يصعب تبيان الحالة الإنتاجية السينمائية العربية، الخاصّة بعلاقة
المرأة بصناعة الأفلام، في ظلّ الربيع العربي الذي هبّ من تونس نهاية العام
2010، وعمّ دولاً عربية عدّة، أبرزها مصر. يصعب فهم العلاقة التي ربطت
المرأة بهذا النوع من العمل السينمائي، الوثائقي والروائي، لأن الحالة
السياسية والاجتماعية والثقافية، والسينمائية طبعاً، لا تزال ضبابية إلى
حدّ كبير. غير أن السؤال بحدّ ذاته محتاجٌ إلى بلورة: علاقة المرأة
بالسينما في ظلّ الربيع العربي. المرأة المقصودة هنا هي إما السينمائية
الواقفة خلف الكاميرا (المخرجة) أو أمامها (الممثلة)، وإما الكيان الإنساني
الحيّ الخاضع لتجاذبات البيئة والمجتمع والسلوك العام والتربية والاشتغال
الثقافي. إما الفنانة المبدعة، الذاهبة إلى الحدث لقراءته، قبل وقوع الحدث
أو أثناء غليانه، وإما الإنسان المُقيم في ظلّ السطوة الذكورية القاسية.
الأمثلة متنوّعة، لكن الاكتفاء بأفلام قليلة للإضاءة على الحالة الراهنة
هذه، ناتج من مشاركة الأفلام المختارة هنا في الدورة الخامسة (13 ـ 22
تشرين الأول/أكتوبر 2011) لـ"مهرجان أبوظبي السينمائي".
أفلام عربية عدّة استشرفت عناوين عامّة للربيع العربي، انطلاقاً من
وجهات نظر مختلفة، أو تركيزاً على هذه النقاط أو تلك. ممثلات أدّين أدواراً
في أفلام مختلفة، سلّطت (الأفلام) ضوءاً على حالة، وعرّت مشكلة، وقالت
بوجود مأزق، مؤشّرة إليه ومطالبة بالتنبّه إلى مخاطر انفجاره. غير أن
الملاحظة الأولى كامنةٌ في أن تحديد المرأة ودورها السينمائي في كشف بعض
الوقائع، لا يُلغي أهمية ما فعله سينمائيون رجال أيضاً. التركيز على المرأة
هنا مردّه تنامي صوتها في برّية الرجال المنغلقين على بطشهم وسلوكهم الفظّ،
وارتفاع حدّة مطالباتها بشؤون إنسانية وأخلاقية وحياتية واجتماعية، هي
عملياً شؤون محقّة وعادلة وطبيعية. ثم إن التركيز عليها قائمٌ بفضل دورها
الحقيقي والمؤثّر في الميدان: مشاركتها العملية في تفعيل سياق الربيع
العربي، عبر التظاهرات والاحتجاجات والعمل الميداني والكتابة والمناقشة
والتوجيه والقول. حضورها حيوي، وهو حضور مُساهم في جعل المساواة أمراً
واقعاً، وفي دفع الرجل إلى التنبّه إلى أهمية مساواة كهذه، يُفترض بها (أي
المساواة) أن تعمّ شؤون الحياة كلّها، لا أن تبقى مجرّد "لحظة عابرة". هذا
ما قاله المخرج الروماني الأصل رادو ميهاليان (المقيم في فرنسا حالياً)،
إثر إطلاق العروض الدولية لفيلمه الأخير "نبع النسا": لا يُمكن للانقلاب
الثوري أن ينجح حقيقة، من دون أن تُدرك الحالة الخاصّة بالمرأة العربية
ثورتها الداخلية. أي تلك الثورة الواقعة داخل الأسوار المغلقة على الحيّز
العائلي والزوجي والمجتمعيّ، أولاً وأساساً.
دعوة ميهاليان هذه تمثّلت بفيلمه الأخير. إنها دعوة واضحة إلى الثورة
على الذات من داخل المجتمع، أو من داخل البيئة الضيّقة: العائلة. بعيداً عن
التحليل النقدي الخاصّ بـ"نبع
النسا"، يُمكن القول إن الفيلم محمَّل بنظرة متلصّصة وقاسية على
الداخل الإنساني والحياتي، في السلوك اليومي لأناس مقيمين في قرية ريفية
منعزلة بين صخور وجبال وطرقات وعرة. الحبكة معقودة على نساء القرية: لأنهنّ
تعبن من جلب المياه إلى البيوت، من أعلى قمة الجبل، قرّرن تنفيذ إضراب يقضي
بمنع رجالهنّ من الاقتراب الحميميّ إليهنّ. فالرجال جالسون طوال النهار من
دون فعل أي شيء مفيد لهم ولعائلاتهم ولقريتهم. مستسلمون لثبات لا يحيدون
عنه: المقهى خير مكان، والتمدّد فيه ساعات طويلة خير وسيلة لمقارعة الضجر.
