أول ما يقفز إلى ذهن المتفرج فى هذا الفيلم هو سؤال: أين هى رسائل
البحر؟
فنحن لم نر سوى رسالة واحدة موضوعة فى زجاجة يصطادها «يحيى» مكتوبة
بحروف لاتينية لكن بلغة غريبة ليست معروفة لكل الجنسيات التى تعيش فى مدينة
الإسكندرية التى لا تزال تحتفظ بطابع كوزموبوليتانى عتيق، والحقيقة أن هذا
الفيلم يحتاج إلى أفق ذهنى ووجدانى متفتح وحر، فنحن أمام قصة عادية عن طبيب
شاب مصاب باللعثمة الكلامية يقرر بعد وفاة أهله أن يعود لمسقط رأسه فى
الإسكندرية يمارس عملا لا يحتك فيه بالناس كصيد السمك، ويتجول بحرية تاركا
نفسه لتيار الحياة، لكن فى مقابل تلك اللعثمة الكلامية والبراءة المغلفة
بفطرة طفولية نجد النماذج الإنسانية شديدة الثراء متعددة الدلالات بداية من
أسمائها وصولا لقصصها الحياتية وتدفقها الحياتى والكلامى.
مع تصاعد العلاقات وتشابكها بين «يحيى» وتلك الشخصيات، نكتشف أننا
أمام رسائل البحر الحقيقية، فكل علاقة تفصح عن رسالة إنسانية أو شعورية أو
وجدانية يتلقاها البطل، وبالتالى نتلقاها معه، ومن هنا يصبح لعنوان الفيلم
صلة وثيقة بمضمونه بل يصبح للفيلم ولعلاقاته وشخصياته مضمون أكثر عمقا من
مجرد التلقى السطحى.
السيناريو فى البداية يخلق شبه حالة توحد مع البطل من خلال الصوت
الداخلى الذى نسمعه للشخصية تعلق به على ما يحدث لها وكأنه يتحدث إلى نفسه
أو إلينا بشكل يمكن أن نعتبره صوتاً مضاداً للراوى العليم.
أى أنه لا يروى ولا يعلم ولكنه يتساءل ويبحث ويرصد أكثر مما يحكى أو
يعرف، وكلما أفرزت علاقته مع إحدى الشخصيات المحيطة به «رسالة» ما زادت
تساؤلاته وحيرته، فـ«يحيى» يكتشف أن كارلا حبيبته الإيطالية القديمة وجارته
فى بيت العيلة تحولت إلى امرأة سحاقية وتقبل اختيارها، بينما نجده مع
«فريدة» التى ظهرت فى حياته كـ«مومس» يرفض وضعها لأنه أحبها، وتصبح الرسالة
التى تأتى على لسان والدة كارلا (إذا أحببت الآخر فتقبله وإذ لم تستطع
فاتركه لكن لا تحاول أن تغيره).
بينما نجد علاقته مع قابيل البودى جارد تتسم بذلك التساؤل الوجودى
الرهيب (هل يقوم بعمل العملية ويفقد ذاكرته وبالتالى يموت الآخرون بالنسبة
له ويتحول هو إلى آخر بالنسبة لهم؟)، أما أزمته مع صاحب البيت (الحاج هاشم)
الذى يريد إخراجه من الشقة من أجل هدم العقار فهى أشبه بمواجهة الإنسان
لغول الزمن الذى لا يبقى على شىء.
إذن نستطيع أن نتصور لماذا لم يكن من المهم أبدا أن يفسر يحيى رسالة
البحر.. فكما قالت له فريدة فى النهاية «يكفى أنها رسالة من البحر لك».
يعيدنا عبدالسيد بصريا إلى كثير من موتيفات عالمه، فكما كان «يوسف» فى
«الكيت كات» ينام فى بطن المركب ويترك نفسه للتيار، نرى «يحيى» فى نفس
الوضع ومن نفس الزاوية العلوية لكنه مع «فريدة» التى تشاركه الإبحار
العشوائى فى بحر الحياة.
