"الفن
السابع فقد لتوه احد اشهر المساهمين فيه. فيوسف
شاهين، المتعلق جدا بمصر لكنه
منفتح على
العالم، هو مخرج ملتزم ومدافع كبير
عن
حرية التعبير وبشكل اوسع
عن
الحريات الفردية
والجماعية".
هذا هو ما
ورد في البيان الرئاسي الفرنسي الذي نعى المخرج المصري الكبير
يوسف
شاهين، الذي نعته أيضا كل صحف
العالم ووسائل الإعلام حول الأرض بعنوان شبه موحد وهو "رحيل مخرج أسطوري
مصري".
وبالرغم
من اعتزازه الشديد بمصريته، وجه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تحية
تقدير الى المخرج الراحل واصفا اياه بأنه "مفكر صاحب استقلالية كبيرة وهو
مدافع
كبير
عن
تزاوج الثقافات".
يوسف
شاهين، أو "جو" كما كان يحب
أن
يلقبه تلاميذه ومحبوه، استحق من خلال أفلامه التي صنعها على مدى 58 عاما أن
يكون
مواطنا عالميا، لا مصريا كما تدل شهادة ميلاده وجنسيته.
فجو حاول
أن ينقل حسه الإنساني إلى العالم من خلال أفلامه التي اعتبرها نقاد
السينما بصمات في تاريخ السينما المصرية ومحطات لا يمكن تجاوزها عند
التأريخ لفن
السينما في العالم.
وربما
يرجع هذا التواصل الإنساني ليوسف
شاهين
مع
العالم إلى تعدد
الروافد
التي شكلته في سنوات التكوين.
فهو ابن
لأسرة من أصل لبناني، هاجرت إلى مصر في أوائل القرن العشرين. وهو أيضا
ابن لمدينة استثنائية، حيث ترعرع في الإسكندرية عندما كانت من أهم موانئ
البحر
الأبيض المتوسط وملتقى لجاليات أجنبية من شتى أصقاع أوروبا.
أما
تعليمه فكان مزيجا من الفرانكفونية والانجلوساكسونية. فبعد دراسته في مدارس
فرنسية تلقى تعليمه الثانوي في فكتوريا كولدج، والتي كانت مدرسة النخبة
الارستقراطية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تخرج منها ملك الأردن حسين بن
طلال وولي
عهد العراق الأمير عبد الإله والمصرفي الأردني ذا الأصل
الفلسطيني خالد شومان
والأمير زيد بن شاكر ورئيس الاستخبارات السعودية الأسبق وصهر الملك فيصل
كمال أدهم
والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، كما درست فيها ملكة أسبانيا
الحالية صوفيا.
وفي
المرحلة الثانية من تكوينه كان
يوسف
شاهين
على موعد مع أمريكا ما
بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تلقى تعليمه الجامعي في معهد باسدينا
للفنون في
كاليفورنيا، وهو المعهد الذي تخرج منه الممثلان الأمريكيان
الكبيران داستان هوفمان
وجين هاكمان.
هذه
الروافد المتنوعة هي التي أفرزت فكر
يوسف
شاهين
الذي شاهدناه متجسدا في
أفلامه مثل فيلم اليوم السادس (1986)، الذي حاكى في بعض مشاهده سينما
هوليوود
الموسيقية خلال خمسينيات القرن الماضي.
هذه
الروافد أيضا هي التي أفرزت أفلام السيرة الذاتية ليوسف
شاهين
والتي يمكن أن نلحظ
فيها بوضوح تأثرا باتجاهات سينمائية مختلفة، أبرزها تلك القادمة من فرنسا
وهوليوود
الخمسينات والستينات. فيلمه حدوتة مصرية الذي خرج إلى النور
عام 1982 مثال واضح على
ذلك.
ولم تتوقف
تأثير الراوفد المتنوعة ليوسف
شاهين
عند حدود تكنيكه
السينمائي، بل امتدت لتشمل موضوعات أفلامه. ففي مرحلة مبكرة من رحلته
السينمائية
أخرج فيلم جميلة عام 1958
عن
المناضلة الجزائرية جميلة
بوحريد والتي تعامل معها كرمز لثورة الجزائر.
ثم وتأثرا
بفكر القومية العربية ومفاهيم الصراع مع الغرب والتحرر من الاستعمار
التي كانت سائدة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي في مصر والمنطقة
العربية أخرج
يوسف
شاهين
فيلم "الناصر صلاح
الدين" عام 1963، وهو الفيلم الذي اعتبر نقلة في مسيرة السينما التاريخية
في العالم
العربي.
وفي عام
1965 يذهب جو إلى لبنان ويخرج لنا بياع الخواتم مع المطربة الكبيرة
فيروز، وهو هنا يعتبر من القلائل من مخرجي السينما المصرية الذين خرجوا
لصنع أفلام
خارج مصر.
لكن
بالرغم من عالمية روافد فكر
يوسف
شاهين
إلا أن اعتزازه بمصريته
هو
الذي ظهر في اختياراته لمواضيع أفلامه السياسية.
ففيلمه
العصفور الذي أخرجه عام 1972، عبر
عن
المأزق السياسي والاجتماعي
الذي أدى إلى هزيمة حرب عام 1967، وهو هنا نقل مفهوم الهزيمة من الوطن إلى
النظام
السياسي، بل وتنبأ بالانتصار الذي حققته القوات المصرية عندما عبرت قناة
السويس عام
1973
وهنا كانت المفارقة التاريخية. فالفيلم الذي أحرقت بسببه دور
العرض التي عرضته
في
بيروت هو أيضا الفيلم الذي كانت أغنيته الرئيسية هي الأغنية التي أذيعت
خلال حرب
1973
وفي كل
ذكرى لها بعد ذلك.
وعندما
خاضت مصر حربها مع المتطرفين، وهي الحرب التي سبقت الحرب على الإرهاب
بعقد كامل، كان
يوسف
شاهين
عنصرا فاعلا في تلك
الحرب عبر فيلمه المصير (1997) الذي أتى كرد فعل منه على ما حدث بسبب فيلمه
المهاجر
(1994)
والذي تعرض فيه لقصة النبي
يوسف
عليه السلام في مصر.
وبالطبع
لم يكن
يوسف
شاهين
غائبا
عن
علاقة العرب مع الغرب
وتحديدا الولايات المتحدة من خلال أفلامه مثل الآخر (1999)
والجزء الأخير من سيرته
الذاتية، اسكندرية - نيويورك (2004).
وحتى
هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي وقعت في نيويورك وواشنطن، كان
ليوسف
شاهين
رأي فيها
وحولها، عبر عنه في الجزء الخاص به في فيلم
September 11 (2002)
والذي اشترك فيه 11
مخرجا من 11 دولة حول العالم.
وفي نهاية
رحلته كانت بوصلة جو الفكرية قد أشارت عليه بالتوجه إلى الداخل المصري
من
خلال فيلمه "هي فوضى" (2007) الذي أخرجه بالاشتراك مع تلميذه خالد
يوسف
وتعرض فيه للفساد في مصر
اليوم.
بعد كل
هذه المسيرة الحافلة سينمائيا، لم يكن غريبا إذن على العالم أن ينعي "أحد
أشهر المساهمين في الفن السابع" أو يرثي "رحيل مخرج أسطوري" يتساوى في
المرتبة مع
فيلليني إيطاليا أو دافيد لين انجلترا. فيوسف
شاهين
كان ملكا للعالم بمقدار
ما
كان ابنا لمصر
موقع الـ
BBC في 28 يوليو 2008
|