غير أن السياق الحكائي لا يُختزل بهذا: الإضراب فتح منافذ كثيرة في البنيان
الاجتماعي للقرية وناسها. التاريخ حاضرٌ (اشتغلت النساء لأن رجالهنّ يخوضون
الحروب). الدين أيضاً (نصوص قرآنية متعدّدة). الاختبار الاجتماعي (إنها
التربية وأحوال الدنيا وقوانين الطبيعة البشرية). مع هذا، نجحت النساء في
قول كلمة حقّ: التاريخ انتهى. الدين امتلك نصوصاً مدافعة عن المرأة وحقّها
في العيش بكرامة. الاختبار الاجتماعي، بدوره، بات مختلفاً، لأن التربية
مُطالبة باللحاق بالعصر، وبتطوّراته الملائمة للذات والجماعة.
هذا ما قاله رادو ميهاليان: نجاح الفعل الثوري متحقّق، إذا فرضت
المرأة ذاتها وحضورها داخل بيئتها، بالمنطق والعقل، واستناداً إلى التاريخ
والنصوص. نجاح الفعل الثوري متحقّق أيضاً عبر المرأة، إذا أدركت المرأة
مرارة العيش في الصمت، وبشاعة الانكفاء في زوايا معتمة، بدلاً من المواجهة
والتحدّي: "على
الحافة" (حصل على منحة تمويلية من صندوق "سند" التابع لـ"مهرجان
أبوظبي السينمائي") للمغربية ليلى كيلاني، نموذجٌ أول. الصبايا المحطّمات
في شوارع طنجة ومتاهاتها القاتلة، هنّ أنفسهنّ اللواتي بدأن الضرب على
الجدران السميكة التي زنّرت، ولا تزال تُزنّر الحياة والمدينة والبيئة
والمجتمع. هنّ أنفسهنّ اللواتي ذهبن إلى أقصى التطرّف المبطّن في مقارعة
الذلّ والألم والقسوة. لأنهنّ لم يستطعن البقاء منعزلات ومقموعات
ومستغَلاَّت، أردن كسر الروتين والثبات، من أجل حراك حيوي يتيح لهنّ حياة
أكرم وأفضل وأجمل، ويمنح بيئتهنّ ومجتمعهنّ دفعاً إلى التقدّم والتطوّر.
القصّة مستلّة من حكايات يومية عادية، باتت مأزقاً يعانيه الجميع، وسط
انسداد الأفق: صبايا في مقتبل العمر يعانين ألف همّ وخيبة، لأن الأفق هذا
منغلق عليهنّ، ومانعٌ إياهنّ من إيجاد ذواتهنّ في بيئة اجتماعية منفضّة
عنهنّ، أو قامعة أحلامهنّ وهواجسهنّ وكياناتهنّ الخاصّة بهنّ كأفراد وكبشر.
في طنجة، يعملن نهاراً، وينصرفن ليلاً إلى مقارعة المظالم، عبر التطرّف في
ممارسة شيء مما يعتقدن أنه سبيلٌ إلى تنفيس ذاتي من قوة الضغط النهاريّ.
الغليان المعتمل في نفوسهنّ طريقٌ إلى الانفجار داخل البيئة المقيمات فيها.
انسداد الأفق، وإن لم يكن حكراً عليهنّ فقط لأنه انسداد أمام شباب كثيرين
أيضاً، أداة تحطيم قد يطال مجتمعاً وبلداً بكاملهما.
الحراك الذي قامت به فتيات "على الحافة"، لا يختلف كثيراً عن حراك من
نوع آخر، قامت به الزوجة الإيرانية في "انفصال
نادر وسيمين" لأصغر فرهادي. فعلى الرغم من أن الفيلم إيرانيّ
بحت، شكلاً ومضموناً وإنتاجاً، إلاّ أن المرأة، المحتلّة جزءاً متوازناً
والرجل في بنيته الدرامية، سمة أساسية مشتركة بينه وبين الأفلام العربية
المختارة: طالبت بالطلاق من زوجها، لرفضه الموافقة على السفر معها إلى
الخارج، لغرض إنساني مهمّ. لم تسكت. واجهت واصطدمت بجدار كبير من القوانين
والسلطات الذكورية. المرأة الإيرانية المنتمية إلى طبقة بورجوازية ما،
تُشبه الخادمة الإيرانية في الفيلم نفسه أيضاً، لأن هذه الأخيرة طالبت،
بدورها، بحقّها في أن تكون امرأة لها حقوق، وعليها واجبات. وبصرف النظر عن
أي تحليل نقدي للنص السينمائي وأسئلته، شكّلت المرأة في "انفصال" وجهاً
حقيقياً انعكس عبره واقع بيئة ومجتمع، عرفا هما أيضاً حراكاً شعبياً عفوياً
وسلمياً، إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة في حزيران/يونيو 2009، شاركت
المرأة فيه بقوّة وحيوية وبراعة حضور ومنطق وتواصل وتعبير.
