تعيش مدينة أبو ظبي
منذ اسبوع على ايقاع مهرجانها السنوي الذي انطلق الخميس الفائت بفيلم
"السيد لزهر"
لفيليب فالاردو ويستمر حتى مساء غد، موعد توزيع جوائز ("اللؤلؤة الذهبية")
تتجاوز
قيمتها مليون دولار. بين هذين التاريخين عُرضت ولا تزال تُعرض عشرات
الأفلام من
القارات الخمس، ضمن برمجة متنوعة تأتي بمصائب الدنيا وافراحها
الى الصحراء السابقة.
هنا قراءة في بعض افلام هذه الدورة الخامسة.
"أزهار الشرّ" هو أول فيلم روائي
طويل للمخرج المولود في المجر دافيد دوسا. اختار دوسا لفيلمه
حقيقة بصرية تشبه
عصرنا: فوضوية، متكسرة، صارخة بفجاجتها وألوانها. ثم قرر الأصعب: أن يحمل
المُشاهد
على التعاطف مع ما يقدمه. نحن أمام فيلم تجريبي الى حدّ ما، بنيته الحكائية
على قدر
من الانسجام مع مكوّنات العمل، مع انه يروي أشياء بسيطة انطلاقاً من لقاء
بين شاب
ابن مهاجر عربي (رشيد يوسف) يعمل في فندق باريسي، وفتاة
ايرانية تدعي اناهيتا (أليس
بلعدي) تصل الى العاصمة الفرنسية هرباً من خطورة الحوادث التي تلت اعادة
انتخاب
الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد. منذ اللحظة الاولى لهذا اللقاء، يبدو
مشروع
المخرج واضحاً: السعي الى تقريب كائنين مختلفين الواحد من
الآخر. يبحث الفيلم عن
قضية ويجدها في هذين النقيضين.
تمنح معالجة الفيلم الذي يُعرض في اطار ما يسمّى "عروض
السينما العالمية"، هذا الانطباع الخاطئ بأن ما نراه عمل هواة، من شدة ضعف
الموازنة. لكن هذا الضعف يضعه المخرج في توظيف واضح، بغية ترسيم ملامح
سينما تستمد
شرعيتها ولغتها من انعدام الامكانات. على الرغم من ان العنوان
الذي يستعين به
الفيلم من الكتاب العظيم لشارل بودلير، لا يمكن ان يعد أكثر من اقحام بريء
يحمل
نيات طيبة، فالايجابي في الموضوع ان هذا الخيار يليق بالموضوع. الشاب، غيكو،
من
محبي الهيب هوب، نراه يتسلق الجدران ويرقص في ازقة باريس على
قفاه، ويقوم بتعبيرات
جسمانية مستقاة من واحدة من أكثر الحركات الثقافية ارتباطاً بالشباب الذين
يختارون
هذه اللغة للاعتراض على "السيستيم" المفروض عليهم.
من أجل أن يبلغ الفيلم خطابه
المرتقب عن هذا العالم، الذي سرعان ما يتبين انه "لا خطاب"،
يجب عليه ان يمرّ من
طريق حكاية غرام كلاسيكية مع كل ما تحمله من شوائب اللقاء الاول ورعونة
الانفصال.
يبدي دوسا حاجته الى جانرين سينمائيين:
واحد واضح لا يحتمل أي تأويل، والثاني خفيّ.
لا شك ان الازعاج (لا سلبية كثيرة هنا في كلمة "ازعاج")، متأتٍّ من حقيقة
أن الفيلم
لا يراعي الشعور، اذ تفوح منه أحياناً رائحة موت، لكن نرى ان مخرجه يبحث
فيها عن
رائحة سلام وطمأنينة. كما هي الحال مثلاً في اللقطة التي تعتقد فيها
اناهيتا ان
الرجل المقتول الذي ينقل الويب صورته، صديقٌ لها. ثم بعد
التدقيق، يتبين انه شخص لا
تعرفه، فـ"يتنفس الفيلم الصعداء"، كما يُقال في لغتنا العربية القديمة،
ومعه
الشخصيتان، وكأن حيوات الآخرين لا تساوي شيئاً، وفقط الأصدقاء يستحقون
العيش.
¶¶¶
جديد
أرتورو ريبستاين الذي أنجز نحو 47 فيلماً منذ عام 1966، اقتباس حرّ جداً
لرواية "مدام
بوفاري" لغوستاف فلوبير، أي ان الحكبة تدور على امرأة، ما تعيشه يشبه الى
حدّ
معيّن ما عاشته من عذابات الشخصية النسائية الأشهر في الأدب الفرنسي.
"أسباب القلب"
الذي يُعرَض في مسابقة الأفلام الروائية، فيلم قاتم يسدّ علينا الآفاق،
مصوّر
بالأسود والأبيض (كاميرا: اليخاندرو كانتو)، ينطوي على مزاج
خاص، قريب جداً من
مزاج الأفلام السابقة التي انجزها على مدار العقود الأربعة الماضية هذا
المخرج
المكسيكي الشهير، تلميذ لويس بونويل والمعجب بجون فورد. لكن، حذار: فعندما
نقول
"مزاج خاص"، هذا يعني ان على المشاهد أن يكون جاهزاً لتلقي اشعاعات
ضوئية سلبية قد
تثير فيه الاحباط واليأس، ذلك أن ريبستاين لا يزال مخلصاً لعوالم لا تشي
بالطمأنينة
ولا بالراحة.