نحن لسنا أمام قصة «يحيى» التى يرويها أو يعلق عليها، بل أمام مشهد
روائى متعدد الأصوات التى تنطلق فى الفيلم لكى نسمعها نحن، والرسائل تكتب
لكى توجه إلينا.
المصري اليوم في
17/02/2010
داوود عبدالسيد فى ندوة «المصرى اليوم»:
«رسائل البحر» عن
العلاقات الإنسانية.. ويوجد تيار منظم
يحاول إفساد
السينما
أعدت الندوة للنشر
نجلاء أبو النجا
داوود عبدالسيد واحد من مخرجى الثمانينيات الذين صنعوا الموجة
السينمائية الجديدة بأفلامهم المهمة ذات المستوى السينمائى الراقى، ومنذ
قدم فيلم «مواطن ومخبر وحرامى»، يعود المخرج الكبير بعد سبع سنوات بفيلم
«رسائل البحر» الذى يختلف تماما عن أفلامه السابقة، بل يعتبر نقلة فى
مشواره السينمائى المهم خاصة على مستوى الصورة المبهر ورسم الشخصيات الثرى
بالتفاصيل الإنسانية.
■
كيف بدأت معك فكرة الفيلم، ولماذا تأخر سبع سنوات حتى يخرج للنور؟
- الفكرة كتبتها عن طريق علاقة وجدانية بحتة مع شخصيات داخلى أردت أن
أعبر عنها وأتعايش معها، فالفيلم حكاية أحبها وشخصيات أريد أن أوضحها،
وشعرت بشحنة داخلى تدفعنى للتعبير عن هؤلاء البشر وكيف يعانون فى المجتمع
وكيف يواجهون المشاكل ويحبون أنفسهم ويتصالحون مع ذواتهم، وكيف يتصرف معهم
القدر وبصراحة، لم يكن لدى هم اجتماعى أو سياسى بل مجرد أحاسيس وجدانية
فقط، وسبب تأخر تنفيذ الفيلم مشكلات إنتاجية بحتة، فلم تكن هناك جهة متحمسة
لإنتاجه حتى تحمست «الشركة العربية» ووزارة الثقافة، ولولاهما، ربما لم يكن
الفيلم رأى النور حتى الآن.
■
لماذا اخترت الإسكندرية مكانا لأحداث الفيلم؟
- لأنها مدينة شديدة التكامل فى السحر والإبداع والشاعرية والصور
الجمالية بالإضافة إلى أنها ملتقى حضارات وأديان، وعندما أعبر عن التسامح
الدينى والثقافى فيها لن يكون الامر مبالغاً فيه.
■
ألم يتسبب تأجيل الفيلم لسنوات فى عدم معاصرة الأحداث للوقت الحالى؟
- هذا الفيلم بالذات يمكن عمله بعد عشر سنوات أو قبل عشر سنوات، فعنصر
الزمن فيه غير محدد، وأنا أتكلم عن مشاعر وأحاسيس انسانية لا تتغير،
فالانسان هو الانسان مهما اختلف الزمن، وقد جاءتنى تعليقات غريبة مثل أن
الفيلم لا يوجد فيه موبايلات ولا تليفونات، فضحكت لأن الموبايلات أصبحت سمة
فى أفلامنا حتى إن لم يكن لها ضرورة درامية، وهذا خطأ فنى واضح.
■
رسالة الفيلم يطغى عليها الطابع الفلسفى، فهل تعمدت وجود أكثر من مستوى
للتلقى؟
للأسف الناس تعودوا على أن يدخلوا الأفلام ليخرجوا بمضمون أو مورال،
وهذا خطأ كبير، فليس من المعقول أن نلخص كل مسرحيات شكسبير مثلا فى عدة
نقاط ونختصر إبداعها الفنى، ودور الفن أن يقدم عملاً عميقاً ويتركك تكتشف
هذا العمق بنفسك مثلما تشاهد البحر وتشعر أنك تريد أن تعرف ما فى أعماقه،
وفى «رسائل البحر» أحكى عن شخصيات وأقدار، وعلى الناس اكتشاف المعنى
والشعور فيه، وأعتقد أن العلاقات الإنسانية هى مضمون الفيلم، وليس شيئا
آخر.
