|
من قلب المثلث الروسي ـ الصيني ـ الكوري المشحون بالمغامرات والسرقة
والتهريب وتبييض الاموال والرقيق الابيض حيث يعيش اكثر من 800 الف من جماعة
الـ"بدون"(يُسمّون بالكورية "جوسيونجوك")، يصوغ صاحب "المُطارد"(2008)
المخرج الكوري الجنوبي الشاب هونغ ـ جن اشتغالا مجنونا بحركيته ومطارداته
ومآسيه في "البحر
الاصفر" (عروض السينما العالمية) الذي هزّ نقاد مهرجان كان
الفرنسي الاخير، لما تميز به من حبكة متداخلة، متفجرة سيغار منها
الاميركيون بالتأكيد.
مائة واربعون دقيقة، حافلة بحيوات متعددة للبطل غو ـ نام (اداء بارع
من الممثل ها جونغ ـ وو) الذي يعمل سائق سيارة أجرة، علّته الوحيده ضعفه
امام لعب القمار وحظه العاثر فيه، ما يجعله الخاسر الابدي في مقاهي القمار
في المدينة الحدودية المسماة يونجي التابعة لمقاطعة يانبيان، والرجل
الاضحوكة امام منافسيه. انه صيد سهل لرجالات العصابة الدمويين الذين
يُشرفون على عمليات معقدة من الابتزاز والدعارة والجريمة المنظمة.
هؤلاء لن يتوقفوا عن إهانته نظرا للديّن الضخم الذي يطوق مصيره
المظلم، قبل ان يطرق الحظ بابه، عندما يتعرف عليه قطب نافذ من المجرمين
يدعى مايون (أداء صاعق من الممثل كيم يون ـ سيوك) الذي يكلفه بتصفية غريم
له في مدينة بوسان الكورية الجنوبية ويجلب له ابهامه مقابل انهاء مشكلة
المال الذي بذّمته! في هذا المقطع الذي يحمل عنوان "سائق سيارة الاجرة"
يلعن البطل غوم ـ نام، على غرار قرينه الشاب تريفس بيكل بطل شريط الجهبذ
الاميركي مارتن سكورسيزي، مصيره الذي لم يُزهر مرّة واحدة. كلاهما ناقم على
حظوظه التي تتكسر بوجع انساني كتوم، قبل ان تقودهما نحو الموت المُذّل.
يقدِم تريفس على جرائمه بحجة "غسل المدينة من الحثالات" ويصل الى قناعة
فردية ان السياسيين هم اول السُوقة! في حالة بطل "البحر الاصفر" تكون
المدينة جحيما لانتكاسات متتابعة: زوجته التي هاجرت الى سيوول كي تعمل
بائعة هوى، اوقفت ارسال المال اللازم لرعاية ابنتهما. عمل مضن وغير مربح.
وحدة ضاغطة لا تقوده سوى الى صدامات متوالية. وحده الاقتراح الخطر الذي
يقبل به كي "تنظف حياتك من قذارة تُلطخ سمعتك!"، هكذا يقنعه الزعيم مايون،
الذي يضيف: "اذهب الى بوسان والتق بزوجتك، فاما ان تعيدها اوتقتلها!".
ان التشويق العالي الجودة الذي يميّز المقاطع التالية، تدفع بمشاهد
"البحر الاصفر" الى اقصى درجات الانغمار باللعبة المتشابكة التي يغرق بها
البطل الشاب، وتُبين لنا انه ذكي، سريع البديهية، ومحظوظ الى الحدّ الذي
يجعله أشبه ببطلة كونتن تارنتينو "أقتل بيل" اي تَقتل ولا تُقتل. لن ينفذ
غوم ـ نام الجريمة المنتظرة، فهناك من يتكفل بها، لكنه يفوز بالابهام،
ومطاردة الشرطة الكورية له. هنا يذهب المخرج هونغ ـ جن الى اقصى درجات
المتعة التجارية في ما يتعلق بالتشويق، والمعارك الدموية، والوافر من
الدماء، والجثث المتناثر، والمؤامرات التي لا حد لها، والقتل وازهاق
الارواح مجانا، والوشايات والخيانات التي تحدث بلا ثمن وبدوافع نذّلة.
شخصيات مليئة بالسقط الاخلاقي، انهم مجاميع بلا ذمم، مأمورون وسفاكو دماء.
الغريب في المقاطع الكورية في "البحر الاصفر" ان المخرج هونغ ـ جن لا
يخشى من تطرفه في جعل بطله معصوما من الاخطاء اوالانهيار امام الحصار الذي
يفرضه الجميع عليه. والمدهش ان هناك حلولا غير متوقعة تقود الصنديد الى
خلاصات متكررة، فالشريط الطويل لا يكتفي بحكاية القتل والمعارك، انه يرمي
همه الدرامي على محنة البطل العائلية، فما ان تتعقد مواجهاته مع مايون، يظل
في مسعى لا يلين للفوز بمعلومة حول مصير الزوجة الخائنة التي يحلم بها وهي
في احضان رجال غرباء، تصرخ بالشهوة، فيما ابنتهما تعيش يتيمة!
ان "البحر الاصفر" في الوجه الاخر، اشتغال بصري قاتم (جهد كبير من
مدير التصوير لي سونغ ـ جي وتوليف حيوي من سون ـ مين كيم) يطغي عليه اللون
الرمادي الذي يتدرج لاحقا الى لون اسود يستفيد من غلّبة المشاهد الليلية،
التي اضفت معان نفسية كالحة لحالة البطل وهو يفشل في الوصول الى حقيقة مصير
زوجته . الى ذلك، يلاحظ مشاهد "البحر الاصفر" ان المخرج هونغ ـ جن يحصّر
بطله في عزلة مكانية ضاغطة، يكون فيها للجدران وديكوراتها المتقشفة دورا
يُبين ان قدره حُسم مسبقا وينتهي كجثة مجهولة الهوية، يلقي بها بحار عجوز
في لجّة البحر الاصفر الكئيب.
من داخل المهرجان في
20/10/2011 |
