تحصل أفلام المسابقة فى أى مهرجان على أفضل أوقات العروض وأكبر عدد من
العروض، ولكن هذا لا علاقة له بالقيمة، إن العديد من الأفلام التى تعرض
خارج المسابقة أكثر قيمة من بعض أفلام المسابقة، فعرض أى فيلم داخل أو خارج
المسابقة يكون لاعتبارات متعددة، ولكن ليس من بينها أن أفلام هذا البرنامج
أكثر أو أقل قيمة من البرنامج الآخر.
ومن أحداث مهرجان «كان» ٢٠١٠ الكبرى الفيلم البرتغالى «حالة أنجيليكا
الغريبة» إخراج مانويل دى أوليفيرا الذى عرض فى افتتاح برنامج «نظرة خاصة»
خارج المسابقة. وقد علمت أن إدارة المهرجان طلبت عرض الفيلم فى المسابقة
ولكن مخرجه فضل العرض خارجها. ولم أندهش من ذلك، فقد حصل على جائزة لا
تقارن مع سعفة «كان» الذهبية ولا أى جائزة على الأرض، بحصوله على منحة
إلهية من خالق السماوات والأرض بوصوله إلى سن المائة، واستمرار قدرته على
الإبداع، فهذا أول أفلامه بعد أن بلغ مائة سنة عام ٢٠٠٨.
أصبح فنان السينما البرتغالى العالمى بهذا الفيلم أكبر سينمائى فى العالم
عمراً، والوحيد الذى لايزال يعمل منذ السينما الصامتة، والوحيد الذى أخرج
أغلب وأهم أفلامه بعد أن بلغ الثمانين من العمر. وفى مؤتمره الصحفى بعد عرض
فيلمه الجديد أعلن أنه يكتب فيلمه التالى.
قلت لنفسى من البدهى أن فيلم أوليفيرا سوف يكون عن الموت، ولكن ترى هل يشعر
بعد سن المائة بما شعر به شابلن بعد سن الثمانين عندما قال إنه مثل محكوم
عليه بالإعدام ينتظر تنفيذ الحكم.
يبدو من خلال الفيلم، وعلى النقيض من شابلن، أن دى أوليفيرا لا يعتبر الموت
حكماً بالإعدام وإنما تحريراً للروح. ولاشك أن من بين أسباب هذه الرؤية أنه
لا يزال يعمل بعد سن المائة ويتمتع بصحة مناسبة على النقيض مما حدث لشابلن.
والفيلم الذى صور بميزانية صغيرة لمدة شهر واحد عن سيناريو كان قد كتبه دى
أوليفيرا عام ١٩٥٢، ولم يتمكن من إخراجه، وقام بإعادة كتابته، وأضاف
محاورات عن أزمة المناخ والأزمة الاقتصادية العالمية ليصبح معاصراً لوقت
إنتاجه وعرضه.
مثل قصص القصائد واللوحات
لا توجد قصة فى الفيلم بالمعنى الذى نجده فى الأفلام الروائية الطويلة
عادة، وإنما بالمعنى الذى نجده فى قصائد الشعر أو اللوحات التشكيلية.
إنها قصة إيزاك المصور الفوتوغرافى الشاب الذى يسكن فى (بنسيون) فى منطقة
وادى نهر دورو فى البرتغال، ويحمض ويطبع صوره فى نفس الغرفة التى يعيش
فيها. ذات ليلة يطلب من إيزاك أن يصور أنجيليكا الشابة التى ماتت بعد أيام
من زفافها فى منزل عائلتها الثرية قبل أن تدفن فى صباح اليوم التالي.
وفى إحدى الصور تفتح أنجيليكا عينيها وتبتسم. يذهل إيزاك، ولكنه لا يتحدث
عما شاهده، ويصبح من هذه اللحظة مشدوداً إلى أنجيليكا حتى وهو يصور
الفلاحين فى حقل لأشجار الزيتون وأحدهم يغنى لهم بعضاً من أغانى الحقل،
ويتابع وكأنه مسلوب الوعى مراسم الجنازة فى الكنيسة، ويحاول أن يلحق بمراسم
الدفن، ولكنه يتأخر ويجد المقابر مغلقة.
على مائدة الطعام التى تجمع سكان (البنسيون) يجرى حوار حول أزمات العالم،
ولكن إيزاك لا يعلق، ويصمت تماماً. وفى الليل يحلم بأن أنجيليكا جاءته
وأخذته معها وطارا فى جولة حول وادى نهر دورو، وعندما يستيقظ من النوم يهتف
«يا إلهى لماذا كل هذا؟!». وفى الصباح يذهب إلى المقابر ومرة ثانية يجدها
مغلقة، فيجرى نحو حقل أشجار الزيتون وهناك يسقط وهو يلهث.
يتم نقل إيزاك إلى غرفته، ويأتى الطبيب لمعالجته، ولكنه لا ينطق. وفجأة
يقوم من الفراش، ويزيح الطبيب، ويسقط ميتاً أمام شرفة الغرفة، وتأتى
أنجيليكا من الشرفة، ونراها تأخذه وتصعد بينما جسده على الأرض.
