مغامرة نصفها إنسان ونصفها الثاني فضائيّ الشكل، الأوّل آدمي يسعى نحو
ضمان الحياة والطاقة ويتخبّط بين الجشع، الإخلاص والانتماء والثاني "آفاتار"
أزرق الجلد طويل القامة "مجسّد" لمخلوق مهجّن نمى جينياً من الحمض النووي
للإنسان ولأهل "باندورا" ليتمكن من العيش ضمن طبيعة هذا الكوكب الخشنة حيث
تقبع الخيرات المعدنيّة النادرة.
في فيلم الخيال العلمي "آفاتار" الذي كلّف إنتاجه 237 مليون دولار
أمريكي والمشغول بالتقنية الرقمية ثلاثية الأبعاد ينقلنا مخرج فيلم "تايتانك"
وحاصد الجوائز، جايمس كاميرون إلى رحلة ملوّنة فيها الكثير من المواقف
الدرامية والصور المشغولة بالكمبيوتر بإتقان وجودة عالية بدت فيها حركات
الكائنات الفضائية طبيعية جداً وواقعية تحاكي عين المشاهد وتأخذه إلى
العالم السحري الذي رسمه كاميرون في رحلة ممتعة في فضاء الغابة وعلى متن
مخلوقاتها الغريبة!
تدور القصّة حول الجندي المقعد جاك سوليس الذي يلعب دوره سام
وارسينغتون الذي يجد نفسه أمام مهمّة مدّتها ثلاثة أشهر نحو البيئة الأكثر
عدائية على الإطلاق، إذ عليه التحوّل إلى "آفاتار" والاندماج بقبيلة "أوماتيكايا"،
يدرس المتوحشين هناك داخلياً، ليفهم طباعهم وإجبارهم بالتالي على الرحيل عن
أرضهم المليئة بالمعادن الخام القابلة للتعدين.
في نهاية المطاف يجد جاك نفسه بين قطبين مستميتين لمجابهة الآخر، أمام
معركة يقودها من جهة الكولونيل مايلز الذي يلعب دوره ستيفن لانغ مجسّداً
دور القاسي بإتقان، جلّ ما يهمّه هو تدمير موطن "أوماتيكايا" في سعيه إلى
حل أزمة الطاقة الكونية بمنظاره الخاص وبين الكائنات الفضائية المدافعة عن
الشجرة المقدّسة وما ترمز لها من ترابط لإيمانها بنوع من التواصل الكيميائي
بين الأشجار، ولتكون في النهاية... معركة ضارية بين "جماعة الجو"
والمخلوقات الزرقاء!
تقنيّة بصريّة ومؤثرات سمعيّة عميقة
التقنية الرقمية بأبعادها الثلاثية أعطت قصّة الفيلم ما تستحقّه
فانفعالات المخلوقات وحركات وجوههم بدت مقنعةً جداً كذلك مناظر الغابة
المميزة بألوانها المشعّة وبحيواناتها الخارجة عن المألوف حتى لو قاربت حد
المبالغة لا يمكنها إلاّ أن تلفت نظر المشاهد لو كان من غير محبي أفلام
الخيال العلمي. إضافة إلى التمثيل الفعلي لكل من سام وارسينغتون والممثلة
سيغوني ويفر التي قامت بدور غرايس الدكتورة المساعدة لجاك وإن بدا دورها
ثانوياً إلى جانب وارسينغتون الذي تمحور حوله الفيلم.
وللموسيقى التصويرية جماليتها كذلك فهي ترافقت بإتقان مع المشاهد
الأكثر درامية لتعطي المواقف المحزنة بعداً وعمقاً إضافيين خاصة مشهد تهاوي
الشجرة ومشهد فقدان المخلوقة الفضائية نايتيري لوالدها.
الخيال بعيداً عن السخافة
للانتماء في الفيلم معنى جديد، فالانتماء هنا ليس للأرض التي ولد فيها
الإنسان ونشب عليها وترعرع بين أهلها بل هو الانتماء للأرض التي يشعر فيها
انه ضمن عائلته يفهمهم ويفهمونه حتى لو كانوا شديدي الاختلاف، ولذلك جاك
الذي اندمج مع قبيلة "أوماتيكايا" لم يعد يعرف من هو وبالكاد يتذكّر حياته
السابقة بل وأحسّ بأنه منبوذ خائن وغريب عندما أراد تحقيق رغبة بني جنسه
على حساب أرض القبيلة التي اندمج فيها.
كاميرون وضعنا أمام أفكار لطالما سألناها لأنفسنا، وضعنا أمام حكم
وعبر لعلّها أجمل ما في الفيلم نفسه. امتحان الانتماء والولاء للوطن
والتضحية في سبيل ما نراه إنسانياً حتى لو بدينا خائنين في نظر البعض،
فـ"الإنسان يولد مرتين المرة الثانية تكون عندما يكسب مكانته بين شعبه".
أما عن الأرض وثرواتها اعتبر أن "ثرواتها هي بما يوجد من حولنا وليس
في الأرض نفسها" وهي عبارات إن فكّرنا ملياً فيها لرأينا لها معنى فلسفياً
أبعد الفيلم عن جملة الأفلام الخيالية المرتكزة على الوهم بكثير من
السخافة.
ففي الفيلم مواقف وعِبَر متعدّدة تنتقل من الدفاع عن الأرض والانتماء
المجسّد بدفاع القبيلة عن أرضها. التضحية، واتخاذ موقف جدّي لإثبات الولاء،
وهو الموقف الذي اتّخذه جاك عندما قرّر الوقوف إلى جانب "أوماتيكايا" ضدّ
الكولونيل مايلز وصولاً إلى الوقوع في حب الغريب دونما حسبان، وهي العلاقة
التي ربطت جاك بنايتيري، انسجام الفرد مع الطبيعة وكائناتها بشكل حسّي
والتواصل مع الحيوان لفهمه ذهنياً وكذلك الإيمان وما يعطيه من دفع معنوي
وقوّة وهو إيمان القبيلة بالالهة "آيوا".
أما الرؤية هنا فهي الأخرى تحمل مفهوماً مختلفاً، فأن ترى الآخر معناه
أن تعرف مقصده، تفهمه وتشعر به داخلياً لتكون على تواصل معه، وهو بالفعل
تعبير مثالي لفهم الآخر خصوصا إن كان مختلفاً، ففي نهاية الأمر "لا أحد
يمكنه تعليمك كيف ترى".
في نهاية الفيلم عاد الغرباء إلى عالمهم المحتضر والغرباء هنا هم
البشر بعد أن اختار جاك العيش ضمن بيئته الجديدة التي كانت غريبة قبل ثلاثة
أشهر عنه وأصبحت اليوم موطنه الحقيقي.
"آفاتار" هو صراع على البقاء ورؤية الشيء عينه بمنظارين مختلفين تكون
فيه العين هي الحكم بعد أن حكّمت العقل والعاطفة وجسدتهما لخدمة الغير.
الراية القطرية في
30/12/2009 |