■
هناك بعض الاراء ترى أن جماليات الصورة فى الفيلم أعلى من مضمونه؟
- أنا لا أوجه رسائل مباشرة، وإذا اعتبرنا المباشرة هى المضمون فماذا
نستفيد عندما نسمع الموسيقى التى تخلو تماما من اى رسالة موجهة، والذين
يريدون رسائل واضحة ومواعظ مباشرة عليهم متابعة نشرات الاخبار فهذا أفضل
لهم وأكثر مباشرة، ولا أعتبر الكلام عن أن صورة الفيلم أو شكله أعلى من
مضمونه لان فى السينما الشكل هو المضمون، والمضمون هو الشكل.
■
ترشيح آسر ياسين للدور الذى كان سيجسده الراحل أحمد زكى، هل تعتبرة مجازفة
خاصة أن أى مقارنة مع احمد زكى تكون خاسرة؟
- بصراحة شديدة شخصية «يحيى» تناسب آسر ياسين أكثر، وإن كان المشروع
فى السابق قد طرح بينى وبين أحمد وهذا ليس معناه أن يكون هناك خوف من عمل
ممثل آخر للدور، واحمد زكى كان عملاقا فى التمثيل وقيمة لا يستهان بها،
لكنه ليس (سقف ) التمثيل، وهو كممثل له أفلام جيدة وافلام أخرى غير جيدة
مثل أى شخص، ولا أخاف من فكرة المقارنة.
■
دور البطلة جرىء جدا، فهل وجدت صعوبة فى اختيار ممثلة للدور فى ظل سيطرة
تيارات السينما النظيفة؟
- للأسف الشديد نحن نعانى من أزمة سيطرة تيارات بعينها على السينما
وعلى أفكار الممثلين، وأنا من جيل لم يكن عنده عقد على كل المستويات
السينمائية سواء فى الإخراج أو التمثيل، لكن أجد تيارات منظمة تحاول افساد
السينما ومهاجمة أى ممثلة تقبل دوراً فيه بعض الجرأة، رغم أن الحكم
الأخلاقى على الممثلة لا يجب أن يتحدد وفق دور حتى لو كان جريئا، فهذه
سذاجة غير مقبولة لأنها فى النهاية ممثلة، والمفروض أننا لدينا الوعى
الكافى للفصل بين أخلاق الإنسانة والدور، وللأسف نحن فى حرب بين جبهة
المحاربين للفن المنظمة، وجبهة التيار التنويرى العشوائية، وأنا شخصيا
سأدافع عن حريتى ولا أنكر أن هناك أزمة فى الممثلات، لكن بالنسبة لدور
«نورا» الذى لعبته بسمة لم أجد فيه مشكلة وكنت مقتنعاً ببسمة تماما.
■
قدمت فى الفيلم مشاهد حميمية، وعبارات جريئة بالإضافة غلى علاقة شذوذ صريحة
بين فتاتين، ألم تتوقع هجوما حادا؟
- لماذا تثير هذه المشاهد أزمة أو هجوما، بينما لا تثير مشاهد أكثر
خطرا من وجهة نظرى مثل مشاهد العنف والدم والإسفاف والتفاهة نفس الهجوم،
والإجابة هى أن المجتمع أصبح يعانى من عقدة الجنس أو ربما الكبت الجنسى،
فكل ما يتعرض من بعيد أو قريب للجنس أو للعلاقات نهاجمه دون وعى، وهذا رد
فعل مرضى، يدل على أننا أصبحنا لا نفكر إلا فى الجنس، وفى الفيلم، لا أجد
مشاهد حميمية بالمعنى الصريح إلا مشهد قبلة «نورا» و«يحيى» فى مدخل المنزل
ولها ضرورة درامية، ومشهد الشذوذ بين الفتاتين كان شديد النعومة وإيحائيا،
وفكرة الشذوذ لها مبرر درامى قوى فقد فضلت الفتاة الإيطالية علاقتها الشاذة
مع فتاة أخرى حتى تتمرد على حبها لـ«يحيى» الذى يربطها بمصر خاصة أنها تريد
العودة إلى إيطاليا.
