مرة تلو أخرى، يؤكد جيمس كاميرون على كونه مخرج الروائع الكبيرة. بعد
اثني عشر عاما على اخراجه «تيتانيك» يعود بفيلم «أفاتار»، الذي كتب قصته
بنفسه واختار اللحظة المناسبة للبدء فيه حين أمست الوسائل التقنية التي حلم
بها متوافرة بين يديه، فجاء عمله كما أراده تحفة بصرية، تستحق هذه الفترة
الطويلة من الانتظار، كونها توفق في الجمع بين أعلى المستويات التقنية
الحديثة ومن بينها تقنية 3D، والقدرات الفنية البشرية التي استثمرها في شريط قد يكون فاتحة نوعية
جديدة من الأفلام.
الفرق بين فيلمي «تيتانيك» و«أفاتار» كبير. الأول بني على حدث واقعي،
وكسبت قصة الحب التي جمعت بطليه قلوب الناس، كونها انبثقت من قلب المأساة،
بخلاف فيلم كاميرون الجديد «أفاتار» لأن قصته خيالية تجري أحداثها على كوكب
باندورا، في العقد المستقبلي الخامس عشر بعد الألفين. كوكب يغلفه هواء سام
لا يستطيع بنو البشر تنفسه، لكنه ظل بالنسبة الى الدكتورة غرايس أوغستين
(الممثلة سيغورني ويفر) كوكبا مثيرا، وجدت فيه مثالا للتعايش المتوازن بين
سكانه والبيئة التي تحيط بهم. لقد دفعت طريقة عيش قبائل «نافي»، المتميزين
بلون بشرتهم الزرقاء، اللامعة، وأنوفهم المفطوسة، وطول أجسامهم الفارعة
التي تزيد عن ثلاثة أمتار، دفعت العالمة غرايس الى العمل على مشروع يمكن
بعض البشر من الذهاب اليهم والتعلم من تجربتهم وكسب الخبرات عن طريقة
تعايشهم السلمي، فأطلقت على مشروعها اسم «أفاتار»، وهو الذي يتلخص علميا
بخلق جسد مركب من حوامض نووية بشرية مع أخرى مأخوذة من قبائل «نافي»، يتكون
بموجبها كائن يشبه بقية سكان كوكب باندورا ويتنفس هواءهم نفسه، لكن التحكم
به يجري من داخل كوكب الأرض، عبر جهاز معقد ينقله، افتراضيا، الى هناك وعند
إغلاقه يتوقف الأفاتار الصناعي عن العمل كليا. أما الرجل الذي اختير للقيام
بهذه المهمة، فيدعى جاك سولي (الممثل سام روتينغتون). جندي عاد للتو من
الحرب معوقا، يجلس على كرسي متحرك، أخذ مكان أخيه الذي منعه الموت من أكمال
مهمته كأول أفاتار يصعد من الأرض الى كوكب باندورا.تتضح خلفيات القصة، التي
ستبني عليها مسارات الأحداث، يبدو الشريط، حتى اللحظة، لمتابعيه، وكأنه
يسير في اتجاه تقليدي يتصل بالتجارب الطموحة للبشر في معرفة العالم الآخر
البعيد والغامض، لكن حقيقة واحدة ستغير مساره عندما يكتشف العلماء عبر
المسح الدقيق لسطح الكوكب وجود كميات كبيرة من المعادن النفيسة التي يمكن
أن تشكل تعويضا عن النقص الهائل في مخزون الطاقة على سطح الأرض. هذه النعمة
ستشكل نقمة على الكوكب المسالم وعلى أهله (مثل منابع البترول في بعض
المناطق على كوكبنا) وعليه ستدخل أطراف أخرى على الخط من بينها الجيش الذي
سيكون طرفا فاعلا في مشروع «أفاتار».
