مهرجانات
السينما العربية تتابع صغيرة وكبيرة. انتهى مهرجان الشرق الأوسط وينطلق
دمشق وينتهي دمشق وينطلق قرطاج التونسي، وخلال هذا وذاك مهرجانان متتابعان
في بيروت هما (مهرجان بيروت الدولي) ومهرجان (بيروت دي سي)، وحين ينتهي
قرطاج يبدأ مراكش وبعد مراكش القاهرة وبعد القاهرة دبي، وفي مكان ما بين
هذا وذاك هناك مهرجانات من حجم بيروت.
واحد في
الإسماعيلية وآخر في المغرب وثالث في قطر، بين كل هذه المهرجانات ينفرد
مهرجان قرطاج السينمائي بخصائص لا تجدها في مهرجان آخر، لقد انطلق قبل كل
هذه المهرجانات .. هدف لتشجيع السينما البديلة والمستقلة وحصد اهتماماً
كبيراً من العالم العربي وأفريقيا (كونه يتخصص في السينما العربية
والأفريقية) ومن أوروبا التي تبحث عن سينمات متحررة وبديلة لما هو قائم من
سينمات تتبع الخط الهوليوودي أو التقليدي عادة، قبل انطلاق المهرجان
التونسي في الخامس والعشرين من هذا الشهر ويمتد لسبعة أيام لا بد من ملاحظة
أنه في العام 1949 كان هناك أوّل تواجد لنادٍ سينمائي في العالم العربي
وكان هذا التواجد في العاصمة التونسية، في الستينات، وعندما انطلق المهرجان
الذي أسسه الناقد الطاهر الشريعة الذي كان سنة 1966 يرأس اتحاد نوادي
السينما، كان عددها يزيد على عدد أي دولة في العالمين العربي والأفريقي، بل
يزيد على مجموع معظم هذه الدول معاً، هذا للقول بأن الثقافة السينمائية
كانت موجودة قبل المهرجان على مسرحين متوازيين: نوادي سينمائية يرأسها نقاد
لا همّ لهم سوى إنجاز هذه الثقافة بين الهواة، وجمهور كبير أحب السينما
التي يراها على شاشات هذه النوادي، كونها مختلفة عن الأفلام التي يراها على
شاشات صالات السينما التجارية، هذه الحاجة واكبتها حاجة السينمائيين العرب
في الستينات والسبعينات لسينما خارج المؤسسات التجارية وخارج المؤسسات
الحكومية .. ليس لأن قرطاج كان سيرفض فيلماً من هذه المؤسسة العامّة أو
تلك، لكن المعيار هو أنّ المخرجين الجدد - بصرف النظر عن الجهة المموّلة
آنذاك - كانت هذه الحاجة انعكاساً لما كان عليه حال الواقع السياسي ..
السينما الجزائرية خارجة من سنوات حرب التحرير .. السينما المصرية تبذل في
سبيل أفلام ذات نزعة قومية واشتراكية ..
السينما
السورية تبحث لنفسها عن مكان.
وإنتاجات
صغيرة من المغرب والسودان والكويت وتونس بالطبع كانت دائماً تجد نفسها
مرحّباً بها في ذلك المهرجان.
ولفترة
بدأ الخلط بين الأفلام العربية والأفلام الأفريقية خلطاً غير متجانس. كيف
يمكن الجمع بين سينما هي متقدّمة بمراحل كثيرة، فنياً وكاهتمامات وكتقنية،
وهي السينما العربية، مع سينما أفريقية هي وليدة تجارب غير مسبوقة بدراسة
أو بتاريخ؟ لكن المهرجان عاماً بعد عام رسّخ مبدأ أن هذا الخط قد لا يكون
متجانساً لكنه قابل للتأسيس، وهكذا أصبح المهرجان في السبعينات وفي
الثمانينات مقصداً للسينمائيين العرب والأفارقة على حد سواء .. والمسابقة
دائماً ما حوت أعمالاً من القارّة الأفريقية ومن المنطقة العربية على حد
سواء.
