·
كانت نظرة الهوارة إلي المماليك لا تتجاوز كونهم عبيداً فرفضوا أن يكونوا
حكاماً لهم وبالتالي وقعت المصادمات بينهما
·
في سنة 1495م وصل العنف الذي استخدمه الأمير «أقبردي الدوادر» قائد
حملة تأديب الهوارة إلي حد دفن العديد من رجال الهوارة «أحياء»
هذه شخصية نادرة واستثنائية في تاريخ مصر الحديث، وهي صفات انطبعت بها
أيضا المصادر التي تسجل مسيرته وسيرته الغنية والفريدة.. فهي بدورها نادرة
واستثنائية وربما شحيحة للغاية، ولعل هذا أمر أضاف أبعادا أسطورية علي
الشخصية، وجعل الخيال يختلط بالواقع، والحكايا بالروايات، لتتفرع الخيوط
وتضيف مزيدا من النور والظل علي الرجل الذي كاد أن يغير تاريخ الصعيد ومن
ثم تاريخ مصر كلها في لحظة متوهجة في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر.
فصول حياة «شيخ العرب همام» الزخمة مسجلة عبر سطور قليلة في كتب لا
يزيد عددها عن أصابع اليد الواحدة، تجد شذرات منها في كتاب رفاعة الطهطاوي
الأشهر «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»، وتجد بعضاً منها في كتاب المؤرخ
الشهير «عبد الرحمن الجبرتي» «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، وأخيرا
في كتاب «المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث» للدكتور لويس عوض.
وعليه فإن كتاب «الصعيد في عهد شيخ العرب همام» للدكتورة ليلي عبد
اللطيف أحمد» أستاذ التاريخ المعاصر والحديث بكلية البنات جامعة الأزهر،
والصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 1987، يكاد يكون المرجع الوحيد باللغة
العربية حتي يومنا هذا الذي تتحدث كامل فصوله عن مسيرة شيخ العرب همام
وأصوله ونسبه وأعماله ونهايته المأساوية.
وقد قامت المؤلفة بجهد يستعصي علي عشرات الرجال في بحثها القيم هذا،
ولم يقتصر دورها علي البحث في المراجع التي تناولت الرجل أو المرحلة «وقد
تجاوزت الستين مرجعا ومخطوطا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية إضافة
إلي خط «القرمة» العثمانلي المعقد»، وإنما قامت بزيارات ميدانية إلي أحفاد
الشيخ همام في فرشوط وبهجورة بالصعيد لثلاث سنوات، وذهبت إلي أقربائه في
قنا، وحصلت منهم علي الحجج الخاصة به مع الفلاحين، وجمعت أيضا حججا مماثلة
من محكمة قنا الشرعية، إضافة إلي دراستها وثائق الالتزام الزراعي الموجودة
في دار المحفوظات في القلعة ودفتر خانة المحكمة الشرعية بشبرا، ودار
الوثائق. الأمر الذي يجعل دراسة «الصعيد في عهد شيخ العرب همام» هي
المرجعية التاريخية التي سنستند إليها في السطور المقبلة لأنها -ربما
الوحيدة- الأكثر دقة وعمقا وعلمية فيما يتعلق بكل هذا الجو الغامض
والأسطوري حول ذلك الزعيم الذي صنع تاريخا عاش حتي يومنا هذا.
ما قبل البداية.. القادمون من المغرب «تهورا»
في عصر الدولة الفاطمية «909- 1171» والتي ضمت مصر وتونس والشام وعلي
بعض الفترات الجزائر وليبيا والمغرب، نشطت هجرة القبائل العربية إلي مصر،
ومن المغرب قدمت قبائل «الهوارة»، وهي القبائل التي ستلعب- وربما حتي يومنا
هذا- دورا بارزا في الصعيد، لكن الغريب أن قبائل الهوارة حينما جاءت إلي
مصر لأول مرة، لم تستقر مطلقا في جنوب البلاد، وإنما بالقرب من الإسكندرية
وتحديدا في البحيرة.
ورغم مرور كل هذه السنوات منذ النزوح الأول لقبائل الهوارة إلي مصر،
لم يتم حسم سبب تسمية القبائل بهذا الاسم. فهناك من يرجع ذلك إلي «المسور
بن المتني» الذي كان مصريا يقيم في بلاده، حتي فرت منه الإبل الخاصة به،
فأخذ يتتبع أثره في الصحراء وخارج حدود بلاده حتي وصل إلي المغرب، وهناك
عندما اكتشف «تهوره» في بحثه عن الإبل وصف فعلته بالتهور، ثم قرر أن يتزوج
من المغرب ويقيم بها لفترة، وهو ما حدث بالفعل، وأنجب هناك، وتناسل منه
«الهوارة»- من تهور المسور بن المتني-، الذين بعد سنوات سيعودون إلي موطن
أبيهم.. إلي مصر.
هذه رواية في أصل تسمية الهوارة، إما الرواية الأخري فتنسب الهوارة
إلي «هوار بن المثني» من مملكة «حمير» باليمن، الذين هاجروا إلي المغرب
ومنها إلي مصر.
وتوجد حجة في دفتر خانة المحكمة الشرعية بقنا، تتحدث عن أن نسب
الهوارة يعود إلي الحسين بن علي، أي أنهم من أشراف مكة الذين هاجروا إلي
المغرب، إلا أن الحجة تشير إلي أنه قد تمت كتابتها علي يد قاضي الحجاز وفي
حضور «محمد علي باشا» في عام 1808ميلادية، والثابت أن محمد علي باشا لم يزر
الحجاز قط قبل عام 1813، أي بعد كتابة هذه الحجة المزعومة بخمسة أعوام
كاملة، وهو ما دفع كثيراً من المتخصصين في التاريخ المعاصر، ومنهم د.ليلي
عبد اللطيف- إلي التشكيك في صحة هذه الحجة.
