كان من المفترض أن
يتحوّل جديد البريطاني ستيف ماك كوين «عار»
(أو «عيب»)، الذي عُرض في المسابقة
الرسمية، إلى فضيحة الـ«موسترا» هذا العام، كون التسبيقات الدعائية سَرّبت
أنه زاخر
بكَمّ وافر من المواقعات الجنسية. بيد أن ما صَعَق الحاضرين، هو الكَمّ
المقابل من
الغمّ السينمائي. إنه عمل محبوك بقسوة ضاغطة، وصبّ لعنات على الإقصاء
الفردي في
مدينة حداثية، ونهمة في تحطيم الذوات وإهانتهم. وبدلاً من الحيّز الضيّق
الذي حَبَس
به أبطال عمله السابق من سياسيي الحزب الجمهوري الإيرلندي «إضراب عن
الطعام» (2008،
تُرجم العنوان خطأ إلى اللغة العربية بـ«جوع»)، الذين شكّل عنادهم الشهير
الإتهام
العلني للسياسة القسرية لرئيسة الوزراء آنذاك مارغريت ثاتشر، يفتح ماك كوين
جغرافية
نيويورك أمام بطله المستوحد براندون، محيلاً إياه إلى أورفيوس جديد، يقارب
في عزلته
بطل فيلم الإيطالي برناردو برتولوتشي «التانغو الأخير في باريس»، ومركّزاً
على دأبه
في التخلّص من وحدته بجماع جنسي متواصل.
الشبق
ولئن كان بطل الفيلم
الأخير متعجّلاً إلى تصفية حسابه مع ماضيه
الغامض، يُصبح الهاجس نفسه لدى براندون،
الذي يُحكم تغييبه على ماضيه وأسرته بإصرار نادر وعنيد. لن نعرف شيئاً عن
محتدّ هذا
الشاب الأنيق ذي الشكل الرياضي، الذي قدّمه ماك كوين في المشاهد الافتتاحية
أنيساً
للجميع في المكاتب المرفّهة، وهدفاً لإغواء الحسّان. إنه باحث لا يملّ عن
ملء شبق
يفور في فحولة تقترب من البهيمية، ما يدفعه إلى مضاجعات جنسية متواصلة.
فإنْ فشل في
لقاء ضحية، يسارع من دون تردّد إلى ممارسة استمنائه، سواء في حمّام شقته أم
في
مرحاض شركته.
براندون ثورة جسدية بجسد ممشوق مسلّح بعضو رجولي لا تغفله
الموظّفات أو عابرات السبيل. يسعى إلى «قتل» وحدته، من دون أن يفلح في ذلك.
إذ أن
انقلاب موقعه من منتصر في الحانات والمطاعم إلى مدحور في وسطه العائلي، لن
يتمّ
إلاّ بعد الدقائق الثلاثين الأولى من الفيلم. تماماً كحال بطل برتولوتشي،
عندما
يكتشف براندون أن مقتحم شقته في غيابه لم يكن إلاّ شقيقته الصغرى سيسي
(كاري
موليغان)، التي حلّت في نيويورك كمغنيّة في المقاصف الراقية. أي أن «صدفة»
صغيرة
كان عالم براندون ينتظرها بفارغ الصبر كي تتقوّض أركانه بأكملها، وهي
الصدفة نفسها
التي جمعت بول، بطل «التانغو الأخير في باريس»، بالشابة المتفتّحة جان،
التي يقودها
بعزم ملاكم متقاعد إلى احتدام جنسي، يقترب من حدود التعذيب والقهر الجسدي.
تقتحم سيسي، الفتاة العفوية الدوافع، الفردوس الكاذب لشقيقها. لنكتشف
معها أنه
مهووس بكل ما يتعلّق بقوّته الجنسية، وأنه مدمن على تصفّح
مواقع البورنوغرافيا على
شبكة «إنترنت»، وأنه جامع مريض لمجلاّت
الخلاعة واسطوانات الأفلام الجنسية. في
الحساب الدرامي، هناك أمرٌ ما ينتقص من
شخصيته. فبقدر حرصه على النجاح في مجامعة
النساء، يكشِف عن لامبالاة هائلة إزاء مفهوم العيب الاجتماعي. وحين تقرّر
الشركة
التي يعمل فيها على مصادرة جهاز الكمبيوتر الخاصّ به، يرفع عقيرته محتجاً.
لكنه، في
المقابل، يقف ببلاهة أمام رئيسه الذي يؤنّبه على كمية الفيروسات التي هاجمت
جهازه
بسبب دخوله على المواقع الإباحية، وهو محصّن في مكتبه. يرى براندون أن حقّه
الشخصي
أثمن من الأعراف العامة. وأن حريته التي يسلبها القانون، هي قمع لـ«عادات»
يراها
الطرف الآخر مذمّة، فيما هي لديه علامة على كيان صحي، لا مكان للخيبات في
تاريخها.
