فلسطيني، أم إسرائيلي.. إسرائيلي، أم فلسطيني؟.. سؤال لا مفر منه،
سواء قبل وخلال، وحتى بعد مشاهدة فيلم «عجمي»، الذي أخرجه الفلسطيني إسكندر
قبطي والإسرائيلي يارون شني. سؤال لن يبدو نافلاً، ولا عابراً.. وربما
سيبقى من العسير على الكثيرين الإنتهاء إلى جواب حاسم. وسيزيد من الالتباس
في السؤال والجواب معاً، حقيقة أن هذا الفيلم المنتج عام 2009، قد عُرض
ممثلاً لإسرائيل في برنامج «نصف شهر المخرجين»، خلال مهرجان كان السينمائي
الدولي، وكذلك فوزه بجائزة «أوفير» كأفضل فيلم في إسرائيل، ونيله الجائزة
الأولى في مهرجان الأفلام لدول حوض البحر المتوسط، في مدينة مونبيلييه،
وأخيراً ترشيحه لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، هذا العام.
ولكن من قال إن الالتباس لن يكون حكراً إلا على هذا الفيلم؟.. من تراه
ينكر أن «فلسطين التاريخية»، ذاتها، بات الكثيرون من العرب أنفسهم يسمونها
«إسرائيل»؛ ليس بالكلام المُرسل، وثرثرات المجالس، والكتابات الصحافية، أو
نشرات الأخبار، بل كذلك في الخرائط والمصورات الجغرافية، والسياسية.. ليس
فقط في المناهج التعليمية لبعض الدول العربية التي عقدت أنواعاً مختلفة من
اتفاقات ومعاهدات مع إسرائيل، بما فيها السلطة الفلسطينية، بل أيضاً عبر
شاشات عدد من وسائل الإعلام العربية، التي لا يخلو خطابها من نزعة
مقاوماتية، ونكهة قومية، ممزوجة بلون إسلاموي..
فلسطيني، أم إسرائيلي.. إسرائيلي، أم فلسطيني؟.. ويحار من يريد الدقة
في العثور على ضوابط تمكّنه من الحسم في هذا المجال!.. بينما يسهل على
المرتجلين، المسارعين في إلقاء الكلام على عواهنه، رمي الصفات دون أدنى
تدقيق أو تمحيص!.. ألم نلاحظ أن عدداً فائضاً ممن كتبوا في الصحافة العربية
لم يترددوا، مثلاً، في وصف فيلم «الزمن الباقي» لإيليا سليمان، بأنه فيلم
إسرائيلي.. وكذا بصدد عدد آخر من أفلام أخرى، متكئين تارة على توفر دعم أو
تمويل إسرائيلي فيها، ومعتمدين تارة أخرى على ما يعتقدونه بدهية أن فلسطين
ذاتها باتت إسرائيل!
وقبل ذلك كله، وأهم منه، أليس ثمة من يطلق تسمية «عرب إسرائيل» على
الفلسطينيين الذي انتهجوا خيار البقاء في ديارهم، أو على أرضهم، حتى لو كان
ذلك في قبضة الاحتلال، وتحت وطأة ممارساته، وفي فيض من النكران والتجاهل،
والخفض السياسي والاجتماعي، والقهر القومي، الذي تمارسه إسرائيل، تجاه
الفلسطينيين الباقين بين أيديها، بشتى الطرق ومختلف السبل، صراحة وعياناً،
ودون أدنى مواربة؟!
هكذا لن يعدو تصنيف فيلم «عجمي»، إلا تفصيلاً في غابة شائكة لا تكفّ
عن المزيد من التشابك والتعقيد، منذ العام 1948؛ عام النكبة الفلسطينية، من
يوم استفاقوا على قيام «دولة إسرائيل»، على أنقاض «فلسطين».