اميليا (ارسيليا راميريز في أداء هستيري يستحقّ التحية، ما جعل
بعضهم يشبّهها بجينا رولاندز)، ربة منزل تبحث عن الشغف هرباً من الحياة
الرتيبة
التي تعيشها، شأنها شأن مدام بوفاري. ريبستاين المعروف بأفلامه
التي تستفز المفاهيم
العامة، يصحّ ان نطلق عليه تسمية "لارس فون ترير المكسيكي" نظراً الى النحو
الذي
يدخل فيه تيماته الى حضن افلامه. وهي تيمات مرتبطة في معظم الأحيان بالجانب
المظلم
للانسان، معالجة بطريقة تسمح له بأن يطلق العنان لمخيلة غاضبة،
وطبعاً هذا كله من
دون أن يقدم تسويات. انها سينما راديكالية تشق طريقها الى حيث الهدف من دون
تنازلات، لا على صعيد الشكل ولا على صعيد المضمون.
في بيئة ضاغطة تنعدم فيها
المخارج، يصوّر ريبستاين حتى الهلاك، مصير امرأة عالقة بين زوج
(بلوتاركو هازا) لا
يهتم لحاجتها الى الحنان، ولاعب ساكسوفون (فلاديمير كروز) لا يبادلها مشاعر
الحبّ،
والاثنان في النهاية وجهان لعملة واحدة. اما الإبنة القاصرة (باولا أرويو)
ذات
التربية التقليدية المحافظة، فلن تمد يد العون الى والدتها. كل
هذا الجوّ المشحون
الذي من حولها، يجعل اميليا تقدم على الانتحار، كما فعلت من قبل مدام
بوفاري،
وايضاً آنا كارنينا في رواية تولستوي الشهيرة.
الحبّ هنا مأساة وانهيار اخلاقي
وعدم وفاء، بكل ما في هذه الكلمات من قسوة وذلّ، وريبستاين
يجيد كيف يرتبه ضمن اطار
زمني ومكاني محدد. أما تصويره لهذه القصة في مكان لا نرى فيه اشعة الشمس
والنور
ووجه الطبيعة المضيء، فيقول الكثير عن حال الاقتناعات الراهنة عند مخرجنا
البالغ من
العمر 68 عاماً. فلا المكان يليق بالحبّ، ولا الشخصيات تلمس على وجوهها
النعمة التي
تنام على وجوه العشاق.
¶¶¶
"إل
غوستو" (مسابقة الأفلام الوثائقية) قصة فرقة موسيقية ناسها من المسلمين
واليهود،
فرّقتهم ظروف الحرب والثورة في الجزائر قبل نصف قرن من الزمن، وها انهم
يلتقون
مجدداً أمام كاميرا مخرجة تعرفت اليهم بالمصادفة قبل سبع
سنوات، للاحتفاء بالشيء
الذي يلامس ضميرهم ووجدانهم ويقرب بعضهم الى البعض الآخر، ملغياً الحدود
الدينية
والايديولوجية بينهم: الشغف باللحن "الشعبي" الجزائري. هذا اللقاء تقول عنه
المخرجة
في الفيلم بصوتها الهادئ، إنه غيّر حياتها كما غيّر حياة هؤلاء الرجال.
هذه
الفرقة كانت مشتتة في انحاء الكرة الارضية قبل أن تجتمع مجدداً في السادس
من ايلول 2007
في مرسيليا، حيث قدمت حفلة استثنائية لا ينساها مَن حضرها، وهي كانت
المناسبة
للقاء بين كل اعضائها الذين اضطروا يوماً الى ان يخضعوا للأمر
الواقع، وأن يذهب كل
منهم في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر، غداة نيل الجزائر استقلالها عام 1962.
كان
الطرفان يعزفان الموسيقى عينها، لكن كلاً منهما كان يطلق عليها اسماً
مختلفاً.
فمثلاً، حين يعزف اليهود، يقولون انهم يعزفون موسيقى يهودية اندلسية، وحين
يأتي دور
المسلمين في عزفها، كانوا يقولون انها موسيقى اندلسية يهودية.
تأخذنا بوصبايا
في رحلة ممتعة على انغام موسيقى "الشعبي". نذهب برفقتها الى اقاصي التاريخ
والذكريات وزمن التعايش المسالم بين طوائف عدة في الجزائر العاصمة، في
خمسينات
القرن الماضي. زمن يبكي عليه الفيلم بحنان وقسوة لطيفة، زمن لم
تعرفه المخرجة
حتماً، لكنها تشعرنا بالحاجة الى العودة اليه، والالتفات اليه كردّ على ما
نعيشه
اليوم من تطرف وانعدام تسامح.
¶¶¶
"يوميات فراشة" فيلم رعب لمايري هارن من انتاج ايرلندي - كندي،
عن فتاة
يجتاحها الشكّ بأن رفيقة جديدة لها تشاركها الغرفة مصاصة دماء. العام
الماضي، قدّم
مهرجان أبو ظبي السينمائي، "دعني أدخل" لمات ريفز، وهو واحد من أروع أفلام
مصاصي
الدماء. لنقل بالسرعة المطلوبة: هذا الشريط لا يرتقي الى مستوى عمل ريفز،
ذلك ان
الفرق الأول بينهما، يكمن في ان هارن تخاطب شريحة أوسع من المشاهدين، متجهة
الى
"الانترنتمنت" على حساب التأمل والدراسة النفسية المعمقة للشخصيات. هل
نعني بهذا
اننا ازاء فيلم جماهيري؟ نعم، هذا صحيح، والفيلم لا يخفي ذلك، لا بل يطرحه
الى
العلن بلا أي احساس بالدونية أو الحرج، وأحياناً بخفة مبالغ في شأنها، وهنا
الاشكالية الكبرى.