فاوست
يصوغ ماك كوين حكاية براندون كأنها رحلة في كينونة فاوست
يافع، لا يتوانى عن بيع كرامته إلى شيطان الشبق سعياً لبلوغ مجد انتصار
فحولته، وإن
كان مع بائعة هوى رخيصة عابرة. يصوّره في حالة انتظار شخص مناسب يمسك بزمام
أموره،
ويقسره على أن يفهم معنى العار الشخصي. ذلك الكائن لن يكون سوى الشقيقة
سيسي، التي
لا تجد ضيراً من إباحة جسدها إلى مدير براندون «لأنه ظريف»، الأمر الذي
يثير حفيظته
وغيرته، قبل أن تفاجئه متلبّساً وهو يستمني، لينفجر بعنف «ضد وجودها في
عالمه»،
كونها تجرّأت على اقتحام سرّية عاداته. يجد بول ـ برتولوتشي (مارلون
براندو) عزاءه
في محنة وحدته، بنص الـ«ديالوغ» الاعترافي الطويل، الذي يلقيه أمام جثة
زوجته
الممددة في إحدى غرف الفندق الذي يمتلكانه في باريس، قبل أن يلتقي الشابة
جان في
شقة فارغة، ليمارسا «معركة شبقية» غير متعادلة، تنتهي لاحقاً برصاصة في
صدره. بينما
يجد براندون ـ ماك كوين (أداء قدير للبريطاني مايكل فاسبندر) سلوته
المتأخّرة، في
الاختراق المدوي الذي نجحت به الشقيقة لخرابه الذاتي، ليُطلق رصاصة مقابلة
على كل
ما يُربطه بأشكال العار وممارساته. نرى براندون وهو في رحلة أروفيوسية في
أماكن
دعارة الشاذين، متخيّلاً نفسه وقد انحط إلى درك أسفل، يغلب عليه لون أحمر
قان، قبل
أن نفيق معه على صرخته المدمِّرة تحت مطر نيويورك (كما هي صرخة براندو
الشهيرة تحت
سكك المترو)، إذ أن إعادة تأهيل هذا الـ«فاوست» المديني تحتاج إلى لعنة
أكبر لا
تتحقّق إلاّ بالتدمير المستحيل لمتروبوليس الألفية الثالثة.
إذا خيّب ماك كوين
فضول مَنْ راهنوا على عاره، فإن زميله
الياباني سونو شيون، المعروف بنصوصه الصادمة
ذات الخيال الجامح، والابتكارية الكوميدية المتحاملة على مفاهيم الجنس
وإباحياته،
والجسد وعريه، والموت وأساليب انتحاراته، والعذاب وأساليب قسواته، سونو
شيون هذا
خيّب بدوره مهووسيه بنصّه الأخير «الخلد» (هيميزو)، الذي شذّ عن خطابه
السينمائي
التحريضي. وكما أن مُشاهد فيلمه «نادي الانتحار» (2001) لن ينسى فورة الدم
التي
تتفجّر على وجوه المارّة إثر انتحار فتيات المدارس تحت عجلات قطارات طوكيو،
أو
خَبَل الشخصيات الفتية في «تعرية حب» (2008)، التي تتورّط في عمليات قتل
جماعية، أو
كمية الفَحش الجسدي الذي تمارسه نساء «كولد فيش» (2010)، قبل أن يتشاركن في
تقطيع
الجثث، ومثلهنّ في عمله المتأنّق «ذنب الغرام» (2011)، اللواتي يَهرِبن من
ملل
حيواتهن الزوجية إلى دعارة الفنادق، فإن المُشاهد نفسه لن يغفر خذلان سونو
شيون
لهذه المنهجية السينمائية التي استقطبت عشّاقاً في كل مكان، في جديده الذي
عُرض في
المسابقة الرسمية أيضاً قبل أيام.