رعيل
الطاهر الشريعة
إذا نظرنا
إلى نتائج المسابقة في بعض السنوات الأخيرة، واعتبرنا أنّ لجان التحكيم
كانت دوماً محط تقدير ونزاهة، نجد أنّ الميل لمنح الأفلام العربية النصيب
الأكبر من الجوائز، إنما يعكس حقيقة تقدّمها الفني على تلك الأفريقية.
في العام
2006 فاز الفيلم التونسي (آخر فيلم) بجائزة التانيت الذهبية (الأولى). قبله
بعامين (والمهرجان يقام كل عامين بالفعل) نالها المغربي محمد عسلي عن (فوق
الدار البيضاء، الملائكة لا تحلّق). في العام 2002 نال التانيت الفيلم
السنغالي (ثمن المغفرة) لمنصور سورا واد، وقبله بعامين الفيلم الغابوني
(حياة الجنة) لبورلم غورديو. لكن الدورات الثلاث الأسبق شهدت فوز السينما
العربية على نحو متتال.
سنة 1992
فاز فيلم محمد ملص (الليل) (سوريا)، وسنة 1994 نال الحظوة الأولى فيلم
مفيدة التلاتلي (صمت القصور) (تونس)، ثم في دورة العام 1996 حصدها فيلم
مرزاق علواش (مرحباً يا ابن العم) (الجزائر)، ما هو ثابت أنّ العديد من
المخرجين العرب أو الأفريقيين الذين تجاوزت شهرتهم بلادهم ومناطقهم
المباشرة مرّوا بطريق قرطاج وليس سواه: فريد بوغدير، مرزاق علواش، مي
المصري، ميشيل خليفي، نوري بو زيد، سليمان سيسي، عثمان سمبان، محمد ملص،
أسامة محمد، إيليا سليمان وسواهم .. في الثمانينات، كانت الأوضاع السياسية
في العالم العربي تسمح بضخ اللقاءات بين السينمائيين على مستوى الطموحات
التي كانوا يشعرون بأنهم أهل لها.
وسواء
كانت القضية المرفوعة هو تأييد الحق الفلسطيني او مواجهة العدوان على بيروت
او المطالبة بتوحيد الصف لهذه الغاية او تلك، فإن شلّة السينمائيين كانت
تجد في المهرجان ضالّتها كما لم تجدها في مهرجان آخر.
عملياً،
سقف الحرية في التعبير مرفوع أعلى مما هو عليه في عدد من الدول التي جاء
العديد من السينمائيين منها، وثانياً، القضيّة الفلسطينية، قبل تطوّراتها
ودخولها الدهاليز الحالية، كانت ملتقى إجماع الدول وشعوبها معاً، لكن
الحمية التي واكبت مثل هذه اللقاءات خفّت تدريجياً حتى توقّفت، وصاحب ذلك
أيضاً، توجّهات جديدة للمهرجان لم تكن محسوبة من قبل.
الرعيل
الذي قاده الطاهر الشريعة والذي لوّن المهرجان بالسعي لسينما مستقلّة
ولاكتشافات عربية وأفريقية، انسحب بعد سنوات من العطاء، والجدد كانوا
تنفيذيين أكثر مما هم مبدعين أو طليعيين، النتيجة ليست أن المهرجان التونسي
خسر زخمه فقط، بل إنّ رسالته أصبحت مموّهة بعض الشيء. صار هناك خليط مختلف
من الأفلام والسينمائيين يشابه الخليط في غيره من المهرجانات. الرسالة
أصبحت عرض الأفلام بعدما كان عرضها هو أحد جوانب واهتمامات المهرجان وليس
كل شيء فيه هذا تبعه، أو بالأحرى نتج عنه، آلية تنفيذية كاملة وشاملة تهدف
فقط لتسيير أعماله.
صحيح أن
منزلته لا زالت موجودة، لكنها باتت تستند إلى تاريخه أكثر مما ترتكز على
حاضره، لكن، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي الذي
نعايشه والذي خلق فرصاً أخرى لمشاهدة الأفلام غير صالات السينما، فإن
الجمهور لم يتخلّف عاماً واحداً عن الإقبال الحاشد على عروض المهرجان.
تستطيع دائماً أن تتكّل على ذلك الجمهور الذي تمتلأ به الصالات خصوصاً
الصالة الرئيسية التي تسع لأكثر من ألف وقلّما تجد فيها مقاعد خالية او غير
مشغولة.
