نفحة الحداثة الواضحة فى مسلسل «أهل كايرو» تنعش الآمال فى سرد جديد
بأسلوب يختلف عن المعتاد والمكرر فى الدراما المصرية. هنا، يتحرر العمل من
أغلال حكاية الأسرة المغلقة على نفسها، ذات البداية والوسط والنهاية، التى
تدور حول أشرار وخيرين، تتابع الكاميرا أحاديثهم، فى صالات الشقق وعلى
المقاهى ومكاتب العمل، وتأتى انفعالات الممثلين متراوحة بين المحبة والعطف
والكراهية والغضب. وغالبا، تندلع الصراعات على ميراث أو خيانات زوجية أو
غدر ربما بلا مبرر معقول.
فى «أهل كايرو» تتسع الرؤية لتشمل مجتمعا كاملا، أو عاصمة كبيرة إن
شئت الدقة، ومنذ الحلقات الأولى، الساخنة، يتجلى ذكاء النص الذى كتبه بلال
فضل، فأثناء حفل زفاف «صافى»، فى واحد من أفخم فنادق القاهرة، يبدأ
السيناريو، فورا، فى نزع هالات الوقار والاحترام من السادة، الكبار اسما،
الصغار جوهرا، فالوزير السابق، على سبيل المثال، الذى وصل لمرحلة الهذيان
من شدة السكر، يهاجم رجل الأعمال المتأنق، الخارج من السجن حديثا، ويتهمه
بمحاولة بيع البلد، فيجيبه رجل الأعمال، بثقة: هل تركت أنت وأمثالك شيئا فى
البلد يمكن أن يباع؟
ويدرك المتابع أن كلا من الرجلين على صواب، وتتوالى مشاهد الحلقات،
داخل القاعة، لتبين المزيد من الحقائق، وأهمها علاقة «العروس» بعدد كبير من
ذوى المراكز المرموقة، نفوذا وثروة، وكلها أواصر فى مستوى الشبهات.
والأهم، من الناحية الفنية، تلك النكهة الإبداعية، ذات الخصوصية
الفريدة، فى تجسيد الحفلة، خاصة فيما يتعلق باليقظة التى تتسم بها كاميرا
المصورة المتميزة، نانسى عبدالفتاح، التى تكاد تتحول إلى عين بشرية، شغوفة
بحب الاستطلاع، تتحرك بنشاط، تقتحم تفاصيل تعبير هذا الوجه أو ذاك، تنتقل
بسرعة ونعومة من موقع لآخر، ولا يفوتها رصد المشهد العام.
ولاحقا، تتجاوز الكاميرا دورها كعين بشرية لتتحول إلى عقل يتأمل ويفكر
ويقارن ويعلن، فإذا كان ثراء القاهرة يبدو واضحا فى واجهة الفندق الشاهق،
وفى عدد السيارات التى تمرق أو تتزاحم فى الطرقات، فإن فقر العاصمة،
ببيوتها الدميمة، وقذارة أسطح بيوتها، تفضحه مصورتنا الموهوبة، نانسى، على
نحو عفوى، فى «فلاش باك»، بين «العروس» وحبيبها القديم، المهجور، المتواضع
الحال، قبل أن تبدأ رحلة صعودها.
تثمين عنصر التصوير فى «أهل كايرو» لا يعنى تواضع بقية العناصر،
فالمصور، منذ البداية، ينفذ ويضيف ما اتفق عليه، خاصة مع المخرج، وهو هنا،
محمد على، المايسترو، الذى حقق تناغما بديعا بين أداء تمثيلى صادق وواقعى
ومقنع، مع منح كل شخصية خصوصية نفسية، يستوى فى هذا الجميع، أصحاب الأدوار
الأساسية والهامشية، الأمر الذى يستحق وقفة مستقلة. نفحة الحداثة تتأكد
خلال المونتاج المتدفق الذى حققته نادية حسن، المستوعبة لأساليب «الفيديو
كليب»، ولكن على نحو محسوب بدقة، فضلا عن جرأتها فى تقسيم الشاشة إلى
قسمين، سواء فى الزمن الواحد، أو فى زمنين مختلفين.
العروس فى «أهل كايرو»، تلقى حتفها ذبحا.. فمن الذى قتلها؟ أيا كان
المجرم، فإن المسلسل، بأفقه الواسع، يوحى أن القاتل، من الممكن أن يكون أى
واحد من الكبراء، نجوم المجتمع الراقى.. إنه مسلسل مشرف.