المثير في الأمر، أنه في الوقت الذي يستسهل العرب «أسرلة» فلسطين
والفلسطينيين الباقين على أرضهم، على الأقل من خلال تسميتهم «عرب إسرائيل»،
فإن «إسرائيل» ذاتها ترفض «أسرلتهم»، وتصرّ على تسميتهم «عرب»، ولا تكف عن
وضع الخطط، وإعلان النوايا والعزم على التخلص منهم، عند كل منعطف، أو
اتفاق!.. هل تذكرون أفكار تبادل السكان، والترحيل الجماعي (الترانسفير)،
والسعي إلى الاحتفاظ بأكبر ما يمكن من أرض خالية من العنصر العربي، تحت
شعار «أرض أكثر، عرب أقل»؟
ولكن الواقع، ولحسن الحظ، لم يعبأ بالكثير من التقولات، إذ أن العرب
الفلسطينيين الباقين على أرضهم، والذين طالم تمّ اعتبارهم «أكثر الأقليات
استكانة في القرن العشرين»، استطاعوا إعادة إنتاج أنفسهم، جيلاً بعد جيل،
دون أن يعيق «جواز السفر الإسرائيلي»، الذي حُمِّلوه، نزوعهم لإنتاج ثقافة
وهوية عربية فلسطينية خالصة، هي قدرهم الذي لا مفر منه.
من محمود درويش، قبل أن يخرج.. ومن سميح القاسم، وتوفيق زيّاد، وإميل
حبيبي وتوفيق فياض، وعزمي بشارة، وأحمد الطيبي، ومحمد بركة، وحتى الشيخ
رائد صلاح.. إلى محمد البكري، وميشيل خليفي، وإيليا سليمان، وهاني أبو
أسعد، وعلي نصار، ونزار حسن، ومكرم خوري، ويوسف أبو وردة، وبشرى قرمان،
وانطون شلحت، وبلال يوسف، وشادي زعبي، وشادي سرور، وعنان بركات، وياس
ناطور، وناظم شريدي، وسامية قزموز، وزياد درويش.. مروراً بقائمة طويلة،
عسيرة الإدراج، من أجيال متتالية.. ثمة صوت يأتي بعد آخر، كل له ولونه
ونبرته ووقعه، وحتى اختلافه!
فلسطيني، أم إسرائيلي.. إسرائيلي، أم فلسطيني؟.. سؤال لن يكفَّ عن
الإطلالة برأسه مع كل وقع خطو على الدرب الذي يرسمه الفلسطينيون الباقون
على أرضهم، بالشعر أو بالرواية والقصة، بالمسرح أو السينما.. وحتى بأحاديث
السياسة والفكر والنقد.. فأين يمكن أن نضع فيلم «عجمي»، وكيف يمكن النظر
إليه، وإلى مخرجه «إسكندر قبطي»؟
لم يكن فيلم «عجمي» أول فيلم يتشارك مخرج فلسطيني وإسرائيلي بتحقيقه.
قبل ذلك كانت التجربة الشهيرة في فيلم «الطريق 181»، ما بين الفلسطيني
ميشيل خليفي، والإسرائيلي إيال سيفان، عام 2005، وقبلهما كانت تجربة فيلم
«أنت، أنا والقدس»، عام 1995، ما بين الفلسطيني جورج خليفي والإسرائيلي
ميشا بيليد، وتجربة الفلسطينية بثينة خوري مع الإسرائيلية ميشال عوفاديا في
فيلم «نساء الجيران»، عام 1992، والفلسطينية سها عراف التي كتبت سيناريوهات
أفلام روائية طويلة للإسرائيلي عيران ريكليس، على الأقل في فيلميه «العروس
السورية»، و«شجرة ليمون».. كل هذا، فضلاً عن مشاركة العشرات من الممثلين
الفلسطينيين، في أفلام إسرائيلية، بما فيها أفلام صهيونية، أحياناً!..