الخلد
لكن، ما الذي تغيّر؟
الجواب: الوطنيّة المفاجئة لسونو شيون،
التي أزاحت غضبه المميّز على يابانه
المعاصر، الذي يرى أن شبابه تغرّب وشطّ في
تقليد المحتلّ الأميركي وثقافته الشعبية،
ليختار نصاً حماسيا ملعونا، مستدعيا فيه مأساة التسونامي الأخيرة التي ضربت
شمال
البلاد في آذار الفائت، وأشاعت رعباً جماعياً، إثر انهيار أكبر مفاعل نووي،
وانتشار
إشعاعاته القاتلة. بين ركام الخراب، صَوَّر سونو شيون حكاية بطله اليافع
الذي يعاني
صدود والدته الفاجرة، وتخلّي والده المدمن عنه. نقابله وهو معزول في كوخ
قبالة
البحر في قرية ما، كحيوان الخلد، مستأنِساً بوجود شخصيات هامشية تعيش في
نطاق بدائي
حوله، قبل أن يتشظّى عالمه إلى اثنين: مجرمو العاصمة من الـ«ياكوزا»، الذين
يطالبون
البطل اليافع بردّ مال سُرِق من عميل لهم. والشلّة التي تسعى لتأمين عائلة
بديلة
له، وأولهم الطالبة العشيقة تشازاوا، التي تقوده لاحقاً إلى الاقتناع بكونه
مميّزاً
وناجحاً، «فالوردة لا مثيل لها» كما صرخت في وجهه، مستعيرة نصوص الشاعر
الفرنسي
فرنسوا فيلون، التي تبدأها بفقرة «أنا أعرف كل شيء ما عدا نفسي».
يُرغم المخرج
سونو شيون بطله سوميدا (شوتا سوميتاني) على الاختيار بين طرفي اللعبة.
كيانه
المدمّر بسبب انحطاط والديه، وعالم خارجي مصرّ على إفساده. الأول يقوده
قسراً إلى
جريمة قتل الأب، أي إقصاء بطريركية ناقصة. والثاني إلى مواجهة العصابة
الدموية
بتهديد غير متكافئ، كونها سلطة جماعية نافذة، لا تسمح باختراق قانونها أو
منافسته.
يأتي خلاص سوميدا في ظرف كوميدي، عماده عجوز من شلّته، يُصفي بدوره لصاً
شاباً
نزقاً كان وراء المال المسروق، فيعيده كديّة لرأس الصبي، مستعطفاً الزعيم
الدموي
بالقول كتورية عن حكمة شعبية: «بقاؤه حياً، يعني ضمان استمرار مستقبل
بلادنا». وهي
صرخة تستكمل دعوات معلم المدرسة في بداية الفيلم، التي يحضّ عبرها طلاّبه
الكسالى «على
إبقاء الحلم الياباني نابضاً»، بعد أن فشلت قنابل الحرب العالمية الثانية
في
عرقلة نهوض الأمّة كقوّة كبرى، مرّة أخرى. شعّ عمل سونو شيون بوافر من
القفزات
الدرامية، والتقطيع اللاهث، والصراخ العنيد، وكَمّ لا يُحصى من الصفعات، في
غياب أي
مشهد «غير لائق» على غير عادته. وأنهاه ببطليه وهما يركضان نحو عمق الصورة،
قبل أن
تندمج مع الخراب الأبوكالبتي، في دعوة وإشارة بيّنتين إلى أن «وعد الموت»
يتطلّب
بناء مجتمع جديد. أو كما أسماه سونو شيون على لسان الصبية تشازاوا «علينا
أن نشيّد
بيت الحلم».
السفير اللبنانية في
08/09/2011
"البندقية
68":
الجنس سجنٌ وهوس وجحيم يقول ماكوين
وفاسبيندر يؤكد
سولوندز لئيم دائماً وأبداً والقباص شاهدٌ على مظالم
اسرائيل
البندقية ـــ هوفيك حبشيان
منذ تسعة أيام، يستمرّ مهرجان البندقية في عرض آخر
انتاجات السينما. لا يزال هناك يومان لتتحدد قيمة هذه الدورة الثامنة
والستبن وما
الجديد الذي حملته على الصعيد الجمالي والفني والسياسي.
الى الآن، لم تكن هناك
وفرة في عدد الأفلام التي اعادت صوغ السينما في قوالب فكرية وفنية تثير
الفضول.
وبعدما مرّ كلٌّ من بولانسكي وكروننبرغ من
دون أن يحدثا ضجة، ها ان الآمال الأخيرة
معقودة على ألكسندر سوخوروف ووليم فريدكين وجوني تاو. في
انتظار ذلك، أثار العمل
الجديد لمخرج "جوع" دهشتنا، وهنا قراءة عنه وعن بعض ما عُرض في الأيام
الأخيرة.
