شعار الموقع (Our Logo)

 

 

العلاقة بين الأدب والسينما من القضايا الخلافية التي لا أظن أن أحدًا بإمكانه قول الكلمة النهائية والوحيدة فيها؛ فالبعض يرى أن السينما تكون في أحسن حالاتها عندما تعتمد على نص أدبي، ويرى آخرون أن أفضل الأفلام هي المكتوبة مباشرة للشاشة، وفي حين ينادي مجموعة بضرورة الخضوع للنص الأدبي عند تحويله إلى فيلم، يناقضهم آخرون بالقول بأن النص الأدبي مجرد منطلق للعمل السينمائي أو هو مسمار يعلق عليه المخرج رؤيته الخاصة.

قضايا خلافية كثيرة تخص هذا الموضوع، ولن نخوض فيها كثيرًا؛ لأن الإشارة إليها مجرد مدخل أراه منطقيا لموضوع هذا المقال الذي يحاول أن يقدم قراءة في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني وفيلم "المخدوعون" لتوفيق صالح المأخوذ عن الرواية.

"رجال في الشمس" هي الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والرواية تصف تأثيرات نكبة فلسطين سنة 1948 على الشعب الفلسطيني من خلال أربعة نماذج من أجيال مختلفة، وهي تقدم الفلسطيني في صيغة اللاجئ –كما يرى الناقد فاروق عبد القادر- وهي الصيغة التي يطورها غسان كنفاني في روايتيه التاليتين "ما تبقى لكم" حيث يقدم الفلسطيني/الفدائي، و"عائد إلى حيفا" حيث يقدم الفلسطيني/الثائر، متمشيا بذلك مع تطور القضية الفلسطينية ذاتها.

أبو القيس.. البحث عن شجرات الزيتون..!!

"أبو القيس" هو أول الشخصيات التي تعرضها الرواية، رجل فقد بيته وشجرات الزيتون التي يملكها وأصبح يعيش مع زوجته الحامل وابنه الصغير في المخيمات، لا يجرؤ على التفكير في السفر للكويت حيث سافر الكثيرون وعادوا بالأموال التي حققوا بها أحلامهم الخاصة، "أبو القيس" شديد الارتباط بوطنه، يحلم بعودة ما كان، لكنه لا يعرف كيف يمكن أن تحدث هذه العودة بعد ضياع كل شيء.. "أبو القيس" رجل عجوز يخرج مضطرًا ولا يأمل كثيرًا في النجاح أو العودة الظافرة، لكنه يستجيب للضغط الذي يمارسه عليه أحد العائدين الأغنياء وحالة الفقر المدقع التي يعانيها هو وأسرته، فيودع زوجته وابنه ويسافر إلى العراق محاولاً أن يجد فرصة ليهرب عبر الحدود العراقية الكويتية من البصرة إلى الكويت ليحصل على النقود التي يبني بها بيتًا ويشتري شجرات زيتون جديدة.

أسعد.. المطارد..!!

أما الشخصية الثانية في الرواية فهو "أسعد"، وهو شاب مناضل تطارده السلطات بسبب نشاطه السياسي، لكنه يحاول الهرب إلى العراق بمساعدة أحد أصدقاء والده القدامى، ذلك الصديق الذي يسلبه عشرين دينارًا ويتركه في منتصف الطريق واعدًا إياه بشرفه أن يقابله بعد المرور على نقطة التفتيش، ولا يفي بوعده، فيفقد أسعد ثقته في البشر جميعًا، لكنه يستطيع الوصول إلى العراق مصممًا على عبور الحدود إلى الكويت ليستطيع أن يكون ثروة يرد بها الـخمسين دينارًا التي أقرضها له عمه ليبدأ بها حياته ويتزوج ابنة عمه التي لا يحبها لكنها خطبت له يوم مولدهما.

مروان.. الغوص في المقلاة..!!

أما "مروان" فهو فتى في المرحلة الثانوية يضطر لترك المدرسة والذهاب إلى البصرة ليدخل منها إلى الكويت بمساعدة المهربين حتى يعمل وينفق على أمه وإخوته الصغار.. أخو مروان يعمل بالكويت، وكان يرسل إلى الأسرة ما يكفيها، لكنه تزوج وتوقف عن إرسال نقود، بل أرسل رسالة إلى مروان يقول له فيها: لا أعرف معنى أن أظل أنا أعمل وأنفق على الأسرة بينما تذهب أنت إلى المدرسة السخيفة التي لا تعلّم شيئًا.. اترك المدرسة وغص في المقلاة مع من غاصوا..!! وبسبب توقف النقود يقبل والد مروان الزواج من فتاة فقدت ساقها بسبب قنبلة في غارة يهودية؛ لأنها تملك دارًا من ثلاث حجرات بسقف إسمنتي، فيهرب بذلك من مسئولية أسرته، ويحقق حلمه بالحياة في بيت له سقف بدلاً من خيام اللاجئين، ويؤجر حجرتين ويسكن هو وزوجته الجديدة في الحجرة الثالثة.