وأياً كان أصل تسمية «الهوارة»، فإنهم جاءوا من المغرب واستقروا في
غرب الدلتا، وظلوا هناك لسنوات طويلة حتي بعد زوال الدولة الفاطمية، إلي أن
وقعت ثورة الهوارة الأولي عام 1380 ميلادية علي بن شعبان حاكم مصر آنذاك،
حينها تزعم «بدر بن سلام» ثورة الهوارة علي الدولة، لكن الأمير برقوق
استطاع إخماد هذه الثورة بالقوة، ولم يكتف بهذا فحسب، بل بدأ في تهجير
أبناء الهوارة من البحيرة وغرب الدلتا إلي المكان الذي سيعيشون فيه طويلا
وربما إلي الأبد.. الصعيد.
قبل هذا التاريخ «1380 ميلادي» لم يكن الصعيد مكاناً مهجورا، بل كان
موطنا أصيلا لـ«قبائل العرب»، وهؤلاء بدورهم لم يكونوا رجالا هشة يمكن
للدولة أن تحكمهم بنعومة ويسر، وهكذا نظم «عرب الصعيد» الكثير من الثورات
المتتالية ضد دولة المماليك ورفضوا أن يدفعوا لهم الخراج، وهو أمر لم
يتقبله المماليك بلين أو مودة بطبيعة الحال، فدبت الصراعات المسلحة بين
الطرفين، ثم كانت الغلبة المنطقية في النهاية للمماليك الذين استخدموا عنفا
شديدا في سحق مقاومة «عرب الصعيد» حتي إنه في عام 1300 ميلادية خرج الوزير
«شمس الدين سنقر الأعسر» بنفسه علي رأس حملة عسكرية لسحق التمرد من عرب
الصعيد، وتلتها حملة أخري خرج علي رأسها السلطان الناصر محمد شخصيا، وفي
هذه الحملة وكما يصف نتائجها «بن إياس» في كتابه«بدائع الزهور» فروا- يقصد
عرب الصعيد- إلي الجبال فماتوا من الجوع والعطش فأسر منهم نحو نصفهم
وحملوهم إلي القاهرة في مراكب حيث سجن منهم جماعة واستخدم الآخرين في حفور
الجسور وهم في جنازير حديدية».
هكذا لعبت مقاومة و تمرد «قبائل لعرب» دورها في أن تصبح أرض الصعيد
شبه خالية في انتظار المتمردين من قبائل الهوارة القادمين من غرب الدلتا،
بعدما أدت حملات المماليك الكاسحة إلي مقتل الكثير من العرب وهجرة بعضهم
إلي السودان، لم يصبح الصعيد خاويا خاليا من البشر بالطبع، وظل بعض من
العرب مقيمين به بعد حملات المماليك، إلا أن شوكتهم لم تعد قوية للدرجة
التي سمحت للهوارة حينما قدموا من الدلتا أن يفرضوا سيطرتهم علي الجانب
الغربي من الصعيد بيسر وسهولة.. ليبدأوا الفصل الثاني من مسيرتهم الخالدة
في تاريخ مصر.
كان عدد من وصل من الهوارة إلي الصعيد في ذلك العام الحاسم في تاريخهم
«1380 ميلادية» 24 ألفا، بالقطع لم يهاجروا كل الهوارة من «بحري» وظل بعضهم
حتي يومنا هذا في البحيرة، إلا أن الغالبية العظمي من الهوارة استقروا في
الصعيد، وكان لزاما عليهم أن يبدأوا حياتهم من جديد.. وفعلوا ذلك علي أحسن
وجه.
في هذا الوقت لم يكن هناك سوي ثلاثة أنواع من العمل في الصعيد فحسب،
الزراعة، أو التشبه بأعمال البدو، أو الخروج علي القانون وقطع الطرق، عملت
الغالبية من الهوارة في الزراعة بطبيعة الحال ومنهم من أصبح شديد الثراء
بفضل زراعة القصب وعصره، فيما قرر بعض منهم الهجرة نهائيا إلي السودان
والاستقرار فيها، ولايزال إلي يومنا هذا توجد فروع من الهوارة في دارفور،
وفي ذلك الوقت كانت أشهر مدن الصعيد هي «قوص» و«أخميم» إلا أن نزول الهوارة
بالصعيد صنع من مدينة «جرجا» عاصمة لهم وعاصمة للصعيد فيما بعد ولسنوات
طويلة.
وتدريجيا صنع الهوارة في الصعيد مجتمعا خاصا بهم يقوم علي عاداتهم
وتقاليدهم وقواعدهم فحسب، وهو منهج سائد حتي يومنا هذا، منها مثلا أن
المرأة «الهوارية» لاتتزوج إلا من رجل من «الهوارة» حتي لو كان ثمن ذلك أن
تظل المرأة الهوارية دون زواج حتي مماتها، وهذا تقليد صارم يستحيل تجاوزه
مطلقا، كما أنه لايوجد اختلاط بين النساء والرجال من الهوارة، ومن الصعب أن
تشارك المرأة الهوارية زوجها الرجل في العمل في الفلاحة مثلا، وإلي جانب
هذه التقاليد المتوارثة حتي اليوم فإن هوارة الصعيد يتصفون بالكرم والتواضع
والشجاعة والاعتزاز بالكرامة.. كيف لا وقد خرج منهم بعد 400 عام تقريبا
الزعيم.. شيخ العرب همام؟!
الذين أصبحوا «سادة الصعيد»
بعدما بدأ الهوارة في فرض سيطرتهم علي الصعيد، كان الصدام مع المماليك
ضروريا ولازما مثلما حدث مع العرب، وهكذا طوال عمر امتد منذ 1380 حتي 1517
ميلادية- حينما أفلت دولة المماليك علي يد العثمانيين- أي مايقرب من 140
عاما، كان التمرد ومحاولات الإخماد هي اللغة السائدة بين الهوارة في الصعيد
وقد صار مملكتهم الأثيرة، وبين المماليك الذين يحاولون فرض سيطرتهم علي
كامل أراضي مصر، كانت نظرة الهوارة إلي المماليك لاتتجاوز كونهم عبيدا فكيف
يمكن أن يرضوا بهم حكاما لهم، فيما كانت تستفز هذه النظرة الدونية
المماليك- وهم الحكام الفعليون والرسميون للبلاد-، إضافة إلي أن الهوارة
كان يوجعون أيدي المماليك حينما يتوقفون عن إرسال الغلال والأموال اللازمة
منهم، وهكذا صارت المصادمات بين الطرفين دامية، واستخدم فيها المماليك
أساليب عنيفة وقاسية لاتقل عن تلك التي استخدموها مع قبائل العرب من قبل،
إلا أن الهوارة كانوا شديدي الصلابة والمقاومة ووصل عنفوانهم إلي أنهم في
بعض الأوقات طردوا نائب حاكم الوجه القبلي المملوكي من منصبه، رغم أنهم
دفعوا ثمن التمرد علي المماليك غاليا في العديد من الثورات التي قاموا بها
، فقطعت رأس«يونس بن عمر» أمير الهوارة بأمر من السلطان المملوكي سنة 1476
ميلادية، وفي سنة 1495 وصل العنف الذي استخدمه الأمير «أقبردي الدوادر»
قائد حملة تأديب الهوارة بتكليف مباشر من السطان قايتباي إلي حد أنه دفن
العديد من رجال الهوارة «أحياء» وعاد ببعضهم إلي القاهرة وباعهم كرقيق.
