(أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس
ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل
الإسلام الحنيف) هكذا قال عن نفسه رحمه الله وتقبله مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين.
(إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفي وإذا قصر الداعي همه علي هذه
الاستثارة فإنه سينتهي بالشباب خاصة إلي نوع من الهوس الديني الذي لا يبني
شيئاً.. وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفي وإذا قصر الداعية همه
علي هذه الدراسة فإنه سينتهي إلي تجفيف الينابيع الروحية التي تكسب هذه
الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها... وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة
معاً لا يستغرقان الطاقة... فستبقي هناك طاقة عضلية وطاقة عملية وطاقة
فطرية أخري في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال وقد استطاع حسن البنا
أن يفكر في هذا كله أو أن يلهم هذا كله فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد إلي
هذه المجالات كلها..... وتجلت عبقرية البنا في تجميع الأنماط من النفوس
والعقليات والأعمار والبيئات. تجميعها كلها في بناء واحد.. كما تتجمع
النغمات المختلفة في اللحن العبقري. وطبعها كلها بطابع واحد يعرفون به
جميعاً ودفعها كلها في اتجاه واحد علي تباين المشاعر والإدراكات والأعمار
والأوساط في ربع قرن من الزمان...) هكذا وصف الشهيد سيد قطب عبقرية حسن
البنا وما تجلت عنه هذه العبقرية من تدفق وعطاء أراد الله سبحانه له أن
يستمر حتي الآن.
(حتي بعد استشهاده استطاع حسن البنا أن يكون شخصية مجمعة؛ حيث إنه
وفكره يمثلان نقطة التقاء لكل الفصائل الإسلامية فكل من هذه الفصائل
والشخصيات علي اختلاف وتباين مواقفهم واجتهاداتهم إلا ويري لحسن البنا
شعاعاً في عقله.. ) هكذا وصف المستشار طارق البشري حسن البنا وهكذا استطاعت
عدسته أن تلتقط أحد أهم صفاته ومواهبه..
ويقول الأديب الكبير أحمد حسن الزيات - رحمه الله - صاحب مجلة
(الرسالة) المصباح الذي أضاء الحياة الأدبية والفكرية في مصر والعالم
العربي أكثر من ربع قرن:
«وجدت فيه ما لم أجد في أهل جيله: من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق، لا
يزعزعه غرور العلم، ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن، لا
يكدره ضلال العقل، ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا
تحبسـهـا عقدة اللسان، ولا ظلمة الحس، إلي حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة
تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلي أن تحبه، وشخصية تحملك علي أن تذعن
!!»..
ثم قال الزيات: والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر
فـيـهـا حسن البنا تشهدان بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي
صنعه الناس.
تبدأ الرحلة في مارس 1928م علي إثر لقاء مع ستة من الرجال الصادقين،
ويمكث أربع سنوات.. ثم ينتقل إلي القاهرة 1932م وينطلق منها بالدعوة أربع
سنوات أخري بنفس الوتيرة من العمل (التربية بالمأثورات) كما كان يحلو له أن
يصف هذه المرحلة التأسيسية في هذا البناء الكبير.. سنة 1936م بدأت مرحلة
الانطلاق الشامل التي تجسد الفهم الشامل للإسلام العظيم.. اثنا عشر عاماً
من الجهاد الدءوب.. استكمل خلالها البناء أسسه ودعائمه.. وفي 12/2/1949م
يمضي حسن البنا إلي جوار ربه شهيداً.. متشبثاً بمائدة الجمر حتي الرمق
الأخير.
لم ينشر له نعي ولم تقم له جنازة أو عزاء ودُفن سراً تحت حراسة مشددة.
