (للمرة الألف؟) بمحمد سعد أو بسينما الصيف أو بآخر إيرادات الأفلام؟ لا أحد بات قادراً على دخول الفيلم مباشرة. لابد من تمهيد والتمهيد في بعض الأحيان يأخذ نصف المقالة. يصبح المقالة. ولا  أنسى اليوم الذي قرأت فيه لناقد معروف أخذ على عاتقه وصف البحر (لا أمزح) لأن أحداث الفيلم الذي يتصدّى لنقده تدور في البحر.

ليس العجب  إذاً، أن هواة السينما لذاتها، لفنّها، للغتها، لرقيّها، لجمالها ولثقافتها قليل، فمعظم كتبة النقد، وأنا أسمّي من لا يعرف فن كتابة النقد، معلّقاً مع احترامي له ولرأيه، يتبارون على فن الوصف والقدح والذم أو التبجيل.

وأراهن، من باب الدلالة، على أن معظم الذين كتبوا عن سينما برغمَن وسينما أنطونيوني لم يروا سوى فيلم أو فيلمين ذات مرّة، والبعض أعلم إنه لم ير أي فيلم لأي منهما على الإطلاق.

هل هناك دلالة جهل أعمق من قيام البعض من المعلّقين والعديد من القرّاء بالتعبير عن فرحهم باختيار فيلم يوسف شاهين إلى مسابقة «فانيسيا» المقبلة بالخلط بين هذا الاختيار وبين النتيجة منه؟ هل يعلمون كيف استقبل نقاد وجمهور مهرجان «كان» آخر ما أرسله المخرج إليهم من أفلام؟.

هناك فرق بين الفرح الواجب وبين التهليل. التهليل يمكن أن يتأخر إلى حين إعلان النتائج فإذا فاز المخرج الذي نهلل له بجائزة ما وُجب أن نبارك ونفرح... لكن ما الذي يعلمنا -نحن النقاد المفترض بنا أن نستحوذ نظرة علمية  وغير عاطفية على الأمور- ما إذا كان الفيلم جيّداً أم لا؟ رغم ذلك نهلل ويهلل معنا القرّاء وغداً إذا لم يفز الفيلم، أو إذا ما منح المخرج جائزة ترضية، أو إذا ما كتب النقاد الغربيين عنه من دون إعجاب تجاهلنا كل ذلك أو اعتبرنا أن مخرجنا العربي أرفع من كل هذا وأن الأجانب يعادون العالم العربي بأسره.

 

متابعة

أحد الصلاحين علّق معاتباً على ما كتبناه هنا في الأسبوع الماضي «صلاح وصلاح» من دون أن يكترث لنشر المادة التي كتبتها على علمه بأن جمهوره من القرّاء ليس جمهور هذه الزاوية بالضرورة ما سيجعلهم  غير مطّلعين على أصل الحديث وكيف كُتب وماذا كان منطلقه.  الأكثر إنه لم يكترث لنشر التعقيب الذي أرسلته، وأعتقد إنه حسناً فعل في نهاية المطاف فكل حر في التصرّف كما يعتقد أنه صحيح. لكن اللافت هو أمر واحد فقط: بعضنا يقرأ على هواه وكما يحب أن يفهم وليس كما بالضرورة مكتوب. وهذا آخر ما عندي في هذا الموضوع. تنعما بحربكما واستمتعا بها وسنّوا الحراب والسكاكين الحادّة كما تريدان. فأنا لست طرفاً فيها ولن أكون ولا أفضل أحداً منكما على الآخر ولن تعنيني بشيء بعد الآن.

سينماتك في 18 أغسطس 2007