قبل أن
يبدأ شهر رمضان
وبينما يتسابق النجوم على القنوات الفضائية لحجز مساحات
الإرسال في أوقات متميزة
تنتهي الدراما السورية من حسم كل معاركها التنافسية وتسجل عدة أهداف في
مرمى
التليفزيون المصري بعد أن فرضت نفسها بالقوة على الفضائيات الأخرى الأكثر
انتشارا
والأكثر حرية. فها هي تعلن عن تفــوقها الدرامي بتجسيد حياة
شخصيـــتين كبيــــرتين
هما 'أبو جعفر المنصور' و'بلقيس' ملكة سبأ التي ورد ذكرها في القرآن
الكريـــم
لتبدأ مرحلة التأريخ الفني لأكبر حضــــارتين في الشرق، حضارة العـــراق
المتمثلـــة في فترة حكم أبو جعفر المنصور ونظام الحكم العادل لرجل الحكمة
والمبادئ
والخلق الكريـــم وحضارة اليمن المشار إليها ضمنا في السيـــرة
الذاتيـــة لملكة
'سبأ'
أشهر شخصيات التاريخ الإسلامي. وكما تفسح شركات الانتاج السورية المجال
أمام
الدراما التاريخية تهتم ايضا بوجود خط مواز للدراما الاجتماعية لتربط
الحاضر
بالماضي وتصل الامتداد الطبيعي بين حضارة الأمس وكفاح
اليـــــوم فهي أي الدراما
السورية تجدد رسالة التوثيق التاريخي لبطولات غابت عنها الشمس وتبخرت
ذكراها من
عقول الشعوب العربية، لذا كان حريا بالكتاب والمخرجين أن يتحملوا مشقة
البحث
والتقصي وعناء الصياغة الدرامية ليحققوا السبق في تجسيد الرؤى
والأحداث وبعث
الشخصيات البطولية من رحم التاريخ مرة أخرى.
بهذه
الفطنة أنتجت سورية مسلسل
'فرسان الريح' ثالث الأعمال المهمة المقرر عرضها في رمضان هذا العام والتي
تمثل عصب
التحدي في
مواجهة العنت الإعلامي وجهل النقابات الفنية التي رأت في تواجد الفن
السوري بالتليفزيون المصري خطرا داهما وكارثة توقع بهم الضرر فكانت النتيجة
تضامن
قنوات البث اللبنانية والليبية والأردنية والبحرانية
والإماراتية مع كل ما يمت للفن
السوري بصلة، فيما ظلت الدراما المصرية متراكمة بالأسواق تسأل الله في حق
التوزيع
بأي سعر وعلى أي قناة وهو ما تم التحذير منه مسبقا إزاء الأزمة الحمقاء
التي أثارها
أناس أكثر حماقة تعصبوا بغباء للدراما المصرية فباتوا مثل
الدبة التي قتلت صاحبها،
حجبوا عنها النور ومنعوا الماء والهواء وهم فرحين بجهلهم وفخورين بعنصريتهم
مغيبين
البعد القومي تماما في تعاملهم مع القضية.
فلم يزد
ذلك الفن السوري إلا تألقا
وانتشارا، ففي الوقت الذي تحتاج فيه الأمة العربية الى التضامن
ووحدة الصف يأتي
الصغار ليفسدوا محاولات الود والتقارب وتحذو المؤسسة الحاكمة بوزارة
الإعلام نفس
الحذو خوفا وهلعا من تمدد التيار القومي وسيادته في الشارع العربي وعلى أثر
هذا
الخوف والرعب المبين يمنع التليفزيون المصري ـ التليفزيون
المصري وليس التليفزيون
الإسرائيلي عرض مسلسل 'ناصر' الذي كتبه الكاتب الكبير يسري الجندي وأخرجه
المخرج
السوري نزار الخطيب في شهر رمضان على أي من قنواته الأرضية أو الفضائية دون
إبداء
الأسباب اللهم غير الجهل والصلف والردة الى زمن الملكية
والإقطاع والفساد والرشوة
ومحاولة التشويش والتعمـــية على فترة كانت من أخصب الفترات التاريخية
والسياسية
ازدهارا في حياة مصر والأمة العربية قاطبة.
فلا سبيل
لتبرير عدم عرض مسلسل
يتناول حياة أول رئيس فعلي لمصر وأكبر زعيم عربي إلا الهلع
والجزع من أن يزيد
المسلسل شعبية الرئيس جمال عبدالناصر ويعيد الى الأذهان أيام المجد
والشموخ،
والتحدي فتحدث المقارنة الشعبية التلقائية بين الرجولة والصمود والكبرياء
والزعامة
وبين نقيض الحالة والأحوال، حيث التخاذل والرضوخ والتبعية وسوء
العاقبة.
هذا فقط
ما
يمكن الوقوف عليه في عملية الرفض واسبابه التعسفية والتي لم يجد لها منتج
المسلسل محمد فوزي تفسيرا غير الإصرار على اغتيال العمل الفني
التاريخي ـ السياسي
المهم وهو ما يقودنا ثانية الى بداية الحديث عن الغضب من تفوق الدراما
السورية
ومبادرتها بتوثيق حياة المناضلين والثوار والشخصيات التاريخية المؤثرة.
الأمر
الذي استشاط له المسؤولون الإعلاميون ونجوم الفن غضبا لأنه يفتح الباب أمام
المقارنات ويقزم الشخصيات الأخرى التي دخلت التاريخ صدفة وخرجت
منه وهي لا تزال على
قيد الحياة، حيث لا إنجاز يشفع ولا انتصار يدفع ولا سيرة ذكية ترطب القلوب
هي فقط
الكوارث تتوالى، من الموت إلى الحرق الى الغرق ومن ثم فإن الدراما لن تجد
ما تنهل
منه أو تتكئ عليه في تصويرها للواقع والأحداث والأشخاص.
وتلك
إشكالية يعيها
السياسيون قبل كتاب الدراما ومن هنا جاء العزوف عن تناول
المراحل الآنية والارتباط
بالتاريخ لأنه الأكثر جاذبية والأعمق في الحديث والحدث ولعل ارتباط الذاكرة
الجماهيرية بشخص الرئيس عبدالناصر يدلل على ذلك ويظهر على الجانب الآخر
خواء
المراحل التالية لمرحلته الزاخرة الظافرة ويعكس سر الحنق
والجحود على الرجل وتاريخه
وانجازاته ويدفع بقوة في اتجاه نفيه خارج دولته ووطنه وعصره وعصريته ليبقى
الآخرون
وحدهم في بؤرة الضوء، عفوا في هامش الظل.
القدس العربي في 31
أغسطس 2008
|