يصفه إخوانه الذين عاصروه بأنه (كان يتكلم اللغة العربية الصحيحة
البسيطة بسلاسة فائقة.. مع عفة في اللسان وتلطف وحياء، فلا يخوض في سيرة
أحد ولايذكر شخصاً بسوء، إنما ينتقد ما يراه من باطل أو خروج صريح علي
قواعد الدين فيفنده بطريقة موضوعية فيشخص الداء ويصف العلاج ويصحح الخطأ
ويترفق في رد الشبهة ويلتمس الأعذار للضعف البشري قائلا: «التدرج في
الخطوات من سنن الدعوات»... هادئ الطبع رضي الخلق صادق الإيمان طليق اللسان
آتاه الله قدرةً فذة علي الإقناع وطاقةً نادرةً علي توضيح الغامضات وحل
المعقّدات والتوفيق بين المختلفين ولم يكن ثرثاراً بل كان يحسن الإصغاء كما
يحسن الكلام وطبع الله له المحبة في قلوب الناس).
رفع راية المشروع الإسلامي المقاوم للاستعمار الذي كان يريد قهر
الشعوب المسلمة ولا يزال في صور متعددة وأشكال مختلفة.. ودعا الملوك
والحكام إلي تطبيق الشريعة الإسلامية في شئون الحياة، وبشر بالدولة
الإسلامية قائلا: إذا لم تقم الحكومة الإسلامية فإن جميع المسلمين آثمون.
جمع إخوانه علي البساطة والتلاوة والطاعة والنظافة والأخوة ورباهم علي
الإيمان بالدعوة والتجرد لها والاستعداد التام لكل ما يلقونه في سبيلها
وأعاد فكرة شمولية الإسلام وضرورة تطبيقه كمنهج حياة وأنشأ تياراًً إسلاميا
بارزاً في المجتمعات العربية والإسلامية، ولعل هذا من أعظم مآثره بعد أن
كادت فكرة الإصلاح الإسلامي تتحول إلي مجرد(بحوث فكرية) إلا أن توفيق الله
سبحانه وتعالي حالفه فأصبحت الفكرة (كيانا منظما) موصولا.. عابرا للأجيال..
عابرا للقارات.
كافح بصدق مظاهر الانحلال الخلقي وجميع مظاهر الاغتراب في المجتمع
وكان يضع أمام نفسه وإخوانه هدفين الأول: تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان
أجنبي. والثاني: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة أقام رحمه
الله دعوة تقوم علي العلم والتربية والجهاد وقد تطابق منهجه في التطبيق مع
منهج الإسلام فأولي الفرد عنايته الكبري ورباه واعياً عناصره من روح وفكر
وجسد موازناً بين هذه العناصر مبتكراً في وسائل التربية أدوات ووسائل تدل
علي عبقرية نادرة في البناء والتنظيم (كي تبني عاليا.. أُحفر عميقا) عقد في
دار المركز العام في القاهرة أول مؤتمرعربي من أجل فلسطين ووضع الحكومات
العربية أمام مسئولياتها، وعندما أدركت إسرائيل خطر هذه الجماعة مضت تكيد
لها وقال في إحدي خطبه: إنني أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان المسلمين
قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للاستشهاد، ودعا إلي حرب تحرير شعبية
لتحرير فلسطين، وقال كلمته المشهورة للحكام (هم عصابات ونحن عصابات دعوهم
لنا.. فقط دعمونا بالمال والسلاح)، وحين بدأ الإخوان حملتهم علي الاستعمار
البريطاني وجه جهده لإنشاء تشكيلات سرية من الفدائيين وإعدادها للجهاد أطلق
عليها: (النظام الخاص) . وكان يسبق تدريبهم إعدادا روحيا كبيرا يجعلهم
دائماً علي استعداد لبذل أرواحهم متي اقتضت مصلحة الدين والوطن..
وهو(النظام) الذي يعتبره البعض(جرحا مفتوحا) في تاريخ جماعة الإخوان
المسلمين.. غافلين عن السياقات التاريخية التي استدعت تكوينه.