أفلام هذه
الدورة
هذا العام
الوجبة الرئيسية تقوم على ذلك الخليط ذاته من الأفلام العربية والأفريقية،
على الجانب العربي هناك (البيت الأصفر) للجزائري عامر حكّار، وهو فيلم دار
وجال في عدد من المهرجانات العربية وغير العربية ودائماً بتقدير جيّد،
يتحدّث عن فلاح مسن عليه استرجاع جثّة ابنه الشرطي الذي مات في حادثة لا
يود المخرج البحث فيها .. لاسترجاع جثّة ابنه عليه أن يقصد المدينة ووسيلته
الوحيدة جرّار زراعي قديم ثم خطف جثّة ابنه لأنه لم يرد الرضوخ للمعاملات
الإدارية، فيلم جزائري آخر هو (المتنكرون) لليث سالم، وهذا الفيلم هو
الترشيح الجزائري لأوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام ويدور في إطار
الكوميديات الرياضية، من مصر سيعرض المهرجان فيلم إبراهيم البطّوط وهو فيلم
يمثّل السينما المصرية المستقلّة حق تمثيل، فهو لم يتجنّب فقط التمويل
المعتاد من قبل الشركات التجارية، بل خط لنفسه منهجاً وصياغة فنيّة
وأسلوبية غير مطروقة، يفاجئ (عين شمس) مشاهديه ببداية من أمهر البدايات
التي عرفتها السينما المصرية إلى اليوم .. رمضان سائق تاكسي والسيارة تجوب
شوارع القاهرة بإنسياب. يتوقّف لراكبة اسمها مريم في طريقها إلى حفل غنائي
تنشد فيها مريم أخرى، أغنية عن العراق. المشهد التالي للدكتورة وهي تجري
تجارب وأبحاث حول انتشار السرطان وعلاقته باليورانيوم المستخدم في الغارات.
بعد ذلك
ينتقل الفيلم عائداً، إلى القاهرة وإلى شخصية السائق وعالمه خصوصاً وأن
ابنته الصغيرة مريضة ولا يوجد علاج لها، فيلم البطّوط شهادة جيدة للسينما
العربية المستقلة وخطوة كبيرة إلى الأمام لثاني أعمال المخرج الذي قدّم
سابقاً (إيثاكي)، من مصر أيضاً فيلم يسري نصر الله (حديقة الأسماك) الذي
عُرض في برلين (خارج المسابقة) وتجارياً في مصر ورحّب به معظم نقّادها
هناك، إنه عن جدران الخوف العازلة بين الناس والأقنعة العديدة التي
يرتدونها لأجل الحفاظ على تباعدهم وحقيقة هويّاتهم. طبعاً هذا هو المفهوم
الطموح لفيلم فيه محاولة متواصلة لخلق سرد غير عادي. لكن ليس كل فيلم يقدم
على هذه المحاولة يحقق درجة فنية عالية.
طموح
المخرج هنا - حسب تصريحات له - هو الحديث عن عالم ما بعد الحادي عشر من
أيلول - سبتمبر، لكن إذا ما كان هناك مثل هذا الطرح فإنه بالتأكيد لم يتبدّ
لا على شكل انعكاسات فنية ولا من خلال القصّة ذاتها.