البراءة الأولى
على مستوى آخر يبدأ الشريط، ومنذ انتهاء المقدمات، في الغوص عميقا
داخل جزئيات عالم باندورا، عبر التجارب التي تجرى على سولي، والتي يراد بها
تدريبه على التأقلم مع مناخات العالم الجديد. في هذه اللحظة ندرك أننا إزاء
عمل سينمائي مختلف، الحاسوب والتمثيل والمؤثرات الصوتية كلها تتضافر لنقل
مناخات غريبة، تنسج داخلها علاقات بين الأفاتار الجديد وسكان الكوكب
وبيئته، ومن بينها الشابة نيتيري (الممثلة زوي سالدانا) التي تعثر عليه في
الغابة تائها، فتتعامل معه كطفل بريء لا يعرف المخاطر التي تحيط به. ومع
الوقت تزداد اقتناعا به، فتقدمه الى قبيلتها، التي يترأس والده قيادتها.
ومثل كل غريب يخضع لتجارب كثيرة يثبت من خلالها جدارته كعضو جديد. وكي لا
ينقطع مسار الفيلم ويمضي الى نهايته في هذا الوسط الساحر والمشغول بقدرة
مذهلة، يتعمد كاميرون تذكيرنا بالمشروع وعلاقته بالأرض حين يجعل من وجود
سولي على الكوكب وجودا مؤقتا، ينقطع في نهاية فترة تدريبه ويعود ثانية مع
البدء بها. وعلى هذا المنوال تتجمع خيوط العلاقة بين نيتي وسولي. ومع طول
مدة وجوده معها يصبح الرجل تدريجيا جزءا من الكوكب الآخر، جزءا سعيدا
معافى. قدماه هناك سليمتان تتحركان بقوة، فيزداد تعاطفا مع سكانه وينبهر في
الوقت نفسه لطبيعة العلاقة التي تجمعهم ببيئتهم، فيدرك حينها الفرق بينه،
كواحد من بني البشر، وهؤلاء الذين لا يفكرون سوى في نسج علاقة متوازنة مع
الطبيعة من دون إلحاق أي ضرر بها. ومع الوقت تغرق الشاشة ونغرق نحن في عالم
باندورا الساحر: غابات وشلالات كأنها الجنان، وبراءة أولية، فيما يبقى هناك
جزء صغير تحاك في ظله خطط عسكرية جهنمية تهدف الى تدمير الكوكب والسيطرة
على ثرواته، من دون معرفة الدكتورة غرايس أو سولي طبعا. وحين تأتي اللحظة
التي تبدأ فيها الطائرات بقصف الكوكب، وتبدأ الجرافات بقلع أشجاره، يبدو
العالم المسالم الذي كنا غارقين في تفاصيله المدهشة وكأنه يتعرض من دون
مقدمات الى فناء كامل يديره ضابط عسكري قاس يملك جيشا وسلاحا فتاكا. ومع أن
الفيلم في حيزه الختامي يبدو تقليديا حين توكل مهمة إنقاذ الكوكب الى سولي
والعالمة غرايس، فيثير فينا مجددا سؤالا عن تكرار فكرة تفوق الرجل الأبيض
على غيره من الشعوب «المتخلفة»، فإن كاميرون يسارع الى تصحيحه بطريقة بارعة
عندما يحول الصراع الى شكل فنتازي، فيغدو الفيلم أبعد بكثير عن تلك الأفلام
التي تكرس المفاهيم الهوليوودية التقليدية كـ«الرقص مع الذئاب» أو فيلم «الساموراي
الأخير». وما استخدام القائد العسكري المتمترس داخل روبوت حديدي متطور
سكينا عادية وهو يصارع أحد الحيوانات الضارية سوى لمسة واضحة لما ذهبنا
اليه. فيلم أفاتار يحمل لمسة طفولية مع كل جديته، ولهذا فقصته تفضي في
نهايتها الى عوالم طفولية بريئة. من دون شك يحمل «أفاتار» رسائل كثيرة جدية
منها: احترام الآخر وثقافته والعناية بالبيئة خصوصاً، وقد تزامن عرضه مع
انشغالات العالم وساسته بموضوع البيئة والارتفاع الحراري للأرض، لكنه في
المقام الأول فيلم عن الخيال الواسع وقدرة السينما على تحويله الى صورة
قريبة نعيشها ونحبها بكل جوارحنا. بالقدر نفسه أو أكثر سنحب الحضور البشري
في السينما خصوصاً في مثل هذه الأفلام التي تعتمد على التقنية المتطورة
والحاسوب. فعدم إغفال الوجود البشري فيها يزيد الشريط أهمية وغنى، ويقرب
المشاهد من الروح الآدمية لأبطاله، وهذا ما سعى اليه جميس كاميرون، حين جعل
مخلوقاته الغريبة، قريبة منا، ولم يبالغ أو يتعمد طمس الملامح الأساسية
لوجوه ممثليه، فزاد بذلك من قوة حضورها بيننا، الى درجة كان يبدو فيها
المخلوق «الأفاتاري» مخلوقا أرضيا في الدرجة الأولى، مما ولد حميمية بيننا
وهؤلاء الرجال الزرق وهم يدافعون عن وجودهم وعالمهم الرائع!
