مهرجان
القاهرة السينمائى الدولى.. يأتى هذا العام فى دورته «32» محملا بزاد وفير
من أبخرة التحدى والاستنفار.. أكبر بكثير من أعوامه السابقة التى رأيناه
فيها يسير كالبطة التى تعانى داء فى الحركة والأداء، لكنها أبدا لاتعترف به،
بل تتهم الآخرين بقصر النظر. إن لم يكن انعدامه بالأساس!! ولأننا لانريد
الغوص فى النظر إلى الوراء فى غضب، وإنما ننظر إلى الحاضر لنستقرئ منه
أسباب التحدى والاستنفار الراهنة، والتى جاءت مع متغيرات خارجية وتراكمات
داخلية - أى من داخل المهرجان - أما الخارجية فقد تقافزت مجموعة من
المهرجانات الدولية لتفرد أشرعتها فى الساحة العربية الواسعة من مشرقها فى
«دبى» و«أبوظبى» إلى مغربها فى «مراكش»، مرورا «بسوريا» بعد أن دعمت
مهرجانها السينمائى بدمشق ليصبح دوليا وكل عام بدلا من كل عامين.
فكان
السؤال الحيوى والمهم: أين موقع مهرجان القاهرة السينمائى «طويل العمر» فى
هذه الخريطة المهرجانية العربية السينمائية الدولية الجديدة؟! هل سيتوارى
خجلا أمام الإغداق المالى الذى يتوفر لتلك المهرجانات الوليدة وبخاصة
الخليجية منها؟! أم أنه سيجدد نفسه كطائر العنقاء الذى لا يستسلم للرماد
ليعود شابا يافعا من جديد. كيف يتأتى ذلك.. مع التسليم التام بأن تلك رغبة
جارفة لدى جموع الفنانين المصريين، بل والأكثرية العربية أيضا. إذن لابد من
كشف حساب دقيق قوامه الشفافية والمحاسبة والدقة فى الأداء وهى ليست بالأمور
المستحيلة. وإنما بالأمور واجبة التنفيذ إذا أردنا الإفاقة الحقة. ولعب دور
الريادة الذى يؤهلنا له التاريخ والمؤسسة الفنية العريقة.. ليبقى الحاضر
مرهونا بسواعد وعقول أبنائه. بداية القصيدة.. نراها تبتدى فيما يشبه لعبة
«الكراسى الموسيقية» بين رجال الأعمال الرعاة للمهرجان. فجأة يتخلى «نجيب
ساويرس» عن الدور الذى قام به عامين متتاليين!! يتلقفه منه «محمد نصير»
الذى يصرح بأنه لايعرف أى شىء عن المهرجان ولا الفنون!! لكن لماذا تخلى
«ساويرس» ولماذا قبل ورحب «نصير»؟! لانعرف الأسباب الحقيقية ومن هنا تنتشر
الأقاويل والشائعات إلى الحد الذى تؤكد فيه على أن «نصير» يقوم بهذا الدور
«الراعى» مقابل غض البصر من قبل وزارة الثقافة ووزيرها عن «أبراج القلعة»
التى أقامها «نصير» وهى تهدد الصرح التاريخى العظيم «قلعة صلاح الدين
الأيوبى» أو هكذا ما صرح به مندوب اليونسكو وهو يهدد بأنه إن لم تخفض هذه
الأبراج إلى ارتفاع منخفض محدد.. فإن القلعة ستخرج من حزام التراث
العالمى!!
ولهذا
يتأكد السؤال: لماذا لم نعرف أسباب تبادل الأدوار؟ ولماذا لم نعرف كم هى
ميزانية المهرجان وما يدفعه الرعاة، إن الأمر بالنسبة لنا يبدو كأسرار
حربية خطيرة رغم أن ما نطالب به فى ميدان أبعد ما يكون عن هذا؛ ميدان الفن
والثقافة!! نأتى إلى القضية التى طالما يتحدث عنها رئيس المهرجان «عزت
أبوعوف» وهى قلة الميزانية وضعفها - رغم عدم معرفتنا بها أصلا- لكنه عبر
أحاديث عديدة غطت معظم الصحف المصرية، بل والعربية، يؤكد فيها ضعف
الميزانية.. ويتحدث معها عن عدم تمسكه بزيادتها لأنه يعرف أوضاع البلد
والمجتمع المصرى، وكم هى تكاليف رغيف العيش!! على أية حال يرد عليه فى هذا
الاتجاه الناقد «سمير فريد» عندما يتحدث عن أن ميزانية «مهرجان روما» هذا
العام مثلا أكبر من ميزانية أى من المهرجانات الكبرى الثلاثة فى «كان»
و«برلين» و«فينيسيا» ومع ذلك لم يثبت لمجرد المقارنة مع أى من هذه
المهرجانات. إذن ليس بالميزانيات الكبرى وحدها ينتعش المهرجان ويحيا،
وعلينا أن نفتش عن الأسباب ولانقول بتكهن فى تفسير الأسرار.. قد يكون ما
قرأناه فى أوراق المهرجان عن إقامة ندوتين مهمتين ما يدعونا إلى التفاؤل
بتعديل المسار، وطرحهما هو مفيد وجميل ومهم فى ظل عالم يضع العربى المسلم
دوما فى خانة الشك الحاد. إن لم يكن الإدانة المسبقة! وما أحوجنا فى ظل
المتغيرات التى يموج بها العالم لمثل هذه الندوات التى تدور حول «حقوق
الإنسان»، أما الندوة الأخرى فهى تتناول «سماحة الإسلام فى السينما
العالمية».. إن مثل هذه النوعية من الندوات تساهم فى تغيير الصورة الجاهزة
والمفبركة التى صنعتها الدعاية الأمريكية الجبارة فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر
2001 وقد آن الأوان لتغيير الصورة وبالتالى الدور، خاصة بعد مجىء «أوباما»
وانقشاع «بوش» والمحافظين الجدد!!
