هناك نوعية نادرة من الأفلام لا يصح معها أن نحكي حدوتها للقارئ.
لأنها تعتمد في الأساس علي لغة الصورة لا علي لغة الحكي كما اعتدنا في
دراما المسلسلات وأفلامنا التقليدية السقيمة الزاخر بها تراثنا السينمائي
قديمه وحديثه.. لذلك تصبح بلاغة الصورة هي مفردات اللغة السينمائية وهي
المركب الجديد لعصارة فكر المخرج وفنه!!
هذا ما ينطبق علي فيلم المخرج الكبير داود عبدالسيد "رسائل البحر"
الذي يعد تحفة فنية بكل المقاييس.. قد نختلف مع مضمونه الذي قد يراه البعض
مدمرا.. ولكننا لا نستطيع بأمانة إلا أن نقع في غرام اللغة البصرية الجذابة
التي عبر بها عن مشاعره تجاه الحياة و الحرية. وضياع الأصالة والتراث مما
قد يجعلنا شعوبا مصابة بمرض التأتأة أو الثأثأة وضعف النطق وكأننا أطفال
نبدأ من جديد.. برغم كل ما نحمله خلفنا من شهادات علمية وحضارة وتاريخ..
للأسف ضاعت في هذا "المسخ" الذي سبق أن أشار إليه عادل إمام في "عمارة
يعقوبيان".. وهو ما رمز به للبطل يحيي "آسر ياسين" الذي يعاني اضطرابا في
النطق رغم أنه متعلم.. وأعتقد أن هذه هي أهم رموز الفيلم التي نحاول
قراءتها مع أديب السينما الذي يفضل التفكير البصري في كل أفلامه!!
إن "يحيي" اسم مشترك يجمع بين المسلم والمسيحي.. والاسكندرية موقع
فريد وعالمي يجمع بين كل الحضارات.. وحبيبته القديمة كارلا "سامية أسعد"
تعيش مع أمها الايطالية فرانشيكا "نبيهة لطفي" في أمان. إلي أن يجئ رأس
المال الوحش "صلاح عبدالله" ليلتهمهما. وحتي حبيبته الجديدة نورا "بسمة"
فقد بيعت في سوق النخاسة لعجوز ثري "أحمد كمال" رغم احتفاظها لا تزال
بأنامل تعزف الفن في العواصف والأعاصير.. أما هو فرغم اضطرابه في النطق
الذي جعله يهجر مهنة الطب للصيد. لأنه ليس مثل زملائه الأطباء المتكلمين
بطلاقة وببجاحة. وبالتالي واخدين حقوقهم وزيادة في عصر العولمة.. إلا أنه
لم يفقد قدرته علي تلقي الفن المحترم بالاستماع إلي عزف منفرد علي البيانو
من شباك في الشارع.. و هو الذي قاده الي التعرف علي فتاة مثله محبوسة
بالقهر من أجل المتعة الحسية فقط. ثم يعيش هو معها بنفس المنطق!!
يدور الصراع النفسي بين كل هذه العناصر البشرية التي تتوق الي
الحرية.. وإلي الأصالة والمعرفة والحفاظ علي تراثنا الانساني الزاخر في وقت
يريدون فيه بيع آثارنا والاتجار فيها. كما أحلوا التجارة في أعضائنا
البشرية!! لذلك نستمع كثيرا لأغاني أم كلثوم مع موسيقي راجح داود التي تهدف
بدورها إلي معني الحياة وتعبيرا عن اصطدامها بالصخر الجاف كجفاف أيامنا..
أما الصورة فحدث عنها ولا حرج.. من أول تلك البانوراما المعمارية في فصاحة
المشهد الاسكندراني الأصيل الرامز للمشهد المصري الصميم. وحتي هياج العواصف
والموج الذي كاد يقتلع كل شيء من جذوره وهو ما مكن مدير التصوير أحمد
المرسي وسينوجرافية أنس أبوسيف من توظيف رؤية المخرج في ابراز المكان كقوة
مؤثرة في الفيلم ومعبرة مع شريط الصوت في تناغم بليغ عن المحتوي.. وهو ما
يستحق بالفعل دراسته ضمن جماليات فن السينما!!
والرسائل هنا هي المعامل الموضوعي للتعبير عن احتياج الانسان للخبر
والمعرفة عن معني الحياة.. والبحر هو المعادل الموضوعي للمجهول.. وللأسف لم
يستطع فنان السينما استخدام هذه الرموز لتوصيل معني أعظم. واكتفي بمعني
"الحرية المطلقة" لا المسئولة التي لن تتحقق بسبب النظم والمعتقدات من
ناحية. والعولمة من ناحية أخري. وحتي الرزق أصبح "احتكاريا" وليس موجودا في
البحر بكثرة كما رسمه في المشهد الأخير!!
