|
هذا واحد من أفضل الأفلام الأوروبية التي أُنجزت مؤخّراً. ثاني تجربة
إخراجية للروماني أدريان سيتارو، بعد فيلم واعد حقّقه في العام 2008، يندرج
في إطار ما عُرف قبل بضعة أعوام بالموجة الرومانية الجديدة، إثر فوز
كريستيان مونجيو بـ"السعفة الذهبية" في مهرجان "كانّ" عن فيلمه "أربعة
أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان". الفيلم فنيّ بامتياز، تربطه صلة وجدانية بأبرز
الذين صنعوا هذه الموجة، وفي مقدمهم كريستي بيو ورائعته "موت السيد
لازارسكو". ينبغي التذكير أيضاً أن سيتارو تدرّب سابقاً على السينما
ميدانياً، عندما تولّى منصب "مساعد مخرج" لكوستا غافراس في فيلمه المثير
للجدل "أمين" (2001)، ثم أخرج بعده فيلماً قصيراً بعنوان "أمواج"، شارك في
نحو 150 مهرجاناً في العالم، حاصداً الجوائز، وجاذباً الاهتمام.
"أفضل
النوايا" (آفاق جديدة) عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان
لوكارنو (سويسرا)، حيث نال جائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل. لا يخفي سيتارو
وجود مسافة قريبة بينه وبين الفيلم، وتبنّيه الأخلاقي لكل لقطة صَوَّرها.
هناك إشارات كثيرة تؤكّد أنه سيرة ذاتية، انطلاقاً من أحداث عاشها المخرج
ووالدته في صيف العام 2007. أي أنه فيلم "تأليفيّ" وذاتيّ، استلهم من
الواقع المعيش متجاوزاً إياه بإدراك كبير. فيلم تعرّى فيه المخرج، كاشفاً
عن الجزء الأكبر من شخصيته وأفكاره وهواجسه.
بمعالجة هادئة، ولقطات تطول أحياناً من دون مسوّغ جمالي، كأفلام
أوروبا الشمالية التي كرّست هذا المنطق في التعامل مع السينما، اقتفى النصّ
أثر أليكس، الشاب الذي يعتني بأمه التي أُدخلت إلى المستشفى، إثر تعرّضها
لسكتة دماغية طفيفة. دراما عائلية، أعادت الشاب الثلاثيني هذا إلى الغرفة
التي تنام فيها والدته، مراراً وتكراراً. مهمومٌ هو وعاجز، يختزن في داخله
شيئاً من طفولة لم يعرف بعد كيفية الخروج من طيفها، علماً أن التسلّط سمة
من سماته أيضاً. رمى الفيلم نظرة تعاطف على أليكس، وتواطأ معه، مُعتبراً أن
مشكلته كامنة في سلوكه الساذج، سذاجة غير مرتبطة بالحماقة، بل بالقرارات
التي يأخذها المرء تحت الضعط.
أليكس يريد الخير لوالدته، بل الأفضل. لكن النيات لا تصنع المعجزات.
الاهتمام المتزايد الذي يظهره تجاهها قد ينمّ عن إهمال معيّن حصل في
الماضي. شاب قلق على المصير الذي في انتظاره. شاب من هذا العالم. ما يربطه
بما حوله، قدرته على القلق (مرض العصر)، وفشله في مواجهة الوحدة التي قد
تصيبه، جرّاء الموت المحتمل لوالدته. إنه مراهق في جسد راشد، لا يتحمّل
فكرة الموت. صوّر سيتارو فيلماً عاقلاً على المستويات كلّها: الصورة،
والفكر الذي يختزنه النصّ. وإذا كانت التفاصيل رومانية بامتياز، فإن خطاب
الفيلم ينمّ عن رغبة في إعطاء أبعاد دولية لهذه الحكاية المؤثرة.
ساهم الفيلم أيضاً في إخراج صاحبه إلى العلن، والتأكيد على موهبته
وامتلاكه بصمة خاصة. لعله سيكون من الأسماء التي ستحمل راية السينما
الرومانية في الأعوام المقبلة. يعرف سيتارو كيف يضع المشاهدون في قلب
الحدث، في لحظة استعداده البطيء، ثم حصوله. يجيد كيفية تحريض الحدث، بينما
يبقى هو على مسافة منه، عاكساً وجهات النظر في صيغة درامية تعمل وفق منطق
الأخذ والردّ. لكاميراه حضور طاغ وأساسي في طرح مسألة الذاتيّ والموضوعي.
النحو الذي يستخدم فيه هذه الآلة يعزّز إحساس الانغلاق والقلق، الذي يلفّ
الشخصيات والمُشاهد في آن معاً، ما يسمح للمخرج بمزيد من الغوص في عمق
الأشخاص وطباعهم.
هذا كلّه يفعله بقناعة تامة، تتجلّى في الأسطر المأخوذة من مقابلة
أجريت معه: "هناك نوع من صوفية في الفيلم. لستُ شخصاً متديناً. لكن، بعد
تصويري فيلمي الأول "هوكينغ"، وحصول ما حصل مع أمي، عزلت نفسي عن الناس،
وقرّرت العيش لوحدي.
ذهبت إلى مسقط رأسي، وباشرت العمل بمفردي على حكاية هذا الفيلم.
عندما بدأت التفكير بقصّة والدتي، وبكل ما رافقها من أخطاء ارتكبتها، كان
لديّ شعور بأن شخصاً ثالثاً يرافقنا دائماً. لا ألمّح هنا إلى إمكانية أن
يكون بيننا ملاك أو شيء من هذا القبيل. لكن، كان هناك معنا أحدهم. لهذا
السبب، حاولت أن أبدأ الفيلم وأختمه بلقطة تبدو كأنها من وجهة نظر أحدهم.
لكن حركة الكاميرا مختلفة عن الحركات كلّها التي نراها في "لقطة وجهة
النظر" الكلاسيكية، لكنها مع ذلك تعكس وجود نظرة أخرى في المشهد. على
المُشاهد أن يقرّر من يُمكن أن يكون العنصر الثالث".
من داخل المهرجان في
18/10/2011 |
