ضربات بيانو هادئة مع كلّ صورةٍ فوتوغرافية تظهر على الشاشة
متحولة ببطءٍ من حالةٍ ضبابية(فلو) إلى الوضوح, وكأنها تأتي من زمنٍ بعيد,
وتجسّد ذكريات, ومن ثمّ يأتي عنوان الفيلم حازماً, وصادماً : (يا أنا, يا
حيفا),..لا خيّار ثالثَ بينهما, ويفرض على المتفرج اختياريّن ثابتين, مثل
اللقطات نفسها المُتأتية من ثبات الكاميرا طوال الوقت, ورسوخها فوق حامل.
فكرةٌ بسيطةٌ, وعميقة, علاقة حبَّ مُجهضة بين (نبيل) المُتشبث
عشقاً بمدينته حيفا, و(سماء) المُتخيّرة غربتها في كوبنهاغن, والأنترنت
وسيلة الاتصال الوحيدة بينهما .
منذ اللقطات الأولى يتضح اهتمام المخرج الفلسطينيّ (شادي سرور)
بالضوء, عندما يستيقظ (نبيل) من نومه, والإضاءة تخترق الشبابيك, والستائر
البرتقالية اللون.
لقطةٌ متوسطةٌ لوجهه, وانعكاس الضوء يرسم خطاً فوق تضاريسه
المُتوّجعة, ويكبر أكثر فأكثر, ويتسّع معه حجم اللقطة .
بطئ الإيقاع الداخلي المُتعمّد, يجعلنا نتوقف قليلاً عند صورٍ,
وأشياء مُعلقة على حائط الغرفة : صورةٌ فوتوغرافيةٌ قديمةٌ للجدّ (بالأبيض,
والأسود), عكازٌ, صورةٌ ملونةٌ تجمع العاشقان(نبيل), و(سماء), خريطةٌ
قديمةٌ لفلسطين قبل الإحتلال .
بينما حزمة ضوءٍ تخترق زجاج النافذة, وتسقط على الجانب الأيمن
ل(نبيل), وكأنها إضاءة مصباح كبير.
المُستغرق أكثر في اللقطة, سوف يثير اهتمامه الإضاءة
المُتواترة لشاشة التلفزيون الفضية, والذي نسيّ (نبيل) إغلاقه قبل أن
يغالبه النوم.
وهي عنصرٌ جماليّ يتعمّد (شادي سرور) إظهارها في لقطةٍ لاحقة,
وكبيرة, عندما تمتدّ يدّ (نبيل) كي تغلقه, حبيبات الشاشة تشبه تلك
المُنعكسة من الكمبيوتر في دوره اللاحق كوسيلة اتصال, وهو ما يفسّر اللجوء
إلى كتابة عناوين الفيلم بنفس طريقة (الدردشة) بين العاشقيّن .
وكما يهتمّ (شادي) بالإضاءة, يتضح ميله للعلاقة المُتبادلة بين
مقدمة الصورة, وعمقها, فبعد أن ينهض (نبيل), ويرتدي معطفه, ينظر إلى الحائط
خلفه, لتظهر لقطة متوسطة تجمع الأشياء الأربعة/الذكريات ووجهه في تكوينٍ
متساوٍ.
وفي لقطةٍ لاحقة, عامة, ودالة في تكوينها, وشخصياتها, يعبر
رجلٌ مسنٌ يستند على عكازٍ من يسار مقدمة الصورة إلى يمينها, وبعد ثوان,
يظهر في العمق (نبيل) يتكئ على عكاز أيضاً, سوف نعرف فيما بعد بأنها كانت
تخصّ الجدّ الراحل, وفي الوقت الذي يسبقه الرجل في حركته, ينظر(نبيل) إليه,
يتباطئ, وكأنه منشغل ذهنياً بأمرٍ ما, ويكمل صعود الشارع بصعوبة.
وما يزال المخرج يحافظ على لقطاته الثابتة, والمتوسطة,
والذهاب, والإياب ما بين عمق الصورة, ومقدمتها.
