لفت كاتب السيناريو تامر حبيب الأنظار بفيلمه الأول "سهر الليالي" الذي ما زال حاضـراً في الذهـن. وعندما قرأت اسمه مقترناً باسم المخرج خالد الحجر في فيلم "حب البنات" توقـعت أن أشاهد فيـلماً مصرياً عربياً متميزاً, فهل كان فيلمهما الجديد المشترك على مستوى الطموح المنتظر؟ قبل عقدين تقريباً شاهدت للمخرج خالد الحجر فيلمه الطويـل الأول "أحلام صغيرة", وقبل عقد تقريباً, عندما كنت مسؤولاً عن مهرجان الاسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة عرضت له فيلمه القصير "حاجز بيننا" الذي أخرجه في إنكلترا, أثار كل من الفيلمين في حينه جدلاً حاداً, كما أثار فيلمه الطويل الثاني "غرفة للإيجار" الضجة نفسها عندما عرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2000. فهو مخرج يسير عند حافة التماس بين المسموح والممنوع, وهي على اي حال المنطقة التي يتحرك فيها - غالباً - كبار الفنانين. افكار ملتبسة يصدمنا خالد الحجر بحكاياته التي تحمل أفكاراً ملتبسه, الفيلم الأول عن طفل يموت أبوه وهو يشارك في المقاومة ضد العدوان الثلاثي على مصر 1956, ثم يموت الطفل إذ تصدمه إحدى السيارات المشحونة بالجماهير التي ذهبت لمنع جمال عبد الناصر من التنحي إثر نكسة 1967. والفيلم القصير لخالد الحجر كان عن علاقة حب بين شاب مصري وفتاة يهودية. الفيلمان يضمان صوراً وعلاقات شائكة, يلقي خالد الحجر, بحجر, في مياهها الراكدة, يكشف عن المسكوت عنه ويثير تساؤلات ومناقشات, كانت إثارتها, وما زالت, ضرورة لفهم الكثير من مجريات الأمور حولنا. أما فيلم "حب البنات" فيحكي أربع قصص حب, لعلنا سبق أن شاهدنا كلاً منها في فيلم من الأفلام, لكنه ينجح في الجمع بينها في بناء متماسك, يفرض تواجدها معاً, ليطرح من خلالها وجهة نظره العامة في الحب, الذي يعتبره وراء كل المشكلات والعقد التي تصيب الرجل والمرأة, وهو ما يجعل هذه النظرة ترجمة - بشكل ما - لنظرية فرويد في الجنس. أخوات ثلاث متباعدات يحملن اسم الأب الموحد بينهن, لكن لكل منهن أماً مختلفة وظروفاً حياتية مختلفة. تفرض عليهن وصية الأب أن يعشن معاً تحت سقف واحد مدة عام حتى يحق لكل منهن نصيبها من الميراث الضخم, أو تفقده إذا رفضت هذه الإقامة الجبرية. الأخت الكبرى (ليلى علوي) هي الفتاة التي تضحي بحبها من أجل رعاية أمها ثم أبيها في أواخر حياتهما, وعندما يعود إليها الحبيب المخرج التلفزيوني (أحمد عز) يطلب ودها بعد أن فشل في زواجه وظل على حبه لها, يحول بينهما - على رغم حبها له - شعورها بالذنب نحو زوجته, والخوف من خيانة الرجل تأثراً بسيرة الأب. اختها المعيدة في الجامعة (حنان ترك) التي تعيش مع أمها في الاسكندرية, اعتبرت الأنوثة ضعفاً "بتأثير الأب أيضاً", وتمثلت في ملابـسـها وتصرفـاتـها بالرجـال. تـقـاوم مشاعرها الأنثوية التي يحاول الطالب الرياضي (أحمد برادة) اقتحامها. أما الأخت الأصغر (هنا شيحا) فجاءت بناء على الوصية من لنـدن حيث تعيش مع أمـها. إنها