ما كتبه حسن حداد

 
 
 
 

Being There

1979

أن تكون هناك

 
 
 

نشر هذا المقال في مجلة هنا البحرين في 12 يونيو 1991

 
 
 

بطاقة الفيلم

 
 

تمثيل: بيتر سيلرز + شيرلي ماكلين + ميلفين دوغلاس + جاك واردن + ريتشارد ديسارت + ريتشارد باسيهارت

إخراج: هال أشبي ـ سيناريو وحوار: جيرزي كوسينسكي ـ تصوير: كاليب دزتشانيل ـ موسيقى: كاليب دزتشانيل ـ مونتاج: سيد زمميرمان ـ إنتاج: أندرو برونسبيرج

 
 
 

شاهد ألبوم صور كامل للفيلم

 
       

Being There

مهرجان الصور
       
 
 
 
 
 
 
 
 

رؤية

 
 
 
 
 

"أن تكون هناك" هو اسم الفيلم الأمريكي الذي أخرجه "هال أشبي"، وقام ببطولتة الممثل الكبير "بيتر سيلرز"، في آخر أفلامه الكوميدية وأهمها. انه حقا، فيلم هادئ ومتميز، استطاع الخروج من نمط الأفلام الأمريكية الكثيرة، التي تهدف إلى تكريس صورة السوبرمان الأمريكي، مستخدمة في ذلك كافة الوسائل والأساليب التقنية والفنية، كما أن تميزه هذا يستمده من كونه نجح، وبشكل مقنع وسلس، في نزع ذلك القناع عن الوجه الحقيقي للمجتمع الأمريكي بعيدا عن كل زيف.

يتحدث الفيلم عن "تشانس"، ذلك الرجل البسيط الذي عاش طوال حياته منعزلا عن العالم الخارجي، أمضاه يعمل كبستاني أجير في أحد المنازل، لم يكن لديه فيه من اهتمامات سوى الاعتناء بحديقة المنزل ومشاهدة التلفزيون إلى درجة الهوس، باعتباره النافذة الوحيدة التي يطل منها على العالم. يضطر هذا الرجل لترك عمله هذا ومغادرة المنزل، بعد وفاة المالك، بناء على طلب مصلحة العقارات.

من هنا يبدأ، هذا الرجل، مشواره الصعب في التعامل مع المجتمع الأمريكي الصاخب والمناقض لطبيعته الهادئة والبسيطة. فيهيم في الشوارع ماشيا، دون وجهة محددة، حيث يمر ببعض المواقف التي تؤكد عدم معرفته ومقدرته علي التعامل مع هذا المجتمع الجديد عليه. إلى أن يتعرض لحادث بسيط من سيارة، تصر صاحبتها الثرية على نقله إلى قصرها، لفحصه من قبل الطبيب الذي يشرف مع طاقم من الممرضات على صحة زوجها الثري الذي يحتضر. في القصر، ينشد الجميع لهذا الرجل وذلك لسلوكه غير المألوف، وهو يواجه حياة القصر الجديدة والبروتوكولات الأرستقراطية. فترتاح سيدة القصر لوقاره وهدوئه، أما زوجها المريض (راند) فينشد إلى الغموض الكامن - كما يعتقد - وراء أجوبته المتقضبة، دون أن يكون قادرا بحكم انتمائه الطبقي وموقعه البارز علي خارطة الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي، علي تمييز المنبت الطبقي البسيط، لهذا الرجل. الأمر الذي جعله يتعامل مع تلك التلقائية والعفوية على أنهما ينمان عن شخصية بارزة، لا تريد أن تفصح الكثير عن جوانبها.

وبهذا التحليل الخاطئ من قبل الرأسمالي العجوز لشخصية "تشانس"، وباقتناع الجميع - بدون تردد- بهذا التحليل، تتكون شخصية وهمية جديدة لهذا الرجل البسيط، تصاحبها - أيضا- الكثير من المفارقات الاجتماعية والكوميدية التي تحدث بسبب عدم فهم الجميع له، وتفسير كل كلمة ينطقها تفسيرا خاطئا، ينبني- أساسا- علي نمط الشخصية الجديدة.

تتوطد العلاقة بين المليونير "راند" وصديقه البستاني "تشانس"، ويصر على أن يعتمد عليه في الكثير من مشاريعه الاقتصادية وحياته الاجتماعية، حتى تصل إلى أن يدعوه لأن يكون معه عند استقباله للرئيس الأمريكي في القصر.

وفي أثناء هذا اللقاء مع الرئيس الأمريكي، يساء فهم "تشانس" مرة أخرى. حيث كان النقاش بين الرئيس ومضيفه حول مستقبل الاقتصاد الأمريكي، يقابله عدم اكتراث من قبل "تشانس" لجهله بهذه الأمور، ولكنه يفاجأ ويصاب بالارتباك، عندما يسأله الرئيس عن رأيه. ومع ذلك، فهو يجيب بهدوئه المعتاد، الذي يفسره الآخرون علي انه دلالة أكيدة علي رصانة في الرأي. فيقول مستفيدا بخبرته كبستاني: "هناك فصلان رئيسيان، الشتاء والربيع. لنثر البذور في الشتاء حتى تطلع الأزهار في الربيع ".