(نبيل) يعاني من ألمٍ في ظهره, ولهذا السبب, يستعين بعكاز جده,
بينما يُذكره الطبيب بأنه ما يزال شاباً, ويتحدث معه عن عمله السابق في
إيطاليا, وزوجته الراحلة (أم سلمى) التي دفعته للعودة إلى حيفا.
هذه إشارةٌ ضمنية للتيمة الرئيسية للفيلم, سوف تتضح تباعاً في
علاقة(نبيل), و(سماء), وشخصية ثالثة, معنوية, مدينة حيفا.
(نبيل) إذاً صحفيّ, وقد كتب لتوّه تقريراً عن الهجرة, بعد أن
كان يكتب عن العنصرية في إسرائيل, (وائل) زميله في العمل, (مثليّ)ٌ يفكر
بالهجرة إلى نيوزلندة.
إضاءةٌ قويةٌ لشمسٍ تتوسط النهار تُعيد (نبيل) إلى الماضي
ليُحلق في اللقاءات الأخيرة مع (سماء) الواقفة في الشرفة تطلّ على حيفا,
ودائماً تلك الضربات الموسيقية الهادئة للبيانو.
يتعمّد(شادي شرور) إيهام المتفرج بالمزج بين ماضي/ وحاضر
الشخصيات, وبعد لقطةٍ عامة في صالون المكتب, يخرج (نبيل) إلى الشرفة حيث
(سماء) تتأمل جمال المدينة, هل يحدث هذا اللقاء في الحاضر, أم الماضي ؟
هاهي تيمة الفيلم الرئيسية, والمعاناة الداخلية ل(نبيل) تتجسّد
في تلك الذكريات مع (سماء), هي إذاً لا ترغب العيش في حيفا, وهو يفضل
البقاء فيها.
سماء : تعالَ نعيش في كوبنهاغن, ولا أيّ مدينة ثانية.
نبيل : وأترك حيفا..
سماء : أنا, ولاّ حيفا
وبينما يكاد الأمر يختلط على المتفرج, ويعتقد بأن (سماء) تعيش
في حاضر (نبيل), وليس في ذكرياته, تأتي اللقطة الأخيرة, عامة, وفيها تدخل
(سماء) من الشرفة إلى داخل بهو المكتب, هي تتأمل جوانبه, وتفاصيله, ولأنّ
إضاءة النهار الخارجية لا تُضئ المكان كليا,ً تظهر الشخصيات وكأنها تعيش
عتمة علاقتهما المُترددة, المجروحة, ...هو يدخن, ويحتسي فنجان قهوة, وهي
تتحسّس أزهاراً في وعاء.
تُشعرنا نظراتها بأنها تودّع هذا المكان, كي تعود من حيث جاءت,
وربما تختفي من حياة (نبيل) الذي يعشق حيفا أكثر منها, مشهدٌ يجمع ما بين
الصورة السينمائية, وسينوغرافيا مسرحية تمزج ما بين الواقع, والمُتخيل.
فيلم (يا أنا, يا حيفا) شعريّ, تأمليّ, حنينيّ, ينتصر فيه
الحبّ الصامت على الزعيق, والشعارات.
"يا أنا يا حيفا" 15 دقيقة ـ 2007ـ إخراج شادي سرور، تمثيل :
ربيع خوري - أسماء عزايزة- لطف نويصر- زيوار بهلول، موسيقى: ريمون حداد،
مونتاج: نعمان بشارة، كتابة: إياد برغوثي، تصوير: وليد حمدان، إنتاج,
وإخراج الصورة : عنان بركات, ديكور, وتصميم: رولا جمالية, تمّ إنجاز العمل
بمساعدة طلاب المدرسة العربية الفلسطينية للسينما في الناصرة: تميم حمد,
ريم محاجنة, نعيم أبو تايه, رونزا أبو نصار, ولاء أبو حمام, عقاب مغربي,
وآخرين.
* ناقد
سينمائي سوري يقيم في باريس
* شارك
الفيلم في مهرجان العودة 2007 /رام الله, والمهرجان الدولي لأفلام الهواة
في قليبية/تونس, وفي برنامج ليالي عربية لمهرجان دبي السينمائي الدولي.
القدس العربي في 3
يناير 2008
|