إنها تشبه أمي .. تلك المرأة العنيدة في بحثها عن ولدها الذي ساقته الحرب
الى نيرانها التي لا تهدأ.
ذلك هو الشريك الاول في القراءة التي رافقت المشاهدة للفلم العراقي (أبن
بابل) الذي عرض مؤخراً على صالة سينما (سميراميس) في بغداد .. اخراج : محمد
الدراجي.
ثمة العديد من المنطلقات التي تحرك مخرج هذا الفلم على أسسها منها ماهو فني
جمالي ومنها ماهو عاطفي إنساني ،فقد كان توظيف الدخان الذي يعد من ابجديات
العلامة السيميائية دلالة على الحريق الذي يؤشر الى خراب أبدي ، وعلى الرغم
من التحولات التي صاحبت هذا الدخان تبعا للمشاهد السردية (الروائية)
وتحولات المكان والزمان الذي امتد من شمال العراق الى جنوبه والذي إتخذه
مخرج الفلم كمساحة مكانية يتحرك من خلالها الى فضاءات اخرى يترك للمتلقي
حرية إكتشافها ، الا ان علامة الدخان انقسمت على نفسها من خلال تحولها من
دخان الى نيران إلتهمت البنى التحتية لمؤسسات الدولة إبان حرب 2003 ، الى
علامة أخرى هي دخان ينتج عن أرواح أزهقت تحت تراب المقابر الجماعية.
وبالمقابل وعلى ضفة الألم الأخرى كانت الأم تقف شاخصة بصرها وبصيرتها باحثة
عن ابنها بين الاحياء والاموات والمجهولين والهياكل والجماجم والسراب، في
رحلة بحث لانهاية لها ، يصحبها طفل لايعرف عن والده الفقيد سوى ذكريات
ترويها الجدة بين الحين والآخر متمثلة بأسم أبيه ، ومزماره الخشبي الذي حلم
ذات يوم ان يعزف عليه ، ليبق هو الاخر شاخصاً بين يدي الطفل على أمنية لم
تتحقق.
إن استخدام المخرج للمساحات المكانية الواسعة التي شكلت رحلة البحث والتي
كانت على الرغم من إتساعها تضيق على صدر الأم وهي تحبس دموعها عن صبي يبدأ
حياته برحلة عبثية كما في أسطورة سيزيف .
وقد بدا ذلك واضحا من خلال الاداء العفوي الذي قامت به الممثلة (شازادة
حسين) والطفل (ياسر طالب) اذ ان نجاح هذه الشخصيات يكمن بالدرجة الاولى من
خلال اعتماد المخرج على العفوية والتلقائية في أداء الأم والحفيد ، بعيدا
عن التكلف الذي كان من الممكن ان يرافق الممثلة المحترفة التي قد تحاول
التصنع في الاداء ، الا ان (شازادة) لم تتعامل مع هذه الام بوصفها شخصية
سينمائية وإنما بوصفها شخصية من الحياة ، والتي يمكن مشاهدتها تهيم على
وجهها في كثير من الاماكن في بلاد أكلت الدكتاتورية من أبنائها حتى أصيبت
بالتخمة، ومن جهته فقد كان لظهور شخصية موسى التي قام بها الممثل (بشير
الماجد) أهمية بالغة في إضفاء خط جديد لمسار الفلم الذي كاد ان يتحول الى
تقليدي ، فقد جاءت هذه الشخصية لتعبر عن الخط المناقض تماماً للشخصيتين
السابقتين كونهما تمثلان ضحية القتل والدمار الذي تنتجه السلطة القمعية ،
بينما يمثل (موسى) شخصية الجلاد الذي يعترف بعد إنكسار سيفه بكل ماقام به
من جرائم تجاه ابناء جلدته ، اما من ناحية الاداء فقد كان على المخرج
والممثل معاً إضافة عمق ادائي لهذه الشخصية التي كانت تحتاج الى شيء من
الانكسار والحذر في التعامل مع الاخرين ، فقد بدا هذا الاخير وكأنه بطل
منتصر وليس جلاداً سابقاً يحاول ان يكفر عن ذنوبه بمساعدة الاخرين من
ضحاياه وضحايا أمثاله .
