إحدى الميزات الإيجابية
الساحرة لمهرجان سينمائي، كامنةٌ في تعرّضه لسلسلة أحداث، أو
لهجمات معيّنة.
الحملات تعني، أحياناً، أن شيئاً أصيلاً ما يحدث. المهرجانات السينمائية
الدولية
العريقة معرّضة، دائماً، لأنماط شتّى من الحملات. بعضها سياسي.
بعضها الآخر مرتبط
بآلية اختيار الأفلام، أو رفضها. لم تعد الحملات العشوائية حكراً على
المنطقة
العربية. أو على دول العالم الثالث. هناك فاشية متحكّمة بعقول وتصرّفات
خاصّة
بغربيين. الأصولية حاضرة في مجتمعات وبيئات أوروبية وأميركية.
التطرّف والتزّمت
أيضاً. العالم تبدّل. الأحكام المسبقة، الشبيهة بالحروب الاستباقية
المكرَّسة في
خطاب المحافظين الجدد وإدارة جورج بوش الابن، متوغّلة في منطق أحادي
وعدائي. أن
ترفض الآخر، أو فكره، أو نتاجه، قبل التواصل المباشر معه، سمة
عصر وفضاء مدن وأنظمة
وسلوك. في الغرب، كما في الشرق. في العالم المتحضّر (!)، كما في العالم
الثالث. لا
يعني هذا كلّه حكماً جائراً على الجميع، وإلاّ فإنه يسقط في فخّ النظرة
الشمولية.
التمدّن والانفتاح والحوار والنقاش، أمورٌ أساسية في جزء كبير من العقل
الغربي، وفي
جزء أقلّ من العقل الشرقي والعالمثالثي. الفرد أساسي في هذا. الغرب مفتونٌ
بالفرد.
على نقيض الشرق، المولع بالحشد الجماعي.
مسائل
عشية بدء الدورة الثالثة
والستين لمهرجان «كانّ» السينمائي الدولي، مساء أمس الأربعاء،
أثيرت مسائل، وطُرحت
أسئلة. المشترك بينها: ميلٌ واضحٌ إلى فاشية ثقافية في التعاطي مع نتاج
إبداعي.
الأخطر كامنٌ في أن التعاطي الفاشي هذا محكومٌ بعدم المُشاهدة (هل
تتذكّرون أن من
حاول اغتيال نجيب محفوظ لم يقرأ روايته «أولاد حارتنا»؟ هل تتذكّرون أن
مهاجمي
الأدب والفن في العالم العربي تحديداً لا يقرأون ولا يُشاهدون، بل يُنفّذون
أحكاماً
بالقتل والتصفية والحرق بعماء لا مثيل له؟). أن تشنّ حملة على
مخرج لم تُشاهد فيلمه
بعد، دليلٌ على أمية مستفحلة، أو على التزام عنفي بعقيدة متطرّفة. إذ كيف
يُعقل
الحكم على نصّ، فني أو ثقافي أو سياسي أو عقائدي حتّى، قبل الاطّلاع عليه؟
هذا جزء
من الفاشية، بأنواعها المختلفة، الدينية والفكرية والاجتماعية.
هذا جزء من ثقافة
الإلغاء والتصفية. مثلٌ أول: هاجم وزير الثقافة الإيطالية ساندرو بوندي
فيلماً
وثائقياً بعنوان «دراكيولا» لسابينا غوتشانتي، لانتقاده سياسة رئيس الحكومة
سيلفيو
برلوسكوني إزاء الزلزال الذي دمّر المدينة الإيطالية القديمة «لاكويلا» في
أحد أيام
نيسان 2009. مثلٌ ثان: هاجم النائب الفرنسي ليونيل لوكا (كتلة
الأغلبية الرئاسية)
الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي (الجزائري الأصل) رشيد بوشارب، «الخارجون على
القانون»، منتقداً تمويله من «المركز السينمائي الفرنسي»، ومتّهماً إياه
بالإساءة
إلى مشاعر عدد لا بأس به من الفرنسيين، لأنه سلّط الضوء على مجزرة ارتكبها
المحتلّون الفرنسيون ضد عشرات آلاف الجزائريين في الثامن من
أيار 1945، مناقشاً
مسألة العلاقات الفرنسية الجزائرية الملتبسة، من خلال قصّة عائلة جزائرية
مطرودة من
بلدها، ما أدّى إلى تشتّت أفرداها، ومنهم من ناضل من أجل استقلال بلده عن
المحتلّ
الفرنسي (هل تتذكّرون المقولة الشهيرة المعتمدة في الصحافة الفنية المصرية
مثلاً:
«هذا فيلم مسيء لصورة مصر»؟). انضمّ لوكا إلى النائب إيلي بيزيي (تجمّع
الأغلبية
الرئاسية)، الذي أدان «استخدام المال العام لشتم الجمهورية». لم يكتفِ لوكا
بهذا.