ولهذه الأجواء الملغومة بين المماليك والهوارة في الصعيد، كان من
المنطقي جدا أن يرفض الهوارة مساندة ودعم آخر حكام المماليك السلطان «طومان
باي» في معركته الأخيرة «الريدانية» ضد العثمانين عام 1517 الذين كانوا
يزحفون علي حدود القاهرة ليهدموا ملك المماليك.. حينها طلب طومان باي من
الهوارة أن يقفوا إلي جواره في مقابل أن يتوقفوا عن سداد الأموال الملزمة
لهم لثلاث سنوات، لكن من قال إن الهوارة ينسون ثأرهم؟
كانت الفرصة مواتية تماما للهوارة ليروا جبروت دولة المماليك ينهار
وهم لايزالون متشبثون بأرض الصعيد الذي أريقت فيها أنهار حقيقية من دمائهم،
ولهذا كان ردهم علي طومان باي مختصرا وواضحا «لا نؤوي من عصي السلطان لئلا
نبتلي ببلائه».
هل كان مسار التاريخ سيتغير، لو انضم هوارة الصعيد إلي طومان باي في
معركته الأخيرة حفاظًا علي كيان دولة المماليك؟ هل كان مصير طومان باي في
هذه الحالة الانتصار واستمرار الدولة المملوكية بدلا من الهزيمة الموجعة
وتعليق رأسه علي باب زويلة في دلالة واضحة علي زوال دولة المماليك إلي
الأبد؟ وارد جدا. الهوارة كانوا مقاتلين أشداء والأكيد أن دخولهم في
المعركة كان سيغير كثيرا من نتائجها، لكنه المصير الذي يسير إليه الجميع
مدفوعين بقوة غامضة. ذاك المصير الذي سيحول العلاقة بين هوارة الصعيد
والعثمانيين من مودة وتقرب وتبادل للهدايا الفاخرة «علي بن عمر شيخ الهوارة
وحاكم الصعيد أرسل إلي سليم الأول أول حاكم عثمانلي في عام 1518 هدية عبارة
عن 200 قنطار سكر، وعشرات من الرقيق والجواري والخيل والجمال» إلي علاقة
عداء لاتقل شراسة وعنف عن علاقة العداء التي حكمت التعامل بين المماليك
والهوارة.
ظلت العلاقة بين العثمانيين والهوارة طيبة للغاية لما يزيد علي نصف
قرن، استتب فيها الصعيد للهوارة وسيطروا عليه تماما في مقابل جمع المال
والغلال وإرسالها للحاكم العثماني، لولا أن حدث التطور الكبير في العلاقة
بين الطرفين عام 1576 ميلادية، إذ قام العثمانيون بعزل الهوارة من حكم
الصعيد، بل وعهدوا به إلي واحد من بكوات المماليك- أشد أعداء الهوارة- وهو
«سليمان جنبلاط».
لكن الهوارة عادوا إلي فرض سيطرتهم علي الصعيد مجددا، بعدما أقر
العثمانيون في الربع الأول من القرن السابع عشر بنظام الالتزام، والذي كان
يقضي بقيام أحد الأغنياء بدفع مبالغ مالية مقدماً للدولة مقابل تحصيله
الضرائب من المواطنين، وفي هذا الوقت لم يكن في الصعيد-رغم الصدام مع
العثمانيين ومحاولات التمرد المتكرر- من هو أكثر ثراءً من الهوارة، الذين
سيطروا عبر ذلك النظام علي معظم أراضي الصعيد لكن في ظل الإدارة المملوكية
العثمانية، لكن شهر العسل بين الهوارة والعثمانيين لم يدم طويلا، بل أن
اشتداد نفوذ الهوارة بعد سيطرتهم علي معظم أراضي الصعيد بنظام الالتزام
جعلهم يدخلون في صدامات متتالية مع العثمانيين وقد امتنعوا كعادتهم عن
توريد الأموال والغلال.
المثير أن الهوارة لم يشتبكوا مع العثمانيين فحسب، ولأن الصعيد لم يكن
مغلقا عليهم، فقد دخلوا في تنافس شديد مع أسرة «الأخميمي» وهي أسرة من أصل
عربي، وكان أشهر رجالها في القرن السابع عشر الأمير «حسن الأخميمي» الذي
ناصب الهوارة العداء، لدرجة أنه شارك في الحملات العثمانية التي كانت تأتي
إلي الصعيد من أجل سحق تمرد الهوارة، والسبب الرئيسي في ذلك العداء الشديد
بين الهوارة و«حسن الأخميمي» كان الصراع من أجل الاستحواذ علي أراض أكثر في
الصعيد بنظام الالتزام، فإذا كان واحداً من كبار الهوارة هو الشيخ «حمد
محمد همام»- جد شيخ العرب همام- قد سيطر في أواخر القرن السابع عشر علي
مساحات شاسعة من الأراضي امتدت من المنيا إلي أسوان، فإن الأمير «حسن
الأخميمي» امتد التزامه بالأراضي ليشمل أخميم وتوابعها وطهطا وشندويل وطوخ
الجبل وشرق المرح البحري والقبلي والمراغة وشتهور وبلصفورة وأجزاء من أدفا
وبني مزار والروافع والخلجان وبني سحيم.
