"السينما
تقطع أنفاسي؛ انها حياتي، وأنا أعيش هذه الحالة منذ أكثر من 60 عاماً،
ولا تغيير محتملاً... بل ربما تعزيز لهذا الميل الفطري"، قال لي يوسف شاهين
ضاحكاً
ضحكة طفولية في المرّة الاخيرة قابلته فيها في مناسبة اطلاق
فيلمه "اسكندرية...
نيويورك"
في بيروت. هذا الشريط كان عن تجربة حياة تخللتها علاقة مرتبكة مع أميركا،
لكنه كان قبل كل شيء آخر عمل في مديح السينما، وكأن لا فرق البتة عنده بين
حياته
على الشاشة وخلفها. كان السؤال آنذاك: "عندما تخرج فيلماً
أوتوبيوغرافياً الى هذا
الحدّ، كيف تحافظ على البُعد وتبقى على مسافة من الموضوع الذي تود
تصويره؟". كان
رده انه يجب علينا ان نعيشه مرّة أخرى وأن نكتبه عدداً لا متناهياً من
المرات قبل
ان تخلد على هذه البقعة المستطيلة. "اعيشه حين اكتب وحين اصور.
هناك حنين الى تلك
السنوات التي قدمتها في الفيلم. المشاهد كلها تحتوي على عواطف، كالعلاقة
بيني وبين
استاذتي. كانت تعشقني تلك الاستاذة، وهي الوحيدة لم تكن تفهم كيف أن بلداً
مثل
اميركا لا يستطيع مساعدة ولد صغير جاء من "آخر الدنيا"، وعلمت
في ما بعد أنها بهدلت
زملاءها وشتمتهم لأنها كانت تريد ان يساعدوني".
وصل يوسف
شاهين الى حيث لم يصل
مخرج عربي آخر من قبله وكرِّس عالمياً من خلال نيله الجائزة الخاصة
لـ"مهرجان كانّ"
في يوبيله الذهبي عام 1997. مضى بتيمات من صميم المجتمع المصري
الى العالمية،
مساهماً في اعلاء شأن السينما العربية بفضل موهبته وإصراره على المواصلة في
تحقيق
طموحه الفني وأفكاره النيرة. ولّدت أعماله سجالات واسعة لن تنتهي حتماً مع
رحيله.
ولن تكون التحليلات المعطاة لهذه الاعمال تحليلات نهائية غير قابلة لاعادة
النظر،
انما
دائمة الخضوع لقراءات مستجدة. مع الزمن، بات شاهين الفنان الشامل الأكثر
تطويراً لحركة السينما العربية، ولا سيما حين راح يستعين بتقنيين أجانب لكن
بروح
محض مصرية، لذلك بدت أفلامه أفضل بصرياً من مجمل الأفلام
المصرية. هذا كله ساهم في
صناعة مجده الذي تخطى حدود العالم العربي الجغرافية، ليكون ربما السينمائي
العربي
الوحيد الذي وجهه معروف لدى الجمهور الاوروبي المثقف، وخصوصاً في فرنسا
التي ساندته
دائماً.