حروب
السينما
اللبنانية ممثلة بفيلمين ينتميان بدوريهما إلى نهضة ما بعد الحرب، من دون
أن يعني ذلك أن تطرّقات أفلام هذه الموجة تضع في اعتبارها العلاقة الراهنة
بين تلك الحرب وبين الواقع المعاش .. أحد هذين الفيلمين هو (وعلى الأرض
السما) لشادي زين الدين ويتناول فيه قصّة الرجل الذي يعيش في بناية مهجورة،
كونها من مخلّفات الحرب، وذكرياته التي تدور حول علاقاته وحياته خلال الحرب
ذاتها، كل الشخصيات التي نراها إنما تدور من حوله مثل الفراشات حول مصدر
النور. لكن الرجل (كما أدّاه رفيق على أحمد) لا يعايشها اليوم معاً الا من
خلال ذكرياته المجروحة وحياته التي غدت لا طعم لها .. فيلم خاص بأسلوبه
السينمائي المميّز كذلك الحال مع فيلم سمير حبشي (بيروت مدينة مفتوحة) الذي
يتعامل بدوره مع مرحلة ما بعد الحرب - تلك المرحلة التي لا زالت متأثرة
بتلك الحرب الأهلية الطويلة، ولا يبدو هناك وجود لفيلم سوري، لكن فلسطين
ممثلة بفيلمين أولهما (عيد ميلاد ليلى) لرشيد مشهراوي، وهو فيلم افتتح
مهرجان الشرق الأوسط الأخير، و(ملح هذا البحر) لماري آن جاسر الذي سبق له
وأن عُرض في كان، من المغرب فيلمان أيضاً هما (كل ما تطلبه لولا) الذي كان
مهرجان الإسكندرية حذفه من دون مبرر مفهوم، وهو من إخراج نبيل عيّوش
و(القلوب المحترقة) لأحمد المعنوني وحاله، مثل حال فيلم إبراهيم البطّوط:
قائم على الأسلوبية كتذكرته الإبداعية الأولى، يكفي أن المخرج اختار - في
إطار حديثه عن معنى الغفران والرغبة في الانتصار على ألم الذاكرة - تصوير
الفيلم بالأبيض والأسود، باستثناء ذلك المشهد الرائع التي يتعلّم فيه الشاب
الحكمة من شيخ جليل يجلس في باحة المسجد الخارجية، والسينما التونسية
متمثلة بثلاثة أفلام هي (هذه الرحلة الجميلة) لخالد غربال و(خمسة) لكريم
دريدي وفيلم للمخرجة كلثوم برناز عنوانه (شطر محبّة) .. باقي الأفلام، وهي
قلّة، جاءت من القارة الأفريقية .. تحديداً هي ثلاثة أفلام (واحد من جنوب
أفريقيا، آخر من مالي وثالث من إثيوبيا). ما يكشف، في الواقع مشكلة أخرى
ناتجة عن الجمع بين السينما العربية وزميلتها الأفريقية .. ماذا تفعل لو أن
عدد الأفلام العربية كان أعلى بشكل مضاعف عن تلك الأفريقية؟.
ومن
الأردن نجد فيلم أمين مطالقة (كابتن أبو رائد) الذي جال بدوره معظم
المهرجانات العربية والكثير من المهرجانات العالمية: قصّة ذلك الكنّاس
العادي في مطار عمّان الذي يعتقده أولاد الحي طيّاراً سابقاً، فيتجاوب مع
هذا الاعتقاد محلقاً بقصصه الخيالية في أنحاء العالم، بينما لم تتح له فرصة
مغادرة المدينة ولا مرّة، إنه مثقف مسن ماتت زوجته وتدفعه ظروف العنف الذي
تشهده العائلة المجاورة للتدخل لإنقاذ المرأة وطفليها من الأب الجائر ..
الفيلم مسرد بفلاش باك طويل يصعب قبوله منطقياً، لكن ذلك لا يشكّل سوى هنّة
لا يجوز التوقّف عندها طويلاً.
إنه فيلم
ينتمي إلى صنعة مخرجة الشاب أمين مطالقة وإداء الممثل الأردني - البريطاني
نديم صوالحة الذي على الرغم من عشرات الأفلام التي مثّلها إلى الآن، لم
يتسن له بطولة أي فيلم عربي قبل هذا الفيلم? لجانب ذلك، هناك سلسلة
الاحتفاءات، على الأخص لسينمائيين ماتا خلال العام الماضي والعام الحالي
هما المنتج التونسي أحمد بهاء الدين عطية والمخرج المصري يوسف شاهين.
وفي حين
جاء الاحتفاء بيوسف شاهين عبر مجموعة من الصور في مهرجان الشرق الأوسط
الأخير، فإن الاحتفاء بالمخرج الراحل في مهرجان قرطاج (الذي طالما عرض فيه
المخرج أفلامه) يقوم على عرض عدد من أفلامه .. الأمر الذي اختار مهرجان
الشرق الأوسط تجاهله.
الجزيرة السعودية في 24
أكتوبر 2008
|