هذا عالم فتيات قاصرات يقحمنا فيه هارن التي تقتبس هنا رواية
شهيرة لرايتشل كلاين وحدها من دون ان تلجأ الى خدمات أحد (تجاوزت تكلفة
الفيلم عشرة
ملايين دولار) وتستعين بوجوه جديدة كليلي كول وسكوت سبيدمان وسارة بولغر
وسارة
غادون لأدوار البطولة، مع العلم أن الفيلم التُقطت مشاهده في
استوديوات ميلز في
مونتريال. ريبيكا (بولغر) هي محور الحكاية، مهووسة بالعلاقة التي تربط لوسي
(غادون)
بايرنيستا (كول)، ذات الطباع الغريبة. وفي
حين ان الشائعات سارية حول ايرنيستا التي
يُقال عنها انها مصابة بخلل ما، تختلط الحقيقة بالوهم على نحو
يحملنا على الاعتقاد
بأن ايرنيستا مصاصة دماء، فيما الحقيقة قد تكون في رأس ريبيكا التي بات
خيالها
يفقدها صلتها بالواقع. هذا السؤال (فصل الحقيقة عن الكذب) سيبقى الفيلم
يجرجره طوال
مدة عرضه، جاعلاً اياه مسألة مصيرية وعلة وجودية، الى حين
يتبخر الفيلم كدخان أبيض
يصعد الى السماء.
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
ثلاثة أفلام من كانّ الى الامارات
¶ "ايلينا" لأندره
زفاغينتسييف: بعد "العودة" الذي نال جائزة الأسد الذهبي في
مهرجان البندقية عام
2003، ثم "الاستبعاد"، كان اندره زفاغينتسييف منتظراً
على أحرّ من الجمر. وبعدما
كُشف النقاب عن فيلمه "ايلينا" في الدورة الأخيرة من كانّ (قسم "نظرة ما"
حيث نال
جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، يمكن القول انه لم يخيب الآمال المعقودة عليه.
فالمخرج
السيبيري لا يزال يعرف في جديده كيف يكون روسياً قلباً وقالباً، وذلك الى
أبعد حدّ
ممكن. انه ابن تلك السينما التي تأثر بها كبار المخرجين في
العالم وغدت نموذجاً
ايديولوجياً وثقافياً لأكثر من جيل. "ايلينا" لا يختلف كثيراً عن غيره من
الأفلام
التي تبني جدراناً عالية بين السينما الروسية والسينمات الأخرى. وعلى رغم
ذلك، هناك
حتماً ما يميزه.
الصراع الطبقي يجلبه زفاغينتسييف الى قلب الفيلم. ايلينا
وفلاديمير متزوجان ويعيشان بسلام في ريف بعيد من موسكو، الى
اليوم الذي يمرض فيه
فلاديمير ويكتب وصيته الى ابنته من زواج سابق. مرة أخرى يؤكد زفاغينتسييف
خطه: عدم
الاذعان للتيارات الموسمية التي تعصف بالسينما، وتمسكه بالحكاية كحجة
لاستحضار
مصائر البعض ووضعها في مجابهة مصائر البعض الآخر. ايضاً: لا
نلمس عند هذا المراقب
الفذ أي رغبة في استدرار العواطف، لكونه يرفض، انطلاقاً من المبدأ ذاته، أن
تركب
افلامه موجة الابتكار والدهشة، ما يجعلها أكثر اثارة للاهتمام.
¶ "لدينا
حبرٌ أعظم" لناني موريتي: القصة على قدر معيّن من الغرابة.
فبعد موت الحبر الأعظم،
يجتمع الكرادلة ويصوتون لخلف له، فيما آلاف المؤمنين ينتظرون في ساحة مار
بطرس صعود
الدخان الأبيض واعلان هوية بابا الفاتيكان الجديد. لكن يبدو ان هناك مشكلة
وجودية
كبيرة يعاني منها رأس الكنيسة الكاثوليكية المنتخب للتو.
فالكاردينال ملفيل (ميشال
بيكولي في أداء مدهش) الذي سيحمل اسم سيليستين السادس، غير مستعد اطلاقاً
لتولي هذا
المنصب. وسرعان ما نراه يقع في احباط كبير، نتيجة عدم جهوزيته لتحمل
مسؤولية من هذا
الحجم. هنا، وبعد سلسلة مشاهد تكشف التجمع والانتخاب، وهي
لقطات صوِّرت في
الفاتيكان وتحمل سمات وثائقية، يدخل موريتي على الخطّ. بطرافته الايطالية
التي تصفع
بيد وتداعب بالأخرى، ينجز موريتي فيلماً لا يسعى الى احداث الجدل أو "الحركشة"
في
وكر دبابير. لذلك، لم يزعج الفاتيكان، لأنه لم يتعرض للكرادلة بقدر ما تعرض
للانسان
الذي في داخلهم ولتأثيرهم في المؤمنين. في "لدينا حبرٌ أعظم" (مسابقة كانّ
2011)
تولد السخرية من تلقاء ذاتها. حركة كاميرا
من هنا، طرف حديث من هناك، وتشق الدلالات
طريقها الى عقل المشاهد. هذه السخرية ثمرة المواجهة بين عالمين
يحرص نصّ موريتي على
وضع الواحد منهما في صراع مع الآخر. لعل أكثر ما قد يثير اعجاب المُشاهد في
نظرة
موريتي الى عالم الكرادلة هي النظرة في ذاتها، المملوءة بالقسوة والرقة.
¶ "بوليس" لمايوين: على مدار 128 دقيقة يقحمنا الفيلم
في داخل مقر للشرطة التي تتولى
حماية القاصرين من الحوادث التي يتعرضون لها. نتابع يوميات
افراد الشرطة، ولقاءاتهم
مع المتهمين والجناة والتحقيقات التي تدور حولهم، وتقنياتهم المستخدمة.