لبناني
الجذور واسكندراني حتى الشرايين، ولد يوسف شاهين في
المدينة المتوسطية الكوزموبوليتية الشهيرة عام 1926، وأخرج أول أفلامه عام
1950 وهو
في الرابعة والعشرين. أي في العمر الذي انجز فيه عملاق آخر، هو
أورسون ويلز، رائعته
السينمائية "المواطن كاين". علاقة شاهين بالسينما تعود الى سن مبكرة، وكانت
الصور
السحرية المتحركة تذهله، في كلّ مرة يشاهد فيلماً في صالة
مظلمة. وعبّر عن فهمه
للحياة ونظرته الانفتاحية حيالها، المخالفة للسائد، من طريق السينما،
وأصبحت
الأفلام وسيلته للتعبير عن أفكاره واقتناعاته. في البدايات، درس شاهين
مسرحيات
شكسبير وأخرج بعضها، كما اشترك في تمثيلها على مسرح كلية
فيكتوريا في الإسكندرية
اثناء تلقيه العلم فيها، وأمضى سنة في جامعة الإسكندرية قبل أن يسافر عام
1946 الى
أميركا حيث درس التمثيل والإخراج في جامعة باسادينا في لوس انجلس. وعلى رغم
أنه شاء
أن يكون ممثلاً، فقد أدرك أنه يجب ان يكون مخرجاً وليس ممثلاً
عندما كان في
الولايات المتحدة، فابتعد عن التمثيل، بعدما أدرك انه ليس في مقدوره أن
يكون النجم
الوسيم أو الـ"جون برومييه"، على غرار أنور وجدي ومحسن سرحان وعماد حمدي،
قبل ان
يلبس دوراً "اسطورياً" في "باب الحديد". مذذاك لم يتوقف عن
البحث عن بديل منه، عن
"اناه
الاخرى"، ونستطيع القول إنه مثّل من خلال الآخرين، فاذا لم نجده شخصياً
ممثلاً في فيلم من أفلامه نجد أنّ أحد الممثلين يؤدي دوره
بالطريقة الشاهينية. هذه
الطريقة كثيراً ما ارتكزت على اسلوب التعبير المتوتر والحركة السريعة...
بعد
تخرجه عام 1950، عاد شاهين الى مصر وتحت ابطه نصّ "بابا أمين"
وثانٍ عنوانه "ابن
النيل". منذ هذا الفيلم الأخير، بدا اهتمام شاهين بتصوير حياة الناس في
القرى
المصرية كما كانت الحال في ذلك الوقت. وقدّم "ابن النيل" الذي التقطت معظم
مشاهده
خارج الاستديو الممثل شكري سرحان للمرة الاولى، وتقمص فيه
الوجه المصري الحقيقي.
حقق هذا
الفيلم نجاحاً تجارياً مهماً بالنسبة الى تلك الحقبة وجلب الى جيوب
الممولين 70 ألف جنيه، علماً أن تكاليفه بالكاد بلغت ربع تلك القيمة.
واستند شاهين
الى مسرحية أميركية اسمها "النهر الصغير"، لانجاز هذا الفيلم
بعدما وضعها في قالب
مصري ريفي. تجول "المعلم" بآلة التصوير وسط الحقول والمزارع والبراري
والطبيعة
الريفية الساحرة، مجسداً ما يمكن ان تكون حياة الفلاح البسيطة
في زمن اجتياح
الفيضان للقرى. أثبت هذا الفيلم ان المكان عند صاحب "الأرض" يكتسب دلالة
نفسية
تعبّر دائماً عن
التمزّق بين "الأنا والآخر". هذا الجانب سيظل طاغياً على معظم
أفلام شاهين التالية: القرية النائية في الصعيد المصري تجعل "ابن النيل"
يشعر
بالحصار، وهو يحلم بأن يحمله القطار الذي يتطلع اليه كل يوم في
لهفة الى عالم
القاهرة الصاخب المزدان بالأضواء.
لم تخلُ
أفلام شاهين من النقد القاسي الموجه
الى البورجوازية. تبين ذلك، للمرة الاولى، في "المهرج الكبير" (بطولة يوسف
وهبي
وفاتن
حمامة) قبل أن ينكبّ على أعمال أقل أهمية على المستوى الفني مثل "سيرة
القاهرة" (مع ليلى مراد) و"نساء بلا رجال". وكان ينبغي انتظار عام 1954 كي
يصدر له
"صراع
في الوادي" وهو منعطف كبير في تاريخ شاهين الفني، وفيه جرى الكشف عن مهازل
الإقطاع إبان العهد الملكي. مع هذا العمل الساحر، وجه شاهين
رسالة حب الى مصر
وفلاحيها. لقد صور الوجه الحقيقي للبلاد، متسلحاً بموقف سياسي صلب ضد
الإقطاع
والمنضوين تحت لوائه. كان هذا الموقف عاطفيا، وقد تمثّل في إدانة الظالم
وتأليب
الناس عليه. وتعاطف الناس مع الضحية - المظلوم، ذلك ان شاهين
جعله يعدم ولم ينقذه
في
اللحظة الاخيرة كما كان رائجاً في الكثير من الافلام. فوصل تعاطف الجمهور
له الى
الذروة. مثّل في الفيلم كلّ من فريد شوقي وفاتن حمامة وزكي رستم وعبد
الوراث عسر،
مع بطولة أولى لعمر الشريف الذي ظهر انذاك للمرة الاولى على
الشاشة.