الشروق
المصرية في
04/09/2010
خواطر حول (الجماعة)
بقلم: معتز بالله عبد الفتاح
لست إخوانيا ولن أكون، ولست علمانيا ولن أكون. هذا ما أعتقده الآن.
وأركز على كلمة «الآن» لأن الإنسان ينضج ولا ينبغى عليه أن يغلق باب التطور
والقبول بالحق والقول به إذا علمه. وليلتحق أحدنا بمدرسة «المنهج العلمى»
التى ترى أن الإنسان مهما كان موقنا بشىء، خلا وجود الله وما أمرنا به، فلا
ينبغى أن يصل فى يقينه لأكثر من 99 بالمائة ويترك واحدا بالمائة للشك
والتشكك والفكر والتفكر والعلم والتعلم لأن «فوق كل ذى علم عليم» و«ما
أوتيتم من العلم إلا قليلا».
هذه كانت المقدمة.
أما الموضوع فهو الجدل المفيد الذى يثيره مسلسل «الجماعة».
فأنا ضد الغلاة من أنصار «الإخوان» وضد الغلاة من خصومهم العلمانيين.
وأرى فى كل منهما عوارا لا يقبله عقلى المتواضع. فلا أرى حقا فى أن يتحزب
المسلمون بين جماعات وفرق، ولا أرى حقا فى أن يتقوقع الدين ولا يخاطب فى
المسلمين حرصهم على صلاح أوضاعهم السياسية.
وهو ما يثيره مسلسل الجماعة بوضوح، ففى الدقيقة 17 من الحلقة 17 يقول
الشيخ طنطاوى جوهرى لحسن البنا «السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة.»
وأعتقد أن هذه هى الرسالة الأساسية التى يريدها المسلسل. وهو كلام صحيح متى
خلط البعض بين جاه الدنيا وقداسة الدين خلطًا يجعلون فيه الثانى عدةَ
للأول. وهو مرض ابتلى به المسلمون منذ أن قال عمرو بن العاص لمعاوية: «أترى
أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله إن هى إلا الدنيا نتكالب عليها،
وأيم الله لتقطعن لى قطعة من دنياك وإلا نابذتك» وهى مقولة وقف أمامها
العقاد فى كتابه عن معاوية طويلا للكشف عن التحول الذى شهدته علاقة الدين
بالدولة مع الفتنة الكبرى وما أعقبها من ملك عضوض.
ولكن هناك من مبادئ الدين ما لا تستقيم السياسة إلا به، ففى الدين حرص
على أن يكون المؤمنون حاملى رسالة لصلاح الدنيا. وحين وصف القرآن الكريم
المؤمنين من أهل الكتاب قال تعالى: «ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة
يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر». وحين أثنى على أمة الإسلام قال فيهم: «كنتم
خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله».
وحين ذم من كفر من بنى إسرائيل قال فيهم «كانوا لا يتناهون عن منكر
فعلوه». والأمر والنهى هنا يتطلب الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتى هى
أحسن كما أوضح القرآن، وهو ما ترجمته النظم المدنية الحديثة بوضع قوانين
ومؤسسات لضمان حرية الرأى والتعبير والمشاركة السياسية.
وهذه ليست مصادفة أن يكون الثناء على المؤمن فى أى دين حين يرتبط
إيمانه برسالة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
تعالوا نتأمل واقعنا، كنت أدرب طلاب قسم العلوم السياسية فى جامعة
القاهرة على أدوات جمع البيانات فقاموا بعمل استطلاع رأى لطلبة الجامعة
فوجدنا أن نسبة المنتمين لأى كيان سياسى (حزب أم جماعة) من بين شباب
الجامعة لا يزيد على 5 بالمائة ومن لهم انتماء كُروى بينهم يصلون إلى نحو
82 بالمائة ونسبة من يستمع منهم للدعاة الجدد بانتظام نحو 78 بالمائة. ما
هذا الانسجام العجيب بين تشجيع الكرة والتدين الشكلى والعزوف عن السياسة؟
بمزيد من التأمل لا يرى المرء عجبا، فهذا نتاج طبيعى لانحراف التدين
عن الصواب حين يتحزب، وينحرف التدين عن الصواب حين يتقوقع. والفضيلة وسط
بين هاتين الرذيلتين: التحزب والتقوقع.