محببة عودة ستيف ماكوين الى السينما، ثلاثة اعوام بعد "جوع"، وبعدما
كنا سمعنا هنا وهناك، انه سيكتفي بهذا القدر القليل، أي فيلمٌ واحد، كي
يدخل به
تاريخ الفنّ السابع. جديده اسمه "عار"، عُرض في المسابقة الرسمية، ويضطلع
فيه مايكل
فاسبيندر بدور شاب ثلاثيني يعيش في نيويورك. ما الذي يستحقّ أن يُروى في
تجربة هذا
الشاب الوسيم الذي، مرةً نراه يستمني تحت الدوش وفي الحمّام أثناء دوام
العمل،
ومرةً يحاول اغراء فتاة في المترو لمطارحتها الفراش؟ طبعاً،
الكثير مما هو غير ظاهر
للعيان، سيمسك بضلوع الفيلم حتى النهاية الصعبة. اذاً، نحن أمام شخصية
يتحكم بها
الهوس، وما سيصوره ماكوين طوال ساعة ونصف الساعة، هو نزول براندون (فاسبيندر)
الى
جحيم هذا الهوس المرضي المقيت.
براندون شخصية باطنية. لا نعرف عنه سوى ما يتيحه
لنا نصّ ماكوين. شذرات وأطراف حديث مع زملاء واصدقاء لا يفعلون، لقاء بعد
لقاء، الا
تعزيز طابعه الانعزالي. يصوّر ماكوين الجنس كحاجة حيوانية، لكن
متخلياً عن كل غلفه
الرومنطيقية وادعاءاته العاطفية. قاس جداً في نظرته اليه، لا يفعل الفيلم
الا تعرية
الجنس من العيب (بالمعنيين الحقيقي والمجازي)، وعزله عن نفسه، مقحماً
براندون في
عزلة مضرة لذاته. الجنس كفعل اذلال، كعزلة تامة اذا مورس بالاكتفاء الذاتي،
وكسجن
للجسد. نعم، هذا السجن الذي صوّره ماكوين في فيلمه السابق يصغر
حجماً هنا. واذا كان
بوبي ساندز، المناضل الذي يموت بعد اضرابه عن الطعام، يسكن سجناً كالذي
زُجّ فيه،
فالسجن هنا معشش في براندون. انه سجن العلاقات العابرة والحاجة البيولوجية
الدائمة
الى ارضاء صرخة الطبيعة، أينما كان وكيفما كان.
ليس مصادفة أن يقف فاسبيندر
(المشارك
في "أسلوب خطر" أيضاً لديفيد كروننبرغ) في دور براندون مرة أخرى بعد "جوع"
أمام كاميرا ماكوين. فهناك توحيد بين المخرج واناه الاخرى، أي فاسبيندر،
وهما أعلنا
مشروعهما الثالث معاً، وسيقتفيان ربما خطى مخرجين كسكورسيزي في تعاونه
المتكرر مع
دو نيرو ودي كابريو. كلٌّ من شخصية بوبي ساندز وبرادون يقتربان
أحدهما من الآخر في
النقطة الآتية: مصير الحرية مرتبط بالجسد. فبوبي يخسر جسده (وروحه في الحين
نفسه)
من أجل الحرية، في حين أن ما يفعله براندون
هو خسارة الحرية من أجل الجسد، ليتحول
شيئاً فشيئاً الى سجن صغير تتحرك فيه احلامه وطموحاته، اذا
وُجدت.
هذه هي
القراءة التي يتيحها عمل ذه شأن بصري وتوليفي وتقني عظيم. كالعادة، لا يبخل
ماكوين
بالقسوة والسوداوية في وصفه العلاقات التي تربط البشر بعضهم بالبعض. علاقات
مكلومة،
حتى تلك التي بين براندون وشقيقته سيسي، الضعيفة معنوياً، وهي
علاقة من شأنها أن
تعيد الصحوة الى ضمير براندون كي يضطلع بواجباته كأخ. لكن رجلنا مسجونٌ في
هوسه
الذي يزداد ضغطاً عليه، كلما زادت رغباته في اشباع ملذات الجسد.
# # # #
مارجان ساترابي وفنسان بارونو، اللذان اتحفانا مع "بيرسيبوليس"
جاءا الى الـ"موسترا" هذه السنة بجديدهما المخيب للآمال قليلاً،
المعروض في المسابقة الرسمية. ينبغي القول إن سقف التوقعات كان عالياً
ازاءهما،
وليس من أمر أكثر صعوبة في السينما من "امتحان" الفيلم الثاني. وربما لو
كان هذا
فيلمهما الأول، لكن نال الاستحسان والاشادة. أياً يكن، فمشاهدة "دجاج
بالبرقوق" شكل
من أشكال المتعة. هناك شيء طفولي فيه من دون أن يكون طفولياً. اسلوب
المخرجَين، من
صورة منقحّة وذات ألوان مائلة الى البني والزيتي والأحمر
والأخضر، ومن تعليق صوتي
مرافق ذي نبرة ساخرة، يذكّر حتماً بـ"أميلي بولان" لجان بيار جونيه، من دون
ان
يرتقي اليه في حسه المفعم بالشغف حيال شخصياته وفي وضوح الكلمة واللقطة.