دعا مسؤولين في الحكومة إلى «بذل قصارى
جهودهم لعدم إدراج الفيلم في قائمة الأفلام
الفرنسية المشاركة» في المسابقة الرسمية. المأزق أن الدعوة
لقيت صدى. فقد ذكرت
معلومات صحافية أن «الخارجون على القانون» شارك في المسابقة الرسمية باسم
الجزائر،
مع أن 59 بالمئة من ميزانيته فرنسية، في مقابل ما لا يزيد كثيراً عن عشرين
بالمئة
فقط تمويلاً جزائرياً. زميل بيزيي في الحزب الحاكم أندريه مايي بدا أكثر
تشدّداً
منهما. طلب «منع» عرض الفيلم حماية لـ«الأمن العام»، داعياً
إلى «احتلال» سلّم قصر
المهرجان.
لا يُمكن لأحد تقديم قراءة نقدية خاصّة بالفيلمين، لأن هذين الأخيرين
لم يُعرضا في الصالات العالمية. الأول معروضٌ خارج المسابقة الرسمية في
الدورة
الجديدة هذه لـ«كان». الثاني يتنافس وأفلاما أخرى على «السعفة
الذهبية». لعلّ
الوزير الإيطالي شاهد الفيلم الوثائقي في عرض ما داخل إيطاليا. لعلّ
الفرنسيين
الثلاثة فعلوا مثله أيضاً داخل فرنسا (يُمكن للأفلام المختارة في المسابقة
الرسمية
أو خارجها في «كان» أن تُعرض تجارياً في بلد المنشأ فقط، قبل
موعد انعقاد إحدى
دوراته السنوية). غير أن معلومات صحافية عدّة «أكّدت» عدم مشاهدة هؤلاء
جميعهم
الفيلمين. تماماً كحالة كارلوس، المعتقل في السجون الفرنسية منذ ستة عشر
عاماً بتهم
إرهابية مختلفة، الذي هاجم المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس
لإنجازه فيلماً
تلفزيونياً عنه. كارلوس، في زنزانته الفردية، حصل على نسخة من السيناريو.
هذا ما
تداولته صحفٌ عدّة. لم تُعجبه صورته فيه. هاجم ولعن وتقدّم بدعوى قضائية.
هو أيضاً
لم يُشاهد الفيلم. لكن غضباً ما ألمّ به دفاعاً عن «صورته» في
الإعلام ولدى الرأي
العام. الوزير الإيطالي حليف الرأسمالية المتوحشّة، المتمثّلة ببرلوسكوني.
المسؤولون الفرنسيون حصلوا على تضامن من
تيارات سياسية وثقافية وحزبية يمينية
متطرّفة. صورة كارلوس ملتبسة: المناضل الأممي في صفوف حركات
المقاومة والتحرّر
العربية والعالمثالثية، هو نفسه الإرهابي الذي قتل وخطف وانتهك الحرية
الفردية
والجماعية للناس. غير أن ما يجمع هؤلاء (الإيطالي والفرنسيين الثلاثة
والمناضل
الإرهابي الأممي) بعضهم مع البعض الآخر كامنٌ في شراستهم
الهجومية ضد منتوج فني
مرتكز على أبعاد سياسية.
ضغوط
ليس دفاعاً عن الأفلام الثلاثة، بل دفاعاً عن
الحقّ الإبداعي في الاشتغال الفني والثقافي. القراءة النقدية
تأتي لاحقاً. المهرجان
الأعرق والأهم في خارطة المهرجانات السينمائية الدولية تعرّض لهجمات وحملات.
سياسيون غاضبون. لا يجدون أمامهم سوى الفن
والإبداع الثقافي، فيحوّلون النصّ البصري
والمكتوب إلى ضحية رغباتهم المريبة في الانصراف عن مآزق وفساد.