«باندوروم»: القصة المثيرة ليست دائماً كافية
مع الإقبال الجماهيري، والدعاية الكبيرة التي رافقته وصورته كأكثر
الأفلام رعبا وإثارة في إنتاج العام 2009 فإن مشاهدته تخلق انطباعا مغايرا.
«باندوروم» لم يتجاوز كونه حكاية باهتة عن سفينة فضائية هائمة في الفضاء
وجد اثنان من قباطنتها (دنيس كايد وبين فوستر) نفسيهما في وضع غريب. بعدما
أفاقا من سبات طويل، أدركوا أن كل ركاب السفينة الذين كانوا معهم قد اختفوا
وحلت مكانهم كائنات غريبة متوحشة هي التي سيطرت على السفينة وقضت على من
كان فيها.
مشكلة الفيلم الرئيسة أن مخرجه كريستان الفارت لم ينجح في الإمساك
بالخيط الدرامي لفيلمه فجاء مفككا، معتمدا على الحركة البهلوانية في الدرجة
الأولى. ولهذا لم يتعد هذا الشريط حدود فيلم إثارة ومغامرة، أبطاله منفذو
حركات جسمانية لا أكثر. أما درجة الرعب التي بالغوا في الدعاية لها فلم تزد
عن تبشيع هيئة الكائنات الشريرة التي سيطرت على السفينة وأكلت كل ما كان
على متنها، ولهذا لم يجد المتبقي منهم فرصة للنجاة سوى الخروج منها هاربين
الى الأرض. وإذا كان اعتماد «باندوروم» على عنصر المفاجأة فإن هذا العنصر
لم يحقق مبتغاه كاملا، لسبب بسيط هو أن أغلبية المشاهد ذات التوتر العالي
والترقب أدركها المتفرج قبل حدوثها بسبب تكرارها ونسخها عن أفلام سابقة.
ومن شاهد فيلم «قمر» سيقارن حتما بينه وبين «باندوروم». فـ«قمر»، ومع تقارب
قصته التي تدور حول رجل معزول في سفينة فضائية، فإن قوة موضوعه امتدت من
حيز ضيق الى قضايا أوسع إنسانية مست مستقبل الوجود البشري. صور «قمر»
بطريقة رائعة وأدى ممثلوه أدوارهم بشكل بارع كما أن السيناريو كتب بطريقة
مثيرة، بخلاف «باندوروم» الذي اعتمد على التشويق والحركة وأسقط العناصر
الفنية الأخرى. وهذا يعيدنا الى المربع الأول، حسب التعبير السياسي. غرابة
القصة والمغامرات ليستا كافيتين لصناعة فيلم رعب أو فيلم إثارة ناجح. و
شريط «قمر» يكفي وحده للبرهان على سوء فيلم «باندوروم» رغم الدعاية الكبيرة
التي لم توفق سوى في جلب الجمهور الى شباك التذاكر، وهو الهاجس الأول
والأخير لمنتجيه.
الأسبوعية العراقية في
10/01/2010 |