ومازلت أري أن داود أكبر من أن يبحث عن صيغة تجارية بعرض مشهد
السحاقيات ويربطه بالحرية المطلقة التي ينادي بها.. صحيح لم يتعامل معه
بابتذال واكتفي باللقاءات الموحية بين الفتاتين.. ولكن يظل المعني سخيفا
ويدق إسفينا في منظومة الأخلاق التي يعتقد بعض المبدعين عندنا خطأ أنها من
التراث .. وهو تناقض مذهل بين الرغبة في الابقاء علي الأصالة. والمطالبة
بالتحرر التام المؤذي للإنسان!!
نهي داود فيلمه بترك الدنيا والهروب مع الحبيبة إلي البحر رغم انه في
امكانها بعد طلاقها أن تتزوجه. بل وتخلت عن جنينها منه.. وأري أنه هروب ليس
له ما يبرره. خاصة حينما وجد كل منهما الآخر.. وليس رمز السمك أو الرزق
الوفير يتحقق للهربانين .. بل للذين يكونون أسرة تحيا بالطريقة التي
تريدها.. لأن الانفلات لا يجلب رزقا .. بل يجلب فقرا!!
Salaheldin-g@hotmail.com
الجمهورية المصرية في
11/02/2010
رسائل داود عبدالسيد
عزت القمحاوي
أوشك الجراد أن ينتهي من كل أخضر في مصر، ومع ذلك ليس لمحبيها أن
يقنطوا؛ فتحت اليباس ثمة خضرة تنسج ربيعها. والبرهان على أن هذا البلد لا
يموت موجود في قلة من المبدعين تقدم دليل الحياة.
من هذه القلة صانع الأفلام داود عبد السيد، الصبور، المراوغ كفلاح لا
يتعجل الحصاد.
لا يسعى داود إلى مراكمة الأفلام. تمر سنوات يبدو فيها كمتعطل، لكنه
لا يخرج من سنوات عزلته إلا ببشارة تستحق ما قضى من صمت وما عاش من بطالة
مبدعة.
'رسائل البحر'، جديد داود، فيلم مربك في جماله، من السهل أن نشاهده
وأن نستمتع بنعومته، وأن نشكر الطاهي في قلوبنا، لكنه بكل أسف يحرض على
ارتكاب حماقة الكتابة والتعليق، وهذا أسوأ حادث يمكن أن يقع لفيلم كهذا.
من السهل أن نقول إن هذا الفيلم يقاوم اليباس بذاكرة الخضرة، ويكافح
الجراد الذي لا يرى غير خرابه بدعوة شفيفة للتعايش وقبول الاختلاف. ولكن
رسائل داود في هذا الفيلم ليست بهذه البساطة ولا يمكن أن تصل باللغة نفسها
والمعنى نفسه لكل من يتلقاها؛ فهي تتعدد بتعدد المشاهدين وظروف المشاهدة.
' ' '
الذاكرة النصية ستحتفظ بالحوار الشعري، الذي لا توجد فيه كلمة واحدة
زيادة على ما يقتضيه الحال، والذاكرة التي تحتفظ بالصور لديها أيضاً من
الشعر ما يثقلها، ولدى الروح ما يحملها على الخفة.
يحيى الطبيب المتلعثم، المنطوي بسبب ذلك، يترك الطب وفيلا العائلة في
القاهرة ليعيش في شقة العائلة في الإسكندرية صياداً هاوياً، يجاور سيدة
إيطالية وابنتها، وما أن يستعيد الشاب والشابة ذكريات الطفولة ويضعان عليها
أساس حب الناضجين حتى تتجه الفتاة إلى علاقة مثلية، ويعثر يحيى تحت المطر
على شابة جميلة، تحبه لكنها تتمسك بعملها في أقدم مهنة في التاريخ، ثم
نكتشف بعد ذلك أنها لا تخرج مع زبائن متعددين، بل مع رجل واحد ثري وسخيف في
زواج سري اعتبرته بحساسيتها دعارة!
هذا تقريباً كل ما في الفيلم إن شئنا تلخيصه، بنية خبيثة أو بذائقة
فاسدة، كبعض جمهور الصالة الذي يتساءل 'فين القصة؟' عندما يرى هذا الخط
الأساسي 'يحيى' و'بسمة' لكن قابيل البودي غارد موجود أيضاً، بعد أن ضرب
ثلاثة من الشباب أصاب أولهم بارتجاج في المخ، والثاني بكسر في ضلعين،
والثالث .. مات!