اجتمعت فيه صفتان من أخص صفات أصحاب الدعوات.. أُولاهما حبه الهائل
لدعوته وإيمانه ويقينه الكامل بها وتفانيه وانقطاعه إليها بكل ما يملك من
مواهب وطاقات ووسائل.وكان يقول لإخوانه وتلاميذه: (حتي الآن نحن نعيش
الدعوة علي هامش الحياة ولن نكون إخواناً مسلمين بحق حتي نعيش الحياة علي
هامش الدعوة)، والثانية تأثيره الروحي العميق في نفوس إخوانه ونجاحه الباهر
في التربية فقد كان بحق أستاذ جيل - كما وصفه المرحوم الأستاذ عمر
التلمساني - وصاحب مدرسة فكرية وأخلاقية عميقة وجليلة. وقد أثر تأثيرا
كبيرا في ميول كل من اتصل به في أذواقهم وطريقة تفكيرهم وحتي لغتهم
وخطاباتهم تأثيرا بقي علي مر السنين ولا يزال.
يقولون إن الزعماء في الشرق كانوا بين سياسي داهية لا يفقه الإسلام أو
إسلامي صالح لا يفهم السياسة، أما الأستاذ البنا فكان له قلب الأولياء
الصالحين وعقلية الساسة الدهاة في تحديد مدي الرؤية ومجال الحركة.
كان - رحمه الله- دائم التجديد يكره الجمود والتقليد نافحا في إخوانه
الأمل متجددا متطورا منبعثا في كل أفق وسار بدعوته بفطنة شديدة من مـرحـلـة
إلي مـرحـلـة أخري.. وفق خطة معلومة ومقدرة عارفا الموضع الذي يضع فيه قدمه
ببراعة هائلة في تقدير المواقف وتفاعلاتها، ورغم صفاته الزعامية المبهرة
فإنه كان يسمع النـقـد ويصغي للنصيحة بوعي شديد ويسارع إلي الاعتراف بخطئه
ما تبين له ذلك.
جاءه ذات مرة مبعوث من السفارة الإنجليزية وقال له إن بريطانيا من
خططها مساعدة الجمعيات الدينية الاجتماعية وهي تقدر جهودكم ونفقاتكم لذلك
فهي تعرض عليكم خدماتها دون مقابل وقد قدمنا مساعدات لجمعية كذا وكذا
ولفلان وفلان وهذا شيك بعشرة آلاف جنيه معونة للجماعة، فتبسم الأستاذ البنا
وقال: إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجا إلي هذه الآلاف... فأخذ هذا
المبعوث يزيد في المبلغ والأستاذ البنا يرفض وسأله بعدها من حضر اللقاء: لم
لا نأخذ المال ونستعين به عليهم؟ فكان جوابه: إن اليد التي تمتد لا تستطيع
أن ترتد.. واليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب، إننا مجاهدون
بأموالنا لا بأموال غيرنا وبأنفسنا لا بروح غيرنا.
يذكر الشيخ مصطفي السباعي - رحمه الله - عن لقائه الأخير معه قائلا:
قدّر لي أن أعرف حسن البنا في أواخر حياته، وأن أكون علي مقربة منه في أيام
محنته الأخيرة، ثم في أيام استشهاده، فوالله ما رأيت إنساناً أروع في
الفداء، وأخلص في النصح، وأنبل في التربية، وأكرم في النفس، وأعمق أثراً في
الإصلاح من حسن البنا - رحمه الله -.
وقال مكرم عبيد باشا أشهر الزعماء المسيحيين في مصر في الربع الثاني
من القرن العشرين والمصري الوحيد الذي شارك في جنازة حسن البنا قال معزيا
الإخوان: فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون قد فقدتم أخاكم الأكبر الخالد
الذكر فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفا قد أسلم
روحه للوطن عفيفا... حسبكم أن تذكروه حيا في مجده كلما ذكرتموه ميتا في
لحده، وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان ويتبادلان
النصر والهزيمة فيتساويان... فالغلبة للحياة مع الذكري وللموت مع النسيان
ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته والحي ميت لديك إذا نسيته، وما من شك أن
فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعا في ذكراه بل كيف لا يحيا ويخلد في
حياته رجل استوحي في الدين هدي ربه وفي الدنيا وحي قلبه.
الدستور المصرية في
01/09/2010 |