يظهر مرة كل عدة سنوات.. يحاول جاهدا أن يقدم ما يحلم به، ما يؤمن أنه
سينما حقيقية.. لا يزعجه أبدا أن يقدم مخرجًا مثل خالد يوسف، عشرة أفلام فى
خمس سنوات.. فهو يقدم فيلمًا كل خمس سنوات وأحيانا كل عشر.. لا ينزعج داوود
عبد السيد من أن يقدم فيلما بميزانية ضعيفة، لكنه لا يقدم فنا ضعيفا أبدا..
لا يؤمن بمعارضة السينما النظيفة على طريقة خالد يوسف وجرجس فوزى
بتقديم مزيد من العرى المكثف، لأنه يؤمن بما هو أهم وأكبر, إنه يؤمن بحرية
الفن التى هى امتداد لحرية الجسد والعقل.. حين قدم رائعته "الكيت كات" لم
يكن ينوى أن يقدم فيلما عالميا عن حى مصرى فقير فى منطقة إمبابة، لكنه قرر
أن يقدم عملا مختلفا عن رواية عظيمة كتبها إبراهيم أصلان بعنوان "مالك
الحزين"..
المشاهدون العاديون أحبوا شخصية "الشيخ حسني" وأحسوا أن الشوارع التى
عاش فيها تشبه شوارعهم ومنازلهم.
والمثقفون والنقاد رأوا فى هذا الفيلم تحفة فنية كاملة المواصفات،
سواء على مستوى الصورة أو على مستوى الأداء التمثيلى المبهر لكل الذين
عملوا فيه.. وظل عبد السيد غائبًا، ليظهر بـ"سارق الفرح" بعد سنوات، وبـ"أرض
الخوف" بعد سنوات بعيدة، وبفيلم "مواطن ومخبر وحرامي" بعد سنوات أبعد..
وخلال هذه الفترة، كانت سينما داوود عبد السيد الغائب الحاضر فى السينما
المصرية.. نشتاق اليها ولا نطولها أبدا.. نحلم بها بينما المنتجون يفرضون
علينا كابوس اللمبي..
وخلال الأيام الماضية، حدثت انفراجة مع عرض فيلم جديد لداوود عبدالسيد
وهو فيلم "رسائل البحر" الذي ظل يعمل عليه لمدة خمس سنوات متواصلة، دون أن
يجد له إنتاجا، حتى قررت الشركة العربية للإنتاج السينمائي المغامرة
بإنتاجه بميزانية محدودة، لكنها كانت كافية لأن يقوم داوود بعمل حاز على
إعجاب الجميع حتى الآن..
ومن بين حواراته القليلة، أجرت الإعلامية رولا خرسا حوارا مع المخرج
الكبير فى برنامجها "الحياة والناس" على تليفزيون الحياة.. فى حلقة رشيقة
عرضت فى 7 فبراير، تحدث فيها داوود عبد السيد عن فيلمه الجديد "رسائل
البحر"، بطولة عدد من الفنانين الشباب مثل آسر ياسين وبسمة ومحمد لطفي ومي
كساب.. فانتقد عبد السيد ممارسات الرقابة مع بعض الأفلام، وآراء الجماعة
الدينية في بعض الأعمال الفنية. وقال: إن العديد من المواطنين أصبحوا
يشعرون بالقهر وعدم الأمان، وهذه العناصر أحرصُ على ظهورها بوضوح في أفلامي
لأنني أحب الواقعية أكثر من الخيال.
من المعروف أن فيلمه الجديد، تم إدراجه مع الأفلام التى تحمل إشارة
"للكبار فقط"، لأن الرقابة رأت أنه يتناول قضايا حساسة. وعن ذلك علّق
المخرج الكبير، وقال: ألجأ إلى لافتة "للكبار فقط" في أي فيلم سينمائي،
عندما يكون لها وظيفة. مثل احتواء الفيلم على مفاهيم كبيرة على الأطفال.
وهذه اللافتة لا أحبها ولا أكرهها. وما تقوم به الرقابة مع بعض الأفلام
يؤدي إلى تجميد المجتمع وعدم تحديثه. والمسئولون في الرقابة أحرار لأن لهم
الحق في قمع الأفكار وفقا للقانون.
مشددا على أنه توجد فئة معينة تستهدف تحويل مصر إلى دولة دينية، وهذه
المحاولات يتصدى لها النظام بشكل "أمني"، لكن الأهم من ذلك أن يتم التصدي
لها بشكل فكري وثقافي لضمان تغيير تفكير هذه العناصر إلى الأفضل. وأنا لست
من محبي المشاركة في المظاهرات أو الوقفات الاحتجاجية، لكنني شاركت مرة مع
زوجتي الكاتبة الصحفية كريمة كمال في مظاهرة تضامنا معها. مضيفا: القهر
أصبح شيئا معتادا فى المجتمع المصرى، وشعور المواطن بالقهر يؤدى لشعوره
أيضا بعدم الأمان. وهذا ما يظهر بوضوح في أفلامي، لأننى أنقل صورة من
الواقع وليست صورة خيالية.
وشدد داوود على أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب، لكن
الديمقراطية الحقيقية هي ما بعد الفرز حتى يتم الإعلان عن النتيجة التي
تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب. وأشار إلى أن فكرة فيلم "رسائل البحر"
تركز على أن كل إنسان يتم إرسال رسالة إليه، وأحيانا لا يعرف معناها ولا
يتوقف أمامها، إلا فى آخر عمره. ويركز الفيلم أيضا على أننا نولد في ظروف
معينة، ولا نختار الزمن الذي نعيش فيه أو الأسرة التي نتربى فيها، وأن
أشياء قدرية تحدث لنا بدون أن يكون لنا يد في حدوثها. ويؤكد الفيلم أيضا
على ضرورة تقبّل الحياة بحلوها ومرها، بمتاعبها ومشاكلها وأفراحها أيضا.
وأكد داوود عبد السيد أن تنفيذ أي فيلم من البداية وحتى النهاية بما
فيه من اختيار الممثلين وفريق العمل، لا بد وأن يكون بناء على وجهة نظر
متفق عليها بين المنتج والمخرج. فلا يفرض أحد وجهة نظره على الآخر بدون
أسباب مقنعة. وقال عبد السيد: "لا أشاهد كل الأفلام التي تعرض بالوقت
الراهن، لكن أشاهد الملفت منها فقط، مثل أفلام المخرجة كاملة أبو ذكري التى
تثير إعجابي".
وأكدت الفنانة بسمة، وهي من بطلات الفيلم الأخير، في مداخلة هاتفية،
أنها لا تحب ولا تعترف بما يطلق عليها السينما النظيفة وأفلام المهرجانات
وسينما الشباب، لكن يوجد سينما جيدة وأخرى سيئة، ومع المخرج الكبير داوود
عبد السيد لدينا ضمان أن أفلامه تصنف ضمن الأفلام الجيدة.
بأفلام داوود عبد السيد تستطيع السينما المصرية أن تتحدى مفاهيم
السينما النظيفة التي تطلقها مجموعات الضغط الدينية من جهة، ومجموعات
السُّبْكيّة للإنتاج السينمائى الهابط من جهة أخرى.. كما تستطيع مواجهة
تيار سينما الوعى الكاذب التي يقودها خالد يوسف.. أفلام داوود عبد السيد
تكشف عن مواهب حقيقية كما تكشف عن كابوس تعيشه السينما المصرية، ولا تفيق
منه إلا لحظات.. ثم تعود الى النوم من جديد.
السياسي الإلكتروني في
09/02/2010 |