ينظر
الكاتب يسري الجندي في كتابته لمسلسل 'ناصر' الذي يروي
سيرة حياة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر... ينظر إلى المرحلة والشخص نظرة
حنين
وتمجيد، تبدو عاجزة عن تقديم أي تحليل نقدي لتلك المرحلة
الهامة من تاريخ مصر
والمنطقة، ممثلة برجل استطاع أن يطبع جزءاً من تاريخ العرب الحديث بطابعه
وخطابه،
بكل ما في ذلك من مطامح شخصية ونجاحات وانتصارات وأخطاء وكوارث!
سعى العمل
لأن
يقدم جمال
عبد الناصر بصورة مثالية، ليس فيها أي خطأ مسلكي، أو نزوع سلطوي، أو نزوة
عائلية... وبالتالي كنا أمام دراما نظيفة، منقاة من الشوائب، لزعيم لا
يأتيه الباطل
من أمامه أو خلفه... زعيم يحمل مثالية عالية في حياته الشخصية
والعائلية، مثلما
حياته العسكرية ثم السياسية... ويتعامل باحترام شديد حتى مع من يختلف معهم
في
الرأي... فيتسامى على الصغائر، ويحتوي الإساءات إن لم تكن بحق الوطن...
وإذا كانت
صورة عبد الناصر في الوجدان الشعبي العربي، قريبة إلى حد ما من
هذا التصور بسبب
تقشفه المالي، وخلو تاريخه الشخصي والعائلي من قصص فساد وسلب ونهب وإثراء
غير
مشروع، كالتي عرفت عن رؤساء جاؤوا بعده... فإن العمل الفني لا يجب أن يظل
مقيداً
بالصورة الشعبية العامة التي تجهل تفاصيل، ولا تقرأ تاريخا،
ولا تكترث كثيراً
لمفهوم العدالة حين يتقادم العهد بالظالم، ويفعل الزمن فعله في الذاكرة...
فجمال
عبد الناصر المثالي، هو صورة مرسومة من الخارج، شبيهة بالصورة التي كان
يرسمها له
إعلامه طيلة سنوات حكمه، الذي بطش فيه بالحركات اليمينية
واليسارية معاً، وزج في
السجون والمعتقلات الكثير من مثقفي مصر... وأسس لحكم المخابرات وأساليبه
الوحشية في
إنهاء الخصوم... ولعل أصدق وصف لطبيعة ما قاله د. إمام عبد الفتاح، مؤلف
كتاب
'الطاغية' ذات مرة: 'أعتقد أن عبد الناصر كان ديكتاتورا وطاغية نموذجياً،
وأن كل
الطغاة في
المنطقة تخرجوا من عباءته. فهو ناظر مدرسة الديكتاتور ولا جدال في هذا،
فهو رجل لم يستطع أحد محاسبته حتى في أكبر الكوارث التي سببها
لنظامه'.
واجهة
الثورة
لقد رد
كاتب المسلسل على بعض من انتقدوه بأن
كل
ما كتبه يستند إلى مراجع ووثائق... لكن الأنظمة الشمولية كانت على الدوام
تصنع
وثائقها المزورة... ثم تقدمها للتاريخ كي يكتب من جديد...
وأعتقد في نظام أممت فيه
الصحافة، وألغيت فيه الأحزاب، وحكمت المخابرات بالحديد والنار، لا يمكن
الوثوق
بالكثير من هذه الوثائق، وخصوصاً تلك التي صورت صراع عبد الناصر مع اللواء
محمد
نجيب... فقد منَّ يسري الجندي على منتقديه، بأنه كان موضوعياً
ولم يتجاهل دور نجيب
كما فعل آخرون... لكن الجندي جعل من حضور محمد نجيب، وسيلة لتلميع صورة عبد
الناصر،
وإظهاره بمظهر يفيض نبلاً وتوازناً واستيعاباً لنزوات نجيب
وحبه للسلطة وللحشود
الجماهيرية التي تهتف باسمه، ثم تأكيد دور ناصر المحوري، مقابل التركيز على
مقولة
أن
نجيب كان واجهة للثورة لا أكثر!