بارع في
سرد حكاية جميلة، ولكن غير قادر على اعطاء معان كبيرة لما يُروى على
الشاشة، وغير
موحٍ بكلام كثير. هذا ما هو عليه الفيلم. أضف الى ذلك أن العنصر الايراني
ليس الاّ
شأناً ثانوياً لا تستطيع ساترابي الرهان عليه للملمة التعاطف.
كل شيء مرتبط بآلة
كمان تُحطَّم تاركة عازفها الايراني ناصر علي خان يتيماً وغير قادر على
متابعة حياة
طبيعية من دون حبيبته. ذكريات الماضي تطفو على سطح يومياته المتكررة.
العزلة،
الأولاد، المستقبل، الحبّ، هذه كلها تشكل مقومات هذا الفيلم
الذي لا يزحف خلف
السهولة، على رغم كل ما نستطيع ان نحمّله من نقد.
مرة أخرى يقدّم ماتيو أمالريك
في دور العازف أداء كبيراً ومقتصداً عند الحاجة. وهذا من بين
الأشياء التي تجعل
الفيلم يمشي على درب السلاسة والغواية في نمط يراعي مقومات السينما
الجماهيرية. "دجاج
بالبرقوق" انشودة للحياة والجمال. الأغرب في الأمر ان "بيرسيبوليس" كان
فيلم
تحريك مصنوعاً بروحية فيلم تقليدي مع ممثلين من لحم ودم، أما العمل هذا،
فهو فيلم
تقليدي بروحية التحريك.
# # # #
بالحزن والميلونكوليا نفسيهما اللذين كانا يطاردان
أفلامه السابقة، يصوّر المخرج الاميركي تود سولوندز فصولاً من حياة شاب
أميركي في
منتصف الثلاثينات من العمر، ينتمي الى عائلة يهودية تعيش في
مدينة نيويورك، وهو "حصان
أسود" (عُرض في المسابقة) تلك العائلة. أيب (جوردان غيلبر) شاب ثقيل الوزن،
صبياني في تعامله مع الحياة، يجمع الألعاب ويقود سيارة هامر صفراء ضخمة،
ولا يزال
يعيش مع والديه في منزل العائلة الذي سيرثه حتماً ذات يوم، بعد
عمر طويل. مرة أخرى،
يتعاطى سولوندز مع شخصية "مختلفة"، شكلاً ومضموناً، ما يسهل عليه تشغيل
شفرات عقله
المخرّب وروحه اللئيمة النابعة من حرصه على "سمعة" العائلة الأميركية
واليهودية
المقيمة قي أميركا، وهما شغله الشاغل في معظم أفلامه.
أيب يعاني من مشكلة مزمنة.
فهو لا يجد فتاة يرتبط بها، حتماً بسبب مظهره الخارجي غير المنسجم مع ما
تروّج له
الأزمنة العصرية. بدلاً من أن ينتهج أشكال الادانة ودروس الأخلاق البليدة
التي تعج
بها السينما، ينكبّ صديقنا سولوندز على الشخصية من كل جوانبها.
وعندما يتعرف أيب
الى ميراندا، ينتظر مخرج "سعادة" كي تستوي الأمور بينهما، كي يعلمنا على
لسان
ميراندا أنها مصابة بمرض معدٍ. من هناك وصاعداً، سوف تنهال المصائب على
أيب، الى أن
تبلغ الحوادث طريق اللا عودة.
# # # #
ضمن برنامج "أيام فينيسيا" المحاذي للتشكيلة
الرسمية، عُرض للمخرج الاسرائيلي شلومي القباص، شقيق الممثلة الموهوبة
رونيت
القباص، فيلماً يحلو النظر اليه وسماعه، عنوانه "شهادة". هذا
رابع افلام القباص
المولود عام 1972، والذي عمل سبع سنوات في نيويورك. الشريط،
البطيء جداً في اسلوبه
التأملي، يطرح مجموعة شهادات تفصيلية ومخبرية لجنود اسرائيليين ومدنيين
فلسطينيين.
هناك من ظَلم وهناك من ظُلم. بهدوء مزعج
احياناً اذ يضرب على الاعصاب، يضع القباص
كاميراه أمام "ممثلين" يسردون تجاربهم استناداً الى ما جاء في
تقارير، طالباً من
المتفرج أن يكون، بدوره، شاهداً آنياً على ما حصل ويستمر في الحصول. من دون
أي
انغماس في السياسة، يطرح القباص واحدة من أزمات عصرنا الحديث، وهي العلاقة
التي
تربط المهيمِن بالمهيمَن عليه.