ليس فيلم «عجمي» حالة شاذة في هذا السياق، وإن كانت حالة متميزة على
مستويات أخرى، لا بد من تناولها نقدياً. ولكن الإشكالية الأساسية التي ظهرت
في بعض الكتابات، والتناولات، أنها تعاملت مع الفيلم باعتباره محض
«إسرائيلي»، هكذا دون تدقيق أو تمحيص، ودون وضعه في السياق العام لما أبدعه
الفلسطينيون الباقون على أرضهم، كما دون وضعه في السياق الخاص لمخرجه
«اسكندر قبطي»!.. خاصة وأنه شريك إنتاج في الفيلم.
من تراه حاول النظر الى الخلف، على الأقل من أجل اكتشاف السياق الذاتي
الذي قاد المخرج «إسكندر قبطي»، إلى هذا الفيلم؟.. هل يمكن لأحد أن يعتقد
أن هذا الفيلم «نبت شيطاني»، وجدناه أمام أعيننا، وفاجأنا به مخرجه.. كأنما
إسكندر قبطي بلا تاريخ، ولا رؤية، واستراتيجية.. وكأنما كتب وأنتج وأخرج
فيلمه هذا صدفة؟..
صحيح أن ثمة مناهج نقدية تتعامل مع النص الإبداعي منغلقاً بذاته، على
ذاته، ولا تلتفت بالتالي إلى ما هو خارج النص، بحجة «موت المؤلف»، سواء
أكانت سيرة المبدع، أو نشأته، أو تكوينه.. ولا تأبه للسياق العام، أو الشرط
التاريخي للمبدع وللنص.. وهذا حق لها.. ولكن الميل لدينا يحيد عن هذه
المناهج، ويذهب باتجاه رؤية النص الإبداعي ارتباطاً بالشروط الذاتية
والموضوعية، والنظر إليه ضمن الفسيفساء الكلية، التي تقدم صورة التراكم
الإبداعي لعمل المبدع، والمؤثرات المحيطة والفاعلة به.
هكذا نعود إلى سيرة «إسكندر قبطي»، فنجد أنه فتى فلسطيني، ولد عام
1975، في مدينة يافا. ترك دراسة الهندسة الميكانيكية في حيفا، ليدرس
السينما. وهو يعيش ويعمل الآن في «تل أبيب»، إذ عمل مساعداً للمخرج
الإسرائيلي عيران ريكليس في فيلم العروس السورية، فضلاً عن تعاونه الجديد
مع مهرجان ترايبيكا الدوحة. الأمر الذي يعني أن قبطي لا يعيش أي حالة
انقطاع عن هموم الفلسطينيين الباقين على أرضهم، والتواصل مع المحيط العربي
الأوسع، خارج فلسطين.
ننتبه إلى الفيديو المشترك بعنوان «حقيقة»، الذي أنجزه إسكندر قبطي
بالتعاون مع زميله وصنوه وصديقه ربيع بخاري، لنكتشف عنايته برواية «تاريخ
المكان الفلسطيني». والمكان هنا هو أرض، وتاريخ، وأسلاف مضوا، وناس
حاضرين.. هو فكر وثقافة وهوية، أديان وعقائد، وأحياء وموتى.. بيوت ومقابر
وآثار وأوابد.. والمكان هنا، كما يذكر موقع «رجال في الشمس»، هو مفتاح
للدخول في عالم «الذاكرة والنسيان في الثقافة الفلسطينية عموماً، وفي مدينة
يافا على وجه الخصوص. وهو نسيان عديد السنوات، ويشكّل جزءاً من المحو
الشامل للمدن الفلسطينية في العام 1948».