فتـاة عصرية يساء فهمها من الآخرين, بسبب ميلها إلى التحرر والانطلاق, على رغم تمسكها بالقيم الأخلاقية المسلّم بها. تبدأ علاقتها بالممثل السينمائي (خالد أبو النجا), لكنها تكتشف نرجسيته الشديدة التي تجعله ينكب على حب نفسه, ويرى في من تحبه تابعة لا زوجة, فتتركه لتقترن بعد ذلك بالطبيب النفسي (أشرف عبد الباقي). وقصة الحب الرابعة هي قصة هذا الطبيب النفسي, الذي تقع عيادته في مواجهة شقة البنات, وهو يقع في حب كل منهن على التوالي: ليلى ثم حنان, ثم هنا. لكنه يكتشف عندما تتسلل كل منهن إلى عيادته لمعالجة مشكلتها أن حبه ليس حباً حقيقياً, وإنما كان وهماً, في ما عدا حبه الأخير. عقلانيات ربما تحسب للفيلم مناقشاته العقلانية الحية لبعض القيم والتصـرفـات المتعلقـة بالحـب, والعـلاقـة بين الرجل والمرأة, وإن جاءت وجهة نظره تبسيطاً شعبياً لنظرية فرويد, لكنه لا يخلو - في نظري - من طرافة. وجاءت كل قصة من قصصه الأربع لتعالج جانباً من مشكلات الحب ومفاهيمه, ومن خلال سرد القصص ذاتها, بالإضافة إلى مناقشة بعض جوانبها مع الطبيب, يطرح الفيلم من الآراء المستنيرة ما يفيد الشباب خصوصاً, وإن كانت هذه الآراء معروفة لدى النخبة لكنها ليست شائعة, ومن هنا تأتي أهمية الفيلم التربوية في تحقيق شيوعها وترسيخها, وهي مهمة نبيلة في ذاتها. ولكن هذه المهمة تبدو أقرب إلى وظيفة الأعمال الفنية التلفزيونية منها إلى وظيفة الفيلم السينمائي التي اقترب منها كل من مخرج الفيلم وكاتبه في أعمالهما الأولى, حيث افتقد هذا الفيلم ما تميزت به أعمال الحجر السابقة من إثارة ذهنية وتساؤلات مصيرية من قبيل: إلى أين نحن سائرون؟ (أحلام صغيرة), وهل يمكن رفع الحواجز بيننا وبين الآخر/ العدو؟ (حاجز بيننا). كما فقد سيناريو الفيلم ما تميز به سيناريو الفيلم الأول لتامر حبيب من معان ملتبسة مثيرة للتفكير بعد أن وضع مؤسسة الزواج موضع التساؤل ربما للمرة الأولى في السينما المصرية / العربية, حينما جعل المصالحة بين الأزواج في النهاية مصالحة ظاهرية, بينما تستمر الحياة الزوجية على علاتها. وجاءت الرقصـة الجماعيـة في نهاية "حب البنات" تكراراً للمشهد المماثل في فيلم "سهر الليالي", ولكن بعد أن فقد المشهد عمقه, فالرقصة في "سهر الليالي" تحمل أكثر من معنى نفاجأ به في النهاية, بينما تأتي الرقصة في "حب البنات" على غرار النهاية التقليدية السعيدة في أفلامنا القديمة التي تنتهي بزفة الفرح الذي يجمع بين الأحبة, وإن جرى عليها التحديث(!!), باستبدال راقصة الفرح الشرقية في الفيلم القديم برقص جماعي غربي. غير أن هذه المآخذ, وإن كانت تقلل من قيمة الفيلم الدلالية, لا تمس قيمته التقنية التي تحقق المستوى القياسي المطلوب سواء في التصوير (سمير بهزان) أو المونتاج (دينا فاروق), كما حقق الممثلون أداءً مقنعاً بحساسية ليلى علوي الدقيقة لمتطلبات المواقف, وتقمص حنان ترك المتقن للشخصية المعقدة, وتلقائية هنا شيحا (التي تمثل للمرة