شعار الموقع (Our Logo)

 

 

كورقة خريف جافة، سقطت من شجرة الحياة في حزن يليق بالعظماء، بعد أن أمضي العشرين عاما الأخيرة من عمره يراقب الحياة يملؤه الشجن لأنه لم يعد قادرا علي المشاركة ليس بسبب عجز أصابه، ولكن لعجز أصاب الحياة فلم تعد قادرة علي احتمال أصحاب المواهب الحقيقية... واحتضنت مثل غانية رخيصة، أشباه المبدعين.

ولأننا اعتدنا تجاهل الأحياء، والاحتفاء بالموتي.. فقد اكتشفنا مؤخرا أن كمال الشيخ كان يعيش بيننا.. حتي أيام مضت ولكنه مضي بعد أن أدرك أن الحياة لم تعد تليق به.

نصف قرن، قضاها كمال الشيخ عاشقا للسينما مخلصا لها... مستسلما لرغبتها الجامحة في تغيير عشاقها!!

وربما يكون الخطأ التراجيدي لكمال الشيخ... أنه كان أقل من غيره صخبا... وضجيجا... عازفا عن الأضواء مكتفيا بما قدمه من أفلام تعد من كلاسيكيات السينما المصرية... ودرة تاج رأسها... وإذا كان كمال الشيخ قد بدأ علاقته مع السينما من غرفة المونتاج المظلمة، فقد أنهي علاقته بها في عام 1987 بفيلم طموح «قاهر الزمن» الذي كان أول وآخر فيلم مصري ينتمي إلي مدرسة الخيال العلمي... وكان لابد للفيلم أن يقابل بلا اهتمام، لأن المجتمع المصري نفسه لم يكن مؤهلا لاستقبال أي محاولة للابتكار أو الاختلاف عما هو سائد وكان لابد أن يدرك كمال الشيخ أنه لم يعد قادرا علي التناغم مع عصر الفهلوة والفن الاستهلاكي وتيار السينما الرديئة الذي سيطر علي الساحة حتي وصل بصناعة السينما المصرية... إلي ما نشاهده الآن من أعمال ممجوجة.

اختار  كمال الشيخ أن يبدأ أول أفلامه مع فيلم مختلف عما كان يقدم في الأربعينيات.. وأضاف بفيلمه المنزل رقم 13 دهشة الوسط السينمائي.. الذي كان غارقا في أفلام الميلودراما الغنائية.. وميزة الفيلم أنه كان تحديا للمألوف فتي الشاشة «عماد حمدي» الذي كان من أهم من لعبوا أدوار العشق والغرام، نشاهده في شخصية «قاتل» تحركه أهواء طبيب نفسي، «محمود المليجي» استطاع أن يسيطر علي إرادته عن طريق التنويم المغناطيسي ويدفعه لارتكاب عدة جرائم وهو خارج الوعي.... ويعتبر المنزل رقم 13 بداية لأفلام التشويق والإثارة والترقب التي برع فيها كمال الشيخ متأثرا بأسلوب المخرج هيتشكوك رائد هذه المدرسة في السينما العالمية.

وتتوالي أفلام كمال الشيخ في هذا الاتجاه ليقدم أفلاما مقتبسة من السينما العالمية مثل «لن أعترف» و«حبي الوحيد» و«الليلة الأخيرة» و«الخائنة». ولكن هذه السلسلة رغم نجاحها الفني لم تكن كافية لإرضاء طموح كمال الشيخ في التفرد والتغيير، فتحللها أفلام أكثر إبداعا وأقل حظا من النجاح التجاري، مثل «حياة أو موت» الذي يعتبر حالة خاصة في السينما المصرية... حيث يخلو من الصراع التقليدي بين الخير والشر أو بين الشرير والطيب، القاتل والضحية، الفيلم تدور أحداثه حول زوج مريض «عماد حمدي» تهجره زوجته «مديحة يسري» فيرسل ابنته الطفلة لشراء الدواء، إلا أن الطبيب الصيدلي يخطأ في تركيب الدواء، ويعطي الطفلة، دواء به سم قاتل!! ويقدم الفيلم ما يقرب من ساعتين من الترقب والتوتر وفي متابعة محاولات الشرطة للوصول إلي الزوج المريض، لتحذيره من شرب الدواء!! يشارك في الفيلم أسماء في حجم يوسف وهبي، حسين رياض، مديحة يسري، في أدوار صغيرة ولكنها شديدة الأهمية.. أما البطل الحقيقي فهو زجاجة الدواء التي تحمل الموت... تحديا لم تكن السينما المصرية تعرفه قبل كمال الشيخ... أما فيلم  «ملاك وشيطان» فكان نوعا آخر من الإبداع الذي يعتمد علي جمال الفكرة، وقدرات الممثل «زكي رستم» ورشدي أباظة في واحد من أهم أدواره عمقا.