■
لماذا بررت العلاقة غير الشرعية بين «يحيى» و«نورا» فى حين حرمت العلاقة
الشرعية بينها وبين زوجها؟
- مبدأ التحليل والتحريم لا أتطرق اليه، ولا أتدخل فى الدين أو أناقشه
إطلاقا، لكن باختصار شديد هناك معنى مهم فى هذه العلاقات المتشابكة هو أن
الزواج على أسس خاطئة خطير جدا وأى شىء لا يتم على أسس صحيحة هو أقرب إلى
الحرام، فالرجل الذى يتزوج دون وجود أسس إنسانية أو مشاعر أو علاقة صحيحة
مع زوجته يعيشان زواجا خاطئا وخطيرا جدا، فأى شىء حتى لو كان فى ظاهره سليم
شرعا وقانونا، لن يكون صحيا طالما يفتقد فى جوهره الأسس الإنسانية.
■
شخصية «قابيل» التى لعبها محمد لطفى تبدو إسقاطا على حكاية قابيل وهابيل،
والندم على أول حادث قتل فى التاريخ، هل هذا صحيح؟
لا أحب ربط الأسماء بحكايات، فلو كان اسم الشخصية «خالد» هل كان سيتم
الربط بين توبة الشخصية عن القتل وبين حكاية قابيل وهابيل؟ بالتأكيد لا،
وهدفى من شخصية «قابيل» رفض مبدأ العنف والقتل والدم واستخدام القوة
البدنية مهما كانت متوفرة، وهذا هدف أعمق من فكرة الاسم.
■
بداية علاقة البطل بالبطلة حيث يذهب كل يوم تحت منزلها ليسمع فقط موسيقى
تعزفها دون أن يراها أو يعرفها، بناء يتجاوز الخيال إلى المبالغة؟
- قد يكون خيالاً بالنسبة للبعض لكن هذا السلوك مناسب تماما لشخصية
«يحيى» الشاب الرومانسى الحالم عاشق الموسيقى، فهو طفل كبير وبرىء، ويجد فى
الموسيقى متعته، وقد لا يكون هذا السلوك غير مناسب لشخص آخر غيره، و الخيال
مطلوب مادام مناسباً للشخصية.
كلام «يحيى» الموجه للبحر : «إنت إديتنى رزق وأنا مش محتاج ودلوقتى
بتحرمنى، ليه؟»، و لجوئه له فى السراء والضراء، وحالة المناجاة المستمرة،
جعلتك تضفى صفة الألوهية على البحر. لم أقصد أن البحر هو الله أو الرب،
ولنقل أن البحر قوة كونية عظمى أو رمز من رموز قوة الطبيعة، وقد فوجئت قبل
التصوير أن الرقابة تطلب منى فى مشهد مخاطبة «يحيى» للبحر أن ينظر للبحر
مباشرة، وألا يوجه نظره إلى السماء حتى لا يفهم أنه يتحدث مع الله، ووقت
التنفيذ صورته وهو يخاطب البحر وجعلت نظرته حائرة غير محددة.
■
فى آخر مشاهد الفيلم، ووسط آلاف الأسماك المقتولة بفعل الديناميت، ظهر
البطل والبطلة فى مركب اسمه «القدس»، فهل للاسم مدلول سياسى؟
- قد يكون خطأ غير مقصود منى أن أترك اسم المركب يظهر، ولكن أنا مع
الحرية وكل شخص حر فيما يفهمه، فهناك من رأى أن القدس تسبح وسط الديناميت
والعنف، وهناك من لم يلتفت للموضوع، وعموما الفن وجهات نظر وتذوق وإحساس
يختلف من شخص لآخر.
■
بعض الآراء ترى أن هذا الفيلم هو الأفضل فى تاريخك، هل توافق على هذا
الحكم؟
- أنا شخصيا لا أستطيع أن أقيم نفسى، فكل عمل هو تجربة حياة بالنسبة
لى، وإذا أعجب البعض الفيلم لدرجة أنهم رأوه الأفضل بالنسبة لى فهذا رأيهم،
ولا أعتبر ذلك ظلما لأعمالى السابقة لأنى أعتبرها جميعا أولادى.
المصري اليوم في
17/02/2010 |