"بوليس"
صفعة حقيقية تلقاها المشاركون في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ (جائزة
لجنة
التحكيم) فور مشاهدتهم هذا الفيلم، لكنها صفعة تشبه الحياة
بحلوها ومرها،
وبيومياتها العابقة بالأمل والألم والقسوة واللامبالاة. بمعنى آخر: لا تنجر
مايوان
في نصها خلف بكائيات جامدة، بل تختار ان تستقي المأساة من قلب الحوادث
اليومية،
والروتين الاداري الجاف، لتذهب الى اللحظة التي ستمسك فيها
المصيبة بضلوع الفيلم،
ولن يكون هناك عودة الى الوراء، من تلك اللحظة وصعوداً.
هـ. ح.
"نهاية"
أيام مضبوطة بدقات الساعة!
في دورة "مغربية
بامتياز"، قدّم هشام لعسري رؤيته السينمائية في "النهاية" (مسابقة آفاق
جديدة) الذي
يصحّ القول فيه انه يشي ببداية مسار حيث النتيجة تحمل من المفاجأت الجميلة
والواعدة
بقدر ما تنطوي على نموذج لا يمكن تقليده. يعترف لعسري انه كان
يريد نصاً عنيفاً،
مقلقاً، على أن يضعنا في حالة سيئة، برفقة شرطي فاسد (اسماعيل قناطر في
أداء لافت)
وشخصيات مهمشة تعيش على قارعة هذا العالم
الذي يتلاشى ويتمزق. من خلال طرح أحداث
متخيلة تجري في الأيام القليلة التي تسبق رحيل الملك الحسن
الثاني والمصادفة مع
دخول العالم ألفيته الثالثة، يأتي لعسري بتساؤلات مهمة حول مكوّنات الواقع
المغربي،
منطلقاً من ثلاثة أطراف، الأب والملك والعائلة، أي ما يجسد ثلاثية السلطة.
هناك
تشابه بين لحظة وقوع الشرطي أرضاً واسراع الناس لانتزاع ملابسه
وسقوط الملك. الأمر
ليس مصادفة: ثمة سلطة كاملة تتهاوى في معسكرين مقابلين، يقول عنها لعسري:
"هذا
الشرطي كان دائماً الجندي الوفي لهذا الملك أو لما كان يمثله. اذاً، كان
سقوطه
محتماً عندما انتُزع منه السبب الثاني الذي كان يبقيه على قيد
الحياة، علماً ان
السبب الاول كان زوجته، وكان الواحد سجين الآخر وسجين مشاعره. كان هو في
حاجة اليها
بقدر ما هي في حاجة اليه. أيامه كانت مضبوطة بدقات الساعة التي ستجعله يعود
الى
المنزل للاعتناء بها. هي اشبه بعملية أخذ رهائن، لكن في
الاتجاهين. وعندما رحل
الملك، فقد الشرطي المنطق. فجأة شاخ وصار أقل أناقة. كان الرجل كالحرباء،
حضوره
متملق، يتحرك بطريقة خاصة جداً، وقدماه تحدثان ضجيجاً خاصاً. عندما تموت
زوجته يطعن
في السن ونرى في نظرته شيئاً من الجنون. حاولنا المستحيل كي يتغير مظهر
اسماعيل
قناطر الخارجي: وضعنا في عينيه عدسات لاصقة، صبغنا شعره
وعدّلنا ملابسه كي نلمس هذه
الشيخوخة الطارئة. تبدل الرجل لأن منبع حياته سقط فاستبدل مصدر الطاقة هذا،
بالكراهية، أي كل تلك الأشياء التي كانت تجعله يعيش في سنوات الجمر حيث كان
يعتقل
الناس ويمارس عليهم أعمال البطش. لن نعود الى تاريخ المغرب
القديم وتحديداً الى
سبعيناته لإدانة الانتهاكات، فليس من بلد لم يمر بمراحل كهذه حيث تصبح
الطريقة
الوحيدة للسيطرة على المجتمع هي القمع. والشرطي المتسلط كان واحداً من
هؤلاء الذين
مارسوا القمع. هذه الغريزة لم يفقدها البتة بل يستعيدها كلما احتاج اليها".
CUT
¶
المخرج السوري نبيل المالح يترأس لجنة تحكيم
مسابقة الأفلام الروائية، وقد شارك في جلسة حوارية عن الربيع العربي حيث
تكلم عن
أحوال الثورة السورية، قائلاً إنه يفضل ان يتحدث عنها زملاؤه المشاركون في
الحوار
خشية أن ينفعل.
¶
خمسة أفلام مغربية تُعرض في هذه الدورة في القسمين
الرئيسيين (مقابل فيلم مصري واحد): "على الحافة" لليلي كيلاني، "رجال أحرار"
لاسماعيل فروخي، "الأيادي الخشنة" لمحمد عسلي، "بيع موت" لفوزي بن السعيدي،
و"النهاية" لهشام لعسري.
¶
كرمت مجلة "فرايتي" خمسة منتجين عرب من الذين
اعتبرتهم واعدين: المصري عمر واكد، المغربية لميا الشريبي، الاردنية رولا
نصر،
العراقي عطية الدراجي، الفلسطيني سائد انضوني.
¶ 42
جائزة ستوزع مساء غد في
حفل يجري في فندق فيرمونت الفخم، وهذه الجوائز موزعة على عشرة
اقسام.
النهار اللبنانية في
20/10/2011
«النهاية»
و«انفصال نادر وسيمين» في مهرجان أبو ظبي
السينمائي
نهاية ملك ونهاية العالم ودرس في الصورة
السينمائية
نديم جرجورة
شكّلت المسابقات
الرسمية الثلاث في الدورة الخامسة لـ«مهرجان أبو ظبي السينمائي»، المنتهية
مساء غد
الجمعة، مساحة للتنافس بين عناوين أثارت نقاشات جادّة إثر عروضها الدولية
الأولى.