أبو الخيزران.. القيادة العاجزة الانتهازية..!!

يرفض الثلاثة التعامل مع المهرب المحترف الذي يصر على أخذ خمسة عشر دينارًا مقدمًا من كل فرد؛ لأنهم يعرفون أن الدليل يمكن أن يتركهم في منتصف الطريق ويهرب.

ويلتقون بالشخصية الرئيسية الرابعة في الرواية "أبو الخيزران"، وهو مهرب يعمل مع تاجر كويتي كبير اسمه "الحاج رضا"، يقبل "أبو الخيزران" أن يهربهم مقابل عشرة دنانير من كل منهم بعد الوصول إلى الكويت (ويعقد اتفاقا سريا مع مروان على أن يأخذ منه خمسة دنانير) في سيارة الحاج رضا التي لا تفتش لأن جميع رجال الحدود يعرفونها ويعرفون الحاج رضا، وهم أصدقاء للسائق نفسه.

"أبو الخيزران" سائق ماهر، عمل في الجيش البريطاني، وعمل مع الفدائيين فأصيب بقنبلة أفقدته رجولته وأعطته كل مرارة العالم، فكره نفسه، وجعل كل طموحه في تكوين ثروة يعيش بها في هدوء وسكون بعد عمر من الحركة التي لا تهدأ، كان يشعر أنه فقد أهم شيء في حياة الرجل من أجل الوطن، لكن الوطن لم يرجع، ورجولته فقدت إلى الأبد.

أما السيارة فهي سيارة نقل مياه قديمة متهالكة وبها خزان ضخم فارغ هو ما سيختفي فيه أبطال الرواية الثلاثة ليعبروا نقطتي الحدود العراقية والكويتية.

الرحلة الرهيبة..!!

يقدم غسان كنفاني شخصية "أبو الخيزران" كنموذج للقيادة العنينة الانتهازية التي تدعي التفكير في المجموع في حين أنها تسعى إلى مصالحها الشخصية مهما تأذى الآخرون أو أضيروا..

يتفق "أبو الخيزران" مع الثلاثة أن يبقى اثنان فوق الخزان ويجلس معه الثالث، وهكذا بالتبادل طوال الطريق في صحراء ترسل شمسها شواظًا من لهيب قاتل، وقبل أن يصلوا إلى نقطة الحدود بخمسين مترًا يدخلون الخزان، وعليه أن ينهى الإجراءات فيما لا يزيد على سبع دقائق ثم يسرع بالسيارة ليخرجهم من الخزان بعد 50 مترًا من نقطة الحدود.

الأكذوبة.. والموت..!!

وتنجح الخطة في نقطة الحدود العراقية، يختبئون في الخزان، يكادون يختنقون، لكن الأمر رغم الجهد يمر بسلام، وعند الاقتراب من نقطة الحدود الكويتية يستعدون لأخذ ما يسميه "أبو الخيزران" بالحمام التركي، ويطلقون عليه جهنم، لكن موظفا عابثا يعطل "أبو الخيزران" ويصر أن يحكي له السائق حكايته مع الراقصة العراقية "كوكب" التي تحبه لدرجة العبادة بسبب فحولته كما حكى له الحاج رضا (!!).. ورغم المفارقة المؤلمة في الحكاية الخيالية فإن تلك الأكذوبة تكون السبب في موت الثلاثة اختناقا في خزان المياه بسبب تأخر "أبو الخيزران" عليهم.

لماذا لم تدقوا الجدران..؟!

يفكر أبو الخيزران في إلقاء جثثهم في الصحراء لكنه يتراجع حتى لا تنهشها الضواري ويقرر أن يلقي بها فوق أول مزبلة يقابلها على الحدود ليسهل اكتشاف الجثث ويتم دفنها، وبعد أن يلقي بهم فوق المزبلة ويسير قليلاً.. يعود ليجردهم من الساعات والأموال.. وينطلق بسيارته مبتعداً وهو يتساءل بدهشة: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ وتردد الصحراء النداء الذي يؤكد سلبيتهم في مواجهة الموت؛ فهم حتى لم يدقوا جدران الخزان ليتم إنقاذهم حتى ولو سجنوا فهذا أهون من الموت.

يدين غسان كنفاني في روايته كل الأطراف التي تسببت في نكبة فلسطين، القيادات العاجزة، والقيادات الخائنة، والشعب المستسلم، والذين تخلوا عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص!!

