أقام مع
الجماهير علاقة كرّ وفرّ... لكن المعلّم المصري الذي تنقّل بين الواقعيّة
والفنتازيا، بين الالتزام السياسي والسيرة الذاتيّة، بين التاريخ
والاستعراض، واختبر أشكالاً غير معهودة في السينما العربيّة، وخاض معاركه
بشراسة على كل الجبهات، بقي نفسه على امتداد ستين عاماً: المثاليّ المذبوح
حيّاً... مثل قرينه هاملت
هكذا
إذاً. أغمض يوسف شاهين عينيه للمرّة الأخيرة من دون أن يبلغ آخر أمنياته.
تحقيق فيلم عن هاملت وآخر عن حسن نصر الله... وكانت لديه أمنية ثالثة كشف
عنها في «كان» قبل عامين: التفوّق على عميد السينما العالميّة مانويل دي
أوليفيرا، المخرج البرتغالي المعروف الذي ما زال منتجاً وقد أطفأ شمعته
المئة هذا العام. لكنّ صاحب «باب الحديد» و«الأرض» الذي عاش بكلّ جوارحه
واستهلك صحّته وأعصابه، مضى أمس بعد أسابيع صعبة بين القاهرة وباريس ولمّا
يتجاوز الثانية والثمانين... هكذا ستبقى سيرته مفتوحة إلى الأبد. سيتواصل
عبث «جو» شاهين بعد رحيله، وسنتداول مشاريعه المعلّقة كأنّها أمر واقع، كما
نتحدّث حتّى اليوم عن الفيلم الذي لم ينجزه لوتشينو فيسكونتي عن رائعة
بروست «بحثاً عن الزمن الضائع».
هاملت
وحسن نصر الله؟ نعم إنّهما يختصران وجهي يوسف شاهين بأمانة شديدة. الأوّل
هو الطوطم الذي رافقه منذ مقاعد الدراسة في «فيكتوريا كوليدج» حيث احتكّ
ابن المحامي اللبناني (الزحلاوي) الأصل، المتحدّر من البورجوازيّة الصغيرة،
بكل الثقافات والطبقات الاجتماعيّة، في الاسكندريّة الكوسموليتيّة... البطل
الشكسبيري ـــــ ذلك المثاليّ المذبوح حيّاً، صنوه وقرينه ـــــ خيّم طيفه
على سينما شاهين، وكان يعود كاللازمة بين حين وآخر، ليختصر علاقته بالفنّ
والحياة والثقافة... علماً بأنّه حين أتيحت له الفرصة لتقديم عمل مسرحي على
الخشبة، يوم فتح له وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ في عهد ميتران أبواب
الـ«كوميدي فرانسيز» في باريس، فضّل «كاليغولا» بطل ألبير كامو، الإشكالي
هو الآخر، على أمير الدنمارك. فبقي هاملت مشروعاً مؤجّلاً. أما الثاني، فهو
من دون شكّ مسك ختام الأبطال الذين سكنوا ضميره من صلاح الدين الأيّوبي
إلى... جمال عبد الناصر. إعجاب شاهين بحسن نصر الله في سنواته الأخيرة، هو
العلماني الذي خاض مع الأصوليّة في مصر أكثر من مواجهة ـــــ من «المهاجر»
إلى «المصير» ـــــ إن دلّ على شيء، فعلى أن خياراته ومشاغله القوميّة لم
تتبدّل مع تبدّل الموضة، وبقيت بوصلته تحسن تحديد الأولويّات السياسيّة
والأخلاقيّة في زمن اختلاط المعايير والقيم.
السينمائي
المصري الذي كان ليحتفل في العام المقبل بمرور ستين سنة على الرحلة التي
بدأها في الثالثة والعشرين مع «بابا أمين»، قال لنا في السينما كل شيء عن
حياته وأفكاره. حتّى ليكفي استعادة محطاته الإبداعيّة التي تختصر تاريخ مصر
والعالم العربي، فكريّاً وسياسياً وجماليّاً وسينمائياً واجتماعيّاً،
لنستكمل الصورة من مختلف زواياها وتدرجاتها اللونيّة. من المرحلة الواقعيّة
إلى الأخرى الذاتيّة، مروراً بالأفلام التاريخيّة والرمزيّة والاستعراضيّة،
كي يعود من جديد إلى الواقعيّة في آخر أفلامه «هي فوضى» (كان عنوانه الأوّل
«أيّام الغضب»).