أو عن تاريخ ملوّث
بالدم والعنف، وإن كان الغطاء «نضالياً» من أجل حقّ ما. أو في تغطيتهم مآزق
وفسادا،
بافتعال معارك جانبية. المعلومات الصحافية نفسها ذكرت أن المحطة
التلفزيونية
الفرنسية «كانال بلوس»، أحد الرعاة الأساسيين لمهرجان «كان»
ومنتجة الفيلم
التلفزيوني الطويل «كارلوس» (ثلاثة أجزاء)، مارست ضغوطاً على المدير الفني
تييري
فريمو لاختياره رسمياً، إثر معارضة رئيس المهرجان جيل جاكوب، الذي رفض
اختيار
الفيلم لكونه تلفزيونياً، ولأن المهرجان سينمائيٌ. المحطّة
التلفزيونية، بدورها،
بدت فاشية، بمعنى ما. الضغط كبير. إنها أحد الرعاة. تريد فيلماً تلفزيونياً
من
إنتاجها في المسابقة الرسمية لمهرجان سينمائي هو الأول في العالم. لا تقيم
وزناً
لآلية الاختيار، أو لرغبة فريق العمل المهتمّ بهذا الاختيار.
الضغط ولّد قراراً
مناهضاً للقرار الأول: إشراك الفيلم في المهرجان، لكن خارج المسابقة
الرسمية.
الأمر نفسه حصل مع المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف، قبل وصوله وفيلمه
الأخير «حرقته
الشمس 2» إلى «كان»، لكن بطريقة مختلفة. بعد ستة عشر عاماً على إنجازه
«الشمس
الخادعة» (1994)، أنجز ميخالكوف جزءاً ثانياً منه، تناول فيه أحداث الأشهر
القليلة الأولى من الحرب العالمية الثانية. ذكرت معلومات صحافية أن الفيلم
صوَّر
الجنود «السوفيات» أغراراً غير مدرّبين بشكل كاف، ما أدّى إلى
تقهقرهم أمام جنود
الجيش الألماني النازي لاحقاً. أضافت المعلومات أن الفيلم «التقط عناصر
الحرب
والخيانة والخوف والتعاطف والاشمئزاز والاحتجاج والدموع». هذا كلّه أثار
ردود فعل
روسية سلبية، إذ اتُّهم المخرج بتعمّده «تضليل المُشاهد»، والفيلم بأنه
«أكبر خدعة
في تاريخ السينما الروسية». ردّ ميخالكوف على منتقديه بإشارته
إلى قناعته بضرورة
تقديم لوحة حقيقية «تُمكِّن المشاهد من تلمّس حجم المعاناة والتضحية التي
دفعها
الشعب الروسي». أضاف انه شعر برغبة جارفة في تحقيق سلسلة أفلام عن هذه
التجربة،
خصوصاً بعد مشاهدته «إنقاذ الجندي راين» لستيفن سبيلبيرغ».
تفاصيل كهذه حصلت
عشية إطلاق الدورة الثالثة والستين، في المدينة الفرنسية الجنوبية هذه،
التي تعرّضت
قبل نحو أسبوع لعاصفة بحرية أطاحت ما بُني على الشاطئ الرملي، قبالة الـ«كروزايت».
هناك، تقيم شركات إنتاجية وتلفزيونية ومؤسّسات تجارية وغيرها منصّات خاصّة
بها،
أثناء الأيام الاثني عشر للدورة المنتهية في الثالث والعشرين من أيار
الجاري. مقاه
ومطاعم وعربات أكل سريع ومحلات بيع صحف ومجلات. هذه كلّها
تعرّضت للعاصفة. لكنها
عملت سريعاً على الخروج من الأزمة العابرة، استعداداً لاستقبال ضيوف قادمين
إلى
المدينة الساحلية من أصقاع متفرّقة من العالم.
السفير اللبنانية في
13/05/2010
«روبن
هود» في زيّ
عسكريّ
نسخة سينمائية جديدة،
مستلّة من القصّة القديمة نفسها. الصوَر أقرب إلى الاستعراض البصري. الحبكة
معقودة
على النفََس الهوليوودي في صناعة الأفلام التاريخية. السياق الدرامي مشبع
بمقولات
الوطنية والحبّ والبطولة والدفاع عن مقدّسات الناس وأحلامهم.
لم يعد البطل الأسطوري
المعروف لصّاً يسرق الأغنياء ليُطعم الفقراء. هذه الصورة انتفى وجودها في
النسخة
السينمائية الجديدة. هذه جاءت لاحقاً. في الخاتمة ربما. أو ما بعدها. البطل
الأسطوريّ جندي في احد فصول الحروب الصليبية. لكن هروبه من
الجندية وضعه على طريق
بطولة أخرى. وجد نفسه محاصراً بالرغبة العميقة لدى الناس في مساعدتهم ضد
شياطين
المؤامرات والسياسة.
