اختارت إدارة مهرجان الخليج السينمائي في دورته الثالثة (8 14
أبريل الجاري) أن يكون فيلم 'دار الحي' للمخرج الإماراتي 'علي مصطفى' فيلما
للافتتاح بكل ما تحمله تلك النوعية من الأفلام من معان ودلالات
يتقصدها المهرجان
وإدارته وتحديدا في حالة مهرجان يمنح نفسه سمتا خليجيا لم يمنع أو يعق ذلك
من
انفتاحه على تجارب وخبرات سينمائية غربية؛ ففي هذه الدورة مثلا إضافة إلى
حضور
أفلام الفرنسي العجيب والغريب والمختلف 'فرانسوا فوجيل' في
برنامج 'تحت الضوء' نجد
في برنامج 'تقاطعات' نماذج متميزة من سينما العالم الروائية القصيرة.
نعود لفيلم
'دار
الحي' فنقول ان ذلك الاختيار بدا عائدا لأكثر من سبب وأغلبها تُدرك بعد
مشاهدة
الفيلم ذاته، من بينها طبيعة الفيلم الذي يحاول أن يغوص في بعض من عوالم
مدينة دبي،
المدينة الكوزموبوليتانية بكل المقاييس، حيث تعج بالبشر من كل
الجنسيات والأديان
والألوان في خليط بشري ندر أن يراه الزائر لغيرها من المدن في بقعه سكانية
صغيرة
جدا بالمقارنة مع غيرها من المدن العالمية. وبذا لم يخالف الفيلم التوقعات
فجاء
خليطا من قصص لم تلتقي إلا في فضاء المدينة وشوارعها، فكان
عملا قاد لطرح مجموعة
كبيرة من الأسئلة التي سنبحث عن إجابات لها في ثنايا هذا المقال.
الفيلم يوصف
بأنه خليط من كل شيء، كحال صخب المدينة النابضة بالحياة، بدأ من الشخوص
ووصولا إلى
طرق التعبير والسرد الاخراجي وليس انتهاء بالمقولة العامة للفيلم التي وان
استشفها
المشاهد المتمعن لكنها بدت غير حاضرة بالقوة المطلوبة، ربما لأن دبي
بتشابكها
وتشعبها وتعقدها بدت أكبر من مشروع المخرج الإماراتي الشاب
والطموح، فبدا وكأنه
الراغب بجمع خيوط حيوات بشر مختلفين لونا ومكانا وعملا وقصصا وأحلاما لكنه
عجز عن
ايجاد البني الدرامي المناسب لكل ذلك الخليط المتشابك.
ثلاث قصص وحادث
سير
يسرد شريط 'دار الحي' تفاصيل حياة ثلاث مجموعات من الشخوص الأولى
إماراتية،
والثانية ألمانية، والثالثة هندية، فراشد الإماراتي الشاب الحائر في
مستقبله والذي
يجمعه بوالده (الرجل الثري وصاحب المكانة الاجتماعية) خلاف على سلوكه
ولامسؤوليته
وعدم إدركه ماذا يريد من الحياة فيما يتسبب له صديقه 'خلفان'
الطائش والمتهور في
كثير من المشاكل والأزمات التي تجعل من علاقته بوالده على المحك.
أما 'باسو'
الهندي فهو سائق التاكسي الحالم بالغناء والشهرة في مدينة تمنح سكانها
أمانيهم
وأحلامهم، وهي شهرة تضطره للعمل في أحد بارات المدينة راقصا ومؤديا لشخصية
هندية
مشهورة وهو أمر يتسبب في طرده من عمله كسائق تاكسي. أما
الحكاية الثالثة فتضعنا في
عالم مضيفة الطيران الألمانية 'ناتاليا' التي تعمل على الخطوط الجوية
الإماراتية
وتعيشن في دبي، حيث تقع في غرام ألماني يدير شركة للإعلانات التجارية، حيث
تعتقد أن
علاقتها بابن بلدها سيكون تحقيقا لحلمها بالارتباط والانجاب
لكنها تكتشف أنه يخونها
مع صديقتها في العمل ليكشف عن وجهه القبيح بعد أن يدرك حملها ورغبتها في
الاحتفاظ
بجنينها.