الاان ذلك الاداء الذي قام به (بشير ماجد ) بالرغم مما قد يؤخذ عليه الاأنه
استطاع إيصال الفكرة العامة التي اراد الفلم ايصالها والتي تكمن في القدرة
على العفو عن الاخر مادام قد إعترف بذنبه ، وهذا قد يكون كافياً لربط احداث
الفلم .
أن الفكرة التي ناقشها الفلم ، تعد واحدة من اكثر الافكار تأثيرا في النفس
البشرية، جاءت لتعبرعن ذلك الواقع المؤلم والبشع الذي عاشه الشعب إبان
السلطة القمعية في الماضي القريب، الذي القى بظلاله على الحاضر وهو يزحف
بخطى حثيثة نحو المستقبل ، وما يحصل هو تغيير في المسميات وتأكيد على
المضامين ذاتها ، وبدلاً من ان تكون هنالك مقابر جماعية ، فلتكن جثثاً
مجهولة الهوية ، ماهو الفرق مادام الضحية في النهاية هو انسان ولد في ارض
بابل وشرب من النهر ذاته.؟
ان فلم (ارض بابل) قراءة لحاضر ومستقبل أكثر مما هو قراءة لماضٍ ، ويجب ان
نؤشر لهذا الفلم تلك الحقيقية التي كشفت عن ماضٍ دامٍ ليس بحثاً عن الثأر
كما أشار المخرج وإنما لكي نمنح العدالة حقها في تطبيق قوانينها بيننا.
ان المتن الروائي لهذا الفلم إقترب كثيرا من تقنيات الفلم الوثائقي وأسلوب
استخدام الوثيقة في طرح الافكار ، هو تجربة تحسب للمخرج ولفريق عمله ، ذلك
أن القدرة الفنية العالية التي استطاعت المزج بين السرد السينمائي والوثيقة
ومرجعياتها الواقعية والتاريخية ، جعل من هذا الفلم اشبه بمزيج يجمع بين
الألم الجاف الذي يكمن غالباُ في الوثيقة ، والانسانية التي كانت تبرز بين
الحين والاخر وبخاصة في مشاهد الام والحفيد، وفي تحديد اكثر دقة في مشاهد
اللقاء الاول مع (الاب الحي - الميت - المجهول - السراب ).
ولابد من الإشارة إلى الجهود التي يبذلها عدد من السينمائيين كما هو الحال
مع المخرج محمد الدراجي والمخرج عدي رشيد وآخرين في دفع عجلة السينما من
خلال تجاربهم الجادة التي بدأت تحرث الفضاء الثقافي في الآونة الأخيرة على
الرغم من ان مايحصل هو في الأغلب الأعم يعتمد على جهود شخصية والتي مازال
السينمائيون يطمحون إلى التفات المؤسسات الفنية إليها والى جهود أصحابها من
أجل تطوير الحركة السينمائية، ومدها بالدعم بدلا من تجاهلها وعدم الالتزام
الذي يقع على عاتق تلك المؤسسات لتكون بديلاً عن هدر الأموال على مالا يجدي
ولا ينفع الثقافة العراقية في شيء.
أدب وفن في
15/05/2010
ابن بابل يعيد عشاق السينما
بغداد - كاظم لازم
شهدت صالة سميراميس للعروض السينمائية مساء يوم الخميس الماضي عرض الفيلم
الروائي العراقي (ابن بابل) سيناريو واخراج محمد الدراجي شارك في تجسيد
شخصيات الفيلم شازده حسين، ياسر طالب وبشير الماجد اضافة لعشرات من
الكومبارس.
دارت احداث الفيلم حول قصة المقابر الجماعية من خلال رحلة ام كردية من
منطقة كردستان صوب جنوب العراق للبحث عن ولدها الذي فقد في احداث عام 1991.
حضر عرض الفيلم الذي بلغت مدة عرضه 120 دقيقة عدد كبير من المثقفين
والمهتمين بالشأن السينمائي اضافة الى العشرات من عشاق السينما مع عدد من
وسائل الاعلام المرئية والمسموعة..