إنه روبن هود. النسخة السينمائية الجديدة موقّعة باسم
ريدلي سكوت (افتتح الدورة الجديدة لمهرجان «كان» أمس الأربعاء). البطل
الأسطوري
متمثّل براسل كرو. كلامٌ كثير قيل قبل بدء تنفيذ المشروع،
وأثناء تصويره. سرّية ما
أحاطت العمل خلال تحقيقه. لكن السؤال الوحيد الذي طُرح بجدّية وكثرة،
متعلّق بما
إذا كان الفيلم سيحمل جديداً. غالب الظنّ، أن مشاهدي «روبن هود» سيكتشفون
نمطاً
مغايراً للمألوف، في التعاطي مع القصّة الأصلية. النسخ السابقة
قاربت الحكاية من
جوانب مختلفة. ظلّ هناك شيءٌ ناقصٌ. لا أقول إن ريدلي سكوت ملأ الفراغ، أو
منح
النصّ جرعة إنسانية إضافية. الفيلم الذي أنجزه عاد إلى الحياة السابقة
للتحوّل الذي
عرفه روبن هود. أمعن فيها. حلّلها على ضوء النزاعات الداخلية الحاصلة في
بلاط الملك
ريتشارد قلب الأسد. الخبث السياسي مائلٌ إلى الخيانة. هناك، في قلب الدائرة
الصغيرة
المحيطة بالملك الجديد جون، عميلٌ للفرنسيين. لم يعد الشرير الأول رئيس
شرطة
نوتنغهام، بل غودفروي، صديق الأمير جون، الذي بات ملكاً بعد
مقتل شقيقه ريتشارد.
الفرنسيون راغبون في احتلال المملكة. غودفروي دليلهم. لكن روبن هود، القائد
العسكري
الأول، واقفٌ لهم بالمرصاد. هناك من رأى في هذا المشهد تزويراً لحقائق:
فرنسوا
غييوم لورّان (المجلة الفرنسية الأسبوعية «لو بوان»، 6 أيار
2010) كتب أن الملك
الفرنسي فيليب لم يقترب أبداً من الشواطئ الإنكليزية، بل ابنه لويس الثامن.
كتب أن
عملية الإنزال البحري نجحت، بدليل أن الفرنسيين احتلّوا لندن في العام 1216.
المسائل التاريخية معرّضة، دائماً، للخطأ. إما لرغبة صانعي الفيلم في
تحوير
مقصود لحقائق ووقائع، وإما لجهل ما (وهذا نادر الحدوث، لأن الغربيين
معتادون على
التعاون مع مؤرّخين ذوي مصداقية علمية). لورّان نفسه قال إن «هذه الإساءة
لكبريائنا
الوطنية لا تمنع الاعتراف بأن تصوير العملية كلّها يُعتبر
الأكثر مشهدية في فيلم
عضّل (قوّى عضلات) أحد أبطال شبابنا، وأزال الغبار عنه». هذا يعني، أيضاً،
أن
الفيلم متملك عناصر إغرائية لمُشاهدته. عملية الإنزال البحري تلك،
المصَوّرة بطريقة
بديعة، شبيهة جداً بعملية الإنزال البحري في نورماندي، في مفتتح «إنقاذ
الجندي
راين» لستيفن سبلبيرغ. لكن، بدلاً من الرصاص والقذائف، هناك
الأسهم والسيوف.
التمثيل، الذي أدّاه راسل كرو وكايت بلانشيت (اللايدي ماريان) وويليام هارت
(ويليام
مارشال) وماكس فون سيدو (السير والتر لوكسلي)، محترف، لكنه عاديّ. قيل إن
المادة
الدرامية المُقدَّمة لهم لم تسعفهم لتقديم الأفضل والأجمل. برز
بينهم مارك سترونغ
(غودفروي).
هذا تعاونه الثاني وسكوت. إنه رئيس جهاز الاستخبارات الأردنية في «مجمل
الأكاذيب» الذي حقّقه مخرج «روبن هود» في العام 2005.
يُعرض، بدءاً من بعد
ظهر اليوم، في صالات «غراند أ ب ث« (الأشرفية) و«غراند
كونكورد» (فردان) و«غراند
لاس ساليناس» (أنفه) و«سينما سيتي» (الدورة)
و«أمبير سوديكو» و«غالاكسي» (بولفار
كميل شمعون، نسخة ديجيتال).
السفير اللبنانية في
13/05/2010 |