زعماء التحزب فى زمننا هم إسلاميو التنظيمات الدينية، وزعماء التقوقع
هم نشطاء العلمانيين. ومعهما دعاة الفضائيات الذين وجدت فيهم النظم الحاكمة
بديلا عن الجماعات الإسلامية لأنهم يرون الاستبداد ويصرفون الناس عن إنكاره
بتجاهله فى خطابهم.
الدين يأمر أتباعه بأن تكون لهم كلمة حق فى شئون الحياة والحكم: لأن
«أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وينهاهم عن أن يكونوا «إمعات السكوت»
لأن «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
ومن هنا فأنا أتحفظ على حجج العلمانيين الذين يرون كل دور للدين فى
الحياة العامة خطرا.
وأتحفظ ضد حجج الإسلاميين الذين يرون أن «الإسلام هو الحل» لأنهم عادة
يحصرون الإسلام فى مبادئ جماعتهم أو حزبهم. بل الحل الإسلامى هو حل إنسانى
يقبله الإسلام، على نحو ما قال ابن رشد بقبوله الحق المكتوب فى كتب أهل
الباطل.
كما أجدنى ضد حجج بعض الدعاة الذين يمطروننا بالكلام عن فضل الصلاة
والصيام والقيام ويروون لنا القصص الشيقة عن الماضى العظيم دون أن يطلبوا
من مسلمى هذا الزمان أن يتخلقوا بأخلاق هؤلاء الصحابة إلا فى حدود المظهر
الشخصى والتبتل الفردى.
وكأنهم يقولون لنا: إن أجدادنا اخترعوا الملابس ونحن عرايا فلنفتخر
بهم ولا نفعل مثلهم لأننا لو أردنا أن نكون مثلهم فينبغى أن ننهى عن المنكر
ضد كل صاحب منكر. وبما أننا لا نتحدث فى السياسة فلننه عن المنكر الذى
يأتيه الشخص الضعيف الغلبان ولا ننهى عن المنكر الذى يأتيه الحاكم المستبد،
فلنذم الجنود بكل قسوة ولا نذكر فرعون وهامان بسوء فهما ذوا بأس شديد.
والأمر ليس بعيدا عن ظاهرة عرفناها فى الثمانينيات تحت اسم «شركات
توظيف الأموال الإسلامية» فى حين أنها كانت شركات «توظيف الإسلام لتجميع
الأموال» وقد ظلمونا حين أوهمونا أنهم يخدموننا بطريقة إسلامية وقد ظلمتنا
وظلمتهم الدولة حين كشفت زيفهم بهمجية ولا مهنية بما جعل الظلم ظلمات.
ومثلهم الآن من يدعى أنه «داعية إسلامى» يناضلون بحماس على شاشات الفضائيات
وما عرفنا أنهم اتخذوا موقفا نضاليا ضد فاسد أو مزور قط بل يمارسون التقية
والتورية والتعريض فى أسوأ صورها دون التزام بضوابطها الفقهية. فيزدهرون
اسما ومالا وجاها ونفوذا، ويزداد المجتمع نفاقا ورياء وجهلا وتخبطا.
إذن:
إن استغلال الدين لأغراض سياسية يؤدى إلى أحد بديلين: إما الاستبداد
(إن نجحت الدولة فى تأميم الدين والسيطرة على معظم روافده) أو الفتنة (إن
تحزب المتدينون إلى فرق وجماعات متصارعة).
كما أن استغلال الدين لأغراض تجارية يؤدى إلى ما نشاهده من ثقافة
النفاق والرياء والجهل إن أقنع الإعلاميون من الدعاةِ الناسَ بأن الدين
الحق هو الطقوس التى لا تغضب الفاسد ولا تعارض المستبد.
كما أن انزواء الدين تماما عن الحياة العامة كما يقول نشطاء
العلمانيين سيفضى إلى مزيد من الدروشة دون أمر بالمعروف ونهى عن المنكر
بالحسنى ودون شاركة فى إدارة شئون المجتمع بالعقل والحكمة.
لابد للخطاب الدينى أن ينشط فى تربية الناس على مبادئ العدل والأمر
بالمعروف والنهى عن المنكر دون أن تحتكر جماعة لنفسها هذا الخطاب أو أن
تعطى لنفسها اسما أو مضمونا يوحى بأنها دون غيرها تعبر عن هذه المبادئ.
