هناك
علامات فنية مفردة تشبه الطفرة في تاريخ الإبداع، لا يمكن النظر إليها في
سياق الجموع أو محاكمتها ضمن السائد. لاشك في أنّ سينما يوسف شاهين واحدة
من هذه العلامات. صاحب شيفرات سرّية تحتاج إلى تفكيك في مختبر الذاكرة
أولاً: ذاكرة المتلقي وذاكرة يوسف شاهين نفسه. فهذا السينمائي المتمرد، بات
يصعب تأطيره في تيار أو مدرسة سينمائية. إنه مدرسة من طراز خاص، ابتكر
منهجاً ذاتياً وسار عليه، وكان هو أول من يقوم بتحطيم هذا المنهج برؤية
مغايرة يفرضها الوعي والقلق اللاحقان. «باب الحديد» (1958)، المغامرة
الصعبة والمغايرة التي جاءت في أوج صعود موجة الرومنسية في السينما، كانت
صفعة في وجه الذوق السائد: هذا هو سينمائي يدير ظهره لقصص السينما
التقليدية، ويباغت مشاهد ذلك الحصر، معلناً أن السينما ليست حكاية مسلية
وحسب، بل هي مادة للسجال والجدل والتنوير وتمارين على الحرية والتسامح.
في «باب
الحديد»، يتجه إلى قاع المدينة ليحتفي برجل الشارع، ويميط اللثام عن شخصيات
تعيش في الظل، لطالما كانت مجرد كومبارس صامت في أفلام الآخرين. هكذا يتوغل
في أسباب العيش في «محطة مصر» المكان الذي يعبره الآخرون بوصفه محطة سفر لا
أكثر. وإذا به يضج بالحياة والأسرار، وها هي هند رستم في رداء آخر: «هنومة»
بائعة المياه الغازية، وعلى الجهة الأخرى من سكة القطار، نلتقي شخصية
«قناوي» الفتى الأعرج والمرتبك والمتلعثم والمحروم جنسياً في وليمة من
الإثارة المحرّمة (يلعب دوره يوسف شاهين). الفيلم الذي صار اليوم واحداً من
تحف السينما العربية، فشل في عرضه الجماهيري الأول. لكن يوسف شاهين في
الواقع لم يُصب بالإحباط، بل ازداد ضراوة في مقاربة موضوعات أكثر إشكالية،
من «الأرض» مروراً بـ«الاختيار» إلى «العصفور» ليفضح في الأول عبودية
الفلاح في ظل نظام إقطاعي مستبد... وليشتبك في الثاني مع علاقة المثقف
بالسلطة، وليكشف في الثالث أسباب الهزيمة والأحلام المجهضة.
لكن
الانعطافة الحقيقية في سينما يوسف شاهين جاءت مع فيلم «اسكندرية ليه؟»
(1978) في أول مقاربة في السينما العربية للسيرة الذاتية، وهو بذلك فتح
الباب على مصراعيه أمام تجارب سينمائية أخرى، لم تكن تجرؤ قبله على كشف
المستور ونبش المسكوت عنه من دون مواربة، في ما سمي «سينما المؤلف» أو
سينما السيرة الذاتية. الشريط الذي مزج ذاكرة المدينة بالذاكرة الشخصية
لفتى اسكندراني يحلم بالسفر إلى أميركا لدراسة السينما سوف يتحوّل إلى
رباعية، تنتهي بـ«اسكندرية/ نيويورك»، مروراً بـ«حدوتة مصرية» و«اسكندرية
كمان وكمان». ولعل هذا الأخير يبلور تصورات شاهين عن تشظّي الذات وتجاور
أساليب السرد البصري بأقصى حالات الارتجال. بينما يقوم «اسكندرية/ نيويورك»
بجردة حساب شاملة لعلاقته الملتبسة بأميركا والآخر عموماً. هكذا ينبغي
النظر إلى موجة من الأفلام العربية خرجت من عباءة شاهين: «أحلام المدينة»
للسوري محمد ملص، و«حلفاوين أو عصفور السطح» للتونسي فريد بوغدير و«ريح
السد» للتونسي نوري بوزيد و«سرقات صيفية» ليسري نصر الله.
لنتذكر
أيضاً أنّ مغامرة يوسف شاهين في سينما السيرة الذاتية قد واكبتها تجربة
روائية لافتة. إذ ليس من الجائز في هذا المقام عزل «الخبز الحافي» للمغربي
محمد شكري عن المناطق التي اقتحمها شاهين، وربما بجرأة أكبر. ومن ثم ستطرق
الرواية العربية دائرة المحرم لتختبر بؤراً سردية كانت خارج المتن الروائي،
وسوف تمتد هذه الموجة إلى اليوم عبر عشرات التجارب التي قد لا تنتهي عند
رشيد الضعيف مثلاً. أمثولة شاهين تتجلى أيضاً بخلخلة قداسة الصورة في
الثقافة الإسلامية وتظهيرها بشفافية عالية، بصرف النظر عن موقفه السياسي من
قضايا كانت تلحّ عليه في مراحل سينماه المختلفة والتي قد لا تجد صدى لدى
المتلقي على الدوام. إذ إن الفكرة وحدها، كما في «المصير» أو «المهاجر» غير
كفيلة بإيصال الشحنة كاملة إلى المتلقي. يكفي أن هذا المخرج الطليعي
والتنويري أطاح صورة النجم التي استعارتها السينما المصرية تاريخياً من
مصنع هوليوود، واشتغل على انفعالات الممثل في المقام الأول. سعاد حسني في
«الاختيار» مثلاً غيرها في أفلام الآخرين، والأمر ذاته بخصوص محمود المليجي
ومحسنة توفيق أو يسرا، وحتى لبلبة ونبيلة عبيد.
هذا
سينمائي زرع بذور التمرد والغضب في السينما العربية فأزهرت أشجاراً عالية
تعاند اتجاه الريح. واجه الرقابة بعنف ففتح عدسة الكاميرا على اتساعها
لتؤرشف أوجاع ومصائر وعواطف وشجون بشر وبلاد.
ستفتقد السينما العربية بلا شك الرجل الثمانيني المشاكس الذي ظل طوال نصف
قرن يصنع سينماه بقوة الضمير وصلابة الموقف، ولغة الذات. ألم يقل مرةً
«لستُ مسلواتياً؟»
الأخبار اللبنانية في 28
يوليو 2008
|