وطبعا يثير، رأي "تشانس" استغراب واستهجان الرئيس، إلا أن صديقه "راند" يسارع إلى تفسير جوابه بأنه علينا أن نتحمل الكثير في سبيل إرساء دعائم سياستنا الاقتصادية الجديدة من الآن، حتى نتمكن من جني ثمارها فيما بعد". هنا يعتبر الرئيس هذا الكلام، بمثابة نظرية جديدة في الاقتصاد، فيستشهد بها في خطابه إلى الأمة، ويتحدث إلى الكونجرس عن رأي "تشانس" من انه لابد لكل حديقة من بستاني.

وبهذا، تتفتح أبواب الشهرة لهذا الرجل البسيط، وتثار ضجة إعلامية حوله وتسعى كبريات الصحف والمحطات التلفزيونية لإجراء مقابلات معه، يمر خلالها بمواقف كوميدية، يفترض أنها محرجة، إلا أنها تفسر بشكل مغاير تماما لحقيقتها وينتهي الفيلم، دون معرفة الجميع لشخصية "تشانس" الحقيقية ماعدا طبعا، الطبيب الذي يتوصل لمعرفة الحقيقة من المحامي. لكنه لا يجرؤ علي البوح بذلك، عندما يرى أن الضجة الإعلامية حول "تشانس" قد بلغت حدا لا يمكن لأحد أن يصدق معلوماته عن هذه الحقيقة.

يتناول الفيلم نموذجين من المجتمع الأمريكي، الأول ويمثل مراكز القوى السياسية والاقتصادية التى تتحكم في مصير المجتمع الأمريكي، بكل ما يحفل به هذا النموذج من صراعات وتعقيدات، تتناقض تماما مع النموذج الثاني الذي يمثله "تشانس" بكل ما يرمز إليه من طبيعة إنسانية بسيطة وصادقة ذات فطرة نقية وسليمة وهي صفات اختارها الفيلم ليس بشكل اعتباطي، وإنما لإثبات مدى صلاحيتها لتسود بين أفراد المجتمع الأمريكي. حيث أنها صفات يفتقد إليها التركيب النسيجي للنموذج الأول. فالفيلم في نهايته، وبموت الرأسمالي العجوز، يؤكد على ضرورة التخلص من الآثار الاجتماعية التى خلفتها سيطرة النموذج الأول. مع ملاحظة إن الموت حدث في جو خريفي باهت بينما بقى "تشانس" البسيط تاركا مراسم الدفن، ليعتني بشتلة خضراء صغيرة وسط تلك الغابة الجرداء. هنا تأكيد واضح على أن النموذج الثاني هو الإصلاح، ولابد له أن يجري في عروق المجتمع الأمريكي ويتأصل فيه، هذا إذا أراد الاستمرار وتوفير مستقبل افضل.

يعد هذا الفيلم من الأفلام الكوميدية الهامة. وذلك لأن الكوميديا فيه تعتمد علي مواقف طبيعية، لم تكن مفتعلة بغية الإضحاك الرخيص والمبتذل، وإنما لكونها كوميدية تعد انعكاسا طبيعيا لشخصية من نوع شخصية "تشانس"، وهذا - بالطبع- قد ساعد كاتب السيناريو والمخرج والممثل علي- استثمار ذلك في كشف عيوب المجتمع الأمريكي. فعندما تصدر مثل هذه المواقف من رجل بسيط مثل "تشانس" فإنها لا تثير الاستغراب أو التشكيك، بل إنها تعكس توظيفا صحيحا للكوميديا، حيث إنها تقوم بذلك الدور الناقد والفاضح من خلال عيون نقية ومحايدة وفطرة سليمة مما يكسبها مصداقية لدى المتفرج.

وعند الحديث عن فيلم "أن تكون هناك" لا يمكن إلا أن نتحدث عن الأفلام الأمريكية، فالقفزة السريعة التى انتقل بها "تشانس" من رجل مغمور الى شخصية فاقت شهرتها الأوساط العامة في المجتمع إلى آفاق الدوائر الهامة في الدولة، دون أن تكون لديه المعرفة أو حتى الرغبة في ذلك. هذه تشكل بالفعل إدانة واضحة ومباشرة للصناعة الإعلامية الأمريكية، التى وان كانت تمتلك تقنية وإمكانيات فائقة إلا إنها علي الأغلب تتعامل مع الضواهر الاجتماعية من قشورها فقط، دون النظر والتعمق في بواطنها، وبذلك تثير في معظم أنشطتها فقاعات إعلامية ليس إلا.

أخيرا، لابد من الإشارة بان فيلم "أن تكون هناك" لم يستمد أهميته وتميزه من مضمونه الفكري فحسب، وإنما جاء ذلك أيضا بسبب وقوف كادر فني وتقني جيد وراء هذا المضمون. فهناك الممثل القدير "بيتر سيلرز" الذي أدى دوره بإتقان وتميز لدرجة جعلتني لا أتصور إن ممثلا آخر قادر على أداء هذا الدور. وهناك أيضا التكامل في النواحي الفنية الأخرى الذي وفره لنا المخرج علي مدى اكثر من ساعتين.

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004