المذكور فى السطور السابقة هو رأيى المتواضع فى يومنا هذا، وقد أغيره
غدا إن تبينتُ خطأه. فرأيى ليس جزءا من كرامتى ولا ينبغى أن يكون. وأدعو
الجميع كى يفكروا فى هذه الكلمات، فنحن بحاجة لأن نفكر معا، لا أن يعطى
أحدنا لغيره تفويضا بالتفكير نيابة عنه. ولتعتبروا كلامى هذا خطأ حتى نتأكد
من صحته وأنا مستعد لتصويبه شاكرا إذا حضرت البينة على خطئه.
الشروق
المصرية في
04/09/2010
«الجماعة» تتصدّر جدل الدراما المشتعل!
القاهرة ـ حمدي رزق
وصل الجدل حول مسلسل « الجماعة» المصري الذي يحكي صفحات من تاريخ
جماعة الإخوان ومؤسسها الراحل حسن البنا، إلى ذروته في الأيام القليلة
الماضية .
المحامي أحمد سيف الإسلام نجل حسن البنا اتهم مؤلف المسلسل وحيد حامد
بالكفر والعداء للدين وبأنه لا يعترف بالإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية،
بل اتهمه بأنه عدو الله.. فيما اضطر حامد إلى اللجوء إلى النائب العام أعلى
سلطة نيابية للتقاضي في مصر، المستشار عبد المجيد محمود مقدما لديه بلاغا
بما فعله وتفوه به أحمد سيف الإسلام، لحماية نفسه من مغبة هذه الدوامة التي
ما أن تبدأ حتى تصنع دوامات أكبر لا أول لها ولا آخر، والسوابق في هذا
المضمار كثيرة مع الأسف..!هذا فضلا عن ان سيف الإسلام قال في حوار لموقع
الإخوان الإلكتروني « إخوان اون لاين « نصا (اطمئن الجميع أننا سنلاحق
قضائيًّا كل من يساهم في إخراج هذا العمل) والجميع هنا هم عناصر الجماعة
بالطبع..!
السياق المضاد
ولم يكن تجرؤ سيف الإسلام على وحيد حامد أولى الخطوات الإخوانية في
سياق الهجوم على المسلسل.. الذي أخرجه محمد ياسين وقام ببطولته الأردني
إياد نصار في دور حسن البنا مع نخبة من النجوم منهم عزت العلايلي وعبد
الرحمن أبو زهرة وسامي مغاوري (الذي لعب دور مهدي عاكف مرشد الإخوان
السابق) ويسرا اللوزي وحسن الرداد وسون بدر وصلاح عبد الله وآخرون من
النجوم والنجمات.. والمسلسل ازدادت أهميته كعمل مستهدف من الجماعة في ظل
ارتفاع نسب مشاهدته (وهو الأمر الذي كشفته استطلاعات رأي كثيرة ومحايدة في
الفترة الأخيرة)، فضلا عن كثرة الكتابات النقدية حوله سواء بالتأييد أو
ببعض الملاحظات الفنية عليه. وما أخاف الجماعة من هذه الكتابات تحديدا،
إنها كلها لا تختلف سياسيا مع المسلسل في أية تفاصيل، بل إن بعض النقاد لم
يعجبه حياد وحيد حامد وتمنى لو أن حامد كان قاسيا على الجماعة حادا في نقده
لها..!
اشتعلت مواقع الإنترنت ضد المسلسل وهو بعد قيد التصوير، بل قبل
ذلك..حين أعلن عن أن ثمة مسلسلا يكتبه وحيد حامد تحت عنوان « الجماعة»،
وأنه يتناول الإخوان وتاريخ مؤسسهم حسن البنا وصفحات من حالتهم الحاضرة
أيضا.. ووصل اشتعال الإنترنت، سواء عبر المواقع التابعة للجماعة أو
الموالية لهم أو صفحات الموقع الأشهر « فيس بوك» إلى ذروته، حين نزلت على
الشبكة العنكبوتية قوائم سوداء بأسماء كل المشاركين بالمسلسل، ما يعني أنهم
صاروا مستهدفين من الإخوان وأعداء سافري العداء لهم..وهو أمر يرتب ما يرتبه
بعد ذلك من تتابعات (وهي ليست المرة الأولى التي تنزل فيها على الانترنت
قوائم سوداء إخوانية تشمل أسماء فنانين أو أدباء لكنها ربما تكون أطول
القوائم هذه على الإطلاق..)!