وسيستمر الصراع بين الطرفين «أسرة الأخميمي» و «الهوارة» لسنوات طويلة
ينتصر في بعضها طرف علي حساب آخر لفترة، ويهرب فيها الطرف الخاسر إلي الجبل
متخليا عن ثرواته وأراضيه، قبل أن يأفل نجم أسرة الأخميمي تماما علي يد
كبير الهوارة الجديد.. شيخ العرب همام، الذي حسم الصراع الطويل بين
الطرفين، ووصل به الأمر إلي السيطرة علي معظم أراضي أسرة «الأخميمي»
لصالحه.
ورغم السمعة السيئة لنظام الالتزام، فيما يتعلق بطريق تحصيل الملتزم
للمال والمحصول من الفلاحين الذين يقومون بالزراعة، فإن نظام الالتزام
اكتسب معني جديدا مغايرا لذلك علي يد الهوارة في ذروة سيطرتهم علي أراضي
الصعيد، فقد كان العاملون في أراضي الهوارة نوعين، الأول: عاملون من
الهوارة أنفسهم، وهؤلاء تحكمهم بأصحاب الأراضي علاقات قبلية متينة لا يمكن
تجاوزها، وبالتالي لاقوا معاملة حسنة لينة، أما النوع الآخر: فكان من
الفلاحين المصريين الموجودين بالصعيد منذ زمن، وهؤلاء عملوا في أراضي
الهوارة دون ظلم أيضا، بل وحصلوا علي حماية الهوارة من هجمات الأعراب التي
كانت تستحوذ علي أموالهم ومحاصيلهم وتهدم الجسور، حتي أن أي مقارنة بين حال
الفلاحين مع الملتزمين في الصعيد، وحالهم في الوجه البحري ، كانت تحسم
لصالح الفلاحين في الصعيد، إذ كان الإلزاميون في وجه بحري يأخذون أبناء
الفلاحين رهينة لحين سداد ماعليهم من أموال أو محاصيل!، إضافة طبعا إلي
الضرب والإهانات التي كان يلاقيها الفلاحون في وجه بحري علي يد الملتزمين.
إلا أن تلك الأجواء المثالية لم تساعد علي أن تمر أيام الهوارة هادئة في
الصعيد دون مشاكل والسبب في ذلك كان يتلخص في كلمة واحدة.. «جرجا». عندما
نزل الهوارة الصعيد لأول مرة عام 1380 ميلادية قادمون من غرب الدلتا،
استقروا واقاموا وعمروا إقليم جرجا، الذي لم يكن حينها ذا أهمية كبيرة، لكن
وجود الهوارة فيه، صنع أهميته شيئا فشيئا، ولأن جرجا تتوسط المسافة بين
المنيا وأسوان، ولأن هذه المنطقة حبلي دوما بالتمرد سواء من العرب أو من
الهوارة، اتخذت الدولة العثمانية القرار بأن تصبح «جرجا» ولاية، وأن يتم
توحيد إقليم الصعيد كله وجعلها تحت إدارة حاكم جرجا الذي أصبح الشخص الثاني
في الأهمية والقوة والثروة بعد شيخ البلد في القاهرة، ويتم تعيينه بمرسوم
من باشا مصر شخصيا.
ولهذا من المفهوم جداً أن يتصارع المماليك للفوز بلقب حاكم جرجا- الذي
كان يلقب أيضا بحاكم الصعيد أو بك جرجا أو الصعيد فقط-، والذي كان عليه
بجانب إقرار الأمن والنظام وجمع الإيرادات من الأراضي وحماية الزراعات
والطرق، أن يرسل سنويا للسلطان كخراج «150 ألف أردب قمح تنقل علي نفقته من
جرجا إلي القاهرة، ومعها 480 كيس من الذهب إضافة إلي هدايا سنوية تقدم
للباشا وتتكون من 40 كيسا من الذهب، وألف جمل وألف خروف وخمسين حصانا
وخمسين بغلا»!، وإذا كان هذا مايرسله حاكم جرجا سنويا إلي القاهرة، تري ما
كان حجم ثرواته إذن؟ وكيف كان يجمع كل هذه الثروات؟
لكن إدخال نظام الالتزام في الصعيد في بدايات القرن السابع عشر، نقل
الأبهة والنفوذ والثروة تدريجيا من حاكم جرجا إلي الملتزمين بالأراضي، وعلي
رأسهم كان الهوارة بطبيعة الحال، الذين سيطروا علي مساحات كبيرة من أراضي
الصعيد بالالتزام وأصبح الأثرياء والزعماء منهم يقومون بأعمال حاكم جرجا
نظريا وعمليا، إذا تسربت السلطات من «بك جرجا» تدريجيا ولم يعد له نفوذ إلا
علي الري فحسب، وبات وجوده في الصعيد أمراً غير ذي أهمية لأي من الأطراف
وأولها هو شخصيا، لذا فقد دأب أي حاكم لجرجا علي أن يترك إقليمه في يد
الملتزمين- وغالبيتهم من الهوارة- فيما يذهب هو إلي القاهرة للمشاركة في
صنع السياسة والمكائد محاولا الظفر بأي نفوذ في عاصمة البلاد، وفي هذه
الأجواء كان الظهور المدو له.. لشيخ العرب همام.
أن يكون أكثر من نصف الصعيد بين يديك
اتساقا مع الغموض الذي أحاط بحياته، لا يوجد تاريخ محدد لليوم الذي
ولد فيه شيخ العرب همام.لكن الثابت أنه مولود في قرية فرشوط بمحافظة قنا في
تاريخ حدده الرحالة بروس الذي التقاه عام 1769 وقال إن عمره لا يزيد علي 60
عاما. أي أن شيخ العرب همام ولد تقريبا في عام 1709 ميلادية.