من
الدراسة في «باسادينا بلايهاوس» على مشارف هوليوود، سيحتفظ بمبادئ وتقنيات
وتأثرات تجذّرت في التربة المصريّة. هنا ينبغي أن نبحث عن نواة أسلوبه
الخاص في التصوير واختيار الكادر، والسرد والتوليف وتقنيات الإبهار. هذا
الأسلوب الذي لم يجد حرجاً في التناص مع فدريكو فلليني مرّة، ومع بوب فوس
مرّة أخرى، هو علامة شاهين الفارقة، يختصر قدرته على الابتكار وخلط المصادر
واللغات البصريّة والأساليب. الخاص والعام، الإنساني والذاتي، الواقعي
والفانتازي، الاختباري الطليعي والميلودرامي الذي لم يتبرّأ منه يوماً. كل
شاهين هنا منذ الأفلام الأولى التي تحكي صراع الفلاح، ثم العامل، مع قوى
الظلم والاستغلال مثل «ابن النيل» و«صراع في الوادي» و“صراع في الميناء”،
والتي ستزداد نضجاً وقوة لاحقاً مع «باب الحديد» و«الأرض».
هكذا
نتوقّف اليوم عند أعماله السياسيّة (رباعيّة النكسة: «الأرض»، «الاختيار»،
«العصفور»، «عودة الابن الضّالّ»)، والذاتيّة (رباعيّة الاسكندريّة:
«اسكندريّة... ليه؟»، «حدّوتة مصريّة»، «اسكندريّة كمان وكمان»،
«اسكندريّة... نيويورك») أو التاريخيّة («الناصر صلاح الدين»، «جميلة
بوحيرد»، «الوداع يا بونابرت») أو الفكريّة («المهاجر»، «المصير»، «الآخر»)
أو الاستعراضيّة («سكوت حَ نصوّر»)، لنجد يوسف شاهين نفسه رجلاً متعدد
الوجوه والمناهل والمشاغل: يطلق لنرجسيّته العنان، فإذا به يتحدث عن وطنه
وزمنه. يختار التسلية والسينما الاستعراضيّة، فإذا به يحرّك المبضع في جراح
مجتمع مريض بالمخاوف والأسئلة وفقدان التوازن.
لم تدجّنه
سلطة ولم يشغله شيء عن إيصال خطابه، وتسليط نظرته العابثة والمثاليّة إلى
العالم، بعدما مجّد المشروع الناصري في «الناصر صلاح الدين» (٦٣)، جاء «فجر
يوم جديد» (٦٤) ليصدم جمالياً وسياسياً. ثم هاجر إلى بيروت لأنّه، كما قال،
مثل بطل فيلمه المذكور، ضاق ذرعاً بوحش البيروقراطيّة الذي «يقضي شيئاً
فشيئاً على أحلام الاشتراكيّة». هنا حقق «بياع الخواتم» وأفلاماً أقل
أهميّة، وكان لا بدّ من صدمة النكسة كي تعيده إلى القاهرة، وتفتح صفحة
جديدة في مسيرته السينمائيّة. وهنا كان عليه أن يواجه رقابة يوسف السباعي،
وأن يقبل الحجْر على «العصفور»، فيلم النكسة بامتياز الذي لم يعرض إلا
بعد... «نصر أكتوبر»!
وسيبقى
شاهين إشكالياً إلى النهاية. فها هم المثقفون يتهمونه في الثمانينيات
بالوقوع في فخّ «الخواجة»، بعد قبوله لعبة الإنتاج المشترك مع فرنسا، علماً
بأن «بونابرت» فيلم خاص في تاريخ شاهين، يختصر خطابه في العلاقة مع الغرب،
منهل المعرفة والنهضة والتنوير من جهة، ومصدّر أشكال الاستغلال والاستعمار
والعنف من جهة أخرى. لم يهادن شاهين يوماً ذلك الغرب، رغم كل التهم التي
وجّهت إليه. تكفي مشاهدة فيلمه القصير عن «١١ سبتمبر»، وتكفي معاينة مقدار
الغضب والخيبة والقسوة التي ترشح من فيلمه ما قبل الأخير «اسكندريّة ــــ
نيويورك»، الذي يشكو من مبالغات أيديولوجيّة ونرجسيّة مسلّية.
منذ
الثمانينيات اتهم أيضاً بالانغلاق في شرنقة الذاتيّة، وإرضاء مزاجه وأذواق
الجمهور الغربي، موغلاً في القطيعة مع جمهوره الحقيقي. لكنّه واصل معاركه
من دون اكتراث بأحد. زار بيروت خلال الحصار الإسرائيلي، وبغداد تحت الحصار
الأميركي. نزل إلى الشارع ضدّ توريث الحكم في بلاده، كما فعل قبل سنوات
بعيدة حين وقف في وجه سعد الدين وهبة أيّام معركة اتحاد الفنانين الشهيرة
والقانون ١٠٣. شاهين لا يهادن في مسائل الديموقراطيّة... لقد انتقد مراراً
قانون الطوارئ في بلاده، وقوانين الاستثمار في مجال السينما التي تعفي
المنتجين الكبار من الضرائب وتعاقب المنتجين المستقلّين الصغار... هذا هو
أيضاً يوسف شاهين، كما يمكن أن نجده بأشكال مختلفة في أفلامه.