تلك القصص الثلاث التي يتناوب الفيلم سردها تلتقي في لحظة الذروة في
أحد شوارع دبي التي تعج بالسيارات الحديثة والجارية بسرعة تناسب ايقاع
المدينة، كل
منهم هارب من قدرة الذي تحقق بفعل عيشه بتلك المدينة؛
'ناتاليا' تهرب من خبير
الاعلانات الذي تكتشف خيانته وهي المطرودة من شركة الطيران لتأخرها الدائم
عن موعيد
الرحلات، و'راشد' وصديقة 'خلفان' الفاران من عصابة قاتلة ونظرات والد
الأول،
والهندي 'باسو' المطرود من عمله المسرع إلى مقابلة عمل تؤهله
ليكون ممثلا
وراقصا.
مزيد من الأحلام
هؤلاء الثلاثة تتقاطع مصائرهم في لحظة دامية تجمعهم
في تصادم مأساوي يدفع بكل منهم إلى بداية جديدة وكأن المخرج يرغب أن يقول
ان هذه
المدينة التي جمعت هذا الخليط البشري المأزوم بمشاكله الشخصية
وأحلامه المقتولة على
مذبح الطيش والجهل تارة أو الهوس بالأحلام تارة اخرى أو الأنانية المفرطة
تارة
ثالثة والصدف والقدر في تارة رابعة تجمعهم معا، قادرة على منحهم المزيد من
الفرص.
فـ'باسو' الذي تشرد وجد ضالته صدفة في مسرح يشرف عليه الهندي 'خان'،
أما 'راشد'
فتدفع به صدمة فقدانه لصديق عمره 'خلفان' الذي توفي بحادث السير المروع
بعملية مراجعة لحياته وطريقة عيشه، و'ناتاليا' التي تكتشف زيف
صديقتها وحبيبها
الألماني وهي التي تطرد من شركة الطيران تجد حلم طفولتها الذي بدأت تستعيده
من جديد
والمتمثل في تعلم وتعليم رقص الباليه.
عالم الأحلام الذي تقتله هذه المدينة
وتحققه لسكانها يطال أيضا عامل القمامة الذي يرافقنا في لقطات
بعيدة تتوزع داخل
الفيلم حيث يجد ورقة اليانصيب في احدى الحاويات فيقوم بقشطها ليفوز بجائزة
مالية
كبيرة فنراه في مشهد ختامي رافعا يديه عاليا للسماء شاكرا ربه لتأخذنا
الكاميرا في
لقطة عامة نكتشف من خلالها دبي بكل تناقضاتها من بناياتها الشاهقة الحالمة
بمعانقة
السماء إلى بيوت العمال الفقراء على الجانب الاخر من المدينة، ليكون المشهد
رومانسيا رغم الحزن الذي سبقه، وكأن هذه المدينة تصر على وعد
سكانها بمزيد من
الأمنيات وبمزيد من تحقيقها.
دبي على الطريقة الأمريكية
سيحار المشاهد عند
مشاهدة هذا الفيلم الذي يطرح الأسئلة عن سينما الإمارات الواعدة، فالفيلم
الخليط من
كل شيء، كما بدا مصنوعا بالطريقة الأمريكية تماما، سواء بأساليب وتقنيات
اخراجه أو
حتى بالموسيقى المستخدمة أو حتى من خلال تكوين بعض المشاهد مثل
مشهد الصدام الذي
بدا مستنسخا من الأفلام الأمريكية التي تجنح دوما للمبالغة لخلق حالة من
التأثير
والتعاطف دون أن يحمل الفيلم في جنباته أي سمات خليجية تشي بالمكان وأهله
بخصوصيتاتهم المعهودة، ليكون السؤال عن الدافع الذي دفع المخرج
إلى تقديم هذا
الفيلم والحمولة او الرسالة التي يرغب في توصيلها؟
هنا تحديدا علينا التوقف
قليلا لكون الأمر ليس بهذه البساطة، فمن قال أن في دبي خصوصية
أو سمت عام يمكن أن
تحسب عليه أو ترد إليه، حسبي أن الفيلم أخلص في طرحه لواقع المدينة ذاتها،
وبذا بدت
هذه التجرية السينمائية محاولة لتأكيد عالمية هذه المدينة وجزء أصيل من
واقعها
المختلف والمغاير.