•••
لم يكتف
شاهين بتقديم نوع مضمون النتائج من الأفلام، بل مضى في محاولات لنفض
الغبار عن السينما المصرية في مرحلتها الذهبية. وكثيراً ما كان
يصدم المشاهدين
ويجعلهم يتيهون في دهاليز اللغة البصرية. ولم يكن الجمهور مستعداً بعد
لتقنياته
السردية الحداثية عندما قدّم اعمالاً شبه تجريبية مثل "أنت حبيبي" و"دعت
حبك"، وهما
من
بطولة شادية وفريد الأطرش وعبد السلام النابلسي وهند رستم. ثم كان "باب
الحديد"
الذي أقل ما يمكن القول عنه إنه شكل محطة اساسية في سينماه
وأيضاً في تاريخ السينما
العربية. نستطيع اليوم تسميته على جدول أفضل الأفلام العربية العشرة. دارت
حوادث
هذه التحفة في محطة مصرية خلال يوم واحد، يبدأ في الصباح وينتهي في المساء.
ليس
الفيلم الاّ فصلاً صغيراً من الحياة، ابطاله طائفة من الناس
جمعهم مكان واحد هو
المحطة. ومن خلال تمثيله دور بائع الصحف الأعرج قناوي المعقد نفسياً بسبب
عاهته،
ترك شاهين بصمة كبيرة في وجدان السينيفيليين في العالم. قناوي هذا يلجأ ذات
يوم الى
خطف هندوم (هند رستم) والتهديد بقتلها، ثم تجرى المفاوضات معه
في مشهد مشحون
بالتوتر والإثارة للإفراج عنها، بينما يتسلل أبو سريع (فريد شوقي) وينزع
السلاح من
يده. تمكن شاهين بالتعاون مع كاتب السيناريو عبد الحي أديب ومحمد أبو سيف
من جعل
المتفرج يتعاطف مع شخصية قناوي على رغم كل ما فعله.
أفلام
شاهين عكست أيضاً
الواقع الاجتماعي المصري والرغبة في التغيير بعد ثورة 23 تموز. تزامنت
مرحلته
السينمائية الأنضج مع نمو الوعي القومي عند المصريين والعرب. وانخرط شاهين
في
السياسة على نحو مباشر حين أخرج "جميلة" عام 1958، وكان هذا
هديته الى الثورة
الجزائرية من خلال شخصية المناضلة جميلة بوحيرد، علماً ان الجزائر لم تكن
نالت بعد
استقلالها عن المستعمر الفرنسي حين صدر هذا الفيلم في الصالات.
دخلت
سينما
شاهين في
مرحلة جديدة عام 1963، أي مرحلة النضج الفني والبداية الفعلية لتطور اللغة
السينمائية، عندما انجز "الناصر صلاح الدين"، حيث استطاع بإمكانات جد بسيطة
ان يقدم
عملاً فنياً متكامل العناصر الدرامية والتقنية والجمالية،
ويضارع ابرز الانتاجات
الهوليوودية، مؤكداً ان السينما العربية قد تنافس الغرب، مع بعض الجهد
والارادة
والوعي. تناول شاهين في "فجر يوم جديد" ملامح التحولات الاشتراكية التي
كانت تطاول
مصر،
نتيجة للنهضة النصاعية التي شهدتها، وانعكاساً للتغيرات الاجتماعية بعد
تطبيق
قرارات التأمين وقيام مبادئ جديدة. وجراء ظروف معينة كانت تمر بها السينما،
ترك
شاهين مصر قاصداً بلده الثاني لبنان حيث أثمر التعاون مع
الأخوين الرحباني، "بياع
الخواتم" و"رمال من ذهب".