ورث شيخ العرب الثروة والنفوذ والدم الحامي والتمرد من أجداده. فوالده
كان الشيخ يوسف بن أحمد محمد همام الذي كان زعيما للهوارة في أواخر القرن
السابع عشر، فيما كان جده الشيخ محمد أحمد همام أحد زعماء حركة تمرد
الهوارة علي السلطان عام 1695 ميلادية، حينما رفضوا إرسال الخراج والغلال
كالعادة له، حينها سير إليهم السلطان حملة تأديبية بقيادة عبد الرحمن بك
حاكم جرجا، الذي استطاع إخماد التمرد، لكن الهوارة لم يخرجوا خاسرين تماما
إذا عادت لهم الأراضي الملتزمين بها، وكأن علي رأس الملتزمين من الهوارة
والد وجد شيخ العرب همام.
ومثلما ورث شيخ يوسف زعامة الهوارة من والده الشيخ محمد بوصفه أكبر
أبنائه، ورث الشيخ همام الزعامة من والده الشيخ يوسف لأنه كان أكبر أبنائه،
وورث مع الزعامة مساحات شاسعة من الأراضي تمتد من المنيا إلي أسوان.
ولأن القدر يختار التوقيت المناسب تماما لصنع الأحداث الكبري، فقد
تولي شيخ العرب همام زعامة الهوارة في وقت بدأت فيه سلطات الحكم العثماني
في القاهرة في التدهور، وأصبحت البلاد ساحة للصراع بين المتطلعين للفوز
بالنفوذ والسلطات، وأصبحت القبلية أحد العناصر المؤثرة بشدة علي الساحة
السياسية في البلاد.
لكن مثل هذه الفرص النادرة في عمر البلدان، ما كان يمكن أن يستفيد
منها رجل كشيخ العرب همام لولا أن تحلي بصفات الشجاعة والكرم والذكاء..
والطموح، وهكذا استطاع بشخصيته الآثرة أن يجمع الهوارة والعرب من حوله، وأن
يصبح زعيما لهم، وقد أضاف إلي الأراضي التي ورثها عن أجداده المزيد من
الأراضي، ليس هذا فحسب، بل واستطاع- في عصر كانت فيه الرسائل تنقل عبر
الحمام الزاجل- أن يقيم علاقة اتصال مباشرة بالدولة العثمانية.
وبحسب دفاتر الالتزام ظهر اسم شيخ العرب همام كملتزم لأول مرة عام
1721 وأشير إليه في دفاتر الالتزام باسم: «همام ولد الشيخ يوسف أحمد حيث
اشترك مع والده وأقربائه في التزام أراض: هو وبهجورة والكوم الأحمر
وتوابعها«، ومنذ هذا التاريخ وبدأت شهية شيخ العرب همام في ضم المزيد من
أراضي الالتزام في الانفتاح، ونجح بالفعل في الاستحواذ علي أراضي التزام من
المماليك والعرب في محيط الصعيد برضاء الدولة وفي أحيان بإشرافها أيضا
وتوسعت ثروته ونفوذه أكثر فأكثر، حتي جاء عام 1737 وقد اختفي اسم والد همام
من دفاتر الالتزام واستقل شيخ العرب بأراضيه.
ولما جاء عام 1749 ميلادية كان شيخ العرب همام قد بسط نفوذه علي 10
مقاطعات كاملة من أصل 21 مقاطعة تتكون منها ولاية جرجا، لكن ذلك لم يشبع
شهية شيخ العرب همام في ضم الأراضي والسيطرة عليها، فاستمر في توسعه حتي
عندما جاء عام 1760 لم يعد في دفاتر ولاية جرجا الإلزامية سوي اسم شيخ
العرب همام وحده ومعه بعض أقربائه- الذين يشاركونه في الالتزام بأرض- وعدد
قليل من المماليك، وفي نفس هذا العام اختفي اسم «الأمير عيسي كمال
الأخميمي» -حفيد أسرة الأخميمي المنافس الشرس للهوارة، من دفاتر الالتزام
وقد سيطر شيخ العرب همام علي أراضيه وأراضي أسرته التي تفتت نفوذها في
الصعيد منذ هذا التاريخ.
بعد هذا التاريخ بسبع سنوات فقط- أي في عام 1767-، زادت المقاطعات
التي يسيطر عليها شيخ العرب همام من 10 إلي 16 مقاطعة كاملة وحتي المقاطعات
الخمس الباقية «أسيوط - أبو تيج- أبو مقروفة - نخيلة وتوابعها- فاو الكبري»
كان له فيها التزامات وأراض.. القصد صار شيخ العرب همام أميرا للصعيد
فعليا.
جيش ووزارة اقتصاد وديوان للعدل.. الطريق إلي الجمهورية!
مع تعاظم نفوذه وانتشار الأراضي التي يشرف عليها وتضاعف ثروته التي
وصف بعضها الجبرتي قائلا :«كان لها 12 ألف ثور بخلاف المعد للحرث والسواقي
والطواحين والجواميس والأبقار الحلابة... أما شون الغلال وحواصل السكر
والتمر بأنواعه فشيء لا يعد ولا يحد»، ولأنه حل محل حاكم إقليم الصعيد وصار
لزاما عليه حفظ الأمن وتحصيل الأموال والغلال من الفلاحين، وفض النزاعات
التي تنشأ بينهم، وجد شيخ العرب همام نفسه مدفوعا لإنشاء «حكومة مصغرة»
لإدارة شئون الصعيد.. والنظام كان دقيقا صارما.
أنشأ أولا «دواوين» خاصة به كانت مهمتها الأساسية تنظيم شئون أراضيه
والعاملين فيها، وكانت هذه الدواوين تضم المئات من الكتبة يعملون في نظام
أشبه بالورديات الحالي، حتي يتصل العمل ليلا ونهارا في الدواوين ولا يتوقف
لحظة، ليكون لكل فلاح من العاملين في أراضي شيخ العرب همام ما يشبه السجل
أو الدفتر الخاص، يسجل فيه مصروفاته وأموال الخراج التي يجب أن يسددها،
والقروض التي نالها طوال فترة الزراعة، إضافة إلي الأموال المخصصة للدولة
وتلك المخصصة لشيخ العرب.
وكعادة المجتمعات القبلية أنشأ همام «مجالس عامة» للنظر في الخلافات
والمنازعات وإصدار الأحكام فيها، وكان منهج شيخ العرب في مثل هذه المجالس،
أن يستمتع إلي القضية من طرفيها، ثم يدرسها جيدا، قبل أن يصدر الحكم فيها..