المرأة، ولا أحد غير المرأة. إنها المحور والصورة والحبكة. إنها
الركيزة والوجع. في الفيلم المصري "أسماء"
لعمرو سلامة، مزجت المرأة في ذاتها أزمات عدّة، قد تُصيب الرجل، لكنها لن
تبلغ الوجع الذي عرفته المرأة، لأنها امرأة في مجتمع عربي ذكوري، أولاً
وأساساً. فكيف إذا أُصيبت المرأة هذه بمرض "فقدان المناعة المكتسبة"، في
مجتمع رافض، أساساً، فكرة أن مرضاً كهذا لا يعني "الشذوذ الجنسي" فقط، ولا
يعني انتقاصاً من القيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية
والحياتية للكائن الحيّ، المُصاب به، لهذا السبب أو ذاك. أسماء، امرأة
أربعينية، وأم أرملة لابنة في ربيع العمر. نهاية الفيلم تكشف كيفية إصابتها
بالمرض، ذاك السرّ الذي حافظت عليه طوال رحلتها في جحيم الأرض. ومع أن
الفيلم مال إلى البكائيات الانفعالية، وبلغ مرتبة لا تُحتَمل من
الميلودراميا الفاقعة، إلاّ أن نصّه واضح: هذا مرض لا عيب فيه. لكن الأهمّ
كامنٌ في أن هذا الكائن إنساني أولاً وقبل كل شيء، له الحقوق كلّها التي
لغيره، وإن كان مُصاباً بهذا المرض أو ذاك. كسر الحلقة المفرغة إحدى نقاط
الدعوة الفيلمية إلى مراجعة الذات، خصوصاً إثر الحراك الشعبي العفوي الذي
أطاح رأس النظام، وباتت معركته الحالية إطاحة النظام الفاسد والركيك، في
السياسة والمجتمع وثقافة العيش اليومي والعلاقات الإنسانية. أسماء الحقيقية
توفيت وحيدة ومسحوقة، مع أنها حاولت إسقاط أقنعة كثيرة غلّفت وجوهاً كاذبة.
أسماء السينمائية كادت تذهب إلى موتها، لأن الأطباء جميعهم رفضوا إجراء
عملية جراحية بسيطة لها لإنقاذها من التهاب المرارة، بعد معرفتهم بإصابتها
هذه، فانتقصوا من أحد بنود الشرط الإنساني لعملهم الطبي: المعالجة من دون
أي سؤال عن الهوية والانتماء والالتزام. من دون أي حكم مسبق.
هناك فيلم آخر كشف جانباً من معاناة المرأة، ضمن قراءته السينمائية
فساد بيئة ومجتمع أيضاً: "أياد
خشنة" للمغربي محمد عسلي. تريد المرأة اللحاق بخطيبها إلى
إسبانيا. إنه سؤال الهجرة، الذي يفتح باباً واسعاً أمام أسئلة لا تختلف
كثيراً عن تلك المطروحة في الأفلام السابقة. إنه سؤال العلاقة المبتورة،
بسبب رفض المجتمع الخروج إلى العصر. رفض المجتمع الخروج إلى الحرية
المسؤولة. لن يكون "أيادي خشنة" انعكاس لحال المرأة فقط. فهو، بسرده وقائع
حيّة مستلّة من عمق الحياة اليومية في الدار البيضاء، بدا منشغلاً بالحالة
العامّة لمدينة ذاهبة إلى مزيد من خرابها، جرّاء بؤس الفساد المتفشي في
شؤون جمّة. وهو، بجعله نساء عديدات حاضرات بفعالية في غليانه الدرامي
الجميل، بدا عيناً حادّة في تمزيقها أشياء عديدة من البلد وناسه. غير أن
المرأة حاضرة، لأنها جزء من المجتمع، ولأن جزءاً من مآزق المجتمع أصابها في
أكثر من موضع.
هذه نماذج. الأمثلة مفتاح إلى المعرفة. دعوة إلى مراقبة المزيد من
الحالات. الأفلام هذه جزء من حراك سينمائي عرفته دول عربية عدّة منذ أعوام
طويلة، لأن صانعيها عاشوا دقائق الأمور، واختبروا المعاناة، ورأوا بعيونهم
أو بعدسات كاميراتهم بعض خفايا مجتمعاتهم وخبايا نفوس وأفكار.
من داخل المهرجان في
21/10/2011 |