فاقت التحية التي وجهها الجمهور الألماني
للفلسطيني أبو احمد عند صعوده المنصة، بعد انتهاء عرض الفيلم التسجيلي
«بدرس»، تلك التي استقبل بها مخرجين أو نجوماً في مدينة برلين، والتي تشهد
الدورة الستين من مهرجان برلين الدولي، الذي يختتم أيامه يوم الأحد المقبل.
أعاد ابو احمد، القادم من قريته الفلسطينية الصغيرة في الضفة الغربية، في
نقاشه مع الجمهور الألماني، التأكيد على الأفكار السلمية اللافتة، والتي
قدمها الفيلم، في مرافقته محاولات القرية، والتي لا يتعدى سكانها الألف
وخمسمائة شخص، لمنع الحكومة الإسرائيلية، من تمزيق قريتهم بالجدار العازل.
تقدم المخرجة البرازيلية جوليا باخا، التي أخرجت هذا الفيلم المؤثر وعرض في
برنامج بانوراما، قرية فلسطينية مجهولة تتعرض حياة سكانها الى محنة كبيرة،
بسبب
جدار سيمنعهم من الوصول الى حقولهم واشجارهم، لكن هذه القرية اختارت عدم
التورط في
العنف او الترويج له. فالقرية التي يمثلها أبو احمد الأربعيني، الذي سجن
خمس مرات
بسبب نشاطه السياسي، اختارت الاحتجاج السلمي، لتهز الصورة المهيمنة في
الإعلام، عن
فلسطينيين فقدوا ثقتهم بأي شكل سلمي، من المقاومة ضد السلطات الاسرائيلية.
كذلك
يسجل الفيلم، العمل المشترك لناشطي السلام الإسرائيليين، مع الفلسطينيين،
ضد الجدار .
وإذا كان فيلم «بدرس»، قد نجح في لفت انتباه الجمهور والصحافة الألمانية،
فقد
فشل فيلم تسجيلي آخر، يتعرض الى قضية معاصرة أخرى، شغلت الرأي العام
العالمي لهذا
العام، في تقديم عمل مؤثر، ففيلم «أحمر، أبيض والأخضر» للمخرج الإيراني
نادر
داوودي، والذي يقدم الشارع الإيراني المنقسم بين مرشحي الرئاسة الإيرانية
الأخيرة،
لم يقدم اكثر من مقابلات رتيبة، لم تحمل، ذلك التفجر، الذي حملته الأفلام
السرية عن
الشارع الإيراني، التي صورت عن طريق كاميرات الهواتف المحمولة، وانتشرت على
مواقع
الانترنيت من منتصف شهر يونيو، واستمرت لعدة اشهر بعدها.
وحضرت السياسة، وتوترات السنوات الاخيرة، في الكثير من افلام هذه الدورة من
مهرجان برلين السينمائي، فهي هيمنت مثلا على فيلم «الكاتب الشبح» لرومان
بولانسكي،
والذي عرض في المسابقة الرسمية، بغياب المخرج، الموجود تحت الاقامة الجبرية
في
سويسرا.
فالمخرج الذي يقال انه اراد تقديم شخصية تشبه رئيس الوزاء البريطاني السابق
توني
بلير، قدم واحدة، اقرب الى الرئيس الامريكي السابق ايضاً جورج بوش!. فلا
تشابهات
كبيرة على الاطلاق، بين الشخصية الاساسية في فيلم بولانسكي، وتوني بلير،
سوى المنصب
الذي تقلداه، والجنسية البريطانية التي يحملاها. والمفارقة مع وقت عرض
الفيلم، انه
يأتي مع النقاش الذي يتصاعد عن دور توني بلير في قرار الحرب الاخيرة في
العراق،
والذي رد في طلات تلفزيونية شديدة القوة والفصاحة عن قرارات الحرب تلك.
في فيلم «الكاتب الشبح»، يعود الماضي، بجرائمه هذه المرة، لمحاسبة رئيس
الوزراء
البريطاني، الذي يعيش في الفيلم في جزيرة اميركية معزولة، عاكفاً على كتابة
مذكراته، التي سيساعده فيها كاتب شاب (يقوم بالدور الاسكتلندي ايوان
مكريغير). لكن
الحياة الهادئة سوف تنتهي قريباً، بسبب تفجر قضية تخص تعذيب سجناء
بريطانيين مسلمين
في عهد رئيس الوزراء البريطاني السابق. قضية التعذيب هذه، تذكر الكثيرين
بحروب
افغانستان والعراق، لتبدأ حملة قوية على الرئيس البريطاني الضعيف الشخصية.
يتجه الفيلم في معظمه الى البحث عن دور وكالة المخابرات الأميركية في
العالم. هو
هنا لا يقدم جديداً مختلفاً، عن كل القصص التي قدمت في الماضي، ولم تعد تهم
الكثيرين. فلم يعد تورط المخابرات الأميركية ، بأحداث بعضها غير قابل
للتصديق يثير
الاستغراب ، حيث صار من الممكن التساهل في محاسبة جدية «قصص التورط هذه» مع
موجات
العداء للولايات المتحدة الأميركية.
كذلك يحمل بناء الفيلم مشاكل كبيرة، بعضها جدية، ولا تنسجم مع الحياة
الفعلية.
فقضية مثل «تعذيب سجناء اربع» تطارد رئيس الوزراء البريطاني، في حين تتراجع
مثلا،
قضايا مثل مسؤليته عن حربي أفغانستان والعراق، والتي تملك كل منهما،
الخلفية
القانونية الممكنة لمحاسبة قضائية.