أعادت
هزيمة 67 شاهين الى دياره ليواجه تداعيات تلك
الكارثة، مهما كان الثمن باهظاً. فكانت تحفته الأخرى، "الأرض"، عن قصة لعبد
الرحمن
الشرقاوي
وسيناريو الفنان التشكيلي حسن فؤاد. اهتم النقاد الكبار بشاهين من هذا
الفيلم وصاعداً، اذ انه انطلق من قصة مصرية لكنه سرعان ما مضى بها الى
العالمية
مانحاً اياها ابعاداً انسانية شاملة. وكانت مشكلة الأرض
والسلطة من أهم ما يعانيه
الفلاحون في تلك الحقبة. ولكن كانت تلك أيضاً مشكلات كل الفلاحين في
العالم. قامت
الكاراكتيرات المختارة في الفيلم على مزيج من البلاغة والبساطة. وساهم فريق
الممثلين في اضفاء صدقية عليه، يتقدمهم محمود المليجي. بيّن
شاهين في "الارض"
استمرار
النضال على رغم الانكسار العربي الكبير. في رأيه، لم تكن هذه هزيمة الشعب
انما هزيمة المشروع الحضاري للطبقة التي انفردت بالسلطة، وسمحت للفساد بأن
ينتشر في
مؤسساتها، ولم تتمكن من إيجاد حلول فعلية للحد من تسرب الثورات
الى جيوب القامعين.
وعلى رغم ان حوادث الفيلم دارت عام 1933، الا انه كان هناك اسقاطات مباشرة
على
هزيمة 67، ولم يتوان عن اظهار علاقة الفلاح المصري بأرضه وتمسكه بها
واستعداده
للمقاومة والموت في سبيلها.
•••
مع
"الأرض"، انتهت المرحلة الأولى من مسيرة شاهين السينمائية، لتولد حقبة أخرى
احدى
سماتها الارتباط الزمني بما يحدث في المجتمع المصري سواء على الصعيد
السياسي
أو
الاجتماعي. كما كان الحال في كلّ من "الاختيار" و"العصفور" و"عودة الابن
الضال"،
وهي التي تمضي في التعبير عن الواقع الممزق. المرحلة الثانية ذات شكل
سينمائي بعث
في
نفس المخرج رغبة في التمرد على هذا الواقع المتردي للعالم العربي. وجاء
"الاختيار"، الذي وضع شاهين فكرته مع نجيب محفوظ، انطلاقاً من
ابعاد انسانية
متوغّلاً في أعماق النفس البشرية محاولاً كشف حقيقتها. اما ما يقوله شاهين
في "الاختيار"
فهو مهم جداً. اذ لا يتحدث عن صراع اجتماعي كما في "الأرض"، ولا عن فساد
سياسي كما في "العصفور"، لكنه يتناول نظاماً اجتماعياً كاملاً
بفكره وسلوكه
وتركيبته الهشة، وهذا النظام السائد هو الذي يحدد شكل النظام السياسي
والاقتصادي
وليس العكس.
تطرق
شاهين في "العصفور" الى الحوادث السياسية التي أدت الى هزيمة
67،
محاولاً إلقاء الضوء على الفصل بين معركتين، واحدة تحصل على الحدود، وثانية
مكانها الداخل. جاءت حوادث الفيلم سريعة ومتدفقة، وشخصياته
الاساسية والثانوية
تتحرك حية نابضة تقدم ما ترمز وتوحي به. في "مرحلته الثانية" عمل متماسكا
وبالغ
القيمة توج به رحلته الصادقة مع ذاته ووطنه. فكان "إسكندرية
ليه" عام 1979، الذي
قدم خلاله قصيدة شعرية موجهة الى مدينته الأم من خلال شخصيات متشابكة
وتصوير غنائي
لواقع سياسي واجتماعي سائد في الأربعينات، أي عندما كان شاهين
في العشرين من عمره.