قابيل الطيب حارس يطلع يحيى على سره، لن يضرب أحداً بعد معتمداً على
أن زبائن الملهى سيرتدعون بمجرد رؤية بنيته القوية ولن يكون بحاجة لأن
يضربهم أبداً، لكنه يقع في نوبة صرع ويأخذه يحيى إلى الطبيب فيكتشف ورماً
في المخ، ويرفض الجراحة لأنها ستفقده حياته أو ذاكرته، وفي الحالتين يكون
الشخص الذي اسمه قابيل قد مات، وعندما يقتنع بالجراحة يجلس مع رفيقته
يلقنها أسماء أسرته وأصدقائه لتذكره بهم إن نسي.
لا يمكن الاسترسال في كل الخطوط التي تبدو روافد لبحر داود، ولا يمكن
إغفال التقاطع مع الديني في الأسماء والأفعال، فالبطل الذي يحمل اسم يحيى
متلعثم مثل موسى، وكان يأخذ أخاه معه ليفقهوا قوله، وبسمة هي مريم المجدلية
التي ليس من حقنا أن نرميها بحجر، وقابيل تاب بعد خطيئة أولى فيها قتيل
ومصابان.
' ' '
كل توغل في التأويل قد ينقلب إمعاناً في إيذاء الفيلم، بينما أريد هنا
أن أعبر عن بهجة خرجت بها من صالة العرض.
بهجة الصور الشعرية، هي سر عظمة الفيلم.
عشق العمارة يجعل كاميرا داود تتصيد جمالياتها، تتحسس المقرنصات
وتحتضن تيجان الأعمدة وتتمشى في رحابة المداخل بتماثيلها الرومانية. هذا
العشق موجود بوفرة في 'رسائل البحر' لكن البحر موجود هنا أيضاً في
الإسكندرية بنواته العنيفة وجمالها الوحشي والكاميرا تتنفس الهواء الرحب مع
مجاز البلل.
تبدو كل لقطة في الفيلم لوحة، وراء بساطتها المغوية جهد وخبرة وحب
للكائنات والأشياء يصل إلى حد الاتحاد الصوفي. ولم يمنع هذا التصوف
الكاميرا من أن تكون قليلة الأدب!
لا يمكن للعين أن تخطئ أكثر الحوارات بذاءة على الرغم من رمزيتها
المهذبة التي أدارها داود بين يحيى وصاحب العمارة الذي يسعى إلى طرده من
شقته بالقوة لكي يهدم البناية ويقيم غيرها. يستدعي 'الحاج' الساكن الشاب
إلى السوبر ماركت الذي يملكه ويأمر بإفطار فاخر فيه الفواكه والأجبان.
إفطار عمل، وإن شئنا: إفطار تهديد، حيث يحاول الحاج البلطجي إقناع
الشاب بأن يأخذ ما يعرض عليه من مال مقابل إخلاء الشقة ويسأله: 'هتقول آه
ولا لأ، لأن اللي مش هيقول آه، في الآخر هيقول آاااه'. الآه الأولى في هذا
الحوار تعني نعم موافق، والآه الثانية تعني الألم، قالها المعلم بينما كان
يلوح ليحيى بإصبع البقسماط؛ فإذا بالشاب يرد بالتلويح بالتفاحة.
الرمز الجنسي في إصبع البقسماط واضح، بينما يشير لون التفاحة إلى رد
يذكر باحمرار مؤخرة القرد، ويمكننا الاسترسال في رسائل الكاميرا، حيث
الكثير من الذكاء يبلغ ذروته في مشهد النهاية.
الحاج صاحب البناية يحب أن يصيد السمك بالديناميت. يفجر البحر ويجمع
السمك الميت من فوق سطح الماء، وعندما لا يجد طريقة لإخراج يحيى يدفع
ببلطجية من أتباعه ليقتحموا عليه الشقة وهو مع حبيبته بسمة، وينتهي الفيلم
بهما معاً في مركب يتقاذفه الموج وسط أسماك الحاج الميتة، وينتهي الفيلم
على لقطة بعيدة تجعل الحبيبين سمكتين من الأسماك المغدورة.
ويبدو أن الممثلين آسر ياسين وبسمة ومحمد لطفي وصلاح عبد الله
والمخرجة البديعة نبيهة لطفي وباقي طاقم الفيلم كانوا أول من تسلم رسائل
داود واستمتع بها؛ فعاشوا أدوارهم ولم يؤدوها، وقدموا معه برهاناً ناعماً
على الحياة في مواجهة براهين الموت الخشنة.
نقلا عن القدس العربي
المقتطف الإعلامي في
13/02/2010 |