يقول
السفير رياض سامي السكرتير الصحافي
لمحمد نجيب، في حوار صحافي نشر معه عام 2001: (لولا محمد نجيب وسمعته بين
الضباط
وحبهم الشديد لما نجحت الثورة، وهو الضابط الجسور والوحيد برتبة أميرلاي
الذي حارب
إلى جوار جنوده في فلسطين، وكان مثقفاً وعلى خلق، وهو الوحيد
الذي قبل قيادة حركة
الضباط الأحرار إيماناً منه بضرورة التغيير في الوقت الذي رفض كل من عزيز
باشا
المصري وفؤاد باشا صادق قيادة ذلك التنظيم، لقد دخل نجيب مخاطرة من أجل مصر
في
الوقت الذي لم يكن اسم جمال عبد الناصر مطروحاً في الساحة كأحد
مؤسسي التنظيم، لأن
عبد الناصر كان يخشى تسرب أخبار الثورة والقبض عليه، ولا يمكن أن يكون جمال
عبد
الناصر قائداً للثورة فمن كان يمكن أن يثق في ضابط برتبة بكباشي... وكان في
الجيش
المصري آنذاك ستة آلاف بكباشي).
لقد ألمح
المسلسل إلى تآمر محمد نجيب مع
الأخوان المسلمين في حادثة المنشية لاغتيال عبد الناصر، لأنها دراما قائمة
على سوء
الظن بكل من اختلف معه جمال عبد الناصر... إلا أن هذه التهمة
بقيت دون دليل
تاريخي... بل على العكس فلم يكن الأخوان يؤيدون محمد نجيب في قضية قانون
إعادة
الأحزاب التي حدثت بسبب أزمة 5 آذار (مارس)... وقد أشار رياض سامي، إلى أن
محمد
نجيب أرسله إلى منزل حسن الهضيبي مرشد الأخوان المسلمين،
ليسأله: (هل إذا أصر
اللواء محمد نجيب على الديمقراطية ستقف بجواره؟! فلم يعطني رداً شافياً...
وعندما
علم اللواء محمد نجيب بالأمر رد بالقول: لقد كنت متوقعاً هذا الموقف، فلن
يوافق
الهضيبي على عودة الوفد حزب الأغلبية، الذي كان منحلا آنذاك
ليتولى الحكم.
كذلك
فقد أورد المسلسل طريقة عزل محمد نجيب بأسلوب غاية في الرقة
والتحضر... والطريف أن
كاتب المسلسل صور محمد نجيب في مونولوج حائر يتساءل ويحاكم ويدين نفسه:
(ظلمت روحي)
أما المخرج فقد صور ليلة عزله بصورة شاعرية، وقد هطل المطر وبلل غصون
الأشجار في
حديقة قصر عابدين... والمعروف أن محمد نجيب، عزل ووضع رهن الإقامة الجبرية
في قصر
(زينب الوكيل) بمنطقة المرج... طيلة سنوات حكم جمال عبد الناصر، ولسنوات من
حكم
السادات... وقد عومل معاملة مهينة وقاسية ولا إنسانية... وقد كتب محمد نجيب
يقول في
مذكراته:
(كان
قائد الحرس يأمر السائقين بإدارة موتورات السيارات السبع المخصصة
لخدمتنا فنستيقظ مفزوعين، حتى أصيب ابني بانهيار عصبي... ففتحت النافذة ذات
يوم،
وطلبت من الضباط الامتناع عن تلك الصغائر فنهرني قائلاً: ادخل
أحسن لك. حاولت
إفهامه أنه لا تليق معاملتي بهذه الصورة، فقال لي آمرا: اقفل الشباك وادخل
أحسن لك.
بعد سنوات من هذه الإقامة الجبرية أصبت بالتهاب في عظامي، وأجمع الأطباء
على ضرورة
دخولي إلى
المستشفى... ولكن ما قيمة إجماعهم مع إصرار الحاكم على حجبي عن الجماهير،
لقد رفض... ثم عاد وصرح لي بالتردد على المستشفى مرتين بالأسبوع، وذات مرة
قابلت
أحد جنودي الذين خدموا معي في فلسطين فأوقفني وراح يبكي بشدة:
فين أيامك؟ فلما عدت
صدر أمر بعدم خروجي من المنزل.. فعالجت نفسي بعسل النحل).
الصور
المزورة
وعندما
توفي ابن محمد نجيب (علي) في ألمانيا في ظروف غامضة عام 1967
منع محمد نجيب من استقبال جثمانه والصلاة عليه في جامع السلطان حسن كما
يقول في
مذكراته: (وبعد توسلات وافقوا على استقباله والصلاة عليه، إنما
في المقابر... وعلى
أن
يكون ذلك في الثانية صباحاً، وفي اليوم التالي أقيم العزاء بمنزل أخي
اللواء علي
نجيب بمنيل الروضة وصدر قرار بمنعي من الجلوس في السرادق... وحرمت من
استقبال
المعزين)!