ووصلت « المبارزة» بين حامد وبين الإخوان على خلفية المسلسل، أن
الإخوان قرروا - وأعلنوا هذا القرار أن ينتجوا مسلسلا مضادا في أقرب وقت عن
سيرة حسن البنا وتأسيس جماعتهم، ردا على مسلسل وحيد حامد ..!
سقوط الحاجز الوهمي
لم يحدث قط حتى في أعتى أوقات الصدام بين الجماعة وبين النظام مثل
العام 1965 حين تم إعدام الإخواني الأشهر سيد قطب ورفاقه في عصر الزعيم
الراحل جمال عبد الناصر، بعد أن شكلوا خلية سرية لقلب نظام الحكم أن انكشفت
بواطن تنظيم الجماعة ومكتب الإرشاد فيها (أعلى السلطات الداخلية في
الإخوان)، وكذا تنظيمها السري على النحو الراهن، ذلك الذي تسبب فيه مسلسل
الجماعة الذي كتبه وحيد حامد. بتعبير آخر، أسقط المسلسل ذلك الحاجز الوهمي
ذا القداسة المتخيلة، الذي أقامه الإخوان طوال 82 عاما هي عمر جماعتهم إلى
اليوم، والذي جعل للجماعة هالة ضخمة لدى عامة الناس، وجعل منهم المسلسل
مادة للرأي العام، وفتح ملف النقد لأحوالهم وأفكارهم ونواياهم أيضا، الأمر
الذي أنزل الجماعة من أوهامها الشعبوية إلى الواقع السياسي كأي فريق موجود
على الساحة، وبقي أنهم فريق محظور قانونا ودستورا، ليس كبقية الأحزاب
الشرعية أو حتى الجمعيات الأهلية التي تمارس ضروبا من العمل السياسي
المرخص.. وتلك هي المسألة الحقيقية في مسلسل « الجماعة«!
وما زاد في تبديد هذه الأوهام القديمة حول الجماعة عبر المسلسل، أن
وحيد حامد وضع قائمة من المراجع التي عاد إليها في كتابة مسلسله ولملمة
مادته التاريخية، منها مذكرات حسن البنا نفسه، ومنها أيضا أنه رجع إلى
كتابات مؤرخي الجماعة وقادتها في الأربعينيات والخمسينيات، وبعض كتابات
القيادي الإخواني الدكتور عصام العريان، وما كتبه الإخواني السابق عبد
الستار المليجي. ذلك كله يعني أن المادة ليست من عنديات وحيد حامد ولا من
خياله وبنات أفكاره، ما يفتح الجدل واسعا ليس حول الجماعة في الرأي العام
وحده، وإنما وهو الأخطر، وما لم يحدث من قبل - يفتح الجدل داخل الجماعة
ذاتها، والتي امتلأت في العقد الأخير بشباب لا تتوافق آراؤه وآراء مكتب
الإرشاد داخل الجماعة، وهم أصحاب دعاوى مختلفة في أسلوب تسيير الجماعة ربما
من أهمها الدعوة لإدارتها ماليا بشفافية وتخفيف قبضة مكتب الإرشاد على
مقاليد اتخاذ القرار فيها.
أيضا لم يحدث أن خضعت شخصية حسن البنا مؤسس الجماعة والذي دشنها العام
1928، وتوفي بالاغتيال السياسي على يد رجال الملك فاروق أغلب الظن، في
العام 1949، ردا على اغتيال الجماعة لرئيس الحكومة آنذاك محمود فهمي
النقراشي لم يحدث أن خضعت هذه الشخصية للتجسيد الدرامي على هذا النحو
الواسع والمفصل، ما فتح المجال لدى الرأي العام المصري وهو بطبيعته بعيد عن
آراء الإخوان وأميل إلى الليبرالية أو إلى اليسار، لكي يتناول هذه الشخصية
مجددا، أو لكي يناقش تصرفاته وأفعاله ومواقفه التاريخية ويخضعها لمنطق
الصواب والخطأ، فيما تخضع هذه الشخصية لهالة من التقديس داخل الجماعة وفي
أدبياتها ومواقفها إلى اليوم لا يتأتى لغيره من القيادات السياسية التي
عاصرته. فحتى داخل حزب الوفد لا تحظى شخصية المؤسس الزعيم الكبير سعد زغلول
أو خلفه مصطفى النحاس بنفس هذه الهالة داخل حزبهما ولا خارجه. وهكذا تكون
المرة الأولى التي تظهر فيها شخصية حسن البنا إلى العلن من دون رتوش
وبالاعتماد على مذكراته هو شخصيا وتخضع لما تخضع له كافة الشخصيات
التاريخية، من تحكيم الرأي والعقل والنقد فيما فعلته وفيما قالته.