والحكم ليس لفظيا أو منطوقا فحسب، وإنما يتم تسجيله في أوراق صغيرة في حجم
كف اليد مخصصة ذلك حتي تصبح حجة علي من انطبقت عليه، كيف لا وهي ممهورة في
آخرها بختم شيخ العرب همام وتوقيعه؟!
وهكذا عندما يصدر أمر لـ«حسن الأمير» بأن يسلم «علي عبد الرحيم» مساحة
تخص الأخير في منزل يسكن به الأول، وجب تنفيذ الأمر، وعندما يأمر أحد
أقربائه وهو الشيخ أبو بكر أحمد بعدم التعرض هو أو رجاله لـ«غزالي الأمير»
بعدما اشتري من همام ثلاثة قراريط ونصف القيراط وسدد ثمنها، وبات واضحا من
هذه الأحكام وغيرها أن شيخ العرب يرسي أهم دعامات بقائه زعيما محبوبا بين
الهوارة وأهل الصعيد عامة.. العدل.
لم يكن شيخ العرب همام عادلا فحسب، بل تقياً ورعاً أيضا، إذ كان يؤدي
الصلاة بانتظام وفي أوقاتها، بل وأوقف أوقافا كثيرة علي المساجد في الصعيد،
ولم يترك مسجدا في أهمية وتأثير مسجد سيدي عبد الرحيم القنائي «القناوي»
أشهر أولياء الصعيد، إلا وقد أنفق عليه أموالا كثيرة، وجدد المسجد والمقام
وأنشأ خلفه مخزنا ودورة مياه، بل إن شيخ العرب همام أنشأ مسجدا فخما في
مسقط رأسه فرشوط في الجانب الشرقي منها عام 1757وأوقف عليه 19 فدانا في
فرشوط، والمسجد لايزال قائما وتقام به الصلاة حتي الآن في المكان الذي تم
تأسيسه فيه قبل مايزيد علي 350 سنة، والداخل إليه تطالعه في الواجهة لافتة
مكتوب عليها أشعارا تتحدث عن «لجامع همام بن يوسف رونق.. به لاذت العباد من
كل وجهة».
علي أن التزام همام هذا، لم يكن يجعله عدوا لمن هو علي غير دينه مثلا،
بل الثابت تاريخيا أنه استعان بكثير من الأقباط في تنظيم أعماله خاصة
الحسابية منها، ومنهم المعلم بولص بن منقريوس الذي كان يقوم بتسديد أموال
وغلال شيخ العرب في القاهرة نيابة عنه، بل وكان يحضر عمليات تنازل أمراء
المماليك لأراضيهم لصالح الشيخ همام دون أن يحضر الأخير، وهو أمر يعكس ثقته
في الرجل، ويعكس كونه لم يكن متشددا لدين أو عرق رغم محبته ودفاعه عن
عشيرته وأهله من الهوارة.
هناك شيء مثير حقا في طبيعة تركيية شيخ العرب همام النفسية، وطريقة
تفكيره المتطورة والتي بحق كانت تقفز علي طريقة التفكير السائدة في تلك
السنوات التي بزغ فيها، فرجل مثله امتد نفوذه بطول المسافة بين المنيا
وأسوان، ويعمل تحت أمرته جيش من الكتبة والمحاسبين، ويمتلك أراضي لاحصر
لها، وله علاقات قوية ومباشرة مع الدولة، ويحتكم المختلفون إلي حكمه كقاض
عادل، رجل مثل هذا بلا طموح لعله كان وقف عند هذه الإنجازات التي لو حقق
شخص ما واحدة منه لاستكفي وتوقف عن رحلة صعوده، لكنه ولأنه يتطلع إلي
المزيد وإلي ما هو أكثر من ذلك، أدرك أن سلطاته ونفوذه هذا في حاجة إلي قوة
تحميه، قوة غير تقليدية تقترب في شكلها وطبيعة عملها من الجيش النظامي..
وقد كان.
كان أقرباؤه من الهوارة يشكلون حائطا لحمايته بالأساس، ثم قام
باستقطاب المماليك الهاربين إلي الصعيد، ولديهم خلفية عسكرية لابأس بها،
ومن هؤلاء وهؤلاء تكون جيش شيخ العرب همام الذي تم تقدير عدد أفراده بـ35
ألف جندي.
لم يكن جيش شيخ العرب، جيشاً قتالياً محترفا بكل تأكيد، بحيث يمكن
مقارنته مثلا بجيوش الدول النظامية، أو حتي الجيوش المملوكية التي سيصطدم
بها في نهاية الرحلة لاحقا، لكن فكرة تكوين جيش في ذاته كانت فكرة مبتكرة،
وتعكس انطباعا بأن الرجل لم يكن طموحه يقف عند حدود الاستحواذ علي أراض
زراعية وإنما ربما ما أبعد من ذلك.. الانفصال عن الدولة الأم أو إقامة
جمهورية خاصة، لكن كل هذه اجتهادات يرفضها المؤرخون المخضرمون- مثل د. ليلي
عبد اللطيف- التي تؤكد في مقدمة كتابها عن شيخ العرب همام أن الرجل في ذروة
نفوذه في السنوات الأربع الممتدة منذ عام 1765 وحتي 1769 لم يقم دولة
منفصلة في الصعيد، بل كان تابعا للدولة ويدفع بانتظام ضرائب الأرض التي
أخذها بالالتزام كما ورد ذلك في سجلات ودفاتر الالتزامات في هذه السنوات ،
وهو سلوك شخص ملتزم تماما مع الدولة ومتسق مع قوانينها، فكيف له إذن أن
يؤسس «جمهورية مستقلة» عنها؟
أغلب الظن أن نفوذ شيخ العرب همام الممتد بطول الصعيد وعرضه، وجيشه
هذا الذي يحميه، إضافة إلي ديوانه الذي ينظم شئونه الاقتصادية، ومجلسه الذي
يصدر فيه الأحكام العادلة، اعطي إيحاء لكثيرين بأنه يؤسس دولة مستقلة
مكتملة الأركان تشمل بمفهوم عصرنا الحالي، جيشا ووزارة اقتصاد، ووزارة
للعدل، إضافة إلي أرض تضم كل هذا فوقها، وإذا كان من الصعب حسم نية شيخ
العرب همام لمعرفة ما إذا كان يريد إقامة دولة في الصعيد في تلك الفترة
الحرجة التي كانت تعيش مصر فيها في اضطراب وعدم استقرار، فإن الثابت أن
مشروع شيخ العرب همام كاملا قد تفتت وتشرذم علي يد شخص ولد في القوقاز بعد
ميلاد شيخ العرب بعشرين عاما تقريبا، وكان اسم ذلك الشخص.. علي بك الكبير.