مساحة لمواجهة ثقافية وبصرية بين مخرجين حرّضوا، بأفلامهم الجديدة هذه، على
المساءلة والسجال. أثاروا، بصُورهم البديعة، مُتعاً ونقاشات. بعض الأفلام
فاز
بجوائز أساسية في مهرجانات مُصنّفة «فئة أولى»، كبرلين مثلاً
(«انفصال نادر وسيمين»
للإيراني أصغر فرهادي، الحائز على «الدبّ الذهبي» في شباط الفائت). بعض آخر
رسّخ
براعة مخرجه في استكمال مشروعه السينمائي، درامياً وجمالياً وفكرياً («إيلينا»
للروسي أندري زفاغينتسييف، «حصان أسود» للأميركي تود سولوندز، «دجاج
بالبرقوق»
للإيرانية مرجان ساترابي والفرنسي فانسان
بارانو).
هذه ميزة المهرجانات
الدولية. أكاد أقول هذه لعبتها: الحصول على حقّ إشراك أفلام ذات طابع سجالي
ومثير
للنقاش. ذات نَفَس مفتوح على ثنائية النصّ والمعالجة في مقاربتها أشياء
الحياة
والدنيا، وهواجس الناس. المسابقات الثلاث غنيّة بأفلام مهمّة.
الأهمية هنا واضحة
المعالم: الشكل. الكتابة. التحليل. التقنيات. التمثيل. المواضيع. الأهمية
نفسها
فاتحةٌ مجالاً واسعاً لمتعة العين والانفعال. لرغبة العقل في النقاش.
الاشتغال
الأفعل
العرب حاضرون. لم تستطع مصر أن تُلقي بثقلها عبر مشاركة فيلمية، فوجدت
في ندوات ولقاءات جانبية ولجان تحكيم ودعوات متفرّقة ما يُعوّض شيئاً من
غيابها.
وجدت في ثورتها والنتاجات البصرية الأولى
ما يُفعّل غياب الحضور المعتاد. المغرب
أفعل، وأقوى تأثيراً، وأبدع جمالياً. أحد الأفلام المغربية
الجديدة، المثيرة للدهشة
المرفقة بضرورة النقاش النقدي، حمل عنوان «النهاية» (مسابقة «آفاق جديدة»).
ثاني
فيلم روائي طويل لمخرجه الشاب هشام لعسري مغاير تماماً لمألوف مُكرَّر.
المغرب
معطاء. قادر على تغذية الوعي المعرفي السينمائيّ العربي، بفضل
حراك مُساجِل ومتفلّت
من تقاليد وروتين. هناك أفلام عادية أيضاً. هناك أفلام لم
تبلغ مرتبة جيّدة. هذا
واقع طبيعي. غير أن أفلاماً مغربية عدّة شكّلت حالة قابلة لأن
تكون بداية مرحلة
متناسقة والاشتغال المتحرّر من سطوة المطلوب، باستخدامها أدوات قادرة على
ترجمة
تأثّرات سينمائية غربية وآسيوية مثلاً لمخرجين شباب. «النهاية» مثلٌ بارز.
بالأسود
والأبيض، ذهب هشام لعسري إلى أعماق الخراب الذاتيّ، مُسيِّجاً
الحبكة بالبهتان
اللونيّ، والغليان الانفعالي. مُسيِّجاً الحبكة بكَمّ هائل من العنف
المبطّن،
المتدرّج شيئاً فشيئاً إلى عنف ظاهر ومُمَارَس بوحشية. الأسود والأبيض
متكاملان في
إضفاء مزيد من الوحشية. أو مزيد من البراعة في لعبة «الألوان»
(الأطياف. الهواجس.
التداعيات) العاكسة نفوراً داخلياً قاتلاً. المتاهات الموضوعة فيها شخصيات
ممزّقة،
كاريكاتورية أو بهلوانية أو واقعية، جزءٌ أساسيٌّ من الكتابة البصرية.
التفلّت من
حصار المكان والزمان جزءٌ آخر أيضاً. قاع المدينة، التي يُمكن
أن تكون أي مدينة
عربية أو غربية في أي زمن آخر، حيّز لانفجار الداخل الفرديّ. حيّز للبوح
الذاتيّ في
مقارعة الذات نفسها أولاً. «النهاية» إضافة نوعية. إضافة حيوية في آلية
الصوغ
السينمائي والمعالجة الدرامية. إضافة خارجة من رحم القدر
والتبدّلات، إلى مناكفة
الشكل في تفكيك بناه «اللونيّة»، بحثاً عن مفردات مشغولة بلغة متجدّدة.
ثنائية
الأسود والأبيض مفتاح لولوج العوالم المعطوبة والمفتّتة والمنكسرة
والتائهة،
الخاصّة بشخصيات متناقضة ومتداخلة ومتنافرة ومتكاملة.
هذا جزءٌ من لعبة
السينما. تحديد صورة مختصرة عن قصّة «النهاية» مصطدم بانعدام القدرة على
تحقيق هذا
الأمر. هناك حالات. هناك شخصيات. هناك مسارات. هناك قصّة: ميخي عاملٌ وضيع.
تائه
وسط أزقّة مدينة، وسلطة رجل أمن، وسقف برج تابه لمصنع، ومشاعر
ساحقة إزاء الفتاة
ريتا، التي التقاها صدفة. هناك أربعة شباب، الذين بدوا الأغرب والأقدر على
ربط
الوصلات السينمائية بعضها بالبعض الآخر. ريتا، بدورها، حجر رئيس في البناء
الدرامي:
المرأة المثيرة لميخي، النقيضة للزوجة
المعوّقة لرجل الأمن، القريبة من ميخي أيضاً.