باختصار، أخرج المسلسل الذي كتبه وحيد حامد جماعة الإخوان من الغموض
إلى الوضوح ومن ظلمة المؤرخين الإخوانيين الذين عمدوا إلى سبغها بهالة من
القداسة، إلى نور النقد والموضوعية .
ويبدو أن الجماعة لا تعي هذا المنطق، إذ إن الإخوان فيما يبدو ينظرون
إلى مسلسل الجماعة بوصفه محاولة مباشرة للنيل منهم وتعريتهم أمام الرأي
العام، وهو الرأي العام الذي تتعاطى الجماعة معه طوال الوقت بمنطق يقول «من
ليس معنا فليس بالضرورة ضدنا». أي أن الذي لا ينضم للإخوان كعضو في
الجماعة، ليس بالضرورة عدوا لها، ما ينقل هذا الشخص إلى خانة « النصير
المحتمل» مستقبلا، وهو الأمر الذي يراهن عليه الإخوان في مواقف واستحقاقات
كثيرة كالانتخابات البرلمانية مثلا. بهذا يكون المسلسل أفقد الإخوان ورقة
مهمة، هي ورقة الرأي العام الذي أن لم يدخل معهم في عداء، فإنه ربما يفسح
لهم الطريق في مجالات كثيرة، ولا يخلو الأمر من أن يتعاطف معهم هذا القطاع
أو ذاك من الناس التي لا تعرف التاريخ الحقيقي لهذه الجماعة، ولا سمعت ولا
قرأت نقدا حقيقيا لفكرها السياسي أو لمواقف قادتها أو لمؤسسها حسن البنا.
من هنا تعتبر الجماعة مسلسل وحيد حامد عملا عدائيا سافرا ضدها، وعمدت
بالتالي إلى محاربته. فتارة ترهب حامد بالتكفير والاتهام في عقيدته
الدينية، وتارة تضع القوائم السوداء لصناع المسلسل على الانترنت، وتارة
ثالثة تتهم المسلسل بأنه ليس سوى صنيعة للأجهزة الأمنية التي تلاحق
الإخوان، وهذا الاتهام الأخير جرى ترديده كثيرا منذ بداية التصوير لهذا
المسلسل واشتد مع عرض حلقاته الأولى، غير أنه فقد شعبيته مع تتابع الحلقات،
اذ رأى المشاهدون منطقا موضوعيا من وحيد حامد في عرضه للمادة التاريخية
الغزيرة والواضحة والموثقة التي بين يديه.. وشعر المشاهدون والنقاد على
السواء أن العمل يختلف عن مسلسل وحيد الشهير « العائلة « 1994 فالجماعة
يجلو تاريخ الجماعة من دون انحيازات مسبقة، كل ما في الأمر أنه جردها من
قدسية زائفة وكشف أساليبها الداخلية، فيما « العائلة « كان مسلسلا يستهدف
من أولى حلقاته دمغ الجماعات المتطرفة المسلحة بالإرهاب وتوعية جموع الشباب
ضد هذه الجماعات، خشية انضمامهم إليها. وكان للعائلة تأثير كبير، اذ لا
مبالغة لو قلنا إنه حمى عشرات الآلاف من الشباب من الانضمام إلى هذه
الجماعات.
دراما الوثائق
هكذا ترى الجماعة مسلسل وحيد حامد.. لكن وحيد رأى هذا المشروع الدرامي
بصورة أخرى منذ شرع في كتابته في العام 2008 وانبرى لجمع وثائقه.
آثر وحيد حامد من البداية خيارين حاسمين في كتابة عمله الكبير..!