مع الاستخدام المثالي للأدوار الثانوية «أفراد العصابة» و«عشيقة البطل» والطفلة المخطوفة التي تغير من سلوكيات المجرم الشرير، وتحويله ببراءتها إلي ملاك... يضحي بحياته من أجل سلامتها... ولاشك أن فيلم «اللص والكلاب» المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ كان نقطة انقلاب جديدة في حياة كمال الشيخ حيث قدم لأول مرة الفنانة «شادية» في دور بلا غناء، في وقت كانت فيه نجمة في عالم الغناء وعالم السينما معا!! كما قدم رسام الكاريكاتير والشاعر «صلاح جاهين» في دور تمثيلي يعتبر من أهم مساهماته في هذا المجال «طرزان» صاحب الملهي الليلي الذي يؤوي العاهرات والبلطجية.. ولكن بمفهوم إنساني يبتعد عن الأكليشيهات التقليدية التي اعتادت السينما المصرية أن تقدمها عن تلك النماذج... المومس الفاضلة... وصديقها النبيل الذي يتستر علي عورات أصدقائه... أما سعيد مهران ورؤوف علوان فكانا قطبي الصراع في أعقد دراما إنسانية الانبهار بالخصم ثم الانقلاب عليه.... الإيمان المطلق بمبادئ مدمرة يزرعها رؤوف علوان المحرض علي الجريمة... في نفس سعيد مهران الذي يكتشف زيف من كان يعتبره مثله الأعلي... ثم محاولة سعيد مهران الانتقام من هذا النموذج الذي أفسد حياته وكأنه ينتقم من المجتمع كله!! وفي «بئر الحرمان» يقدم كمال الشيخ لونا آخر من التحدي، وهو الغوص في أعماق النفس البشرية ليقدم نموذجا لامرأة عاهرة، وفتاة شديدة الرقة يعيشان في جسد واحد، وتقفز سعاد حسني بهذا الفيلم من مرحلة الفتاة الشعبية إلي دنيا الأدوار المؤثرة التي تحتاج إلي موهبة ممثلة متمكنة.. من الأفلام المصرية النادرة التي تعتمد علي التحليل النفسي «السيكودراما» التي لم تقدمها السينما المصرية إلا فيما ندر.. نظرا لصعوبة تقبل الجمهور لها.

وفي «الصعود إلي الهاوية» يضع كمال الشيخ، مديحة كامل بين صفوف ممثلات الدرجة الأولي بعد أن استهلكت نفسها في كم هائل من الأدوار المساعدة في أول فيلم تدور أحداثه حول صراع المخابرات المصرية الإسرائيلية من خلال قصة الجاسوسة «عبلة كامل» التي جندتها المخابرات الإسرائيلية، لتوقع مجموعة من الشخصيات المصرية والعربية في شباكها... إلي أن تنجح المخابرات المصرية في استدراجها لرحلة عودة إجبارية إلي مصر... حيث تلقي المصير الذي تستحقه.

ويبدو أن سعاد حسني كانت النجمة المفضلة لدي كمال الشيخ!! مثلما كانت حلما لكل مخرجي وجمهور السينما المصرية... فقدم لها أجمل روائعه «غروب وشروق» و«علي من نطلق الرصاص» حيث ينتمي كل منهما إلي تيار السينما السياسية الأول تدور أحداثه عن المخاض الاجتماعي والسياسي الذي انتهي بثورة يوليو... والثاني عن بداية الانحراف الاقتصادي والسياسي في السبعينيات أما فيلمه «ميرامار» فكان ولايزال علي رأس قائمة الأفلام السياسية التي انتقدت بشدة مساوئ المنهج الاشتراكي في عز مجد عبد الناصر وكاد الفيلم وصناعه يتعرضون لمذبحة رقابية... لولا تدخل أنور السادات شخصيا الذي تحيز وقتها لحق الفن في نقد الحكومة... تاريخ كمال الشيخ يزخر بالأفلام الجادة التي يصعب تكرارها وعندما أدرك أن ظروف السينما المصرية لن تسمح له بتقديم ما هو أكثر إبداعا مما سبق له تقديمه، قرر أن يلوذ بالصمت ويكتفي بالفرجة وتأمل الحياة، ويبدو أن ما شاهده كان من القبح مما جعله يلوذ بالموت... ليحتمي به من سوء حال الدنيا.

جريدة القاهرة في  13 يناير 2004

كتبوا في السينما

 

 

مقالات مختارة

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: لقاء صحفي

فيلليني الميت وبرلوسكوني الحي
صوفيا لورين

 

 

كمال الشيخ

قرر أن يلوذ بالموت.. إعتراضاً على حال السينما!!

بقلم: ماجدة خير الله