حالات صاخبة، تعالى الصوت الداخلي الصامت فيها على كل ما عداه. السينما
ركيزة
القصّة. الصُوَر والمتتاليات البصرية. التوليف (جوليان فور) المانح الفيلم
اتّساع
أفق المخيّلة في مخاطبة الواقع. في محاكاته. في استرداده من الذاكرة
الفردية إلى
الفعل الجماعي. هذا واضحٌ منذ اللحظة الافتتاحية للفيلم: كلمات
«جينيريك» البداية
مقلوبة. الكاميرا مقلوبة أيضاً. اللحظات متجانسة في جعل الحدّ الفاصل بين
الكلمات
والكلمات واهية. الغموض قاتل. عنف الذات الداخلية قاتل. الاصطدام بالحبّ
وتداعياته،
والانقلاب على سلطة الأمن... هذا كلّه قاتل أيضاً.
تداخل
التداخل بين
التفاصيل والإشارات والتعليقات المبطّنة قاتلٌ بدوره: تداخل الصورة
بالحبكة. تداخل
اللحظة التاريخية (التقط الفيلم أحداثاً متفرّقة جرت في الأيام القليلة
السابقة على
رحيل الملك المغربي حسن الثاني في الثالث والعشرين من تموز
1999) بالتوهان المقيمة
فيه شخصيات وأحاسيس. الاندماج مطلق بين براعة التصوير (ماكسيم ألكسندر)
ونبض
الحالات المتراكمة في صنع المشهد. التاريخيّ مبطّن. التأثيرات النفسية
والأخلاقية
والإنسانية منكشفةٌ أمام سطوة القلق المتولّد من رحيل الملك.
أو بالأحرى من الخشية
الساحقة من رحيل الملك: «خشينا (في الفترة تلك) من أن يُحوِّل انقلاب عسكري
المغرب
إلى جمهورية موز بلا موز». قال هشام لعسري. ألا يؤشّر هذا، من بين أمور
أخرى، إلى
التماهي المُطلق بين الضحية والجلاّد؟ «كنتُ طفلاً يومها. كنتُ
صبياً منطوياً على
نفسه في العام 1999». التداخل بين اللحظات لا يقف عند حدّ. في حوار منشور
في الموقع
الإلكتروني لـ«مهرجان أبوظبي السينمائي»، ردّ لعسري على سؤال التداخل
الدرامي بين
خطّين اثنين: رحيل الملك الحسن الثاني وهاجس نهاية العالم،
بالقول (إثر موافقة
ضمنية على هذا): «استغرقتُ وقتاً طويلاً لأُخرِج هذا الإحساس من داخلي.
أعني ما
شعرتُ به عندما رحل الملك حسن الثاني. ظلّ هذا ماثلٌ في ذهني فترة طويلة.
لا أنسى
وجودي في الشارع لحظة سقوط الملك. (يومها) «رأيتُ» شعور الخسارة في عيون
الناس
آنذاك». قال إن شعوراً كهذا ناتجٌ من الخوف أو الغضب. أصحاب
الشعور هذا أنفسهم «تموّنوا»
بالماء والخبز، كأن حرباً ستحلّ بالبلد.
تحليل نفسيٌّ مصوغ بلغة
سينمائية؟ ربما. انشغالٌ بمصير أفراد وسط سقوط مدوّ لحاكم أشبه
بيد الله على الأرض؟
ربما. لكنه العنف. السينما فاتحة أبواباً رائعة للعنف المبطّن في ذوات أناس
وجدوا
أنفسهم، فجأة، في لحظة تبدّل خطر. السينما أداة أولى لهشام لعسري. التأمّل
جاء
مترافقاً وإطلاق ورشة عمل الفيلم. السرد والعوالم. جاءت كلّها
أثناء الاشتغال
السينمائي في كتابة السيناريو. ثنائية الأسود والأبيض أفضل تعبير تأمّلي في
نهاية
العالم. في هاجس بشريّ من نهاية العالم. المشهد الأخير في «النهاية» كابوس
أحمر
ورمادي (من دون أن يظهر اللونان مباشرة)، ترجم الاندماج الأخير
بين موت حاكم وتفجّر
عنف.
الغليان المدفون في أعماق الفرد إحدى السمات الأساسية لـ«انفصال نادر
وسيمين» (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة) للإيراني أصغر فرهادي. المخرج
حاضرٌ
بقوّة في صنع السينما منذ أعوام عدّة. إعلانٌ أول عن براعة
سينمائية لافتة للانتباه
تبدّى بفضل فيلمه الأول «الرقص في الغبار» (2003). إعلانٌ ثان أقوى وأجمل
تمّ بفضل «عن إيلي» (2009)، الفائز بجائزة «الدبّ
الفضيّ» في فئة أفضل إخراج، في مهرجان
برلين في دورة العام 2009. دقائق هامشية أقرب إلى تفاصيل
روتينية، مادة جوهرية
لبناء درامي عال ومتماسك ومتين وقاس. دقائق ملتقطة من هنا وهناك. مفتوحة
على أسئلة
المصائر البشرية والأقدار المحيقة بالناس. لن أجادل مفردات باتت مترهّلة
غالباً
لشدّة استخدامها الخاطئ أحياناً، كالقول إن فيلماً كهذا «جريء» و«صادم»،
بالمعنى
التقليدي لمفردتي الجرأة والصدمة. غير أن أسلوب فرهادي جريء
وصادم فعلاً: ببساطته
الشكلية. بسلاسته في سرد الحكاية. بهدوئه الظاهر في رسم الملامح الإنسانية
العفوية
لشخصيات وأحداث وحالات وفضاءات. بموارباته المحترفة في قول سياسي بعيداً عن
السياسة. في مقاربة مفاهيم الإيمان والتمسّك بالدين من ناحية،
والانسحاق أمام وساوس
وماورائيات وأشباح من ناحية أخرى، من دون أن يمسّ بالدين والإيمان
والمعتقدات
الشعبية بشكل مباشر.