فعلى مستوى المادة العلمية والتاريخية، عمد وحيد حامد إلى وثائق
وكتابات الإخوان أنفسهم، سواء مؤرخيهم المتخصصين أو شهود عصر حسن البنا ممن
تركوا مذكرات أو خواطر. كما اهتم بأن يأخذ الكثير من مذكرات حسن البنا
ذاته، وبهذا فإن حامد اختار ابتداء ألا يقف موقفا استباقيا من الإخوان، فلو
كان يريد اتخاذ هذا الموقف لعمد إلى كتابات خصومهم، وما أكثر هذه الكتابات
في السابق والراهن.
وعلى مستوى الأحداث، فإن وحيد حامد آثر ألا يقع في مواقف درامية بمنطق
( مع أو ضد)، بل اختار أن يسرد ويسرد، من دون أن يورد على ألسنة أبطاله أية
مواقف مباشرة من الجماعة، بل بالعكس.. ربما تكون ثمة عبارات على ألسنة
هؤلاء الأبطال تناصر الجماعة، وقليلا جدا ما تجد عبارات إدانة .
آثر وحيد حامد إذن أن يكون موضوعيا إلى أقصى حد..سواء في مادته
التاريخية التي منها استقى أحداث الدراما المتشابكة داخل المسلسل، أو في
المعالجة الدرامية ذاته، والتي أراد من خلالها أن يكون من دون انحيازات، بل
أن يكون (وصفيا) إلى درجة جعلت البعض من نقاد الفن المتخصصين يشعر بالملل
من بعض الحلقات، أو ببرودة بعض الأحداث..ما يشهد بموضوعية حامد..!
وربما يكون وحيد حامد وهو حر في خياراته الفنية ككاتب عمد إلى أن يصنع
بانوراما موضوعية وشاملة لمصر بين أواخر العشرينيات وأواخر الأربعينيات،
عبر تاريخ الجماعة ومؤسسها حسن البنا، لكي يتسنى له أن يجيب على سؤال مهم
وكبير يشغله ويشغل النخبة المثقفة في مصر منذ ثلاثة عقود : ما الذي جعل
التيار الديني يعلو مده السياسي على الساحة، على هذا النحو وفي هذا التوقيت
بالذات. وإذا كان الإخوان مثلا موجودين من العام 1928، فما الذي جعلهم
يشعرون بالاستقواء والتحقق بما أسفر عن العرض العسكري الشهير لميليشياتهم
في حرم جامعة الأزهر قبل بضع سنوات، وهو المشهد الذي افتتح به وحيد حامد
الحلقة الأولى من المسلسل..!
المد الديني المتطرف ولعبة الإسلام السياسي هما في الواقع ما يشغل
خاطر وحيد حامد، وهما ما سيطر عليه وهو يكتب حلقات الجماعة التي استغرقت
عامين. ووحيد كان في حقيقة الأمر أقرب إلى مندوب من المثقفين لسبر أغوار
هذه المنطقة واستكشافها عن قرب، في محاولة للإجابة على هذا السؤال الكبير.
غير أن الجماعة التي لم تعتد هذا المنطق ولا تطيقه بأية صورة من
الصور. انتفضت ضد المسلسل، ولا يمكن أن تصدق أهداف وحيد حامد، ولا يمكن
وهذا أخطر أن ترد على عمل فني يكشفها ويفتح ملفاتها للاطلاع ويخضع رموزها
للنقد ويجردهم من التقديس، لا يمكن أن تتعاطى معه بمنطق الحجة بالحجة أو
الرد بالنقد، أو حتى بالتكذيب، بل هي تلاحقه قضائيا وترويعيا أيضا !
هكذا تصدّر مسلسل «الجماعة« مشهد الجدل في الدراما الرمضانية هذا
العام، وهو أمر كان متوقعا ولا شك، كون الجماعة تشكل عنصرا جدليا موجودا
على الساحة السياسية، ولكن لم يكن متوقعا أن يصل الأمر إلى التهديد بالأمور
«المحظورة» كالطعن في عقيدة الكاتب أو وضع أسماء المشاركين في المسلسل في
قوائم سوداء استهدافية، وهو أمر يدل على أن الإخوان لا يزالون غير قادرين
على التعاطي مع «الفكرة الديمقراطية «، التي تفرض أول ما تفرض قبول الآخر
والاستماع إلى النقد والرد على الخصوم..!
المستقبل اللبنانية في
05/09/2010 |