يبدأ فيلم الكاتب الشبح، بمشهد رائع، لرجل تقذفه الامواج الى شاطئ بحر مظلم
وهائج، لكنه سرعان ما يتجه الى وجهات غير مجدية، بدت في بعضها جزءاً من
انتقام شخصي
للمخرج من اميركا، لينتهي الفيلم بمشهد شديد السطحية، عن جهاز مخابرات يقف
خلف خراب
العالم.
خيبات متتالية
فيلم بولانسكي الأخير ليس خيبة الأمل الوحيدة في المهرجان، الذي بدأ العديد
من
الصحف العالمية، بتوجيه الانتقاد الى اختياراته للدورة الستين منه.
فالمهرجان اختار
أيضاً فيلم «شهادة» للمخرج الأفغاني الشاب برهان قرباني الذي يعيش في
المانيا ليكون
أحد أفلام المسابقة الرسمية، على رغم الهزالة الكبيرة للفيلم وشخصياته،
والمشاكل
النمطية التي يقدمها، والتي بدت بعيدة عن أي بحث حقيقي في جذور المشكلات
الاجتماعية
لجيل المهاجرين المسلمين في برلين.
الفيلم يقدم قصصاً لأربع شخصيات مسلمة شابة، قادمة من خلفيات اثنية مختلفة،
ينتهي بها المطاف في الجامع الذي يخص المسلمين الافغان في برلين. مبكراً
جداً في
الفيلم، ينكشف المأزق الذي انجر اليه المخرج بتقديم قصة تحتم ان تجد
الترابط الذهني
والزمني بين الشخصيات فيه والمفقود في الفيلم.
سينما اميركية مستقلة
وكجزء من حضورها المعتاد في المهرجانات العالمية، ضمت برامج هذه الدورة من
مهرجان برلين، مجموعة من أفلام السينما الأميركية المستقلة، كان أبرزها،
فيلم «غرينبيرغ»
للمخرج نوا بومباخا ومن بطولة النجم بين ستيلا، والذي رافق الفيلم الى
برلين. ويعود بين ستيلا في الفيلم، الى السينما المستقلة والتي بدأ بها
حياته
المهنية، وأوصلته الى الشهرة، ليصبح واحداً من اشهر نجوم الكوميديا في
هوليويود
حالياً. هو يلعب في الفيلم، شخصية رجل في الأربعينات، على شفا الانهيار
العصبي،
يقضي فترات طويلة في العيادات النفسية. يحمل الأداء الكوميدي المتميز لبين
ستيلا،
الكثير من الكوميديا للفيلم، لكن بين ستيلا، يقدم أيضاً مأزق الرجل الخسران
بأداء
يحمل الكثير من الفهم لذلك المأزق. الفيلم يكاد يكون اقرب أفلام المخرج
الشاب نوا
بومباخا من السينما الشعبية، وابتعاداً عن مواضيع تعقيدات العلاقات
العائلية، والتي
شغلته في فيلميه السابقين.
ويقدم فيلم أميركي مستقل آخر هو «أرجوك اعطي» للمخرجة الأميركية نيكول
هولوفيسنر، قصص لشخصيات من مدينة نيويورك (المدينة المفضلة لمعظم صانعي
أفلام
السينما المستقلة) في فترة زمنية محددة، عن العائلة التي تنتظر موت الجارة
العجوز،
من اجل الحصول على شقتها، وعن حفيدات الجدة، وعمل الزوجين في الفيلم في بيع
الأثاث
القديم، والذي يحصلان عليه بعد موت أصحابه. ورغم طرافة فيلم مثل «أرجوك
اعطي»، الا
ان العديد من أفلام هذه السينما، بدأ يتجه الى التقديم النمطي المكرر،
والبعيد عن
معالجات جمالية سينمائية مبتكرة.
وبدت النسخة التي عرضت من فيلم «ابن بابل» للمخرج العراقي محمد الدراجي،
افضل
تقنياً وصوتياً من تلك التي عرضت في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي. واثار
الفيلم
الذي عرض أربع مرات في المهرجان، الكثير من الاهتمام من الجمهور الألماني،
والذي
تابع قصة الجدة والحفيد، اللذين يقطعان العراق من شماله الى جنوبه للبحث عن
الوالد
المسجون، من عهد النظام العراقي السابق.
وإذا كانت السينما التي قدمها محمد الدراجي بدت اقرب الى ما يعرف بسينما
الحقيقة، بتصويرها في أماكن القصة الحقيقية، واستعانتها بأناس عاديين لأداء
الأدوار
الثانوية في الفيلم، اختار فيلم «الرجل الذي باع العالم» للأخوين المغربين
سهيل
وعماد النوري، والذي عرض مثله مثل فيلم ابن بابل في برنامج بانوراما، ان
يقدم قصة
للكاتب الروسي ديسكوفيسكي، تقديماً مختلفاً الى حد كبير، بدا في معظمه
احتفالاً
بالسينما، والاتجاهات التجريبية التي يمكن ان تسلكها. الفيلم هو واحد من
الأعمال،
التي يمكن ان تؤسس لاتجاه سينمائي خاص.
ومع التقديم البصري الفريد الذي اختاره الأخوان لتقدم القصة الكلاسيكية،
يبرز
وبشكل رائع الأداء المبهر للممثلين المغربيين سعيد بأي وفهد بنشمشي،
بكثافته وصدقه،
وهو الأداء الذي أبقى التجربة السينمائية الجديدة متشبثة بإنسانية تكسر
القلوب!
الحياة اللندنية في
19/02/2010 |