سحر
هناك ما يُسحر في مشاهدة نمط كهذا في مقاربة
الأشياء. الارتكاز المكثّف على الحوارات ركنٌ جوهري في البناء
الدرامي. لكنه عاجزٌ
عن تغطية البراعة البصرية في التقاط المناخ الحاصل حول الحوارات وفيها
ومعها. حول
الشخصيات الناطقة بها أيضاً. حول العلاقات القائمة بين الناس. هناك ما
يُسحر في
الأسئلة الكثيرة، لكن المتناسقة في طرحها داخل السياق الحكائي،
حول العائلة والنزاع
الطبقي والتلطّي وراء الدين أو استخدامه في حجج واهية. حول العائلة. حول
التضحية من
أجل الذات، أو من أجل الآخر. حول الكذب وقول الحقيقة، وما ينتج عن كل واحد
منهما.
في «انفصال»، القصّة واضحة تماماً. كادت تكون «تحقيقاً وثائقياً» عن زوجة
تريد
الطلاق من زوجها لرفضه السفر معها وابنتها إلى الخارج. كادت تكون هكذا،
لولا براعة
اللغة السينمائية في نقل الهاجس الذاتيّ العميق إلى مبنى
سينمائي جميل.
أمام
كاميرا الثنائي فرهادي ـ ألكسندر، المتحوّلة إلى قاضٍ يُفترض به إصدار حكم
في
القضية (لا يظهر أبداً، مكتفياً يإسماع صوته)، انفجرت اللحظة المخفيّة: لا
إمكانية
لبقاء ابنتهما البالغة أحد عشر عاماً مع أمها. هذا مناف
للقانون، المكتوب أو
المتداول شعبياً. في الوقت نفسه، هذا افتتاح مسار تصاعديّ متأزّم وضاغط.
التفاصيل
الهامشية أساسية: والد الزوج مُصاب بمرض «ألزهايمر». انفصال الزوجين عن
بعضهما
البعض أدّى إلى فراغ في المنزل. هناك حاجة إلى خادمة للاعتناء
بالأب العجوز.
الخادمة مؤمنة: كيف لها أن تعمل في منزل لا امرأة فيه؟ كيف لها أن تُعين
رجلاً على
قضاء حاجاته، وإن كان عجوزاً؟ وإن كان مُصاباً بمرض؟ صدام
أفكار وأنماط عيش.
انفجارات بدت كأنها لن تنتهي، مع النهاية المعلّقة على الإجابة المفقودة
على سؤال
البداية: «هل قرّرتِ مع من تريدين الإقامة؟». سؤال الكاميرا/ القاضي للابنة
ظلّ،
بدوره، متوارياً خلف الباب المغلق. لا بأس. ليست مهمّةً معرفة
الإجابة ربما. اللعبة
في مكان آخر: في بيئة ومجتمع وطبقات ونزاعات وغضب. في قمع اجتماعي متدرّج.
في أفق
مسدود. في انعدام تفاهم. أم في هذا كلّه؟ أم أن هذا كلّه وهم؟
السرد السلس مصدر
الانشغال بجمال الصورة وتقنيات تنفيذها السينمائي. الكلام الكثير داعمٌ أول
وفعليّ
للسلاسة هذه. حركة العيون والأجساد. الحوارات. النبرة. لحظات القلق والخوف
والتوتّر. الاصطدام بين انفتاح عقليّ وإيمان منغلق على ذاته
مردّه انصهار الأسئلة
في التباسات وتعقيدات. السينما اختبار. غالب الظنّ أن أصغر فرهادي لم يكتفِ
بإنجاز
فيلم أسماه «انفصال نادر وسيمين». غالب الظنّ أنه، بإنجازه الفيلم هذا،
قدّم درساً
في صناعة الصورة السينمائية.
السفير اللبنانية في
20/10/2011
نجيب محفوظ في مهرجان أبو ظبي السينمائي
كاتب سينمائي بامتياز
نديم جرجورة
خصّصت إدارة «مهرجان
أبو ظبي السينمائي»، في الدورة الخامسة المُقامة حالياً في العاصمة
الإماراتية،
حيّزاً أساسيّاً بالروائي المصري الراحل نجيب محفوظ. المناسبة: الذكرى
المئة
لولادته، المُصادفة في الحادي عشر من كانون الأول المقبل.
التفاصيل: ندوة وكتاب
ومعرض ملصقات، بالإضافة إلى عرض ستة أفلام مصرية وفيلمين مكسيكيين، اقتُبست
كلّها
من روايات محفوظية. أو كان لمحفوظ دورٌ في صُنعها. أفلام شكّلت جانباً
بديعاً في
تاريخ السينما المصرية، ليس لأنها استلّت من بعض روائع نجيب
محفوظ مواداً درامية
واشتغالات فنية فقط، بل لأنها انبثقت من مخيّلة جعلت الوعي المعرفي بأصول
الإخراج
أداة إبداع. لأنها أتقنت استخدام المفاتيح الموضوعة في روايات محفوظ، تلك
المفاتيح
القادرة على اختراق المستحيل البصريّ.
الملاحظة الأولى الناتجة من متابعة
مجريات الاحتفال هذا، كامنةٌ في أن مشاهدة، أو إعادة مشاهدة
الأفلام هذه ذاهبةٌ
بمُشاهدها إلى تخوم العلاقات الإنسانية المتصادمة أو المتكاملة. ذاهبةٌ به
إلى عمق
الانفعال والرؤية والالتماس الحسّي لعوالم مدفونة في قعر المجتمع، أو نابتة
كشكل من
أشكال السرد الحكائيّ، المشحون بخميرة قاع المدينة. بكواليسها وخفاياها
ومساراتها.
بخميرة الناس أيضاً، والقاع المقيمين فيه أحياناً. بكواليسهم وأشيائهم
وخفاياهم
ومساراتهم هم أيضاً. مُشاهدة كهذه، أو إعادة مشاهدة، مفتوحتان معاً على
المدينة
وبؤسها. على الناس وشقائهم. على احتمالات إقامة موقّتة في
دائرة التوهان، أو إقامة
منبسطة على مشارف الحياة، أو على حافة الموت.