مخرج الفيلم تحدث قبل العرض عن الظروف الصعبة التي رافقت انتاج وتصوير
الفيلم امتناع عن المساهمة في دعم عملية انتاجه كما تحدث عن مشاركة الفيلم
في مهرجان برلين السينمائي ونيله جائزتين مع ثناء نقاد السينما الذين حضروا
المهرجان..
بشير الماجد.. احد ابطال الفيلم قال (للصباح) اشعر بسعادة كبيرة لنجاح
الفيلم الذي شاهدته لاول مرة في مهرجان دبي الاخير والذي كانت له اصداء
كبيرة هناك ولكن سعادتي وفرحي يكمن في عودة جمهور السينما الى هذا التقليد
الثقافي الذي كنا نعيشه في السبعينيات والثمانينيات الذي بعدها هجرت دور
العرض الى يومنا هذا حتى وصل الامر الى ماكينات العرض السينمائي التي علاها
الصدأ.
وحول مشكلة (الصوت) التي رافقت عرض الفيلم اضاف متابعا... لقد شاهدت العرض
في دبي ولم تكن تلك المشكلة موجودة ولكن لضعف تقنيات ماكنة العرض حصل مثل
هذا الامر واضاف قائلا.. لقد اثبت عشاق السينما اليوم بانهم جاهزون
للمشاهدة رغم كل ما حصل من ظروف فلقد تدفق الجمهور بشكل اذهلنا جميعا وبذلك
لا نرضى على انفسنا عندما نطلق عبارة ترميم الذائقة السينمائية والذائقة
موجودة وبقوة من خلال هذا الحضور الكبير وكل ما يحتاجه المشروع السينمائي
في العراق هو دعم الدولة ومؤسساتها له فالبرغم من قلة الدعم وشحته حصلت
الكثير من الافلام العراقية على جوائز دولية وكبيرة في السنوات الاخيرة..الاخوة
الذين حضروا العرض بالممثلة العالمية ايريس باباس وهي تبحث عن ولدها في
فيلم (رياح الاوراس).
ياسر طالب 15 عاما احد ابطال الفيلم قال لم اصدق باني ارى نفسي بهذه الصورة
الجميلة التي جعلت الكثير من الحضور يحتضنونني ويرفعونني الى السماء وهذه
مسؤولية وساجتهد وانا الان في الصف الثالث المتوسط لاكمل دراستي لادخل معهد
الفنون الجميلة قسم السينما لاصبح احد نجوم السينما العراقية في المستقبل
جميل النفس مخرج سينمائي الذي حضر العرض قال لقد كان الفيلم خطوة كبيرة في
تاريخ السينما العراقية وهذا النجاح لا يحسب لمحمد الدراجي وحده بل معه
فريق العمل كذلك جرأة الفيلم في تناول مثل هذا الموضوع الحساس كما قدم
الفيلم روح التسامح والعدالة وكانت واضحة في مجريات الفيلم الذي قوطع
بالتصفيق على الكثير من احداثه المخرج المسرحي كاظم النصار قال ـ هناك
امران مهمان اولهما عودة الافلام العراقية من جديد وليس السينما التي هي
صناعة واموال وتقنيات والثانية هي ظاهرة هذا الحضور الكبير وهذه اشارة
واضحة للسياسيين قبل الفنانيين بان بغداد قادرة في اية لحظة على استعادة
عافيتها الثقافية من جديد وعلى هامش عرض الفيلم عقد مؤتمر صحفي حضره كادر
العمل مع عدد من وسائل الاعلام..
وفي سؤال (للصباح) عن وجود فيلم ثاني يحمل اسم (تحت رمال بابل) اجاب مخرج
الفيلم محمد الدراجي قائلا: نعم هناك هذا الفيلم ولكنه توقف العمل فيه
لاسباب فنية وانتاجية..
وفي ختام المؤتمر اعلن الدراجي عن النية لقيام مشروع دعم السينما العراقية
من خلال انشاء صندوق يتبناه مركز السينما العراقي المستقل.
الصباح الجديد
العراقية في
15/05/2010 |