يدخلنا الفيلم في تفاصيل تلك الحكايات التي تعكس
مهانة ان يكون المرء فلسطينياً تحت احتلال، الجزمة فيه هي التي تحكم. من
دون أي
لجوء الى المشاعر، لا بل ببرودة تجمد الدم في الشرايين، حرص
المخرج على أن تُسرد
الشهادات بالعبرية، وهذا في رأيه يجعل مهمة أن "ينجو" منها المشاهد
الاسرائيلي
أمراً غير ممكن. الوجوده تتحدث الى الكاميرا مباشرة ببساطة معبّرة ومن دون
أي صلة
بين شهادة وأخرى. طبعاً، لن يمرّ الفيلم في عروضه المقبلة، من
دون أن ينال قسطه من
الملاحظات المغرضة، من كلا الطرفين اللذي اعتادا على ان يعبسا في وجه كل
فيلم يحاول
الا يتكلم عن الصراع العربي الاسرائيلي بلغة الشارع ونشرات الأخبار.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
حوار
سوزان يوسف عن "حبيبي راسك خربان":
لم يكن ممكناً أن
أستمر في الحياة لو لم أروِ هذه الحكاية!
الواقع الفلسطيني، من الاحتلال وانعدام الحريات الى
التطرف الديني، لا يزال يُلهم سينمائيين من العالم، آخرهم أميركية لبنانية
الأصل،
سوزان يوسف، التي عرضت فيلمها الروائي الطويل الأول، "حبيبي
راسك خربان" في مهرجان
البندقية ضمن قسم "أيام فينيسيا".
بين التجربة الشخصية ليوسف وينبوع "مجنون
ليلى" الذي تنهل منه، يتكون فيلم (78 دقيقة)، متماسك بصرياً
وعلى قدر من الجرأة
خطاباً. من دون أن تنسى المخرجة ان تشير الى الأشياء باسمائها. في حبّ قيس
لليلى لا
جديد، لكن في مسألة التعديل الذي يطرأ على الشخصية، نحن هنا أمام كائن تائه
ينام
على شفير الوشاية، ضعيف الشخصية، يتمتم كلمات غير مفهومة، وهو
يعبر مساحة زمنية من
دون ان يجد لنفسه مكاناً في حضنها. في زمن فلسطيني صعب، انه الرقم الخاسر.
قبالته،
في الضفة، تقف حبيبته ليلى، التي خانها حظها فولدت انثى في بلاد تعاني شتى
أنواع
الاحتلال النفسي والتمييز ضدّ الضعيف. بينهما، ثمة حقيقة مؤلمة
يتشارك في صنعها كلّ
من اسرائيل وحركة "حماس". تصوّر سوزان يوسف غزة سجناً قبيحاً لا منفذ منها
سوى من
جانب البحر. أما الشعر فليس سوى فتافيت. تتدبر أمرها جيداً وهي تحاول ايجاد
تسلسل
بصري ونسمة من الأحاسيس الطيبة. في هذه المَشاهد هناك الجيد
والفعّال، وهناك الأخرق
والمشغول بعجل. الاحتلال يعرف كيف
يبتلع الحبّ، وأي كتف من أكتافه تنهشه، وايضاً
كيف ينتزع الحلم من عيون الشخصيات، مفبركاً جواباً قذراً من الناحية
الفلسطينية
لسلوكها العنصري هذا. المخرجة الشابة تصور اللحظة هذه، لحظة الانهيار، لحظة
الفخّ،
لحظة عودة التمرد الموقت الى العشّ الجماعي الدافئ الذي يسهر
عليه "حماة الدين
والأخلاق الحميدة".
·
¶
هذا فيلمك الطويل الأول، ولا نعرف عنكِ شيئاً بعد...
-
ولدتُ في بروكلين، نيويورك. والدي من زحلة وأمي من حمص. في
الثانية والعشرين، قررتُ
الانتقال الى بيروت، فسكنتُ فيها لسنتين متتاليتين وعملتُ مدرّسة وايضاً
صحافية لدى "دايلي
ستار". وجودي في لبنان بين 1999 و2001 غيّر حياتي. آنذاك، كانت اسرائيل لا
تزال تحتل جنوب لبنان. ثم انطلقت الانتفاضة الثانية. هذا كله
حملني الى موضوع
فلسطين. لم تكن لي أي علاقة بها. في بيروت، تعرفتُ الى عدد من الذين يعملون
في مجال
الأفلام. عملتُ متطوعة في أحد المهرجانات. ثم أنجزتُ فيلماً وثائقياً
قصيراً عن جدي
وجدتي المقيمين في زحلة. هذا جعلني أفكّر في الالتحاق بمعهد
للسينما. الفيلم القصير
كان السبب في قبولي في جامعة تكساس حيث نلت ماجستيراً. ذهبتُ الى هذه
الجامعة لأنها
كانت أرخص كلفة من جامعات أخرى في ولايات أخرى. كان يُقال لي ان هذه المهنة
لا تضمن
لي مستقبلاً، بحجة ان الذين يسيطرون عليها في أميركا معادون للعرب. كان
والداي
يريدانني أن أتزوج. لكنّي لم أكن اريد ذلك، اذ في بالي مخطط
آخر.