الأفلام المختارة لعرضها في
الاحتفال هذا هي، بحسب تواريخ إنتاجها: «درب المهابيل» (1955)
لتوفيق صالح، «بين
السماء والأرض» (1959) و«بداية ونهاية» (1960) لصلاح أبو سيف، «اللص
والكلاب» (1962)
لكمال الشيخ، بين القصرين» (1964) لحسن الإمام، «الجوع» (1986) لعلي بدرخان.
بالإضافة إلى الفيلمين المكسيكيين «بداية ونهاية» (1993) لأرتورو ريبستين،
و«حارة
المعجزات» (1995) لخورخي فونس، المقتبس عن «زقاق المدق». الكتاب مجموعة
مقالات
طويلة أو دراسات عامّة أو نصوص جامعة القراءة النقدية
بالحساسية الفنية والجمالية
السينمائية، وضعها المصريون سمير فريد وكمال رمزي ووائل عبد الفتاح،
واللبناني
إبراهيم العريس، والمكسيكية باث أليثيا غارثيا دييغو (ترجمة: رفعت عطفة).
العناوين
مؤشّر إلى مضامين مالت إلى عموميات وسرد تاريخي واختزال درامي. مالت إلى
معلومات
وحقائق. بعض أوّل توغّل في علاقة نجيب محفوظ بالسينما. بعض ثان
قرأ اللحظة الفاصلة
بين أداء عادي وإبداع متألّق في تقديم الشخصيات لعدد من الممثلين والممثلات
المصريين. هذا منسحبٌ قليلاً على مقارنة عابرة بين التمثيلين المصري
والمكسيكي.
بعضٌ ثالث فضّل استعادة ذكريات. هذا كلّه حسنٌ. غير أن إصداركتب كهذه في
مناسبات
كهذه تثير سؤال المضمون التحليليّ المتحرّر من خطابية وتكرار، المفقود في
غالبية
إصدارات مشابهة لـ«نجيب محفوظ سينمائياً». التأريخ ضروري.
المعلومات أيضاً. هذه
إصدارات موجّهة إلى مكتبة أو قراءة للإطّلاع. لكنها محتاجة إلى إضافات
تحليلية،
تجمع الاشتغال البصري، درامياً وتقنياً ، بالاقتباسات الحكائية والفكرية
والجمالية.
الجهد المبذول من قبل إدارة المهرجان الإماراتي، وتحديداً من قبل
مبرمج
الاحتفال انتشال التميمي، لم يذهب سدىً. أفلام شوهدت. الندوة أُقيمت.
الكتاب صدر.
الملصقات القليلة عُلِّقت. الملاحظة
السابقة منبثقة من رغبة في قراءة الجديد. من
المؤكّد أن هناك جديداً يُمكن قوله في علاقة نجيب محفوظ
بالسينما. في الاقتباس
السينمائي لروايات عدّة له. في مقارنة أسلوب العمل المكسيكي بإنجازات
مصريين.
الكتاب حاجة. لكن كتباً كثيرة متعلّقة
بالموضوع نفسه صدرت سابقاً. الكتاب هذا محتاج
إلى إضافات أكبر.
المعلِّم
لا ادّعاء لدى مُنظّمي الاحتفال. هناك
تواضع رافق إعلانهم إطلاق الاحتفال هذا. رافق يومياته أيضاً.
نجيب محفوظ سينمائيّ
بامتياز. قادرٌ على ابتكار صُوَر بكلمات. بحوارات. بأوصاف. بمناخات.
بمسارات. هناك
جملة أو أكثر تضرب وتراً ما في ذات الممثل، فتدفعه إلى الانغماس الكلّي في
الرواية.
في الشخصية المطلوب منه تأديتها، أولاً. هذا ما قاله كمال رمزي. عدّد
أمثلة. قارن
بين اشتغال تمثيلي سابق للدور المحفوظيّ الأول، وبين اشتغالات لاحقة. اعتبر
أن
محفوظ مانحٌ دائمٌ لمفاتيح تتيح اختراق عالمه وناسه. وائل عبد
الفتاح ربط ظهور نجيب
محفوظ في السينما باتّجاه السينما إلى الواقعية، وباكتشافها «ذات» المجتمع.
بالنسبة
إليه، التقت السينما محفوظ «في لحظة امتزجت فيها السذاجة بالنيات الطيّبة».
في لحظة
بحثت فيها السذاجة والنوايا عن «موهبة» تمنح الواقعية «سحرها» الباقي. سمير
فريد
عدّد محاور أساسية في العلاقة بين محفوظ والسينما. أشار إلى تسعة وعشرين
فيلماً
مرتبطاً بمحفوظ. قال إن الروائيّ كتب قصصاً وسيناريوهات
سينمائية، أو شارك في
كتابتها. لكن اللافت للانتباه، بحسب فريد، كامنٌ في أنه «لم يكتب أو يُشارك
في
كتابة حوار أي فيلم». سبب ذلك؟ لم يكتب محفوظ حواراً بالعامية المصرية
أبداً، إلاّ
في الأفلام التاريخية أو الدينية. لم يكتب حواراً بالعامية هذه
في أي من أعماله.
بيتر سكارليت، المدير التنفيذي للمهرجان، قدّم الاحتفال بالقول إن
«تصوير محفوظ
حياة بلده واسع النطاق وعميق النفاد، سواء في أعماله الأولى التي صوّرت
الماضي
السحيق، أو في أعماله الأحدث التي ركّزت على حياة أبناء الطبقة الوسطى في
القاهرة... كان كاتباً سينمائياً بامتياز.
السفير اللبنانية في
20/10/2011 |