لم يكن
الفيلم ذاتياً، انما نوع من تقديم لواقع مدينة عاش فيها المعلم. يتجاوز فيه
المفهوم العام ليحوّل الفيلم شحنة بالغة التأثير في المجتمع والناس. أما
"حدوتة
مصرية"، أحد أكثر أفلامه بلاغة سينمائية ولغة ابتكارية صلبة،
فجاء كجزء ثان من
مسيرة شاهين الذاتية، لتكتمل الثلاثية في ما بعد بفيلم "إسكندرية كمان
وكمان". أما
مع "المصير"، فأراد شاهين القول إن العرب أصل الحضارة، فبينما
كان الغرب يغرق في
بحار الجهل والظلم، كان العرب ينعمون بالعلم والنور والتقدم. وجاءت أفلامه
الثلاثة
الأخيرة تنويعات على تيمات تطرق اليها شاهين على مدار نصف قرن ونيف من
النضال
السينمائي. نضال لن ينتهي مع رحيله عن 82 عاماً.
فيلموغرافيا إختيارية (1950 – 2007):
بابا
أمين (1950)
صراع
في الوادي (1954)
صراع
في الميناء (1956)
باب
الحديد (1958)
جميلة
(1958)
بياع
الخواتم (1965)
الناس
والنيل (1968)
الأرض
(1969)
الاختيار (1970)
العصفور (1973)
عودة
الابن الضال (1976)
اسكندرية ليه؟ (1978)
حدوتة
مصرية (1982)
وداعاً بونابرت (1984)
المهاجر (1994)
المصير (1997)
الآخر
(1999)
هي
فوضى؟ (2007)
قالوا في
شاهين...
والآن الرحيل
بعيداً
عما ينتشر عادة
من
كلام طنّان في مثل هذه المواقف، فإن سينما يوسف شاهين التي عرفت مؤيدين
ومنتقدين، كانت العنوان الكبير للسينما العربية في أكثر من مناسبة دولية.
أفلامه من
"باب الحديد" في نهاية الخمسينات من القرن الفائت إما تعاملت مع
رقع إنتاجية
عالمية، وإما هدفت الى الانوجاد عالمياً على الساحة بإمكاناتها الذاتية أو،
كما هي
الحال منذ السبعينات، عرفت كيف تشق طريقها كانتاجات مشتركة وعلى الساحة
العالمية
كأفلام مصرية (أو عربية إذا أردت ــ تحديد ذلك ليس هنا). كناقد
وهاوٍ للسينما تابعت
أعمال هذا المخرج، وما فاتني منها مبكراً شاهدته لاحقاً في عروضه التكريمية
أو في
مناسبات خاصّة أخرى. وكانت علاقتي بسينماه تختلف عن علاقتي بسينما مبدعين
آخرين
سواء في العالم العربي أو حول العالم. سينما يوسف شاهين عرفت
مراحل بالطبع، إذ بدأت
كأعمال كوميدية وعاطفية خفيفة، ثم انتقلت الى صنف الإنتاجات الكبيرة، ثم
الى سينما
ذاتية مؤلّفة من الذكريات والملاحظات الشخصية حول نفسه وحول مجتمعه، وصولاً
الى
الحفاظ على تلك الذاتية بمقدار عال من التوتّر مع الإنتقال بها
الى مراحل ومواقع
زمنية وجغرافية مختلفة، من "وداعاً بونابرت" الى "المصير"، ومن "المهاجر"
الى "اسكندرية...
نيويورك".