·
¶
عملياً،
كيف انجزتِ "حبيبي راسك خربان"؟
-
بعد تخرجي بعام، ذهبتُ الى فلسطين حيث صوّرتُ
فيلماً وثائقياً قصيراً اسمه "منع التجول". بكاميرا صغيرة، صوّرتُ رحلتي.
كنتُ وحدي
وكنتُ ألتقط مشاهد في الضفة حيث منع التجول عام 2002. ثم وصلتُ الى غزة
وتعرفتُ الى
مخرج مسرحي اسمه محمد، ووقعتُ في غرامه، فبدأتُ أصوّر علاقتنا معاً. ذات
يوم، أخذني
محمد الى خان يونس ليريني أولاداً في عمر الثالثة عشرة يلعبون
في تمثيلية من وحي "مجنون
ليلى". وكانوا يضطلعون بالدورين: ليلى وقيس. كانت هذه المرة الاولى اسمع
فيها عن "مجنون ليلى". وعندما عدتُ الى نيويورك بدأت أجري الأبحاث عنها.
·
¶
صوّرتِ على مراحل متقطعة ومتباعدة زمنياً، أليس كذلك؟
-
نعم، باشرتُ التصوير في
غزة عام 2005. ما حصل انني صوّرتُ المرة الاولى ثم عدتُ الى
أميركا، وعندما أردتُ
العودة رفض "اليهود" منحي التصريح. طوال اربع سنوات، فعلتُ ما في امكاني كي
استطيع
الدخول مجدداً. في المرة الاولى، صوّرتُ ما يكتبه قيس على الجدران، واللقاء
في
الجامعة وبعض اللقطات الخارجية، الخ.
·
¶
آنذاك، هل كان في حوزتكِ نصّ
مكتوب؟
-
كان هناك سيناريو أوليّ. كنتُ أجرّب. الكلّ حذّرني من انه لا
يُمكن
العمل في غزة. قلتُ "سأحاول". فتلقيتُ مساعدات كثيرة من ناس كثيرين ولم
أواجه أي
مشكلة في هذا المجال. طوال سنوات الانتظار، عملتُ على تنقيح السيناريو
بمساعدة
دكتور من جباليا، وهو مثل قيس في الفيلم، كان قد نال منحة
دراسية ليلتحق بجامعة في
بير زيت ومن هناك الرحيل الى هولندا لمتابعة دراسات عليا. تعرفتُ إليه حين
ذهبتُ
الى هولندا عام 2005 وساعدني على الانتهاء من كتابة السكريبت. محمد ساعدني
لنكتب
قصة حبّ غزة، اما الدكتور فتجسدت مساهمته في جعل القصة تبدو
مفهومة من الغرب.
·
¶
انتاجياً، كيف تدبرتِ أمرك؟
-
لم تكن هناك شركة انتاج تساندني. كلّف الفيلم أكثر
من سعر سيارة هوندا وأقلّ من سعر أوستن مارتن! تجمعت الأموال من هنا وهناك.
مؤسسة
أميركية قدّمت لي نحو 20 ألف دولار. مؤسسة الأميرة غريس دفعت مبلغاً
مشابهاً. مبالغ
صغيرة جاءتني ايضاً كهبة. شابتان تبرعت كلّ واحدة منهما بألفي
دولار. ناس لا اعرفهم
قدّموا لي المال لأتابع التصوير. الى ذلك، فإن مؤلف الموسيقى وممثلين مثل
قيس
ووالده لم يقبضوا أي مقابل لعملهم. ثم دخل صندوق الدعم ["انجاز"] التابع
لمهرجان
دبي على الخط وأنقذ الوضع.
·
¶
الفيلم يستلهم فصولاً من تجربتك الشخصية...
-
نعم، كنتُ أريد أن اعالج طبيعة العقبات التي تحول دون أن تتكلل
علاقة غرامية بين
شاب وفتاة بالنجاح، في مكان مثل غزة. وهذه العقبات تتخطى العائلة. الفيلم
يتحدث عما
حلّ بالناس جراء الاحتلال الذي يعيشون في ظله. لا يعرف الآخرون حجم
الاحتلال في
غزة، ولا يعرفون ما الذي يُمكن ان يفعله بالحبّ. لو بقي كلٌّ من قيس وليلى
في بير
زيت ولو لم يسحب الاحتلال منهما التصريح، كان يُمكن أن يبقيا
معاً.