المعلّم
الذي أطلق عدداً من أبرز الممثلين، وتفتّح في جواره بعض أهم مخرجي السينما
المصريّة، يتركنا بعد ٣٦ فيلماً روائيّاً و٤ أفلام قصيرة وثلاث عمليّات
جراحيّة، ومعارك فكريّة ووطنيّة وسياسيّة لا تحصى، رفع خلالها راية التنوير
والحوار مع الآخر، مع تمسّك شرس بالدفاع عن الحقوق الوطنيّة والقوميّة.
وإذا استعدنا آخر أفلامه «هي فوضى» (مع خالد يوسف)، ننتبه كيف أن السينمائي
الذي طالما أقام مع الجماهير علاقة كرّ وفرّ طوال العقود الماضية، عاد في
النهاية إلى نقطة البداية: إلى الواقعيّة. لقد ضرب موعداً وداعيّاً لجمهوره
الذي خرج ذات يوم قبل أربعين سنة، من صالة تعرض «جميلة الجزائريّة» في
القاهرة إلى السفارة الفرنسيّة لإحراقها. لقد عاد ليجسّ ـــــ مرّة أخيرة
ـــــ نبض المجتمع المصري، ويضع يده على الجراح المفتوحة في زمن الفساد
والتسلّط والاستبداد البوليسي. وداعاً يوسف شاهين!
«قوانين الاستثمار المصريّة في مجال السينما (1996)، تعفي من الضرائب
شركات الانتاج التي يزيد رأسمالها على مئتي مليون جنيه، فيما تحكم
الخناق على المنتجين الصغار... أي أولئك الذين صنعوا مجد السينما
المصريّة طوال العقود الماضية. إن الدولة المصريّة تحكم بالاعدام على
السينما المصريّة الجادة والمستقلّة من حيث تدري أو لا تدري.
يوسف
شاهين
سيرة
ولد يوسف
جبريل شاهين عام 1926 في الإسكندرية، من عائلة لبنانية الأصل انتقلت للعيش
في مصر في نهاية القرن التاسع عشر. بعد دراسته الابتدائية والثانوية في
الإسكندرية، انتقل إلى كاليفورنيا حيث درس صناعة الأفلام والفنون المسرحية.
ثم عاد إلى مصر، منارة السينما العربية يومها، وعمل مساعداً للمصور
السينمائي الفيز أورفانالي الذي مهّد لإخراج باكورته «بابا أمين». وبدأ
تصويره عام 1949 وعرض في العام التالي، ولم يكن شاهين تجاوز الثالثة
والعشرين. وبعد عام، شارك بفيلمه الثاني «ابن النيل» في مهرجان «كان»
السينمائي مطلقاً شهرته كمخرج يفارق اللغة السينمائية المصرية المعروفة
يومها.
منذ ذلك
الوقت لم تتوقف مسيرته التي بلغ رصيدها أكثر من 40 عملاً. تتلمذ على يده
العديد من المخرجين مثل يسري نصر الله والراحل رضوان الكاشف وعلي بدرخان
وخالد الحجر وخالد يوسف ومجدي أحمد علي وعماد البهات. وقدم وجوهاً مهمة في
السينما المصرية أهمها عمر الشريف في «صراع في الوادي». وهو أحد
السينمائيين القلة الذين اعتمدوا على أنفسهم في تمويل أفلامهم، وخصوصاً بعد
توقف دعم الدولة له بعد «العصفور» الذي هاجم فيه السلطة، محمّلاً إياها
مسؤوليّة الهزيمة في حزيران (يوينو) 1967. أسّس شاهين شركته، وعمل على
الإنتاج المشترك لتمويل أفلامه، وخصوصاً مع جهات ومؤسسات فرنسيّة.
حصل خلال
رحلته الفنية على العديد من الجوائز، أهمها التانيت الذهبي في «أيّام قرطاج
السينمائيّة» عام 1970 عن فيلمه «الاختيار»، وجائزة «الدب الفضي» في برلين
عن «إسكندرية ليه» عام 1978... وهذا الفيلم هو أول أفلام سيرته الذاتية
التي قدمها في أربعة أفلام إلى جانبه «حدوته مصرية» و«إسكندرية كمان وكمان»
و«إسكندرية نيويورك».
وتُوِّج
عمله بفوزه بجائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان «كان السينمائي» عام 1997 عن
مجمل أعماله. منحته الحكومة الفرنسية وسام شرف من رتبة فارس عام 2006، وحصل
على جائزة مبارك للفنون عام 2007.
الأخبار اللبنانية في 28
يوليو 2008
|