أميل الى
اعتبار أن شاهين كان مخرجاً ذاتياً منذ
البداية. إذا أخذت بعض أفلامه الأولى مثالاً، فستجد أن فيها ما يؤلف عناصر
أساسية
في سلسلته الذاتية: الميول الجنسية، تأثير المرأة عليه، إغتراب
ابطاله واختلافهم.
حتى أفلامه التي تعاملت مع الواقع السياسي مثل "العصفور" و"حدّوتة مصرية"
كانت
ذاتية جداً، ما يجعل قراءة التاريخ فيها منفصلة ومختلفة. هي
ليست مدعاة للثقة
المطلقة بأنها وقعت كذلك، لكن ليس فيها ما يخرج عن الواقع وقراءة المثقّف
للتاريخ
مع
اختلاف وجهات النظر فيها.
ما أثّر
في السنين العشر الأخيرة او نحوها في
نصاعة تلك السينما، ليس ذاتيّة النظرة والتعامل، بل قدر كبير من الإعتقاد
أن كل شيء
يجب أن ينطلق من ذاتية القراءة ما أدّى الى سجال مفرط في تقدير
المخرج لنفسه. في
"اسكندرية...
نيويورك"، لم يعد شاهين ذاتياً فقط، بل صار مؤلّفاً في السيرة الذاتية
على النحو الذي يروق لرغبته في وضع صرحه بنفسه. في الواقع،
تحدث فيلماه القصيران
الواردان في "11/9" و"لكل سينماه"، عن نفسه أكثر مما تحدّثا عن موضوعهما،
وهذا شكل
برهاناً
إضافياً لوجهته في تتويج نفسه بنفسه وعدم الإكتفاء بتتويج المشاهدين
والمثقّفين والنقاد له. النتيجة، يا للأسف، كانت عكس ما تمنّى.
رحيل
شاهين، مثل
رحيل أبو سيف وكل مخرج نيّر عن عالمنا في أي مكان من هذا العالم، لن
يُعوّض. لقد
فتح ثغرة على الشاشة العريضة ستبقى ماثلة في هذا العالم المليء حزناً.
الحزن هو ما
تعامل شاهين وكل مبدع آخر معه كدافع داخلي. هو وعدم القدرة على
التجاوب مع محيطه
بالشكل الذي يعيشه ذلك المحيط. والحزن هو ما يلفّنا جميعاً الآن.
محمد رضا
(ناقد لبناني ــ لوس
أنجلس)
قناوي في
مواجهة الظلم
■
في
سنوات
الدراسة التي لم تكن عجافاً تماماً، كان يحلو لنا نحن التلامذة
المفطومين على روعة
الفراغ ومن باب الدفاع التلقائي عن النفس أن نرفع موسوعة السينما الصادرة
باللغة
البلغارية، والمؤلفة من ثلاثة مجلدات ضخمة، في وجوه بعض الأساتذة الغاشمين
الذين لم
يعترفوا يوماً بسينما عربية وبسينمائيين عرب. وكانوا يعيروننا
في بعض الأحيان بروعة
الفراغ التي جئنا منه إليهم عراة وحفاة ومستنفدي القوة وربما المعرفة. كانت
صفحات
الموسوعة الضخمة، والمثلثة الضلع تحوي صورة قناوي، وهي الصورة التي كانت
تفاجئ في
وجودها الاستثنائي هؤلاء الغاشمين، وكانت تفاجئنا نحن أيضاً
على الدوام، اذ كيف
يمكن هذا "الأعرج" أن يقف وحده وهو نحيل وصاحب علة في مواجهة استعلاء
مكتوم، فلم
يكن يدور في أذهان أصحابه إلا تلك الصورة القاتمة عن عالمنا،
أما أن تكون هناك صورة
للسينمائي الذي يمكنه أن يقلب سواد هذه الصورة إلى بوزيتيف حر وطليق صالح
للعرض،
فهذه نسخة لم تكن متداولة في تلك الأوقات. ظلت الصورة تفاجئنا في أماكننا
من دون
انقطاع حتى عندما كان يعلن صاحبها في أوقات متأخرة "زهقه
وقرفه" مما أخذ يحيط به من
آثمين جدد لا يقلون في خطورتهم عن اولئك الغاشمين الجهلة، فصورهم قطوف من
سلة
واحدة، وقد أخذت المعركة من حوله تصبح أشد شراسة، وأصبح الظلم في المدارس
الحياتية
المختلفة تزداد رقعته، فلم يكن ليعاني أحد في التاريخ الحديث،
كما عانى أهل قناوي
في
أمكنتهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم جاؤوا من روعة الفراغ واليقين المسلوب
للاحتفال
بالصورة الوحيدة في تظاهرات صامتة ويائسة. فهذه هي صورة قناوي، وهذا هو
انتحار
الطالب المسكين. الطالب لم يكن يعرف كيف يرفع الظلم عنه إلا
برفع صورة "الأستاذ
قناوي" عالياً في مواجهة استعلاء غير مضمون النتائج، فهذه الصورة على الرغم
من
انتحار الطالب المسكين كانت الحارس الأمين له في موته، وكانت فكرته عن
السينما
نفسها في روعة الفراغ التي جاء منها مكدوداً ومهزوماً...
