"بجوار المدفأة" (السينما العالمية)
للتشيليّ أليخاندرو فيرنانديز ألميندراس، فيلم مفاجئ بحسّيته وتغنّيه
بالأشواق الأزليّة بين كائنين بشرين، يذودان عن بعضهما البعض، ويقبلان بشرط
القدر في غياب أحدهما. رحلة سينمائية صافية في قلب المحنة الشخصية لدانييل
(دانييل مونوز)، الذي خسر زوجته أليخاندرا (أليخاندرا يانيز) إثر صراع فاشل
مع المرض الخبيث. تدور الشخصيتان في فلك تكافلي باهر في عواطفه ويومياته.
في قلب الريف التشيلي، تنمو قصّة الحب بينهما مرّة أخرى، وتموت لاحقاً، بعد
مغادرتهما المدينة الكبيرة، حيث عمل الشاب سائق سيارة أجرة، سابقاً. تُدفن
الزوجة. لكن، على الشاب أن يعيش حياته كما خُطِّط لها: عمل دؤوب، وزيارات
عائلية، وأحاديث شجن، وخيانة زوجية عابرة. إنها صُوَر التشابهات اليومية.
سيرورة الحياة في أكثر تجلّياتها طلقاً.
هذا الشاب الريفي، الذي لم تدنّسه العاصمة وحياتها الرذيلة، شديد
الواقعية، وغير مُتطلّب. صريح إلى حدّ بعيد. لا يخاف من سوء الظن. في مشهد
افتتاحي أثير ببساطته، وإثر مواقعة جنسيّة في فراش الزوجية، يحرِّض دانييل
رفيقته على كشف اعترافاتها بشأن الحبّ الأول، والزلّة الجنسية التي فَقَدت
فيها بكارتها وهي طالبة. يتبعها الزوج بحكاية مماثلة. لكنه يختمها بتهكّم
عن علاقته بوالده، الذي يُعاقبه على غيابه طوال الليل عن البيت، الأمر الذي
أرعب والدته، قبل أن يدعوه إلى شرب زجاجة بيرة عند السابعة صباحاً. هذه
التفاصيل الصغيرة في حكايتيهما، تقود الفيلم إلى مزاج شعري للمحيط الباهر
حولهما. إنهما كائنان رعويان، يجب ألاّ يعيشا بين حدود وأسوار. هما طليقان
مثل الكائنات حولهما. عليه، يُعنون المخرج ألميندراس بفطنة فصول باكورته
السينمائية الغنائية باستعارات من جمل بطله الشاب التي يقولها للآخرين،
ويوثّق معها أسماء المدن التي تقع فيها الأحداث التالية، وتتحوّل إلى وثيقة
على الفعل البشري الذي يقوم به، والمتماشي مع تصعيد القصة. هذا قول لرفاقه:
"يتوجّب عليّ الذهاب"، لنتابع ذهابه إلى منزله لإعطاء الدواء للزوجة
العليلة. أيضاً، هناك سؤال زميله له: "على ماذا تتحسّر أكثر؟"، فيُجيب: "أن
أكون أكثر شباباً". نكتشف معه حجم الإصابة الخطرة التي يفترس بها المرض
الخبيث جسد الزوجة. في المقطع الأخير، نقابل دانييل وقد حلق لحيته الكثّة
التي تميّز بها طوال القسم الأول، وغيّر هندامه، جالساً أمام والديّ
الراحلة، ليقول كلمة الفصل الختامي: "أنا معتاد على القيادة ليلاً"، لنرصد
جزعه وإعلانه الموجع والثقيل الألم بموت الرفيقة وغيابها.
أكَثَر المخرج ألميندراس من الحوارات القصيرة بين شخصياته. فهي
كالحياة من حولها، تتطلب عملاً دؤوباً، وكلاماً أقلّ، وعواطف أشدّ تقشّفاً.
يقول الفيلم إن المجموعة البشرية هذه مُلك الأرض، أكثر منها مُلك الحياة
المعاصرة ومشاقها ومتطلباتها. إنهم لا يمسرحون أيامهم، بل الأيام فيض من
العطاء والرغبات والحنان والحاجة والتآلف والإيمان. ولعلّ مشهد زيارة
المستشفى، حيث ترقد الزوجة قبل نزاعها الأخير محاطة بالعائلة، نموذجٌ
للتأني السينمائي الذي ميّز عمل ألميندراس، إذ بقيت الشخصيات على حالها،
قليلة الكلام والحركة واللواعج، قبل أن تنسحب بهدؤء إلى حائط أسود، كتورية
عن المصاب الكبير الذي يقع على ضمائر الجميع.
"بجوار المدفأة" ضمّ تفاصيل هائلة، تتطلّب من مشاهدها التيّقظ لها،
كونها إشارات درامية شديدة الأهمية، تدعم سيرورة القصّة ذات الخيط الواهي.
وحالما يضيّع سبيله بينها، يصبح العمل فارغاً واعتيادياً ومُمِلاً وعبثياً.
يلتقي، في هذا التفصيل، نصوص كبار أمثال المكسيكي كارلوس ريغاداس، وخصوصاً
في تحفته "ضوء صامت" (2007)، والمعلم الإسباني فيكتور أريك بذات، مع درّته
السينمائية "روح خلية النحل" (1973)، من حيث اجتماعهم على شعرية النص،
وانسايبية السرد، واحتفاءاتهم بالكون وفطرته العظيمة.
من داخل المهرجان في
18/10/2011 |