الخيانة القادمة علي فرس من «القوقاز»!
رحلة مجيء «علي بك الكبير» إلي مصر، وصعوده سلمها السياسي من قاع
القاع إلي ذروة قمته، رحلة جديرة بالرصد لأنها مليئة بالدراما بدورها، فقد
ولد «يوسف دواود»- الذي سيصبح لاحقا علي بك الكبير- ببلدة تدعي «الأبازة»
وقد كانت إحدي أعمال القوقاز العثماني وقتها، والده كان قسا في الكنيسة،
وكان يأمل أن يصبح ابنه متدنيا ، لكن «يوسف» تعرض لاختطاف علي يد إحدي
العصابات في بلاده وهو صغير، ثم تسلمه واحد من أكبر تجار الرقيق، وسعي به
إلي الإسكندرية، وهناك اشتراه الأخوان اليهودان إسحق ويوسف اللذان كان
يشغلا منصب مدير الجمرك بالميناء، ولما أرادا التقرب من إبراهيم كتخذا
جاويش وقد كان من أصحاب النفوذ في مصر وقتها، أعطوه «يوسف» هدية، وهناك
بدأت الحياة الجديدة للشاب القوقازي الذي صار مملوكا، إذ اعتنق الإسلام
وغير اسمه إلي «علي»، وأتقن العربية والتركية، مارس التدريبات البدنية،
وتفوق بشكل لافت في ركوب الخيل حتي أطلقوا عليه لقب «جن» أي النشيط الذي
لايغلب، ولأنه «جن» فعلا سعي علي بك الكبير لأن يصل إلي منصب «شيخ البلد»
أي «زعيم المماليك جميعا» بشتي الطرق وكان هذا يتطلب أن يزيح في طريقه إلي
ذلك «عتاولة» من المماليك، عبر سلسلة من الدسائس ومحاولات القتل معظمها
فشل، وجاء بنتائج سلبية علي بك الكبير، الذي وجد نفسه فجاءة ذات يوم هاربا
من جحيم الصراع المملوكي في القاهرة إلي أسيوط التي كان يحكمها آنذاك
المملوكي «صالح بك» منافسه السابق في الوصول إلي منصب «شيخ البلد»، والأهم
أنه كان صديقا مقربا من شيخ العرب همام.
كان «صالح بك» حاكما لجرجا، لكن الصعيد كله كان في قبضة شيخ العرب
همام، كان صالح بك قد ذاق الويلات من مكائد علي بك الكبير، لذا عندما جاءه
الأخير في مقر حكمه يطلب منه المساعدة والدعم، من أجل الانتصار علي
المتصارعين علي زعامة مصر في مقابل أن يبقي صالح بك حاكماً لجرجا مدي
الحياة، لم يوافق صالح بك مطلقا علي ذلك غير متناس للدور الذي لعبه علي بك
الكبير في نفيه إلي رشيد ودمياط أكثر من مرة، هنا أدرك علي بك الكبير أن
مفتاح صالح بك ليس مع الرجل نفسه وإنما مع صديقه.. شيخ العرب همام.
استخدم علي بك الكبير كل سبيل الحيلة والخداع والمراوغة والإقناع حتي
يدفع شيخ العرب للضغط علي صديقه صالح بك لدعم علي بك الكبير في معركته
الأخيرة ضد المماليك.وللعجب أن شيخ العرب همام اقتنع بما قاله علي بك
الكبير، ليس عن طيبة وبراءة، وإنما عن قراءة لقدرات علي بك الكبير، وإدراكه
أنه سيكون الطرف المنتصر وأن لقب شيخ البلد سيكون من نصيبه في نهاية الأمر
فما الضرر إذن في دعمه؟ خاصة وأن الوعود مغرية جدا «بقاء صالح بك في منصب
حاكم جرجا، وبقاء شيخ العرب همام كبير الصعيد مدي الحياة»، خاصة في ظل
المناوشات التي كانت تقوم بين شيخ العرب وبين المماليك من آن لآخر.
وهكذا تبدأ الخطوة الأخيرة في مسيرة شيخ العرب همام، إذ يتحرك علي بك
الكبير برفقة صالح بك في جيش كبير مدعم بشدة من شيخ العرب، ويتجه الجيش صوب
القاهرة، لكنه يلتقي بمنافسيه عند بني سويف عام 1767، ويكون النصر لعلي بك
الكبير بفضل مشاركة ودعم صالح بك وشيخ العرب همام، ويصبح علي بك الكبير
شيخا للبلد فعلا كما أراد، وحينها استدار لخيانة من ساعدوه علي ذلك.. صالح
بك وشيخ العرب همام.
البداية كانت بالتخلص مع صالح بك ضمن سياسة للتخلص بالقتل من كل كبار
المماليك الذين يشكلون منافسا له، وهكذا وبعدما خرج صالح بك من منزل علي بك
الكبير في يوم 11 سبتمبر سنة 1768، وبينما هو سائر بصحبة أتباعه في منطقة
سويق عصفور بالقاهرة، انقض عليه اتباعه هؤلاء بإيعاز وتحريض من علي بك
الكبير وقتلوه، وقد كان آخر زعيم مملوكي يشكل خطرا وصداعا علي مستقبل سلطة
علي بك كبير، لكن بقي الخطر الأكبر في الصعيد.. زعيم الهوارة شيخ العرب
همام.