فأين هذه
الوقائع من الصورة التي قدمها المسلسل حين قال عبد الناصر،
إنه لن يتهاون مع من يسيء لنجيب أو يتطاول عليه.. أو صورة
الزعيم الشاب الذي يستوعب
غرور وتحجر ونزوات الرئيس السلطوية؟!
إن صورة
محمد نجيب في مسلسل (ناصر) واحدة
من
كثير من الصور المزورة التي قدمها العمل والتي لا تحترم التاريخ، بقدر ما
تريد
الاقتصاص من أعداء الثورة... فنجيب ليس أكثر من ديكتاتور نائم،
ميوله النرجسية وحبه
للالتفاف الجماهيري كـ 'بريستيج'، وولعه ببث تصريحاته في الإذاعة... تفضح
ما سيكون
عليه إذا استمر في الحكم.... أما عبد الناصر فهو الضابط المتوازن، الذي
يحصد
جماهيرية يستحقها، ويفاجئ الجميع بتواضعه فيما يخطو خطوات هو
أهل لها!
لكن خارج
هذه
الدراما المنشاة فعبد الناصر في النهاية بشر يخطئ ويصيب... وإنجازاته
العظيمة
في
تأميم قناة سويس وفي دعم قضية فلسطين، وفي تشجيع الروح القومية والإيمان
بمبدأ
الوحدة، سوف لن تلغي أخطاءه الأخرى وأكبرها كارثة نكسة حزيران،
ولا تخفي قسوته مع
خصومه، ولا انتهاكه للحريات... وعلى الدراما أن تتعامل بتوازن مع الإنجازات
والارتكابات... وألا تتحول إلى خطاب تمجيدي يموه الحقائق، وخصوصاً حين
يتعلق الأمر
بزعيم كان له دور محوري في قضايا أمته الكبرى، وفي تحديد مصائر
شعوب... وليس بسيرة
فردية لمطربة أو فنان له تأثير محدود على مصائر الآخرين.
الرؤية
التمجيدية
ويبدو
المخرج الفلسطيني باسل الخطيب، خير من يخدم هذه الرؤية
التمجيدية الأحادية، فهذا المخرج الغزير الإنتاج، المتفاوت السوية بين عمل
وآخر...
سبق له منذ عامين أن أخرج مسلسلا في الكويت عن الشيخ مبارك آل صباح...
أسماه (أسد
الصحراء) وأسبغ فيه من المدائح عن هذا الشيخ النفطي ما يمكن أن يستدل بلا
عناء حين
تكون الجهة المنتجة تنتمي بشكل من الأشكال إلى الأسرة الكويتية الحاكمة...
وبالتالي
لا يمكن الزعم بأن مسلسل (ناصر) يعكس إلتزاماً سياسياً خاصاً
لدى هذا المخرج
بالضرورة، بل هو مجرد فرصة عمل، بأجور العمل التلفزيوني المجزية أساساً،
مهما حاول
بعضهم أن يسبغ على هذه (المهمة) صفات البطولة والنبل والإيمان القومي
الأصيل!
أما على
الصعيد الفني، فقد كان أداء مجدي كامل الرائع، وحسن مقاربته
لشخصية جمال عبد الناصر (حتى ضمن الإطار المثالي) أفضل عناصر
العمل... وكان تجسيد
الفنان المخضرم عبد الرحمن أبو زهرة، لشخصية محمد نجيب موفقاً في إبداء بعض
الاحترام الظاهري لها... وهو أمر ينسجم مع ادعاء حكم عبد الناصر احترامها
ظاهرياً
أيضاً... إلا أن المسلسل ككل، يغرق في السرد الوثائقي، وهو
يدخل المادة التسجيلية
بنبرة دعائية فاقعة فلا تكاد تجد فرقاً بينها وبين الرؤية الدرامية للمسلسل
الذي
يبدو في كثير من الأحيان على قدر من الرتابة في تتبع وعرض الأحداث، رغم
مهارة
الكاتب في الإخلاص لبطله الأوحد (جمال عبد الناصر) وجعله هو
محور هذه الأحداث
وصانعها مهما كانت هامشية!
'
ناقد فني
من سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في 25
سبتمبر 2008
|