الأولى), وخفة ظل أشرف عبد الباقي التي انقذت الفيلم من التحول إلى درس ممل كما يحدث كثيراً في أفلامنا. وذلك فضلاً عن الحوار العقلاني الذكي, والسيناريو المحكم إلى حد كبير, بالإضافة إلى حرفية الإخراج المتمكنة في إدارة كل هذه العناصر مع الحفاظ على جاذبية روح الفكاهة وحيوية الإيقاع عامة. المقارنة التي تنقذ وتتعزز قيمة الفيلم النسبية عند مقارنته بالأفلام المصاحبة له في العرض, مع بداية هذا العام, وحتى الآن, ومنها "صايع بحر" الذي يمثل نسخة أخرى من فيـلم "اللمبـي" محتفظاً بمواطن ضعفه من افتقاد السيناريو للتماسك, مع إضافة المزيد من الابتذال, فبدلاً من إثارة تعاطفنا مع الشخصية الهامشية التي تكشف مشكلاتها عن مواطن ضعف في المجـتمع, كما نـرى فـي "اللمبـي" نجد أن الشخصية هنا (أحمد حلمي) موضوع الفيلم, شخصية عدوانية منحرفة, حينما يمارس الجنـس مع فتاة الليل داخـل عيـادة الطبيب ويتركها ويهرب لتطالب الطبـيب بالأجر, أو حينما يتحايـل على اصـطياد امرأة مع رجل آخر ليغتصبها صديقه ونسمع صراخها, وهو ما قد يضحك البعض (!!), لكنه لا يكسب تعاطفنا معه, ولا يعبر عن شيء ذي أهمية, فضلاً عن فصول (الردح) المتلاحقة, ومبالغات الأداء التمثيلي الممجوجة. ولا يغفر للفيلم استجداء ضحك الجمهور أو تصوير بعض المواقع الجديدة في مدينة الاسكندرية, حتى وإن كشفت عن بعض مواطن الجمال في المدينة. أما فيلم "الباشـا تلميـذ" وهـو لكاتب سيناريو الفيلم السابق (بلال فضل) فكان أفضل - نوعاً ما - من ناحية تماسك السيناريو, ويحكي لنا عن عملية زرع ضابط شاب بين طلبة إحدى الجامعـات (الخاصـة), للكشف عن عصـابـة مخـدرات بـين الطلبـة, ويقع الضابط في حب إحدى بـنـات شلة المخدرات, كما يـقـع في ورطـات عـدة تـنجـح في إثـارة الضحـك - أحيانـاً - ويـنجـح كريم عبـد العـزيـز في دور الضابط الشـاب نجاحاً محدوداً. وكان فيلم "سنة أولى نصب" أول أعمال كاملة أبو ذكرى, إخراجاً, بعد فيلمها الأول الفقير الممتاز "قطار السـاعـة السـادسـة", عن العجـوز (محمد توفيق) والد الشهيد الذي ينـتـظر عودته كل يـوم على محـطة قطار السادسة الذي وعـده بالعـودة فيـه, وكنا نتوقع منها فيلماً أفضل, لكنه على كل حال بعيد عن الابتذال, ويشير بحرفة إلى مشكلة بطالة الجامعــيين, وإن جنـح - بحثـاً عن الحل - إلى تقـديم عـالم مثـالي متـسامح لا وجود له إلا في أحلام أصحاب اليوتوبيا, إذ تتزوج الفتاة (نور) الواسعة الثراء من الفتى المعدم (أحمد عز), ويتبنى الشابين رجـل أعمال (حسن حسني) يقيم لهما مشروعاً, وتحل كل مشكلاتهما في الحياة والحب, بعد ورطات يقـعـان فيها وهما يحاولان النصب بين رواد شرم الشيخ, للفرجة وإثارة الضحك الذي أصبح هدفاً لكل فيلم بأي ثمن. ولكن ليس بالضحك وحده تستقيم الأفلام. جريدة الحياة في 26 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
بين "حب البنات" وحصاد أفلام أول العام: ليس بالضحك وحده تقوَّم الأفلام وتحاسب هاشم النحاس |
|