منذ أن أصبح علي بك الكبير مملوكيا وقبل أن يصبح حتي شيخا للبلد وهو
محمل بغضب وكراهية تجاه شيخ العرب همام، ذلك أن الأخير قد تحدي سيد الأول
«إبراهيم كتخذا» عندما رفض أن يسدد له الأموال اللازمة نظير الاستحواذ علي
أرض «برديس»-قرية بجوار جرجا- عام 1736، وهكذا بعد شهرين فقط من قيام علي
بك الكبير بقتل صالح بك منافسه الأكبر وصديق شيخ العرب، التفت علي بك
للقضاء علي همام، وأرسل إلي الصعيد في نوفمبر عام 1768 حملة بقيادة محمد بك
أبي الدهب لتفرض علي شيخ العرب شروطا تقضي بأن يفرض نفوذه وسيطرته علي
المناطق التي ينتشر فيها الهوارة في قنا وأسوان فقط وليس الصعيد كله.
اللافت أن طبيعة شيخ العرب همام أدركت أن موقف علي بك الكبير هو
الأقوي، وأن الدخول معه في صدام مبكر لن يفيد، فوافق علي شروطه وتخلي عن
أرضه من «برديس» وحتي شمال المنيا، وآلت هذه الأرض إلي سيطرة علي بك
الكبير، فيما التزم شيخ العرب بالمساحات المحددة في قنا وأسوان، بل وقدم
أرض «برديس»- سبب نزاعه القديم مع سيد علي بك- هدية إلي محمد بك أبو الدهب
بمناسبة قدوم مولود له.
كان تفكير شيخ العرب حينها يقضي بالتهدئة وإظهار الانصياع لأوامر
وسلطة علي بك الكبير، لإدراكه أن سلطات الرجل قد تضخمت بالفعل، وعلي أمل أن
تعود حملة أبو الدهب إلي القاهرة دون اشتباك معها حتي يكون هو قد استعد
جيدا للمعركة القادمة والحاسمة بلاريب.
لكن علي بك الداهية، طرق علي الحديد وهو ساخن، ورغم ما قدمه شيخ العرب
من تنازلات كبيرة، عاود علي بك استفزازه وطلب منه طرد الأمراء المماليك
المعادين له والمقيمين بأرض شيخ العرب للتأكيد علي حسن نيته، وكان هذا أكثر
مما يتحمله شيخ العرب همام، وأدرك أن لحظة المواجهة الأخيرة قد حانت، وهكذا
ذهب إلي أمراء المماليك المقيمين بأراضيه واتفق معهم علي التحرك في جيش نحو
أسيوط لتحريرها من سيطرة علي بك الكبير، ثم يتجهون بعدها إلي القاهرة
للقضاء علي حكم علي بك الكبير واستعادة سيطرتهم- وبالتالي سيطرته هو- من
جديد.
وتحرك جيش ضخم يضم المماليك والهوارة ومدعم بالأسلحة والمؤن والأموال
التي قدمها شيخ العرب همام نحو أسيوط، ونجح الجيش في تحريرها من قبضة علي
بك الكبير، وتكهرب الموقف تماما حينئد، وقرر علي بك الكبير حشد كل قواه
الممكنة للتخلص نهائيا من شيخ العرب الهمام، فلم يرسل جيشا واحدا من أجل
هذا الغرض بعد عدة جيوش مجتمعة!
كان الجيش الأول بقيادة أيوب بك حاكم جرجا الجديد، الذي ظل واقفا علي
حدود أسيوط مدركا سطوة وسيطرة شيخ العرب همام عليها، منتظرا المدد القادم
من القاهرة، وتوالي المدد الذي لم يبخل به عليه علي بك الكبير..إذ حشد جيشا
ضخما من المماليك ومدعماً برجال الفرق العسكرية وتحت قيادة خليل بك القاسمي
وإبراهيم بك القاسمي، وبعد ذلك أرسل حملة أخري مدعة بالسلاح والجنود بقيادة
محمد أبو الدهب،.. وبدأت المعركة الأخيرة علي مشارف أسيوط.
كان من الصعب علي جيش همام الصغير غير المدرب أن يستطيع صد هذه الجيوش
الضخمة المنظمة المدعمة بالسلاح، وكانت النتيجة المنطقية لتلك المعركة هي
انتصار جيوش المماليك ومن خلفها علي بك الكبير، لكن الأخير لجأ إلي السلاح
الذي عجل بانتصاره.. الخيانة، إذ استطاع الوصول إلي الشيخ إسماعيل أبو عبد
الله بن عم همام، ووعده بولاية الصعيد بدلا من همام إذا ما تقاعس في القتال
ونشر روح الهزيمة بين جيش همام، ورغم الثقة الكبيرة التي كان يضعها همام في
ابن عمه، إلا أن الأخير نفذ اتفاقه مع علي بك الكبير ونجح في أن يضم لجيش
علي بك أفرادا من جيش همام، ورغم أن الهزيمة العسكرية في أسيوط لم تقض
تماما علي شيخ العرب رغم تشتت الهوارة المقاتلين، إلا أن إدراكه أن الخيانة
جاءت من أقرب الناس إليه كسرته وهدته تماما، فأصابه حزن وبؤس شديدين، وخرج
من فرشوط مسقط رأسه وعز نفوذه، واتجه إلي قرية صغيرة تدعي قمولة قرب إسنا،
وهناك ظل وحيدا حزينا مقهورا، إلي أن مات في الأول من نوفمبر عام 1769،
ويتشتت ويتشرذم من بعده الهوارة حتي أن منهم من هاجر إلي تركيا والشام،
وتفتت سطوتهم تماما علي الصعيد الذي أصبح تحت سيطرة أمراء المماليك، ويموت
شيخ العرب همام دون أن يعرف أحد مكان قبره بالتحديد، وإن كان البعض يتحدث
عن ضريح له موجود حتي الآن في منطقة «حوض همام» بقرية كيمان المقاطعة
التابعة لإسنا.
مات شيخ العرب همام ليكرر نفس النهاية التراجيدية لأول زعيم لهوارة
الصعيد «إسماعيل بن مازن» الذي مات مقتولا علي يد أحد أقاربه «علي بن
غريب»، وكأن الخيانة هي السلاح الأخطر الذي يقضي علي الزعماء والمغامرين
والمتطلعين إلي تطبيق العدل في هذا الكون.
الدستور المصرية في
31/08/2010 |