فيما نهجس بالسؤال الثاني في ضوء عدم التقاء حيوات القصص
الثلاث في خيط درامي مباشر واقتصار تقاطعهم على حادث السيارة المروع لنقول:
لماذا
انحاز المخرج إلى تلك الطريقة في السرد الذي بقي عاجزا طوال
الوقت عن ايجاد بيئة أو
علاقات تجمعهم ولو من باب الصدفة التي حضرت كثيرا في هذا الفيلم، فهكذا
مدينة صغيرة
تتيح لبشرها الالتقاء دون مواعيد أو خطط؟
سيكون الجواب هنا أحد أمرين، الأول
ربما رغبة من المخرج في أن يؤكد على خصيصة أساسية في هذه
المدينة وتتمثل في ضعف
العلاقات الاجتماعية والتواصل الإنساني بين سكانها، وهو ذات الأمر يقينا ما
دفع
بتلك الشخصيات إلى أن تتعلق بأي شخص يظهر أمامها (سنلاحظ أن دائرة علاقاتها
ارتبطت
بذات الجنسيات التي تنتمي لها) كما في حال ناتاليا الألمانية
التي تتعلق برجل
الإعلانات، وكذلك باسو الذي تشبث بمساعدة الهندي 'خان' الذي منحه فرصة أولى
للعمل
في البار بداية، ثم فرصة ثانية عمل في المسرح الذي يديره، وكذلك الأمر مع
راشد الذي
يدخل في خلافات طويلة مع والده بفعل مشاكله مع عصابة إجرامية
لأسباب لا تنتمي للعقل
أو المنطق ولا تخصه بالضرورة. وفي تلك الحالة سيكون خيار المخرج خيارا فنيا
وفكريا
أيضا.
الأمر الثاني قد يعود إلى عجز المخرج ومن قبله الكاتب على تقديم
سيناريو
متماسك يجمع هذه الشخصيات وهو ما انعكس على تلك الصيغة التي ظهر فيها
الفيلم، لقد
كنا كمشاهدين ننتظر طوال الوقت تلك اللحظة التي تجعل من هذه المصائر تلتقي
لتتعرف
على بعض لتحدث دراما الفيلم الحقيقية، لكن ذلك لم يحدث البتة.
خطابية ومباشرة
وأحلام بلا نهاية
قصة راشد مع والده تأخذ بعدا رمزيا يصلح لأن يسقط على واقع
الشباب الإماراتي الذي بدا شبابا فاقدا لبوصلته ورؤيته للحياة وهو ما يتغير
بعد
وفاة صديقة 'خلفان' وهي تيمة تقليدية وكلاسيكية في السينما
العربية، فغالبا ما يرد
أمر تغير الشخصيات إلى نقلات نوعية في الحياة يكون الموت أبرزها. في حين
جاء والد
راشد بكلامه الوعظي والمباشر لابنه من أضعف ما يكون في هذا الفيلم، فمثل
تلك اللغة
كان يمكن الاستعاضة عنها بلغة أكثر حياتيه ومستمدة من واقع المجتمع والصراع
بين
الأجيال التي تعتبر نفسها جزءا منه، لكنها ركنت للسهل وجاءت
فجة تدعو راشد لأن يكون
مصدرا للحياة في هذه المدينة الجديدة وجزءا من مستقبلها الزاهر.
أمور كثيرة تحسب
لهذا الفيلم من ضمنها عدم محاولته تقديم صورة دعائية للمدينة بشكل فج
ومباشر وكذلك
في كشفه بعض من الصور الذهنية عن الشخصية الخليجية تارة والعربية تارة
أخرى، وهي
صور نرى انها لم تعد تقتصر على الشخصية الخليجية فقط بل أصبحت
تقترن بالاجانب أيضا
والتي من سماتها الاستغلال وامتلاك النفوذ والنقود للحصول على أي شيء بدءا
من البشر
وانتهاء بالمشاريع العريضة والصاخبة أيضا.
أثناء الخروج من قاعة العرض سمعت
نقاشا دار بين بعض الإماراتيين خلاصته ان ما عرضه الفيلم هو
بمثابة 'الوجه القبيح
لدبي' وبعيدا عن هذا التقييم الذي أتحفظ عليه نجد أن ما عرضه الفيلم وحاول
معالجته
ليس وجها قبيحا إنما هو أحد وجوه دبي التي فيها من القبح بمقدار ما فيها من
الجمال،
والتي لا يمكن التنكر لأوجهها الكثيرة والمختلفة حد التناقض.
فلا توجد مدن مثالية
إلا في أذهاننا نحن، فكيف والحال مع مدينة مثل دبي التي يحاول أن يخبرنا
الفيلم
أنها المدينة التي لا تتوقف فيها الأحلام وكذلك عن تحقيقها لكن بعد دفع
الثمن.
*
ناقد فني من فلسطين
القدس العربي في
15/04/2010 |