·
¶
لكن، انت
ترين ايضاً مشكلات داخلية ليست كلها مرتبطة بالاحتلال...
-
طبعاً، هناك مشكلتان
متداخلتان تواجهان الحبيبين: العائلة والاحتلال. أنا لا أقول
إننا مساكين، بل على
عكس ذلك: علينا الاعتراف بأن لنا دوراً ما...
·
¶
موضوع التزمّت الاسلامي الذي
يأتي على يد عناصر "حماس" يحتلّ حيزاً كبيراً في القصة. انه
المقابل الفلسطيني
للاحتلال. واحدُ يحتلّ الجسد والآخر يحتلّ العقل والروح. هذا واضح في خطابك.
- (ضحك، مع قليل من الحرج). قصة الغرام التي عشتها في غزة علّمتني
الكثير. حكايتي
قريبة جداً مما أرويه في الفيلم. في غزة مثلاً، لا مكان يذهب اليه شاب
وفتاة كي
ينسجما، أحدهما مع الآخر. هناك الكثير مني في الفيلم. مشهد شاطئ البحر
مثلاً، يراه
المشاهد تماماً كما عشناه. ثم حصل معي شيء آخر: شجّعني محمد على الذهاب الى
هولندا،
وعندما وصلتُ قلتُ له أن يأتي لملاقاتي وعرضتُ عليه ان أساعده، فكان جوابه
أنه من
غير الممكن أن يأتي الى هولندا لنسكن معاً، وان شرطه الوحيد
ليفعل ذلك هو أن نتزوج.
وهذا يعكس الكثير مما تعرّض له من ضغط من جانب أهله الذين لم يكونوا يقبلون
أن يسكن
ابنهم مع فتاة من دون أن يتزوجها!
·
¶
ترين التحول الأخلاقي لشقيق ليلى بعد موت
صديقه كحالة طبيعية، كردّ فعل على ما عاشه، وكأن لا مهرب من
التطرف في سبيل الدفاع
عن "القضية"...
-
تخيلّ أنك تعيش في غزة ولا تفكر الا في أمور الحياة الطبيعية،
وفجأة يقتل الاحتلال صديقك، هكذا ومجاناً. فعليك أن تبحث عمّا يمنحك السلطة
على
الآخرين. للأسف، يبدو ان هذا هو العلاج الأسهل للمشكلة. في خان
يونس، كانت "حماس"
نافذة في تلك الفترة. هذا يسهّل انضمام شخص لا يملك القوة الى هذه الحركة.
امر
مشابه حصل في اميركا بعد 11 أيلول. الى من لجأ بوش لينال كل هذه القوة؟ لجأ
الى
المسيحيين. الواقعان متشابهان. المسألة تتخطى قطاع غزة
و"حماس". فالناس، أينما
كانوا، لا يتوانون عن اللجوء الى الدين لامتلاك السلطة...
·
¶ ...
مع الاصرار على
فكرة انه في أميركا لا ينهالون ضرباً على عشيقين يتبادلان قبلة! على كلٍّ،
أنتِ
تصورين مساحات ضيقة لا يمكن الخروج منها، لذلك نرى الشخصيات حُشرت في
اللامكان
الفلسطيني. لا مكان يذهب اليه العاشقان، لكن المكان غير موجود.
انه وهمٌ في عقل
الشخصيات...
-
غزة سجنٌ. لا يمكنك الذهاب الى أي مكان. انها عبارة عن مليون
ونصف
مليون فلسطيني يعيشون فوق عشرة كيلومترات. أين تريدهم ان يذهبوا؟ حتى مقهى
الانترنت
لا يستطيعان الذهاب اليها، لأنه يُمنع الاختلاط بين الشباب والبنات. هذا
الشعور عن
المكان يصلك ايضاً، لأنه، كوننا لم نستطع التصوير في غزة، صوّرنا في الضفة
الغربية،
وهناك، المنطقة محاطة بالجبال. فكان علينا أن نعثر على زوايا ضيقة. لكن أنا
راضية
عن النتيجة لأنها تمنحك احساساً بالاختناق. عملتُ تسع سنوات
على هذا الفيلم وهو
يعني لي الكثير، واعتقد انه لم يكن ممكناً ان أستمر في الحياة لو لم أروِ
هذه
الحكاية.
·
¶
سمعت انك تنوين إنجاز فيلم في اليابان. انت لبنانية وانجزتِ فيلماً
عن فلسطين، وولدتِ في اميركا وتقيمين في هولندا ومتزوجة من صيني. كيف
تتساكن كل هذه
الأشياء في داخلك؟
- (ضحك).
ربما أنا مجنون ليلى!
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
08/09/2011 |