عن الرواية

"رجال في الشمس" رواية قصيرة (110 صفحات من القطع المتوسط) لكنها محكمة، ليس بها كلمة واحدة زائدة أو موقف بلا معنى أو عبارة إنشائية، والكاتب لا يلجأ للشعارات أو المباشرة، ولكنه يوضح موقفه من خلال السرد الروائي الذي تتداوله شخصيات الرواية والكاتب، كما أنه يعتمد بشكل كبير على المنولوج الداخلي في سرد الأحداث، وواضح أيضا أن الكاتب استفاد من تقنية السيناريو السينمائي فحكى روايته بالصورة قبل كل شيء آخر، ولعل هذا من الأسباب المهمة التي جعلت المخرج المصري توفيق صالح يتحمس للرواية ويقرر أن يصنع منها فيلمًا سنة 1965 لكنه لا ينجح في ذلك إلا سنة 1972، وفى سوريا وليس في مصر.

المخدوعون.. أمانة تامة مع الرواية

قلت لتوفيق صالح: أنت لم تجامل نفسك عندما قلت إنك لم تشاهد فيلما في أي مكان في العالم كان أمينا مع العمل الروائي مثل فيلم "المخدوعون" المأخوذ من رواية "رجال في الشمس"؛ فقد التزم المخرج بالعمل الروائي تماما وبكل تفاصيله وبرسمه للشخصيات وتسلسل الأحداث فيه، ومع ذلك استطاع توفيق صالح صنع فيلم ممتاز حصل على العديد من الجوائز، وأرضى الجمهور، فأنت تجلس مشدودا لمتابعة أحداث الفيلم حتى ولو كنت تحفظ الرواية أو كنت قد انتهيت من قراءتها توًّا كما حدث معي؛ فهو يحافظ على إيقاع مشدود متوتر طوال الفيلم يساعده في ذلك موسيقى تصويرية جيدة، ولم تفلت منه الشخصيات ولم يضع لقطة واحدة زائدة أو في غير موضعها، كما أنه أضاف للرواية باستخدام إمكانات السينما ليعبر عن المعاني الرمزية والعميقة المختفية خلف السطور؛ ففي إحدى اللقطات مثلاً يموت أحد الفدائيين وتمتد يد مجهولة لتأخذ البندقية من يده المتشنجة أصابعها على قبضتها، وفي اللقطة الأخيرة من الفيلم نرى أصابع إحدى الجثث مضمومة بشكل يوحي بأنها قابضة على بندقية لكنها في الحقيقة فارغة وملقاة فوق القمامة ومن بعيد نرى خزانات البترول، كما أن توفيق صالح جعل الشخصيات الثلاثة تدق جدران الخزان لكن أحدًا لم يسمعها...

فوق "مزبلة التاريخ"..!!

يقول توفيق صالح: أعتقد أنه علينا أن نعرف من هي اليد المجهولة التي انتزعت منا السلاح فحدثت النكبة، وأعتقد أن القضية لن تعود إلى الحياة إلا بعد أن تقبض اليد الفارغة على السلاح وتستعمله، كما أن هؤلاء الرجال ماتوا فوق مزبلة التاريخ وهو يبحثون عن خلاصهم الشخصي بعيدًا عن المكان الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه، ماتوا وهم يبحثون عن الفتات في مواجهة الثراء الفاحش المتمثل في خزانات النفط.

وقد سألني غسان كنفاني: لماذا جعلت الرجال يدقون جدران الخزان..؟

قلت له: ألستم تخطفون الطائرات لينتبه العالم إلى قضيتكم..؟

قال: نعم..!!

قلت: فأنا أرى أنكم تدقون جدران الخزان لكن لا أحد يسمعكم؛ لأنه لا أحد يريد أن يسمعكم وعليكم أن تجبروهم لكي يسمعوا ويفهموا..!!

ولا بد أن أشير إلى أن الفيلم أنتج سنة 1973 من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق، وهو بطولة عبد الرحمن القرشي وبسام لطفي وصالح خلقي، وتصوير بهجت حيدر وموسيقى صلحي الوادي. كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية سنة 1973، واختير كواحد من أهم مائة فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية.

يمكن قراءة الرواية والفيلم قراءات متعددة لثرائهما الفني والفكري، لكن تظل إحدى الميزات الكبرى التي امتلكها الكاتب والمخرج الرؤية الثاقبة التي تنبأت بالمستقبل أو بشرت به أو دعت إليه فحدثت الانتفاضة وأصبح للفلسطيني صوت يسمعه العالم راضيًا أو مضطرًا...!!   

__________________

* كاتب وأديب مصري.

موقع "إسلام أنلاين" في 8 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"المخدوعون"

في الرواية والفيلم والواقع

منير عتيبة *