مثل النداهة فى الأساطير القديمة
بدأ دى أوليفيرا الإبداع الفنى كرسام ونحات، وكل كادر فى فيلمه الجديد لوحة
تشكيلية كاملة أبدع فيها مدير التصوير سابين لانسلين بالأبيض والأسود
والألوان، وخاصة مع عدم استخدام حركة الكاميرا إلا فى المشاهد الوصفية مثل
مشهد الجرى إلى حقل أشجار الزيتون. إن برواز الشرفة وبراويز النوافذ تتحول
إلى إطارات للكادرات-اللوحات.
ولأول مرة يستخدم دى أوليفيرا مؤثرات الديجيتال فى مشهد الرحلة الروحية حول
وادى نهر دورو، وفى مشهد النهاية. وفى كلا المشهدين المصورين بالأبيض
والأسود يتأثر المخرج بعالم الرسام مارك شاجال، حيث تمتزج فى لوحاته
الملائكة مع البشر ويحلقون فى سماوات مفتوحة وكأنهم معاً مخلوقات شفافة
وحرة.
وبدأ دى أوليفيرا الإبداع السينمائى عام ١٩٣١ بفيلم تسجيلى قصير بعنوان
«دورو»، وها هو يعود فى أحدث أفلامه ويصور فى نفس المنطقة. وهذا ليس فقط
تعبيراً عن عشقه لهذا المكان، وإنما عن عشقه للطبيعة عموماً.
إيزاك لا يشترك فى المحاورات حول أزمة المناخ، ولكن دى أوليفيرا يشترك فيها
بكامل فيلمه الذى يعتبر على نحو ما تحية إلى الطبيعة والعمل اليدوى وأغانى
الحقول، وكل ما أصبح من الماضى البعيد كما تقول مديرة (البنسيون)، ولكن
إيزاك يحبه، كما يحب التصوير بالطريقة الكلاسيكية، ولا يستخدم كاميرات
الديجيتال.
وتتكامل تحية الطبيعة فى الفيلم مع رفض الآلة، الذى يتجسد من خلال شريط
الصوت، وعلاقته الجدلية مع شريط الصورة، فالموسيقى مقطوعات كلاسيكية
للبيانو، وتسمع وحدها فى اللقطات التى تخلو من الحوار، وعلى نفس شريط الصوت
نستمع فى مشاهد متعددة إلى أصوات صاخبة ومنفرة لآلات مختلفة لا نرى مصدرها.
وتتوازى تحية الطبيعة ورفض الآلة مع تحية الإبداع الفنى ممثلاً فى
الفوتوغرافيا.
فالصورة تخلد اللحظة ضد العدم، وتعيد الحياة لحظة إلى العروس الميتة، وهذه
اللحظة هى ذاتها التى تدعو فيها إيزاك إلى الموت مثل النداهة فى الأساطير
القديمة، وتجعل من قصة الحب بين إيزاك وأنجيليكا قصة موت فى نفس الوقت.
مثل التراتيل القديمة
اللقطة الأولى فى الفيلم منظر عام للمنطقة فى الليل، وتتكرر هذه اللقطة
طوال الفيلم، وتكون اللقطة الأخيرة أيضاً. فالحياة فى الفيلم دورة مغلقة فى
عالمنا، ولكنها بغير حدود فى عالم آخر لا نعرفه.
ولايبدو من الفيلم إن كان دى أوليفيرا يهودياً أو مسيحياً أو لا يؤمن بأى
دين، ولكن المؤكد أنه يؤمن بوجود عالم آخر، وبأن الموت ليس له موعد، مع
الشباب أو الشيوخ، مع الأثرياء أو الفقراء.
فالعروس الشابة الثرية تموت بعد أيام من زفافها، والمصور الشاب متواضع
الحال يموت بعد أيام من موتها. وحياة إيزاك فى (البنسيون) ليس لها دلالة
تواضع الحال فقط، وإنما تعبر عن فكرة الحياة «المؤقتة» بالضرورة.
يتوجه إيزاك إلى الله مرة واحدة ليسأل «لماذا كل هذا؟!»، وليس ثمة إجابة فى
الفيلم. ولكنه عندما يسأل لا يستنكر الوجود بقدر ما يعبر عن رغبته فى
الفهم. المشهد الأول يسأل فيه مندوب عائلة أنجيليكا بعد منتصف الليل عن
المصور الفوتوغرافى الذى يعرفه، فترد زوجته بأنه غير موجود، ويسمعه أحد
الجيران فيرشده إلى إيزاك.
وكل هذا المشهد مصور فى لقطة عامة لا نرى فيها وجوه أى من الشخصيات الثلاث،
وذلك للتعبير عن القدر الذى كتب على إيزاك.
وفى الكنيسة لا نرى وجه أنجيليكا فى التابوت، كما لا نرى دفنها فى المقابر،
وذلك لتكون أول وآخر مرة شاهدناها فيها أثناء تصوير إيزاك لها وهى ميتة فى
منزلها. وهذه حسابات دقيقة فى الإبداع الفنى المتميز حيث لا تقل أهمية ما
يستبعد عن أهمية ما يستخدم من مفردات لغة التعبير.
جاء فيلم «حالة أنجيليكا الغريبة» تحفة نادرة من تحف السينما بل ومن تحف
الإبداع الفنى عموماً. إنه مثل التراتيل القديمة حيث الحكمة الخالصة
والجمال المطلق، ولكن بلغة السينما.
samirmfarid@hotmail.com
المصري اليوم في
18/05/2010 |