وإذ ننتقل إلى فيلمه «عجمي»، فسنجد أنه بمحاذاة فيلم «حكاية مدينة على
الشاطئ» لعلي نصار، و«مرآة الذاكرة» لكمال الجعفري، وهما الفيلمان اللذان
يتناولان حكاية مدينة يافا، التي كانت ذات وقت، قبل النكبة تماماً، عروس
المتوسط، وسيدة الشطآن.. وفي فيض من الأفلام الفلسطينية التي جالت على مدن
وبلدات وقرى فلسطينية، سواء العامرة منها الآن، أو تلك المدمرة منذ النكبة،
يأتي فيلم «عجمي»، بالاسم والصورة والموضوع والحكاية والمعالجة، ليحكي
حكاية الفلسطينيين الباقين على أرضهم، سواء في فلسطين المحتلة عام 1948، أو
فلسطين المحتلة عام 1967.
وحكاية الفلسطينيين الباقين على أرضهم لا تكتمل إلا بحضور الإسرائيلي،
حتى لو كان حضوره قسرياً، بقوة الاحتلال، والجيش، والشرطة.. نافراً عن لون
المكان ولغته وطبيعته وتفاصيله. هل يمكن لأحد أن يتجاهل الأثر العميق التي
يتركه ذاك التراكب العجيب، الناجم عن إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين،
واستتباع الفلسطينيين الباقين على أرضهم لهذه الدولة؟.. ألم يقم ميشيل
خليفي، وإيليا سليمان، وتوفيق أبو وائل، بأفلام مثل «عرس الجليل»، و«سجل
إختفاء»، و«يد إلهية»، و«عطش».. بتصوير جوانب من هذا الأثر الذي وإن كنا لا
نراه عياناً صراحة، فإنما نتلمس ملامحه ووقعه على الفلسطينيين؛ الناس
والمجتمع والعلاقات الواقفة على حافة الانفجار؟!..
هكذا سيبدو الاحتلال في تحالف مع أسوأ ما في الفلسطينيين، أو في تحالف
مع أسوأ ما ورثوه من عصور تخلف سابقة.. الاحتلال يتحالف مع الجهل والتخلف..
مع الثأر والعصبيات القبلية.. مع النزعات الأنانية، والشطارة، والمحسوبيات..
مع الانحرافات السلوكية والقيمية التي تنخر المجتمع، وتذروه للرياح.
فيلم «عجمي» لا يتأنَّق في تقديم نفسه، ولا يدَّعي شعاراً متكلفاً في
الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي. إنه ينحدر إلى قاع المجتمع الفلسطيني
في فلسطينه، ويلتقط أسوأ ما فيه من قتل وثأر، وتجارة سموم، ونزعات طائفية
لا تعترف بالحب أو المشاعر الإنسانية. هو فيلم قلق عن مجتمع أكثر قلقاً.
فيلم جيد البناء، محكم التنفيذ، محترف التصوير والمونتاج، وبارع في إدارة
الممثلين القادمين من واقع الحياة، لا من ردهات كليات السينما أو خشبات
المسرح.. أناس حقيقيون، مذهلون في أداء أدوارهم المرسومة بعناية..
وهو قبل هذا كله، فيلم ذكي بنباهة، فالفلسطينيون فيه هم الأغلبية،
حضوراً وحكاية وحكياً ولغة، موسيقى وغناء.. والإسرائيليون أقلية، طارئة،
خارج السياق العام، منخلعة الجذور، قوتها في أثرها لا في عمقها، ولا في
تفاعلها.. الفلسطينيون هم الناس، المكان، الحكاية، الاستمرار، السيرورة..
والإسرائيليون موظفون بمرتبة دولة، وشرطة، وجيش..
فيلم «عجمي» الذي ينتهي بنداء «افتحوا عيونكم».. هو صرخة جارحة، كأنما
تقول: صحيح أن الفلسطينيين ليسوا أنبياء، ولا ملائكة.. وأن في مجتمعهم
ظواهر بذاءة، وتخلف وجهل.. ولكن الصحيح أيضاً أن وجود «إسرائيل» هو ما
يفاقم الأمور، ويظهّرها، ويطفو بها على السطح.. إنها لا تعيش، ولا تتعايش،
إلا مع سوءاتنا وعجزنا..
المستقبل اللبنانية في
14/02/2010 |