أرسل
الفنان وليد عوني الرسالة التالية إلي «صوت وصورة»:
كلما نفقد
معلماً أو حبيباً نقترب من الموت أكثر، وكلما نريد أن نهرب من شلال الزمن
نتعلق بالحياة أكثر.
وهذا ما
فكرت به هذه الأشهر الأخيرة التي فقدت بها معلمين، معلمي الأول هو «موريس
بيجار»، وأستاذي الثاني هو «يوسف شاهين»، قد لا يحق لي القول أستاذي لأنه
أستاذ الجميع. تلقينا نبأ الوفاة، ثم ذهبنا إلي الكنيسة، ثم إلي العزاء..
وهذا هو شلال الزمن ينحدر بسرعة، وخلال ثلاثة أيام نري الأمور أوضح حينما
يموت الحبيب، فنتعلم قيمة الحياة، صعقنا، فصلينا، فودعنا، ثم تنفسنا.
وفي اليوم
الثالث بدأت ترتسم ابتسامات علي وجوه الأصدقاء، وهذه هي الحياة التي أرادها
يوسف شاهين، أن نحبها، وأن القدر هو خطة مقدسة، فكلما تقدمت بنا الأيام
سنتكلم عن يوسف بفرح وليس بأسي، سنتذكر يوسف بالضحك والحنين والأمل، كما
صوره في أفلامه وليس بالفراغ والوحشة.
سألوني:
هل يوسف شاهين سيترك فراغ في السينما المصرية؟ قلت لهم: طبعاً لا، لأنه
أولاً قد ملأ كل ثغرة وجدت.. إنما السينما المصرية ستستمر مليئة بالقيم
طالما ترك تلاميذه علي طريقه الطويل، وحتي القليل من الأفلام القيمة حالياً
تحمل عباءة يوسف شاهين، أو الشيء من رائحته.
قيمة
الأفكار تشكل عقل الإنسان، وأفكار شاهين علمتنا أن نحب الحياة، وأن ننتبه
إلي القيم الإنسانية من خلال حسه اللامتناهي، علمنا كيف ندافع عن حرية
الرأي، والحرية الشخصية بأبسط طبقاتها.
عملي مع
يوسف شاهين اقتصر لفترة صغيرة علي فيلمين «المهاجر».. و«المصير» كانت كافية
بأن أتعلم أكثر عن الرقص.. نعم الرقص! تعلمت منه ما هي قيمة الجملة
الموسيقية من منظور ثان.. يوسف أحب الرقص منذ صغره، ويوماً قال لي: «لو لم
أكن مخرجاً لرقصت طول عمري»، وقلت في قلبي: «لو لم أكن راقصاً لتمنيت أن
أكون يوسف شاهين». علمني كم هي رائعة لذة الأذن الموسيقية، لم أصدق عيني
وأذني عندما حضرت يوماً تسجيل أغنية «علّي صوتك بالغنا» مع محمد منير،
وطريقة شرحه لإخراج الشعور والروح والنفس.
اعتقدت أن
موريس بيجار هو مثلي.. إنما جاء من أدهشني بابتسامة وتفكير، لم يتدخل في
عملي وتصميمي إنما رأيت كيف عدسته غيرت كل شيء، فاندهشت وتعلمت خطوة جديدة
في المسرح الراقص.
سألوني
الأمس: ماذا أضاف لك يوسف شاهين؟ قلت: الدقة، التأني، التفكير، الصبر،
الإعادة، ثم الإعادة للوصول إلي الكمال.. كنت أراقبه أكثر مما أعمل معه،
كنت أحبه أكثر عندما لا يتكلم، لأنه قال كل شيء! وأكرهه عندما يتكلم باللغة
الفرنسية! سألت يوماً نجيب محفوظ في آخر زيارة لي إلي بيته قبل رحيله
بأسابيع: ما هو الرقص بالنسبة لك في عصرنا هذا؟ بما قاله جلال الدين
الرومي: «أرقص الكون يرقص»، فأجابني: «دا زمن ودا زمن». فأردت أن أسأل هذا
السؤال إلي شاهين، ولم تأت الفرصة، باعتقادي أن العباقرة لا يموتون يوماً.
إنما
اليوم قد أتي كما أتي علي موريس بيجار ونجيب محفوظ، ويوسف شاهين، هؤلاء
الثلاثة فكروا وعملوا لآخر لحظات حياتهم لإسعادنا، وكأنهم أيضاً يريدون أن
يأخذوا عالمهم معهم ويتركونا لنتعلم وحدنا عما هي الإنسانية، وخصوصاً ما هو
التسامح وما هي المعرفة.. وليس فقط أن «نعلّي صوتنا بالغنا لسه الأغاني
ممكنة».
إنما
«علّي صوتك» بالحب.. بالحرية.. بالتسامح.. «علّي صوتك» بالأمل بالفرح وحب
الحياة.
samirmfarid@hotmail.com
المصري اليوم في 2
أغسطس 2008
|