ومنتصراً في آن واحد، لأن
السينما نفسها هي التي جعلت "باب الحديد" باباً كونياً تدخل منه الشعوب
أفواجاً
بهدف التعارف. "باب الحديد" في هذا المعنى سيظل يفتح مصراعيه
على مستوى كوني... ولن
يُغلق مع رحيل مَن فتحه يوماً وهو وحيد وأعزل وعلى درجة كبرى من التشاؤم
والتفاؤل
والغموض!
فجر يعقوب
(ناقد ومخرج فلسطيني ـــ
دمشق)
أضيئوا أجهزة البروجيكتور
■موته
سيمنح
منجزه
السينمائي نفسا متجددا وحياة جديدة، مجتذبا إليه شبانا عرب يكتشفونه،
ويفككون
شيفرته، ويفهمون تاليا أن رغبة الحرية وإرادة التحرر من طريق المعرفة
الشعرية
والعقلانية، هما خميرتا الحياة الفعلية (الى جانب الحب طبعا)
وليس الركود أو تحجر
الفكر عقائديا، الذي يخنق الجيل الشاب تحت نيره. في التضامن مع إنجازات
العباقرة
الكونيين الآخرين، تنجح كاميرا شاهين في بعث هذا الشعاع من نور مبشّر بنهضة
جديدة
للعبقرية العربية. أضيئوا أجهزة البروجيكتور، الفنان لا يموت
أبدا.
جوني
كارليتش (مخرج وناقد لبناني ــ
بيروت)
ذاكرة نرجسية
■
فرض يوسف شاهين نفسه
كباكورة السينمائيين العرب الذين اقترحوا عملا متنه الذاكرة.
على الرغم من تفضيلنا
أفلامه الأولى، التي استلهمت الواقعية الجديدة ("صراع في الوادي" و"باب
الحديد")،
يستحيل نكران ان أعماله الأخيرة، على تفاوت نوعيتها، تمتعت
بميزة قض مضاجع الرقباء
وشتى أنواع المتعصبين في بلاده. ناهيك بأن أعماله التاريخية ("الناصر صلاح
الدين")
تجرأت على إقامة موازاة بين السلطان وعبد الناصر. شخصياً، أظن "العصفور"
(1974)
الذي يحكي حرب المصريين لاستعادة سيناء يشكل إنجازا ملموسا. في المقابل،
تعاني بعض
أفلامه
المستنبطة الذات ("اسكندرية كمان وكمان" خصوصا) نرجسية وتراخياً على
المستوى
السردي قد يجعلان مشاهدتها متعثرة بالنسبة الى الهاوي
السينمائي غير المتآلف مع
عالم شاهين.
فؤاد صباغ
(مؤرخ سينمائي لبناني ــ بيروت)
النهار اللبنانية في 28
يوليو 2008
|