ربما هذا
البعد هو ما أدركه وأمسك به «فاروق حسنى» وزير الثقافة عندما حاول أن يجعل
من حفل الافتتاح مهرجانا موسعا وربما قائما بذاته للمدافعين عن الحريات
وحقوق الإنسان من نخبة من الفنانين الأمريكان والإنجليز «6» نجمات ونجوم.
وقد يكون رئيس المهرجان الشرفى «عمر الشريف» قد لعب دورا مهما وخفيا فى
الدعوة والزيارة! وقد دعمه الوزير بوفد ضخم من الفنانين الإسبان يتقدمهم
وزير الثقافة الإسبانى الذى أسهب فى كلمته عن التسامح وعن ترشيح بلاده
لفاروق حسنى أمين عاما لليونسكو، ومن هنا أيضا جاءت الإجابة عن السؤال الذى
تردد على ألسنة العشرات ممن كانوا يحضرون حفل الافتتاح. وإذا بهم يفاجأون
ولأول مرة بأن الوزير يلقى كلمة طويلة تدور حول الثقافة والفنون وأهمية
حوار الحضارات والاعتراف بالآخر. وبعيدا عن حالة الهرج والمرج التى تجسدت
على خشبة المسرح فى حفل الافتتاح، خاصة عندما ظهر الثنائى التركى «مهند»
و«نور» اللذان كانا مثار خلاف حيث إن الشهرة جاءتهما عن مسلسل تليفزيونى لا
من فيلم سينمائي وكان الآولى تكريمهما فى مهرجان الإعلام العربي لا فى
مهرجان للسينما.. المهم أنهما كانا جزءاً من إصرار الوزير على أن تكون خشبة
المسرح كرنفالا كبيرا.. هذه الحالة التى مهد لها مشوار الدخول إلى قاعة
الأوبرا الذى مثل للبعض وأنا منهم مشوار عذاب وألم!! وبعيدا عن هذا الكم
الكبير للمكرمين من النجوم المصريين (5) والمحتفى بهم من الأجانب (7) وكان
من الممكن اختصاره إلى اثنين من هنا واثنين من هناك.. وبعيدا عن هذا وذاك،
فقد مثل هذا الافتتاح تطبيقا عمليا لضرب عصفورين بحجر واحد، فهل هذا يرجع
إلى ذكاء من الوزير أم أنه أداء مرسوم ومخطط لعملية الإنعاش والإفاقة من
قبل الداعى والقائمين على إدارة المهرجان والذين إلى الآن وبعد «32» عاما
من عمر المهرجان لم يشكلوا كيانا مستقلا للمهرجان فضلا عن كوننا لانعرف كم
عددهم؟! وإذا نحن نأتى إلى الخاتمة.. ينبغى التوقف أمام إهداء هذه الدورة
إلى روح المخرج «يوسف شاهين» الذى أضاء سماءنا الفنية جمالا وبهاء وفتنة،
وكان فى مقدمة المدافعين عن حقوق الإنسان وقبلها حقوق المواطن فى وطنه!! ثم
نأتى لفيلم الافتتاح الإسبانى «العودة إلى حنصلة» الذى يمثل المقدمة
لمجموعة من الأفلام الإسبانية التى قد تصل إلى «30» فيلما.. بعد أن أصبحت
السينما الإسبانية ضيفة شرف المهرجان، ماذا إذن عن فيلم «حنصلة» الذى
يفكرنا للحظة عابرة بالعودة إلى «حنظلة الفلسطينى» الذى يعطى ظهره للعالم
من شدة القسوة والظلم والاستبداد من واقع رسومات الشهيد «ناجى العلى».
إنه فيلم
بسيط يخلو من الفذلكة وفرد العضلات.. أقرب إلى الواقعية وهو يتحدث عن قضية
صارت الشغل الشاغل لطرفيها من الجانب الأوروبى والجانب العربى والأفريقى..
وهى قضية الهجرة غير الشرعية وقد فرضت نفسها على الضمير المصرى بشدة بعدما
ضربت حياتنا وبخاصة الشباب العاطل عن العمل، الذى يصر على المغامرة حتى لو
كان ثمنها الموت، وتعليله فى ذلك أنه أفضل من انتظار الذى لن يأتى!!
روز اليوسف المصرية في 22
نوفمبر 2008
|