في عالم
الصحافة و النقد ،ما ينفع الناس هي المعلومة. لابل ان اساس كل كتابة و
جوهرها هي المعلومة، التي تبقى و تستقر في ذهن القارىء. و يوسف شاهين
كظاهرة فنية انسانية مشاكسة مجبولة عل التحدي و المغامرة يصعب تكرارها !. و
لا اظن ان هناك معلومة ما قد اغفلت في حياة هذا الفنان ولم يتعرض لها
النقد.. فضلا عن الكتب والرسائل و البحوث التي تناولت ظاهرة يوسف شاهين
السينمائية. ولا يكاد هناك ناقد سينمائي غفل عن ابداع هذا الفنان. اذا لم
يكن الجميع قد تحرقوا وتحمسوا بشدة للحديث عنه وعن افلامه سواء كان ذلك
بالتعريض المسّهب او التقريض المذهب .. الذي لم يسلم منه !.و هو من طبائع
الامور، اذ ليس بالضرورة ان تكون الرؤى متطابقة ، ولن تكون كذلك. لان
الجانب الفكري في السينما هو المقياس النقدي الامثل.
وهذا ما
يُشكل الكتابة عن يوسف شاهين، الذي تثير افلامه جدلا و انقساما ، انطلاقا
من تقنيته واسلوبه المتطور، ومن مضامينه ومواقفه التي توصف لدى البعض
بالمبهمة. غير انني اجده فنانا عاش ومضى في زمن صعب ؛ كلمّا ما يزداد
تعقيدا وصعوبة ومشقة. لكنه كان بمشاكسته و تحديه منفردا ومتميزا، يمارس هوس
التحريض لاجل حياة انبل و اشرف. سبعة وخمسين سنة قطعها للفن من اثنين
وثمانين سنة مع الحياة..بابا امين اول افلامه عام 1950 و كان عمره آنذاك
اريعة وعشرين سنة عاد من دراسته في امريكا ليسند له الاخراج دونما أن يمر
بمراحل الممارسة كمساعد اخراج!. و يذكر انه في دراسته درس الاخراج المسرحي
، لذلك لا يخفى على المتابع او المتذوق انه استخدم تقنيات المسرح في فيلمه
(حتوتة مصرية) و (اسكندرية كمان وكمان) ، وكذلك اخراجه لمسرحية (كاليكولا)
عام 1992 ضمن مشاريع مختلفة لعدد من غير الفرنسين للمسرح (الكوميدي
فرانسيز) الفرنسي واستخدامه الغناء والانشاد من خارج الكادر في بعض افلامه
مثل (جميلة بوحريد) (الارض) (عودة الابن الضال) و(المصير). ولان سرد
بلغرافيا عن يوسف شاهين وانجازاته الفيلمية متيسرة ومعروفة، الا ان اللافت
انه اخرج ست مرات فيلمين في السنة في مشاورة مع الفن
(1952/1956/1958/1960/1986/1970 ) واخرج ثلاثة افلام انتاج مشترك مع الدول
الاوروبية (رمال من ذهب) مع اسبانيا (الناس والنيل) مع الاتحاد السوفيتي ـ
سابقا ـ (وداعا بونابرت) مع فرنسا. وهو انتاج متفرد ، تميز انتاج يوسف
شاهين بالنوعية وهو مقل قياسا لحياته الفنية الطويلة التي عاشها. و قد حصل
على الجائزة المستحدثة لمرور نصف قرن على مهرجان (كان) السينمائي لمجمل
اعماله الكاملة و هي جائزة تمنح كل نصف قرن تقديرا لمشواره الطويل وقد
اهداها لبلده مصر التي ولد عليها .
يوسف
شاهين فنان راديكالي لا يحارب طواحين الهواء بالرغم من الكتابات النقدية
التي تثيرها افلامه وخصوصا فيلمه (الاسكندرية ليه) الذي واجه بسببه في
حينها تهم محاباة الصهيونية و نظام السادات مما حدا لطفي الخولي المثقف
اليساري المعروف للرد و الدفاع المقابل عل مثل هذه التأويلات.
يوسف
يقول: (انا افكر اذا انا يوسف) وكان المشاهد يتنفس انفاسه في فيلم (الناصر
صلاح الدين) عاد 1963 و يتمثل معه راديكاليته القومية، وشدة تأثره بجمال
عبد الناصر، والحماسة الثوية و القومية التي كانت سائدة في وجدان جيله التي
كانت نقطة صراع واستقطاب دولي. وهذا الفيلم قابل للتسويق في يومنا هذا
لشحنه بالتسامح الديني مشكلة العصر الراهنة. وكذلك بقية افلامه التي كلما
مرّ عليها الزمن تبقى قابلة للقراءة والتأويل.
يوسف مخرج
صاحب قضية واضحة منذ بداياته، ففي فيلم (صراع في الوادي) ُُُُُُُيعرّي فساد
النظام السياسي و الاقتصادي. وفي فيلم (باب الحديد) يغوص في قاع المدينة
ومجتمع المقهورين. و فيلم (الارض) ملحمة النضال الطبقي و القيم و
الاخلاقيات. والاختيار والعصفور والابن الضال يفضح المواقف الانتهازية و
صراع الذات والانهرام امام استشراف الامل و الثبات المبدئي ، وفي فيلم (
المصير) يكشف عن الارهاب الفكري البغيض الذي يصادر الحريات . الذات الفنية
والانسانية ليوسف ذات منطلقة من الوطن الى العالم اجمع.
يوسف
شاهين وهب اكثر من خمسين عاماً من نشاطه الابداعي لقضية الانسان وهو واحد
من الاساتذة الذين اسسوا للاخراج وعلوم السينما كمعلم.
ان الحديث
عن يوسف شاهين لن يكون في يوم من الايام الحديث عن الماضي ولا اظنه سينتهي.
كان يوسف يتمتع بحس وطني نادر ، وحماسة الشباب المستديمة، و فكر جدلي واعٍ
عبر عنه في افلامه دونما وجل او مواربة. واذكر انه عندما زار بغداد في فترة
الحصار لم يجامل احدا حينما قال في كلية الفنون الجميلة وهو يخاطب شريحة من
الطلبة (انتم مش شهداء أوي) كان صريحا ومختلفا عن بقية الوفد المدفوع
بالمحاباة والمجاملة الدبلوماسية التي أساسها المصالح !. كم بودي لو كان
هناك متسع للحديث أكثر، لوكان هناك متسع أن نحيط بوطأة الخسارة الثقافية
والسينمائية بفقدنا هذا الفنان المصري العربي العالمي، إلا أن عزاءنا أنه
ترك لنا تراثاً فنياً ضخماً يُدرَس ويُدرس، عسى أن يخفف عنا هذه الخسارة .
المدى العراقية في 11
أغسطس 2008
|